face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الجمعة، 29 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(4).

0 تعليق


كل ما يصدر عن الإنسان، هي مضاعفات ونتائج حتمية، لمعطيات هو غير مسئول عنها بالأساس! لا شك أن وصف الإنسان بأنه سجين، بأحد معسكرات الكون، وهو معسكر الأرض، هو وصف جاد ودقيق وصحيح، لواقع قائم وحقيقة ماثلة! فالاتفاق متحقق، على أن الإنسان ليس مُخيَّرًا ولا مسئولاً عن وجوده بالأساس، ووجوده الجغرافي والتاريخي بشكل خاص! لكن، إذا كان عدم المسئولية عن الوجود قاسمًا مشتركًا بين كل البشر، فهل يتحمل الإنسان المسئولية عما بعد عملية الوجود؟ في الواقع، ليس الإنسان سجينًا جغرافيًا وتاريخيًا فحسب، بل هو مجند إجباري، وخاضع إلزاميًا لتدريبات وتوجيهات معينة مستمرة، ومنذ اللحظة الأولى لالتحاقه بمعسكر الوجود أو مخيم الحياة على الأرض! وأكثر من ذلك، هو مزود بإعدادات نفسية متغيرة متجددة، وهي التي تُحدِّدُ سلوك الإنسان وردات فعله الآنية، وهو غير مسئول عنها ولا سيطرة له عليها..، على اعتبار أنها تتغير لاإراديًا (أوتوماتيكيًا)، استجابة للظروف الخارجية! وهو ليس مسئولاً عن تدريبه وظروفه الخارجية، وبالنتيجة هو ليس مسئولاً عن سلوكه! وما يعنينا هنا، هو الاتفاق على أنه لا توجد للإنسان نُسخة نهائية – قبل الموت، بحيث يمكن أن نُحيط بكل مواصفاتها، لنفهمها ونُقيِّمه ونحاسبه على أساسها! إن آخر نسخة لكل إنسان – بأحدث إعدادات وآخر تحديثات-، هي تلك التي نراها ونتعامل معها في آخر لحظة نراه أو نتعامل معه فيها! فإذا كُنا نعتقد ونتعامل على أساس أن ظاهر الإنسان وباطنه شيئًا واحدًا! حيث يُحاسب جسد الإنسان على سلوكه الناجم عن إعداداته النفسية! وإذا كُنا نجد العُذر لسلوك المُعاقين ظاهريًا- جسديًا، لأننا نرى أسباب سلوكهم! فإن عدم قدرتنا على رؤية الأسباب الداخلية لسلوك الأصحاء جسديًا، لا ينفي وجودها! إذن، قبل أن نُعطي لأنفسنا الحق بالحُكم على الإنسان من خلال سلوكه؛ ينبغي أن نعرف مواصفاته وإعداداته في تلك اللحظة، ونعرف كيف تعمل نسخته الأخيرة تلك، تحت ظروفه في تلك اللحظة! قد يتساءل بعضنا: وما علاقتنا بوجود الآخرين وإعداداتهم وظروفهم؟ هل علينا أن نقبل سلوكهم إذا أضرَّ بمصالحنا، بحُجَّة أنهم غير مسئولين عن وجودهم وظروفهم وإعداداتهم؟ بكل تأكيد ليس هذا هو القصد! إنما القصد هو كشف مدى جهلنا بحقيقة الآخر؛ وكم من الخلافات يمكننا اجتنابها، إذا أدركنا أن الكثير مما نرفضه من سلوك الآخرين، هو من وجهة نظرهم سلوكًا طبيعيًا وينبغي أن يكون مقبولًا لدينا، وربما لا يعرفون غيره؛ وقد يعتقدون أن سلوكهم في أسوأ الأحوال يستحق النقد أو الرفض، لكن لا يستدعي الغضب ولا يستوجب العقاب! وبالمحصلة، إذا فعل أحدهم ما استوجب معاقبته، فينبغي أن نتذكر، أن أساس العقاب هو وجوده وليس سلوكه! ……………………………….. انتهى الباب السابق (3) من هذا الموضوع، بالقول: إن الواقع يُخبرنا أن سلوك وممارسات البشر، تدل على أنهم يعتنقون ثقافة إحدى ثلاث نظريات افتراضية، من حيث علاقة الأنا بالآخر: - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، ومعلوم الهوية! - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، لكنه مجهول الهوية! - نظرية تعتبر الوجود المادي للآخر مجرد فرضية، وبالتالي فهو مجهول الهوية حُكمًا! ملاحظة للتذكير: غني عن القول، بأن الحديث هنا ليس عن الهوية الاسمية الخارجية الاصطناعية التوافقية الإجرائية – الاجتماعية والسياسية والدينية..، الخ! إنما هو عن الهوية الذاتية الطبيعية للإنسان الفرد، والتي لا تحمل اسم حاملها – ذلك الاسم البشري الثقافي الاجتماعي العشوائي المتغير! هي تلك الهوية التي هي ذات حاملها، والتي تُحدد سلوكه الطبيعي، وتعكسها ممارساته في الواقع! ………………………… النظرية الأولى: وهي التي يسير وفقها معظم البشر، ولذلك تحدث الخلافات والصدامات وتستمر الصراعات! فهي نظرية خاطئة، لأنها تتعامل مع الآخر على أساس أنه معلوم لدى الأنا، بينما الواقع أن الأنا ذاتها تجهل جزءًا كبيرًا من هويتها هي، وليس فقط هوية الآخر! فلا يمكن للإنسان أن يعرف غيره، إلا من خلال ما يسمح به ذاك الغير، وذلك يعتمد على مدى معرفة الغير لذاته، ومدى قدرته على التعبير عما يعرفه! إن فهم ورؤية الإنسان لهويته الذاتية، تختلف بين النظري والعملي، كما تختلف في الظروف الطبيعية الاعتيادية -عنها في الأزمات! فالإنسان ذاته، ولكي يعرف حقيقة ومواصفات هويته الذاتية، هو بحاجة للمرور بكل الظروف والأزمات عمليًا! أو هو بحاجة لمقدرة فكرية ذهنية استثنائية، تُغنيه عن خوض التجارب عمليًا، وتُمكِّنه من خوضها نظريًا، والخروج بنتائج وأحكام تتطابق مع النتائج العملية! فإذا كان فهم الإنسان لحقيقة هويته الذاتية، هو بهذه الصعوبة- شبه المستحيلة! فكيف للأنا أن تحكم على الآخر، وتفترض أنه معلومٌ لديها! فالطبيعي هو أن الأنا لا تعرف عن الآخر إلا ما يقوله هو عن ذاته! وتعريف الآخر لذاته، يخضع لمعادلة، بها العديد من المجاهيل: حقيقة فهم الآخر لذاته، وحريته، أمانته، ثقته بالأنا، مقدرته الذهنية، درجة الوعي، المزاج الآني، الظروف الخاصة، البيئة العامة..، الخ! ولهذا فإن الحُكم على الآخر وفق هذه النظرية، لا يمكن أن يكون صائبًا، إلا من قبيل الافتراض أو من قبيل الصدفة- التي لا يُعوَّل عليها! النظرية الثانية: وهي الأقرب إلى الصواب، والأولى بالاتِّباع في معظم المعاملات والاتصالات البشرية العامة! حيث لا خلاف على الوجود الظاهري المادي للآخر عند عموم البشر. وأما حقيقة الآخر ومواصفاته الذاتية، فهي مجهولة! والتعامل مع الآخر على هذا الأساس، يوفر قدرًا كافيًا من الحذر المتبادل، يكفل للآخر حقوقه لدى الأنا، ويكفي الأنا شر الآخر، فيتحقق الحد الأدنى المطلوب للحياة الإنسانية! النظرية الثالثة: وهي التي تعتبر الوجود الظاهري للآخر موضع تساؤل، وبالتالي يكون الحديث عن هويته أمر سابق لأوانه دائمًا! وهي ثقافة فلسفية، بُنيت على أفكار بعض الفلاسفة وعلى بعض (الحقائق) العلمية! مما تتصوره هذه الثقافة، أنه لا يمكننا الجزم، هل أن الذي يجري في اليقظة هو الواقع الحقيقي، أم أن الواقع الحقيقي هو الذي تجري أحداثه في الأحلام – ونحن نيام! عِلميًا – حتى الآن على الأقل – كل شيء مكون من ذرات، والذرات يمكن اعتبارها أشياء خيالية، وبالتالي يمكن اعتبار كل شيء – بما في ذلك الإنسان – أو يمكن أن يكون كل شيء خياليًا بالفعل – من الناحية المادية! كذلك يرى معتنقو هذه الثقافة، أنه طالما أن الحواس هي القاسم المشترك بين البشر للحُكم على الأشياء، وهي وسيلتهم الأساسية لإثبات وجود الأشياء من عدمه، وحيث إننا نعتمد عليها اعتمادًا كاملاً في إثبات وجود الآخر وفي تعاملنا معه، وحيث إنه قد ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أن حواسنا يمكن اعتبارها خادعة لنا، ويمكن اعتبارها مخدوعة بواسطة الأشياء (السراب، والنظر من خلال الماء أو من خلال زجاج مقوس، الحركة الظاهرية الشمس، الثبات والتسطح الظاهري للأرض، وجود الميكروبات بالأطعمة والمياه، الفرق بين الهواء والفراغ، عمى الألوان، إحساسنا الكاذب ببرودة عالية في الهواء والأشياء – عندما ترتفع درجة حرارة أجسامنا، ..الخ)! فحيث إن حواسنا يمكن أن تخدعنا، أو أن حواسنا يمكن أن تخدعها الأشياء، إذن لا يمكن الجزم بوجود الآخر بالاعتماد على الحواس! وحيث إن الإثبات التقليدي لوجود الآخر، يعتمد على الحواس، إذن وجود الآخر غير مؤكد! فإذا اتفقنا على أن الوجود المادي للآخر غير مؤكد، يُصبح جهلنا بهويته تحصيل حاصل!
مما يلفت أو يستحق الانتباه هنا، هو أنه وعلى الرغم من غرابة النظرية الثالثة – المذكورة أعلاه، ورفض جُل البشر لها نظريًا- فيما يخص وجود الآخر، إلا أن الواقع العملي في حياة ومعاملات البشر، يكاد يعكس اعتناق جُل البشر لها! فالوجود المادي الجسدي للإنسان، إنما هو شاشة تستعملها الذات للتعبير عن هويتها! فإذا رفضنا سلوك الآخر، فذلك يعني عدم إقرارنا بوجوده كذات مستقلة ومنفصلة عن تصوراتنا وتوقعاتنا! وهذا يعني أن الآخر الذي نعترف بوجوده، ليس هو هذا الموجود أمامنا، إنما هو ذاك الموجود في مخيلتنا! وهذا يعني أننا نعتبر الوجود المادي للآخر بمثابة وجود افتراضي، بينما نرى الوجود الحقيقي للآخر هو ذاك الموجود في مخيلتنا! إن إكراه الإنسان على فعل شيء أو ترك شيء، هو أوضح دليل على عدم الإقرار بوجوده ككيان مستقل عنا! إن إقرارنا بوجود الآخر واستقلال هويته، يتحقق بحصر أصناف البشر، وليس بدمج أنماطهم وتوحيد سلوكهم- كما هو حاصل! فكل فرد من البشر، هو الوحيد القادر على وصف ذاته، وذلك من خلال سلوكه وممارساته! فإذا اتفق البشر على رفض ممارسات أو سلوك بشري معين، وقرروا أن يكون الإعدام مصيرًا لفاعله، فإن الوصف الدقيق والصحيح لقرارهم هذا، هو أن صِنفًا من البشر، يرفضون وجود صنف آخر من البشر! إذ لا معنى للقول بأن صنفًا من البشر يرفضون سلوك صنف آخر من البشر، إلا باعتباره إنكارًا لوجودهم ككيانات مستقلة عنهم..، وهذا يتوافق مع تصورات هذه النظرية الفلسفية، حول معنى وحقيقة وجود الآخر لدى الأنا! إن الأنا لا تقول، لكنها تُمارس، رفض الواقع وعدم الإقرار بوجود الآخر، وذلك من خلال حُكمها على الآخر الموجود في الواقع – لا من خلال سلوكه وممارساته العملية – ولكن من خلال صورته الثقافية والتاريخية والعقائدية لديها! المسلمون يرفضون غير المسلم – لا بسبب سلوكه العملي في الواقع- إنما بسبب صورته الثقافية والتاريخية والعقائدية لديهم! إن التعصُّب العِرقي والمذهبي والطائفي، هو تجاهل أو إنكار للواقع العملي، وتعامل مع الآخر على أساس الصور الذهنية، وهو الأمر الذي يجعل الإنسان يرى صواب جماعته في ذهنه، ولا يرى أخطاءها في الواقع العملي! وفي هذا ما يدعم فرضية وطرح النظرية الثالثة – سالفة الذكر-، ويُشير إلى اعتناق الكثيرين من البشر لها! فصورة الآخر لدينا، هي التي تحكم علاقتنا به، وليس وجوده وسلوكه في الواقع!

الخميس، 28 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(3).

0 تعليق



لماذا تنتشر مظاهر الفوضى والعبث، بمجرد غياب
 السلطة السياسية في أي مجتمع بشري..، على الرُغم من وجود مفترض للوازع الديني والأخلاقي الذاتي- المستقل عن السلطة السياسية! الجواب: لأن غياب السلطة السياسية، يعني انتفاء الحاجة للتمثيل والتزييف عند البُسطاء والضعفاء- وهم الغالبية دائمًا! فسلوكهم الظاهري الموحد، الذي تفرضه عليهم القوانين والتشريعات والأعراف بواسطة السلطة..، لا يعكس طبيعتهم الحقيقية إنما يطمس اختلافاتهم الطبيعية! وأما مظاهر الالتزام الديني والأخلاقي، فهي في جُلها عبارة عن مُسكِّن وبديل احتياطي، يلجأ إليه الإنسان عادة، عند الضعف وغياب الحرية! بالطبع، ليس المقصود هنا، القول بأن الفوضى هي السلوك الطبيعي للبشر! فالإنسان مضطر للحياة الاجتماعية – ليس حُبًا فيها بالضرورة- إنما لأنه غير مُهيأ للحياة الفردية! والحياة الاجتماعية تتطلب مراعاة مصالح الآخرين، وهو ما يعني ضرورة الاتفاق على حد أدنى من الانضباط العام! لماذا إذن، ممارسة الفوضى بمجرد انهيار السلطة؟ إن الانفجار الفوضوي البشري الشرس، الذي يعقب انهيار كل سلطة عادة، هو ردة فعل عنيفة لكنها طبيعية وحتمية، فهي تعكس إعلان الآخر المقهور عن تحرره، وإعلان الذوات المغمورة عن وجودها! هو تصريف مفاجئ لمخزون كبير ومتراكم من الكبت والتزييف الإجباري! ولذلك نلاحظ تسارعًا وتنافسًا في ممارسة الفوضى لحظة سقوط السلطة، وذلك يعكس الخوف من رجوعها قبل تفريغ الشحنة! وليس بالضرورة أن تكون السلطة – أشخاص الرئيس والحكومة – هي المقصودة مباشرة بردة فعل البُسطاء والضعفاء الفوضوية، إنما المقصود كل ما هو مرفوض لديهم من تشريعات وعوائق خلقت الفوارق بينهم وبين الأقوياء والحُذاق – في وجود السلطة! وربما كان السبب لكل ذلك هو تلك القوانين والتشريعات والأعراف التي تتعامل مع البشر في المستويات الدنيا، كقطعان متساوية – لا كأفراد مختلفين!

البشر يُقرُّون باختلاف الحيوانات عن بعضها، ويتجاهلون اختلافاتهم! حقوق الحيوان، تعني توفير البيئة الطبيعية لكل صنف من أصناف الحيوان! والواقع أن الإنسان يُعاني من غياب البيئة الطبيعية أكثر من معاناة الحيوان! فالبشر بحاجة لإعلان عالمي لطبيعة الإنسان، وليس لحقوق الإنسان! الاختلافات الطبيعية بين الحيوانات خارجية، ولذلك كان أساس حقوق الحيوانات هو توفير بيئة طبيعية خارجية، تعكس اختلافاتها الخارجية! ولأن الاختلافات الطبيعية بين البشر داخلية، فإنه لا قيمة للحديث عن حقوق الإنسان ما لم يكن أساسها توفير بيئة طبيعية تعكس اختلافات البشر الداخلية! 
 تساهل أو إذعان القادرين على عدم الإذعان، للثقافات والأعراف والمعتقدات، التي تتجاهل اختلافات البشر الطبيعية، وتختزل سلوكهم في نمطٍ واحد، تفرضه على الكل، وتمنحه صفة السلوك السَوِي، لتُحرِّم أو تمنع أو تُسفِّه كل سلوك يُخالفه..، هذا التساهل أو الإذعان لا يمكن فهمه كقناعة لدى العارفين، ولا ضعف لدى القادرين! إنه إنما يعكس جهلاً أو رغبة، في دفع الضعفاء والبُسطاء لممارسة الكذب والخداع والنفاق..، فهؤلاء مضطرون لمحاكاة السلوك المفروض،.. أي تزوير المستند المطلوب لنيل الحد الأدنى من الاحترام- فيتظاهرون بتبني السلوك الذي يتجاهل اختلافاتهم ويصطدم بفطرتهم! وتكون النتيجة أو كانت، ظهور مجتمعات من الكاذبين والمنافقين والمخادعين، المجبرين على رفع شعار: السلوك البشري السَوِي المُوحَّد- طالما وُجِدت قوة تفرضه! فقد صار لزامًا على الإنسان أن يكون استثنائيًا لكي يعترف له الآخرون بأنه مختلف عنهم، وبأنهم يجهلونه..، وهو ما من شأنه حصوله على قيمة ذاتية وخصوصية يحترمها الآخرون، وتفرض عليه هو احترام ذاته..، وهو الأمر الذي لو تحقق بشكل طبيعي لكل إنسان، لما كان استقرار المجتمعات رهنًا بوجود سلطة سياسية! إنه ومن حيث المبدأ، لا فرق بين شجار الأطفال وملاكمة الكبار ومصارعة الثيران والتنافس على السلطة؛ فكل ما يجري في ميادين التنافس البشري بشري، هو بالأساس وبالنتيجة محاولات من كل الأطراف لانتزاع اعتراف بوجود اختلاف يجهله الآخرون..، وذلك في مقابل وضع قائم يرفض الإقرار بوجود الاختلاف أو يُسفِّه المختلف! كان التنافس سيكون طبيعيًا، لو أنه استمر كما كان بين الإنسان والجوع؛ بين الإنسان والطبيعة؛ بين الإنسان والمرض؛ بين الإنسان والجفاف، بين الإنسان والجهل..، الخ..، أي أنه تنافس في مجالات مختلفة ولغاية واحدة.. هي مصلحة وراحة الإنسان! وكان التطرف عندها سيكون مطلبًا إنسانيًا، لأنه يعني بلوغ أقصى ما يمكن بلوغه مما ينفع الإنسان! وكانت الوسطية- التي يطلبها البشر اليوم وقد استحال حدوثها- ستكون مرفوضة- باعتبارها كسلاً وتخاذلاً! بيد أن الأمر لا يستحق التجاهل، ولا يتطلب كل هذا الجُهد وكل هذه السلوكيات التنافسية البدائية، إنه يتطلب فقط سن تشريعات، تؤسس لإقرار الجميع بأن المجتمع البشري هو مجموع أفراد مختلفين لا إراديًا، وأنه لكل فرد منهم ما يميزه ويجعله مختلفًا عن سواه ومجهولاً لهم- بما يوجب احترام خصوصيته! أما عندما يتطلب الأمر من كل إنسان أن يكون قادرًا على تجاوز الواقع واستحضار الحقيقة (صُنع معجزة)، لكي ينتزع من الآخرين الإقرار بالواقع- لا بالحقيقة! فالحقيقة هنا لا تُدرك، إنما تُستحضر ليُدرك من خلالها الواقع! الواقع هو وجود الاختلاف بين البشر، أما الحقيقة فهي ما وراء هذا الاختلاف..، وهو ما لا يمكن إدراكه، أو ربما لا حاجة بالبشر لإدراكه- قياسًا إلى التكلفة! عندما يكون الأمر على هذه الحال، وهو كذلك، فهذا يعني أن الإقرار بالاختلافات الطبيعية بين البشر، أصبح ميزة لا يتمتع بها غير القادرين على انتزاعها! بينما يتم التعامل مع الغالبية العظمى من البشر كمستنسخين- لا يمكن أو لا يحق لهم أن يكونوا مختلفين، وبذلك تُسنُّ القوانين والتشريعات- التي تحكم عامة الناس- على مقاس فرد افتراضي، له مواصفات محددة! هذا الأمر يترتب عليه بالضرورة خرق تلك القوانين والتشريعات بواسطة المختلفين عن ذلك الفرد الافتراضي! والمختلفون هنا، يمكن أن يكونوا كل البشر! هذا الأساس الخاطئ، جعل من القوانين والتشريعات وسيلة لصنع إنسان وليس سبيلاً للتعامل مع الإنسان! إن الصواب والطبيعي هو أن لا نكون بحاجة لإثبات الواقع..؛ لكن إصرار المتنفذين من البشر على تجاهل وتجاوز الواقع، جعل من إثبات المثبت ضرورة! إن الواقع عبارة عن مرآة تعكس حقيقة – أي أنه مرآة تُثبت وجود حقيقة- لكن لا تُحقق إدراكها! البشر يتوارثون اعتقادًا خاطئًا، مفاده أن الآخر لا يمكن أن يكون إلا أحد احتمالات بشرية معدودة ومحصورة ومعروفة! 
. لماذا نستغرب سلوك الآخر عندما يخالف توقعاتنا؟ لأننا نعتقد أننا نعلم كل المعطيات والخلفيات التي تصنع سلوك الآخر، ولذلك نعتقد أن سلوك الآخر لا بد وأن يكون في متناول تخيلاتنا وحساباتنا..، وإذا خالف توقعاتنا وجب انتقاده أو عقابه..، فلكي تكون توقعاتنا صحيحة، كان لا بد أن نفترض أن سلوك الآخر المخالف لتوقعاتنا هو انحراف متعمد! نحن كذلك، لأن وعينا – سواء عن قصد أو عن جهل- قد تم توجيهه وتصنيعه ليكون أقل من أن يستوعب وجود ذات أخرى مستقلة ومختلفة عن ذاتنا! فنحن نقر للآخر بالوجود المادي المنفصل عنا-فحسب! نحن لا نعترف باستقلال الآخرين عنا كذوات نجهلها، بل ككائنات نعرفها ويمكننا أو يحق لنا أو من واجبنا احتواؤها! نحن نعرف الآخر من خلال صورة نرسمها له في أذهاننا، وليس من خلال وجوده وسلوكه الفعلي في الواقع! نحن نرسم للآخر صورة في أذهاننا بمجرد أن يدخل مجال الإدراك لدينا- عن طريق المجتمع، التعليم، الإعلام، الثقافة، التاريخ، ..الخ؛ ثم نقوم بتضمين تلك الصورة كل المواصفات التي نعتقد مسبقًا أنه ينبغي أن يحملها الآخر ولا يمكن له الخروج عنها؛ ثم نتخذ من تلك الصورة مقياسًا للأصل! وبالتالي فإن رفضنا لسلوك الآخر، هو تعبير عن رفضنا للواقع، وعن خيبة أملنا في الحقيقة التي ظهرت بغير ما كُنا نتوقع ونرغب! هذا السلوك من الأنا تجاه الآخر، يمكن اعتباره حالة مَرَضية بشرية متوارثة؛ حيث يتوارث البشر اعتقادًا خاطئًا، مفاده أن الآخر عبارة عن واحد من احتمالات بشرية معدودة ومحصورة ومعروفة! لذلك توجب على الآخر أن يكون استثنائيًا، لكي نُقر له بوجود مستقل ومختلف عنا! فصار لزامًا على الآخر أن يكون سيدًا، رئيسًا، مَلِكًا، عالِمًا، غنيًا، مشهورًا، ..الخ، لكي تعترف له الأنا بأنه مختلف عنها وأنها تجهله! إثبات الذات للآخرين يكون بإثبات الاختلاف عنهم! والواقع أن الأنا تشعر بأن أي قيمة تُعطيها لأي آخر، إنما تكون على حسابها ومن رصيدها؛ لذلك كان سعي الأنا دائمًا باتجاه التقليل من شأن وقيمة الآخر؛ وكان سعي الآخر دائمًا باتجاه فرض التنافس لانتزاع نصيبه من القيمة المفترضة والمتنازع عليها عمليًا! ولذات السبب، نحن نمنُّ على الأحباب والأصدقاء بما نُقرُّ به لهم من قيمة- ممثلة في مكانتهم لدينا؛ ونفخر بمكانتنا لديهم- لأنها تُمثِّل لنا إقرارًا منهم بجزء من قيمتنا المُجزَّأة- التي نبحث عن أشلائها في كل مكان وبأي وسيلة! ولذات الأسباب، نحن ندَّعي معرفتنا بالآخر، ونرفض الإقرار بأنه مجهول لنا، ذلك لأن الإقرار بجهلنا به هو إقرار ضمني بأن له قيمة ووجود مستقل عنا، وفي ذلك إقرار بنقص فينا، ولذلك نرفضه! لو أن إدراكنا للوجود البشري، توقف عند اتفاقنا على وجود ظاهري يتكون من: أنا وآخرين؛ لكانت علاقة الأنا بالآخر طبيعية، وليست اصطناعية كما هي الآن! وذلك باعتبار أن الإدراك الظاهري للوجود هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة حتى الآن! لكن الأمر تجاوز إدراك الأنا لوجود الآخر، إلى اعتقاد الأنا بمعرفة ماهية الآخر..، وبسبب هذا الاعتقاد الخاطئ..، شهدت العلاقات البشرية إخفاقات وصدامات ومظالم- ما تزال قائمة! ومن أهم النتائج المترتبة على هذا الاعتقاد الخاطئ، والتي نلمسها في الواقع: 1- ظهور ثقافة الوصاية الفكرية..، وكان ذلك نتيجة حتمية لاعتقاد الأنا بمعرفة الآخر؛ حيث إنه قد نتج عن هذا الاعتقاد، حق الأنا في التكهن بسلوك الآخر، فأصبح كل سلوك من الآخر مخالفًا لتكهنات الأنا، هو بمثابة انحراف متعمد ومرفوض- في نظر الأنا! 2- تشريع الصدام بين الأنا والآخر..، الصدام في حدود تضارب المصالح المعلومة، هو أمر طبيعي وجزء من القانون العام للوجود، لكن ومع اكتشاف عناصر القوة وامتلاكها، لم تعد الأنا القوية تكتف بانتقاد سلوك الآخر الضعيف- المخالف لتكهناتها، ولم تعد تكتف بصدام المصالح الطبيعي..؛ فإحساس الأنا بالقدرة على توجيه الآخر وتحديد سلوكه، أشعرها بأن لها الحق في تصويب الآخر، واتخذت من ذاتها ومصالحها معيارًا لما ينبغي أن يكون، فأصبح التصويب يُعادل الإخضاع، فكان تشريع الصدام وتبريره! 3- ظهور مفهوم الـ ( نحن ) إلى حيِّز الوجود الثقافي والاجتماعي- على الرغم من استحالة وجوده في الواقع! حيث إن مفهوم الـ(نحن) يُشير إلى مجموع (الأنا)، وتلك مغالطة، إذ لا يمكن جمع الأنا، ولا يمكن أن يوجد أكثر من أنا واحدة، فكل ما هو موجود عبارة عن أنا واحدة- وكل ما عداها هم آخرون بالنسبة لها! من الواقع، يمكننا القول بأن البشر يتوزعون ثقافيًا بين ثلاث نظريات افتراضية- في علاقة الأنا بالآخر: - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، ومعلوم الهوية! - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، لكنه مجهول الهوية! - نظرية تعتبر الوجود المادي للآخر مجرد فرضية، وبالتالي فهو مجهول الهوية حُكمًا

الأربعاء، 6 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(2).

0 تعليق



نظرية لا تُفسِّر الوجود إلا بطمس بعض معالمه، لا يصح اعتبارها نظرية لكل الوجود! ودستور لا يستوعب البشر إلا بسحق بعضهم، لا يصح اعتباره دستورًا لكل البشر! فلو أن نظرية علمية، اشترطت استثناء الحديد من  معادلاتها، لكي تتعامل مع المعادن..، فإنها في أحسن الأحوال ستحصل على وصف: نظرية قاصرة أو ناقصة! أو أن نظرية اشترطت استثناء المشتري، لكي تضع معادلة لفهم ووصف الكواكب..، فهي نظرية قاصرة أو ناقصة! كذلك لو أن أحدهم جاء بدستور، وادَّعى أنه يصلح لكل البشر وأنه صالح لكل زمان ومكان، ثم اشترط قتل أو إكراه أو سلب إرادة كل من لا يقتنع بهذا هذا الدستور..، فإن مثل هذا الدستور لن يحصل حتى على صفة " دستور قاصر أو ناقص"، لأن وصفه الصحيح هو أنه: دستور وهمي عبثي لا إنساني استبدادي إجرامي بربري همجي كاذب مزور فاشل!
- المنتحرون دون تردد، والذين تسيل دموعهم دون تكلف، عند اصطدامهم الفردي المباشر بالمأساة العامة..، هؤلاء يفرضون احترامهم بدرجة كبيرة لا يبلغها سواهم! ذلك لأنهم يُجسِّدون الصورة النهائية للمشهد العام في مواقف فردية لحظية صادقة صادمة، متجاوزين مراحل العبث التي يتنافس حولها ويسعد بها الواهمون! - المنتحرون هم أناسٌ صادقون مع أنفسهم، لكنهم لا يستطيعون البُكاء عند الحاجة إلى البكاء، لذلك يُريقون دماءهم بدل الدموع!
 تكملة الموضوع.. إن حدوث القلق الطبيعي التلقائي، مرهون بنضوج الوعي بشكل طبيعي، فإذا لم ينضج الوعي، امتنع حدوث القلق التلقائي، وهذه حالة طبيعية لا ينبغي تلويثها بفرض القلق من الخارج! إن القلق يحدث عندما يشعر العاقل بأنه قادر على الفهم والفعل، ثم يصطدم بعجزه عن الفهم والفعل! إن إقرارنا بوجود الاختلاف بين البشر، وبعدم مسئوليتهم عنه، يُلزمنا بمبدأ: أنَّ ما يُحسب لإنسان لا يُحسب على غيره! فما يُبرر مدحنا لبعض البشر، لا يبرر لنا ذم غيرهم! إن ما استطاع جاليليو وكيبلر ودافنشي وآينشتاين وبوهر وستيفن هوكنج وأمثالهم، تصوره وفهمه وتحقيقه، هو مبرر لمدحهم، لكن من الطبيعي ألا يُعاب على غيرهم عدم قدرتهم على مجاراتهم، والأهم ألا يُكرَه بقية البشر على النفاق والرياء بالتظاهر بقدرتهم على تصور وفهم وتحقيق ما حققه أولئك العباقرة! هذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال في كل المجالات..، لكن مع الأسف ليس هذا هو الحال في مجال المعتقدات- مثلاً! فالإنسان في هذا المجال، يُذم ويُهان، فقط لأنه لم يستطع مجاراة غيره، أو لأنه لم يستوعب ولم يقتنع بما قالوه! ثم يُجبر ويُكره على الإقرار بأنه أقل قيمة منهم، أو يُكره على النفاق والتظاهر بأنه قد فهم واستوعب نظرياتهم واقتنع بها! لنا أن نتصور كيف تكون حياة وسلوك إنسان بسيط، وهو مُكره على الإقرار والتظاهر بأنه قد استوعب واقتنع بكل ما قاله واستوعبه ستيفن هوكنج في الفيزياء النظرية، وما قاله واستوعبه بوهر في فيزياء ما تحت الذرية! إن سلوك الإنسان المُكره على إظهار القلق، يكون كسلوك الحاسوب المُكره على تشغيل برنامج هو ليس معدًا لتشغيله، فيكون بحاجة لتدخل المشغل في كل خطوة، وفي النهاية يعجز الجهاز عن العمل تمامًا، ويُصبح أداة جامدة- تُستعمل ولا تعمل! إن التربية والتلقين باسم التوعية، هي في الواقع قتل وتحريف متعمد للوعي الطبيعي، من أجل خلق قلق مزيف لدى الإنسان، يجعله بحاجة دائمة لتدخل أولئك الذين خلقوا لديه القلق المزيف، وهذا ما يفعله الدُعاة مع البُسطاء! بينما القلق الطبيعي الناتج عن وعي طبيعي، يُحصِّن الإنسان ضد التزييف والتخويف، فلا يقبل إلا إجابة طبيعية مكتملة الأركان عن تساؤلاته، وهو يُفضِّل البقاء في دائرة الحيرة الصادقة على الخروج إلى فضاء الأحلام والاعتقاد! إن الحقيقة المطلقة التي يستقيم بها الوجود، ربما أمكن استنباطها من حياة الحيوانات، حيث إنها لا تعرف القلق! الحيوانات تعرف الخوف، والخوف غريزة مرتبطة بالحياة والوعي! الخوف قلق لحظي، والقلق خوف مستمر! القلقون ينظرون إلى بقية البشر- الذين يستمتعون بحياتهم- كأن ليس فيها ما يستوجب القلق- على أنهم سُذَّج بُسطاء، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن القلقين يحسدون البُسطاء على بساطتهم، والتي لا يمكن أن تكون إلا حقيقية، فالقلق إما أن يكون أو لا يكون، فهو ليس إراديًا وليس موضوعًا للمزاح! إن القلق يمكن تصديره رغم أنه مُكلِف، بينما البساطة لا يمكن استيرادها رغم أنها مجانية! القلق يأتي نتيجة طبيعية لنضوج الوعي، وقد ينشأ القلق بسبب موقف معين أو نتيجة انتباه مفاجئ! بينما البساطة هي وضع ابتدائي قابل للتغير، لكنه غير قابل للاستعادة بعد التغير! ولذلك فإن إصرار النخبة من البشر على تأصيل وعقلنة المبادئ، كان لا بد أن يُنتج لدى البُسطاء الكذب والنفاق؛ ذلك لأنه ولكي تسير الحياة لدى جُل البشر، فهي تستوجب البراغماتية واللا مبدئية – حيث إن الالتزام بالمبادئ يصطدم مع المصالح بالضرورة، وحيث إن النخبة من البشر قد افترضوا أن المبادئ عنصر أساسي من الإنسانية، فلم يكن أمام البُسطاء والضعفاء الغير قادرين على دفع فاتورة المبادئ، ومن أجل إثبات انتمائهم للإنسانية، سوى التظاهر بالمبدئية، فكان الكذب والنفاق! وكذلك فإن ترسيخ الاعتقاد بوجود حقيقة مطلقة مستقلة، كان لا بد أن يُفضي إلى الموت أو إلى الجنون لدى الصادقين! فإذا كان الإنسان على درجة كافية من الوعي، تؤهله لطرح السؤال، وتبنى مشروع البحث عن الحقيقة المطلقة، بذاته ولذاته، فإنه حتمًا سينتهي إلى الانتحار إذا لم يسبقه الجنون! وإذا كان الانتحار موتًا ماديًا، فإن الجنون موت معنوي، فالنتيجة واحدة في كل الأحوال! أما الذين ادَّعوا معرفة الحقيقة المطلقة كمشروع للآخرين، فهم مستثنون من قاعدة الانتحار والجنون، لأن حقيقتهم مصطنعة ومفصلة على مقاسهم؛ ومع ذلك فهم يُبررون ويُشرِّعون قتل الآخرين الذين يتعارض وجودهم مع حقيقتهم المزعومة ..، وبالنتيجة فإن الحقيقة التي لا يستوعبها الإنسان إلا بالانتحار أو بالجنون؛ والحقيقة التي لا تستوعب البشر إلا بقتل بعضهم، هي حقائق وهمية يرفضها الوجود الطبيعي! في المجتمعات البشرية الأكثر تمدنًا وتطورًا، بدأوا بإلغاء عقوبة الإعدام مهما يكن جُرم الإنسان؛ وهذا مؤشر على أنهم بلغوا من الوعي درجة، أدركوا معها أن الحقيقة تظل ناقصة ما لم تستوعب الجميع..، وهذه هي أقرب نقطة إلى الحقيقة المطلقة بلغها البشر حتى اليوم! بحسب القانون الطبيعي، لا يوجد فرق من حيث النتيجة، بين قتل "س" من الناس بحكم القانون، وقتل "ص" على يد إنسان آخر! الفرق الواقعي هو أن "س" قد قُتِل، لأن جماعة كبيرة قوية من البشر قد أجازوا قتله، بينما "ص" قد أجاز قتله واحد أو مجموعة صغيرة من البشر! في الحالتين، يكون مبرر القتل هو رؤية بشرية محدودة- قد تكون خاطئة وقد تكون صائبة! ما أردتُ قوله، هو أن قتل الإنسان للإنسان، ومهما كانت مبرراته وحيثياته، فهو في أحسن الأحوال إجراء تنظيمي للمحافظة على شكل معين للمجتمع البشري، وفق رؤية مجموعة من البشر، لكن لا علاقة له بالحقيقة المطلقة! فاتفاق المعتقدات والأعراف البشرية، على أن الإنسان هو العنصر المركزي في الوجود، لا يصح معه تشريع قتله بأي حال من الأحوال! إن الشريعة التي لا تقوم إلا على جثث بعض البشر، لا يصح اعتبارها شريعة لكل البشر! كما أن النظرية التي تشترط إلغاء بعض عناصر الوجود، لا يصح اعتبارها نظرية لكل الوجود! الوجود بشكل عام، والوجود البشري بشكل خاص، يبدو كمحاولة عملية فاشلة، لمحاكاة، حقيقة نظرية مفترضة! الوجود انقسم على نفسه مرتين بسبب الإنسان: الإنسان، هو أحد عناصر الوجود، تفوَّق بذكائه على بقية العناصر، فتمرَّد الجزء على الكل، حيث أصبح الإنسان يتعامل مع الوجود، كمراقب له لا كجزء منه ..، وبهذا يكون الوجود قد انقسم على نفسه – المرة الأولى! ثم انقسم الإنسان على نفسه، عندما نصَّب الأكثر ذكاءً من البشر، أنفسهم، أوصياء على بقية البشر- الأقل ذكاءً ..، وبهذا يكون الوجود قد انقسم على نفسه للمرة الثانية! إن بحث الإنسان الدائم عن الحقيقة، هو إقرار منه، بأنه جزء من مشهد مزيف، وفي أحسن الأحوال هو جزء شبه معلوم من مشهد غامض! أقول بأن الإنسان جزء شبه معلوم، لأن غيره جزء شبه مجهول، فالإنسان يمتلك اللغة، ويستطيع التعبير عن ذاته دون حاجة لإخضاعه لتجربة معملية، لكنه يظل تعبيرًا ناقصًا إما بسبب نقص المعرفة، أو عدم الرغبة، أو ضعف اللغة، أو غياب المصداقية التامة! أما غير الإنسان، فكلها أشياء لا نعرف عنها إلا ما استطعنا انتزاعه منها دون إرادتها، وبقدر معرفتنا بخصائصها، ولذلك فهي أقرب إلى المجهول منها إلى المعلوم! هذا كله، يُعتبر واقعًا ماثلًا بالنسبة للبعض منا، لا يمكن تجاهله أو نسيانه! والبعض الآخر من البشر- الذين لا يرون هذا الواقع الماثل-، لو أنهم تمكنوا من استحضار هذا الواقع على صورة حقيقة في أذهانهم، لما أصبح الاختلاف الطبيعي مصدرًا للخلاف المصطنع

الجمعة، 1 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(1).

0 تعليق


الطبيعي هو التعامل المنطقي مع الواقع، وذلك باستعمال المعلوم لاكتشاف المجهول! لكن ذلك لا يكفل السعادة ولا يعتد بالعواطف..، لذلك ظهرت نظريات الوهم! الوهم هو افتراض مجهول على مقاس العواطف والأحلام، واستعماله لتجاهل المعلوم! المعلوم هو الواقع، ولأن الإقرار بالواقع هو إقرار بوجود ما لا يُحقق أحلام الواهمين! لذلك يتعامى الواهمون عن سذاجة النظريات التي يؤمنون بها، لأنها تُمثِّل لهم تحقيق المستحيل، وهو تجاوز الواقع! نحن بحاجة إلى فقدان جزئي للوعي، لكي نتجاهل مأساة ونفتعل سعادة! خرج البشر بفضل هذه النظريات من عالم الواقع الكئيب إلى عالم الحُلم السعيد، فنظروا إلى صورة الواقع في مرآة الوهم، فبدا لهم الضعيف قويًا، والذليل عزيزًا، والفقير غنيًا، والميت حيًا، …الخ! ولذلك فإنه من الصعب- وربما من غير المعقول- محاولة إخراج الواهم من وهمه، لأنه يُعادل إخراج السعيد من سعادته! إن الواقع مرفوض لأنه معلوم، والحقيقة المفترضة مقبولة لأنها مجهولة! المعلوم.. لا مجال فيه للوهم والعاطفة والأماني، ومن هنا كان الواقع مرفوضًا! المجهول.. مجال يتسع لكل ما يمكن أن يأتي به الخيال، ومن هنا كان قبول الحقيقة! إن الحقيقة هي الواقع، في نظر الذين يصنعون الواقع! والحقيقة هي نقيض الواقع، في نظر ضحايا الواقع! والحقيقة هي النتيجة التي تُنصِف الجميع، في نظر الجميع! أما الحقيقة المطلقة، فهي مفهوم يعكس القلق، والقلق هو سِمة الحياة الذكية- التي يُمثل الإنسان الواقعي المنطقي قمتها على الأرض! يمكن اعتبار الوعي أو الذكاء نقمة على الإنسان، لأنه أنتج القلق، بطرحه لسؤال الحقيقة، وعجزه عن إيجاد الجواب! كذلك فإن الوعي أو الذكاء قد أصبح عائقًا يمنع الإنسان من قبول الجواب ما لم يكن في صالحه، وذلك لأن الوعي أو الذكاء هو مخترع السؤال، ولا يرضى بأقل من المشاركة في صنع الجواب! أمر آخر هام جدًا بشأن الذكاء، وهو أن البشر هم عبارة عن أوعية (جمع وعاء) مناسبة لعمل وتطور نوع من الذكاء الطبيعي، وبسبب تعدد هذه الأوعية، أصبح هذا الذكاء يُنافس ذاته، فبدا الذكاء وكأنه ينقلب على ذاته محاولاً وضع حد لتطوره، وذلك لأنه من طبيعة الذكاء رفضه الإقرار بالعجز، فأصبح الذكاء عند "س" من الناس، يرفض الإقرار بعجزه أمام الذكاء عند "ص" من الناس، فنشأت بذلك تشريعات قمع حرية التفكير والتعبير، ولعله من هنا بدأ الصراع على السلطة- من أجل تغليب فكر على فكر! الإنسان يتميز عن غيره من الموجودات بنوعية الوعي، والوعي هو إطار مناسب لتجميع وتنظيم وحفظ المعلومات والبيانات، بصورة تسمح للذكاء باستخدامها لإنتاج الأفكار! كل الموجودات الأخرى تمتلك نوعًا من الوعي، وقدرًا من الذكاء، لكنه نوع من الوعي عشوائي ومحدود، يُعيق ذكاءها من العمل والتطور! الحقيقة المطلقة التي يمكن أن يجتمع حولها البشر، هي عنصر افتراضي، إذا أُضيف إلى معادلة الوجود، يتحول الواقع إلى حقائق لا تحتمل التساؤل! صراع الإنسان مع البيئة وجهله بها ورفضه الإقرار بالعجز أمامها، هو الذي كان وراء طرحه للسؤال في الماضي، ولذلك جاء السؤال على مقاس جواب افتراضي يُحقق رغبات الإنسان ويُبعد مخاوفه، فأصبح هدفه من البحث هو الحصول على الجواب الذي يُريده، وليس الجواب الصحيح! ويتضح ارتباط سؤال الحقيقة وجوابها بالبيئة، من اختلاف معتقدات البشر اليوم بحسب اختلاف ثقافاتهم ومستوى معيشتهم ( اختلاف البيئة)! إن طلب الإنسان للحقيقة، هو تعبير عن قلق ناجم عن صراع بين الشعور بالقوة والإحساس بالعجز! كل النظريات (المعتقدات) المطروحة حول الحقيقة المطلقة، لم تُعالج القلق الحقيقي، هي عالجت القلق لدى أولئك الذين يتصنعون القلق درءًا لمسبة الغباء! الواقع يقول إن السواد الأعظم من البشر بُسطاء، لا يتجاوز اهتمامهم يوميات الحياة، لأن وعيهم محدود، لا يكفي لتطور الذكاء وطرح السؤال وإحداث القلق ذاتيًا! هؤلاء لم يتساءلوا ولم يقلقوا من تلقاء أنفسهم، ولو أنهم تُرِكوا وشأنهم لما تساءلوا ولما عرف القلق لهم سبيلا! لكن، جاءهم مَنْ أوعز لهم بأن عليهم أن يتساءلوا وأن يقلقوا، وبأن ذلك هو ما يُميز الإنسان عن سواه من الموجودات. ولأن البُسطاء أعجز من أن يُدافعوا عن بساطتهم، فلم يجدوا بُدًّا من تقليد التساؤل وتَصَنُّع القلق! ولأن التساؤل لم يكن من إنتاجهم، فكان من الطبيعي أن يكون جوابه كذلك مستوردًا! ولذلك سَهُل إقناع البُسطاء، حيث لا يتطلب إقناعهم سوى جواب غامض يُربك ذكاءهم الذي عجز أصلاً عن طرح السؤال وإنتاج القلق! توارث البُسطاء ثقافة استيراد القلق الجاهز والجواب المعلَّب، وتوارث الحُذاق وظيفة تصدير القلق والجواب، وبذلك وجد جُل البشر أنفسهم ملزمين بطاعة وتقديس كل من يدعي امتلاك سر الحقيقة، وهو في الواقع إما كاذب أو أنه ضحية وهم، لا يمتلك سوى مهارة المراوغة وفن التهرب من الجواب الصادق! لكن بساطة البُسطاء لها وجهان، فهي التي سهَّلت على الآخرين إقناعهم، وهي ذاتها التي تُسهِّل على البُسطاء تجاهل وتجاوز ما تعهدوا للآخرين بالالتزام به، ولذلك يضطر الدُعاة إلى الاستمرار في مخاطبة البُسطاء ترهيبًا وترغيبًا. إن البُسطاء لا يتصنعون البساطة، فهي طبيعتهم التي لا يتقنون سواها، لذلك وبمجرد غياب الداعية أو الخطيب، ما يلبث البُسطاء أن يعودوا إلى ممارسة حياتهم المَرِحة الخالية من التساؤل والقلق! إن الذي يدعي امتلاك الجواب، يستطيع إقناع مَنْ يتصنع القلق، لكنه يعجز عن إقناع مَنْ يتملكه القلق! ولأن من طبيعة الذكاء رفض الإقرار بالعجز ولو كان قائمًا، لذلك يرفض المُدعي الإقرار بضعف حُجَّته أمام المتسائل الحقيقي الباحث عن الحقيقة، فيلجأ إلى المراوغة بتخوينه أو اتهامه بالضلال، أو محاولة الإيهام بأن الإله لم يشأ هدايته – وكأنما يطلب منه مقاومة مشيئة الإله، .. إلى آخره من المراوغات التي لا تحجب عيوب المُدعي، بقدر ما تُثبت الصِدق والأمانة وقوة الحُجة لدى المتسائل- في بحثه عن الحقيقة! ويُمعن المُدعون بمعرفة الحقيقة، في خداع أنفسهم ومراوغة الآخرين، حتى أنهم يقلبون المعادلة، فيتخذون من تصديق البُسطاء لهم، دليلاً على صحة نظرياتهم! حيث يُفاخر المُدَّعي، بقوة حُجَّته التي أقنعت أعدادًا غفيرة من البُسطاء، اللاهثين خلف أي تفسير لهذا القلق المصطنع الذي وجدوه أمامهم كعادة متوارثة تستمد قداستها من تعصب الإنسان لأسلافه لا من علاقتها بالحقيقة! إن قلق الذين يتصنعون القلق، لا يتعدى قناعتهم الآنية بضرورة اتخاذ قرار يواكب تسارع الزمن- قبل فوات الأوان- فمحدودية الأعمار في نظرهم لا تسمح بالانتظار! ومن هنا نجد أن كل جماعة بشرية اعتنقت النظرية المتوفرة والمتوارثة لديها، وبسبب غياب البديل لا بسبب حضور البرهان! إن حاجة البشر لنظرية مُبرهَنة تُعطي لحياتهم معنى، وعدم وجود نظرية مطلقة، أوجدا فراغًا فكريًا، جعل كل جماعة بشرية تتمسك بنظريتها، وتسعى لإثبات صحتها وتغليبها على ما سواها، وبذلك انطلقت الصراعات العقائدية! من الطبيعي أن عدم وجود منافس لإنسان أو لنظرية ما في مجال ما، يجعلها تحتكر الحقيقة في ذلك المجال، مهما كانت عيوبها! لكن مجرد وجود المنافس- مهما كان ضعفه-، سينتقص من حقيقة الطرف الآخر! لذلك كانت الصراعات العقائدية نتيجة طبيعية وحتمية لوجود التنافس، وهدفها إلغاء المنافس! لكن اختلاف البشر كان وما يزال كفيلًا بإيجاد أتباع لكل نظرية، وبالتالي إعطاء إمكانية وليس شرعية الوجود لكل المتنافسين! ولأنه لا أحد يمتلك الحقيقة الخالية من العيوب، لذلك أصبح تركيز المتنافسين في مجال الحقيقة ينصب على تضخيم عيوب الآخر! قالوا في مدح نظرية الديمقراطية مثلاً، أنها أسوأ نظام باستثناء جميع الأنظمة! وذلك لأنها تتفرد بمزايا حسنة لا يستطيع منافسوها إنكارها، لكنها ليست خالية من العيوب! الصراعات العقائدية حولت النظريات إلى أيديولوجيات! النظرية عبارة عن وجهة نظر تفترض الصواب، مطروحة للنقاش، تقبل النقد والتصحيح، تهدف إلى حل مشكلة! بينما الأيديولوجية، هي وجهة نظر تعتقد الصواب، مطروحة للتنفيذ، لا تقبل النقد والتصحيح، تهدف إلى تغيير واقع!

الأربعاء، 9 أكتوبر 2019

ليس الموت لغزًا ولا هو بمخيف!

0 تعليق




حب الحياة أمر طبيعي، لكن الفزع من الموت ليس أمرًا طبيعيًا! الموت أوجدته الطبيعة بذات المعادلة التي أوجدت بها الحياة .. الموت أوجدته الطبيعة كامتداد طبيعي للحياة بشكل عام، لكن في حالة الإنسان ككائن واعٍ قادر على صنع الموت للذات (الانتحار)، فإن الموت ليس فقط امتدادًا للحياة إنما هو بديل طبيعي للحياة عندما تفقد الحياة طبيعتها، وتصبح أمرًا آخر بين الحياة الطبيعية والموت الحقيقي في حال الشيخوخة والعجز والألم الشديد والعوز الشديد .. الخ! - هل صحيح أن البشر لا يستطيعون النظر إلى الحقيقة إلا من وراء قناع؟ الحقيقة المقصودة هي تلك المتعلقة بالوجود والحياة والموت! هنا طرحٌ، قوامه تفسير فلسفي، وتحليل منطقي واقعي، لمفهوم الموت ولعملية الموت والخوف من الموت، بالإضافة إلى مفاهيم البعث والحساب والعقاب والفناء والخلود! هنا طرح جديد، خاص ونوعي، نزعم أن فيه ما يُثبت أن الخوف من الموت هو خوف مَرَضي ثقافي زائف، وأن التخلص منه ممكن جدًا، ولكل من شاء!
حياة، موت، بعث، حساب، عقاب، خلود، فناء! هذه المفردات اللغوية، لا تشير إلى أشياء أو أمور محددة بذاتها، بقدر ما تشير إلى مفاهيم تاريخية مُشوهَّة ومضخمة ثقافيًا في مخيلتنا، بما يفوق حجم وحقيقة دلالاتها الواقعية بكثير، حتى أصبحت تُنسج حولها الأساطير، وتُشاع باسمها المخاوف والأوهام والأحلام، في الثقافات والمعتقدات البشرية! هي مفاهيم يتم تداولها بتفسيرات وتحليلات بدائية وثقافة مغلوطة لا أساس لها في الطبيعة والواقع- سواء عن قصد أو عن جهل -، بالنتيجة تم استغلالها لاختراق الوعي البشري عبر العواطف وحاجة البشر للاطمئنان، حتى بات معظم البشر يستبعدون فكرة وإمكانية التحرر منها، ويُفضِّلون التبعية لكل من يدَّعي امتلاك شيء من أسرار هذه النمور الورقية الجوفاء الخاوية الهشة! سنتناول هذه المفاهيم بالتحليل المنطقي الواقعي والموضوعي والطبيعي، وسندحض هيبتها المزعومة، وسنفرغها من محتواها الوهمي، حتى يتبين لنا كيف أنه يتم توجيهنا واقتيادنا عن طريق التعاطي مع أشباحها الثقافية والتاريخية، وأنها لا تُقدَّم لنا مباشرة كمعطيات طبيعية بسيطة – لا معنى للخوف منها ولا قيمة للأحلام المعقودة عليها!


- الخوف كصفة بشرية، هو شعور طبيعي مرتبط بالحياة! - الحياة التقليدية هي نقيض الموت التقليدي .. - الخوف من المرض، الخوف من الحروب، الخوف من التقدم في السن، الخوف من الفقر، الخوف من الفشل، الخوف من أي شيء هو عبارة عن صورة من صور الخوف من الموت! - هذا يعني أن زوال الخوف من الموت، هو زوال للخوف من كل شيء تقريبًا! - هنا أزعم أن زوال الخوف من الموت ممكن، ويتحقق بمعرفتنا لطبيعة الموت، لماهية الموت، لعملية الموت، ولما بعد الموت..، وكلها معارف ممكنة بنسبة كبيرة! سنتطرق ضمنًا لتعريف الموت وماهية الموت منطقيًا وواقعيًا، لكن سنبدأ وسيكون تركيزنا على خوف أو فزع الإنسان من الموت! الرهبة من الموت يمكن اعتبارها محل إجماع .. فلماذا يخاف البشر الموت؟ في الواقع، لو كان الخوف من الموت سببه فقط حُب الحياة، لاقتصر الخوف على صغار السن والمرفَّهين السُعداء، ولما زاحمهم عليه العجزة والبؤساء، ولكانت عمليات الانتحار أكثر من عمليات الولادة! ولو كان الخوف من الموت سببه الضعف، لاقتصر الخوف على الضعفاء، ولما زاحمهم عليه الأقوياء! ولو كان الموت مخيفًا في ذاته، لكانت الأسباب معلومة ومقنعة، ولما تجرأ أحد على الانتحار! الخوف من الموت، بحُجَّة الخوف من بعث وحساب وعقاب بعده، هو أمر لا يصح منطقيًا أن يكون سببًا لدى المؤمنين لأنهم مستعدون للبعث والحساب، ولا يصح لدى غير المؤمنين حيث أنهم لا يؤمنون بالبعث والحساب! بحسب هذا العرض، يبدو أنه لا يوجد سبب معلوم يجعل البشر يخافون الموت، لكن الخوف من الموت موجود! إذن، لماذا يخاف البشر الموت؟ نحن نفهم ونقدر حقيقة أنه حتى العلاقات الاجتماعية والصداقات الحميمة، والمُتع والملذات، والمشاهد الجميلة، والاكتشافات الجديدة، يمكن اعتبارها أسبابًا منطقية وعاطفية تدفع الإنسان لحب البقاء! لكن هذه المغريات والدوافع، ليست متاحة للجميع، وليست مغرية للجميع، ولا يفهمها ولا يتذوقها الجميع، في حين أن الخوف من الموت، هو قاسم مشترك بين الجميع، بغض النظر عن وجود أسباب من عدمها! لذلك نقول، إن ما نتحدث عنه هنا، وما نريد فهمه ومن ثم دحضه، ليس حب الحياة، إنما الخوف المَرَضي وغير المبرر من الموت، والذي يؤدي بالبشر إلى القبول بالحياة الرديئة والوجود البائس المهين! كذلك ما نريد فهمه ومن ثم دحضه، هي هذه الهالة المحيطة بمفهوم الموت ثقافيًا وعقائديًا، والتي تُترجم سلوكيًا وواقعيًا على شكل مفاجأة صادمة للبشر عند موت كل إنسان – خاصة القريب، والتي تؤدي عادة إلى البكاء والحُزن الشديد – حتى لو كانت العلاقة مع الميت قبل موته سيئة..، مما يعني أن السر في الموت وليس في الميت! في الواقع البشر يخافون الموت فُرادى، ولا يخافونه جماعات..، وكذلك تفعل كل الكائنات الحية! الإنسان منفردًا، يهاب دخول مكان مهجور مجهول ليلاً، لكن جماعة من البشر لا تهاب ذلك! الجماعة عبارة عن عدد من الأفراد، ودخول الفرد ضمن جماعة، لا يوفر له حصانة أكيدة من الأخطار التي يخشاها بمفرده، لكن وجود الجماعة يوفر له اطمئنانًا زائفًا، كافيًا لإزالة خوف زائف، هو خوفه من الموت! إن الخوف عمومًا، هو مُعطى طبيعي، مرتبط بالحالة الفردية، وأساسه غريزة الحذر من كل مجهول، وهو الحذر الطبيعي المصاحب للإحساس بالحياة! لكن لا معنى للحذر من الموت، طالما أنه قادم لا محالة، والصحيح والمنطقي هو أن نفهم الموت لنُبدد الخوف منه، أو نفهمه ليتحول خوفنا منه إلى شيء مبرهن ومبرر، وقد يكون الصواب حينها هو أن يبكي الإنسان نفسه حيًا، قبل أن يَبكيه الآخرون ميتًا! إن خوف البشر من الموت، له سببان أساسيان، واحد طبيعي، وآخر مفتعل! أما السبب المفتعل، فهو الخوف مما قد يكون بعد الموت؛ وهذا مصدره الشك والتردد والسطحية وعدم المصداقية، لدى المؤمنين ولدى غير المؤمنين بالبعث والحساب! الجماعات والمذاهب العقائدية الدينية، هي مؤسسات التأمين الوحيدة المتوفرة والمتخصصة في التأمين لما بعد الموت؛ وهي الوحيدة التي تفترض وجود مبرر للخوف مما بعد الموت، وذلك لكي تمارس نشاطها المتمثل في اجتذاب أتباع أو زبائن أو عمال أو جنود! ولأن الافتراض الذي لا يمكن اختباره لا يمكن دحضه، لذلك تكوَّن لدى أغلب البشر خوف مستمر مما بعد الموت، وهو ما يُفسِّر انتشار عقائد هذه المؤسسات، وسيطرتها على عقول البُسطاء! ولأن الموت هو سر استقطاب هذه المؤسسات للبُسطاء، لذلك كان من السهل عليها تجنيدهم لقتل الخصوم، وجعلت من الموت في سبيلها أعلى سهم ضماني لما بعد الموت؛ … فتجارتها تقوم على الموت بداية ونهاية! وحيث إن الخوف مرتبط بالحالة الفردية، لذلك نلاحظ أن أغلب البشر منضمون إلى جماعات عقائدية، وذلك لتبديد الخوف مما بعد الموت! لكن، ولأن الجماعة عمومًا، توفر الاطمئنان للفرد مع بقاء الخطر قائمًا- سواء من الموت أو من سواه..، لذلك نلاحظ أغلب البشر ينضمون لجماعات عقائدية، لكنهم لا يدفعون رسوم الانضمام ..، أي أنهم لا يلتزمون بشروطها وضوابطها! لماذا تُطالب الجماعات الإسلامية – مثلاً، بتطبيق الشريعة الإسلامية، .. أي تطبيق العقوبات والحدود على المسلمين؟ السبب هو عدم التزام المسلمين بشروط وضوابط جماعة الإسلام، التي وفرت لهم الاطمئنان! ولماذا لا يلتزم المسلمون بشروط وضوابط جماعة الإسلام؟ لأن انضمام الأفراد للجماعات العقائدية، ليس انضمامًا طبيعيًا واعيًا، إنما هو انضمام احترازي، بهدف الحصول على اطمئنان آني، يواجهون به الخوف النفسي الذي تكوَّن لديهم مما قد يكون بعد الموت- على أساس احتمال صحة ما تنبأت به هذه المؤسسات العقائدية! الجماعات الدينية هي التي افترضت ضرورة الخوف مما بعد الموت دون برهان، وهي التي افترضت سُبُل الخلاص من هذا الخوف دون برهان كذلك، ولذلك هي غير مقنعة للإنسان، لكن شيئًا من الخوف لا بد أن يحصل لديه، ولذلك يكون مترددًا، وانضمامه للجماعة غير حقيقي! الخوف الزائف يزول باطمئنان زائف، وهذا الأخير يتحقق بمجرد الانضمام لأي جماعة عقائدية، ولا يتطلب تدقيقًا في مصداقيتها ولا التزامًا بشروطها..، وذلك لأن الخوف مفتعل أساسًا وليس طبيعيًا، ولذلك يزول بانضمام مفتعل لأي جماعة عقائدية – بما في ذلك جماعة الملحدين! لهذا يُصرُّ القائمون على الجماعة الإسلامية (الإسلام)- وهم في الحقيقة نصَّبوا أنفسهم كقائمين على الإسلام..، يُصرُّون على مراقبة بقية المسلمين ومحاسبتهم ومعاقبتهم على عدم التزامهم بشروط الانضمام للجماعة، لأنهم ينظرون للمسلمين كمخادعين، تحصلوا على الاطمئنان ولم يدفعوا ثمنه – وهو الالتزام بشروط الإسلام! أما السبب الطبيعي لخوف الأفراد من الموت، فهو معلوم، ولا يقتصر على البشر، بل هو أمر غريزي موجود وفاعل لدى كل الكائنات الحية، لكن تأثيره لدى البشر أقل- بسبب وجود الوعي، ولذلك يُقدِم البشر على الانتحار ولا يُقدم عليه غيرهم! هذا السبب هو: رهبة التجربة الأولى! الكائنات الحية المتنقلة، التي تخوض تجارب متجددة طوال حياتها، تتولد لديها تلقائيًا رهبة من خوض التجربة الأولى في كل شيء جديد، وذلك كخاصية للحياة، وهي خاصية الحذر اللازم لاستمرار الحياة، والناجم أساسًا عن وجود أخطار ومجاهيل تهدد الحياة! والموت بالنسبة للفرد هو تجربة أولى دائمًا! التجربة الأولى التي تترتب على الموت، هي تجربة التحول إلى جماد؛ هي تجربة الوجود على شكل جماد..، وهذه هي ماهية الموت! بالنسبة للإنسان، التحول من حالة وجودية إلى حالة وجودية أخرى، هو تجربة أولى دائمًا، وهو أمر مخيف عاطفيًا وليس عقليًا أو منطقيًا! عندما يفقد الإنسان بشريته (عقله)، يكون قد تحول إلى الحالة الوجودية للحيوان (مجنون)! عندما يعود للمجنون عقله، لا يتذكر شيئًا مطلقًا من حالة الحيوان التي خاض تجربتها، وتعتبر المدة التي قضاها في الحالة الحيوانية، منطقة خالية في شريط الذاكرة! عندما يفقد الإنسان وعيه (موت سريري مثلاً)، يكون قد تحول إلى الحالة الوجودية للنبات (تنفس، تغذية بالسوائل، نمو بطئ، وبدون حركة)! عندما يعود للفاقد وعيه، فهو لا يتذكر شيئًا من حالة النبات التي خاض تجربتها، وتعتبر المدة التي قضاها في الحالة النباتية، منطقة خالية في شريط الذاكرة! عندما يموت الإنسان، يكون قد تحول إلى الحالة الوجودية للجماد! ولو أمكن عودة الإنسان من حالة الجماد (الموت)، إلى الحالة البشرية، فهو كذلك لن يتذكر شيئًا من حالة الجماد التي خاض تجربتها، وستكون المدة عبارة عن منطقة خالية في شريط الذاكرة! خوف الإنسان من الموت، يُعادل خوفه من الجنون، يُعادل خوفه من فقدان الوعي..؛ هي كلها مخاوف من التحول من حالة وجودية مألوفة لديه، إلى حالة وجودية غير معروفة له، وهي عبارة عن مخاوف من تجربة أولى! إدراكنا لطبيعة الموت، ولسبب الخوف منه، يُبطل العجب منه، ويجعله خوفًا طبيعيًا، أقل وطأة علينا من الخوف التاريخي الثقافي المصحوب بالمخاوف والأهوال! ولأن تجربة الموت هي دائمًا أولى وأخيرة، لذلك يبدو لنا الخوف من الموت وكأن له أسباب أخرى لا نعلمها، بينما في الواقع لا توجد أسباب أخرى منطقية وحقيقية للخوف من الموت، سوى رهبة التجربة الأولى! تجربة الموت تتكرر لدى الجماعات، ولذلك لا تخشى الجماعة الموت، بينما يخشاه الأفراد، لأن الموت تجربة أولى دائمًا بالنسبة للفرد! هذا هو مفهوم الموت، وهذه أسرار خوف البشر من الموت، وربما لاشيء غير ذلك مطلقًا! 


ما هو الخلود، ولماذا هو حلم لمعظم البشر؟ أنا أشعر، بأن الخلود هو الحماقة الوحيدة التي لم ترتكبها الطبيعة في حقنا! وأقول إن حُلم البعض أو رغبتهم بالخلود، إنما تبدو حقيقية وجادة بسبب يقينهم بأنها لن تتحقق، وأن الخلود لو أصبح ممكنًا فسيرفضه الكثيرون، ثم سيرفضه الجميع! أعتقد أن رغبة البشر في الخلود، مجرد تعبير عن بطء الفهم! فالذين يطلبون الخلود، هم فقط يريدون فرصة كافية للتأكد من أن المشاهد التي أمامهم مكررة ومؤسفة ومملة حقًا! الخلود المطلوب بشريًا، هو خلود خاص، وليس الخلود بمعنى البقاء وحسب! ولو كان الخلود المطلوب بشريًا، أمرًا واقعًا ومفروضًا، لكن في سن الشيخوخة وليس بحسب رغبة البشر، لكان الموت هو طلبهم بدل الخلود! والواقع، أن طلب الخلود، لا يمكن تبريره عقليًا، ولا يمكن قبوله عاطفيًا، وذلك حتى لو أصبح الخلود اليوم ممكنًا، خاصة بعد رحيل الكثير من الأحباب والأصدقاء الأعزاء! إن العقلانية والمنطق والعاطفة اليوم، لا تقتضي فقط عدم تمني الخلود، إنما تقتضي طلب الموت، لحاقًا بالأعزاء ووفاءً للأصدقاء، وذلك سواء أكان هناك بعث وخلود بعد الموت، أو لم يكن..، وهذا سبب آخر يُقلل من حِدة الخوف من الموت! هل الخوف من البعث والحساب حقيقة، وهل هو مبرر؟ لا شك أن الخوف في هذه الحالة – إن وُجِد، فهو خوف من العقاب، وليس من مجرد البعث والحساب! والخوف في هذه الحالة، لا يوجد إلا لدى المؤمنين بالبعث والحساب! معلوم أنه لا يخاف العقاب دون ذنب، إلا العبد أو الأسير، وفقط عندما يكون السيد أو الآسر ظالمًا! أما الإنسان الحُر، فهو لا يخاف العقاب إلا إذا كان مذنبًا متعمدًا! والإنسان الحُر، لا يرتكب ما يوجب العقاب، إلا في واحدة من خمس حالات – تقريبًا: - أن يكون غير طبيعي! - أن يكون غير مُدرِك بأن هذا السلوك مُجرَّم وممنوع! - أن يكون واثقًا بأنه سيفلت من العِقاب! - أن يكون مدركًا لحجم ونوع العقاب، ولديه استعداد لتحمله! - أن يكون مضطرًا لارتكاب الخطأ! وإذا كان هناك من يخشى البعث والحساب والعقاب، فهو لا بد أن يكون أحد هذه الحالات، وهي كلها لا تُبرر الخوف! إن الخوف من عقاب البعث والحساب، سببه أمران افتراضيان زائفان، هما: - أن يكون الإله مزاجيًا، ويمكن أن يفعل بالبشر أي شيء، دون الاحتكام لقواعد منطقية عادلة..، وهذا ما أجمعت المعتقدات على نفيه، وبذلك لا معنى لخوف المؤمنين، ولا وجود أصلاً لهذا الخوف لدى غير المؤمنين! - الخوف من طبيعة العقاب، حيث تتفنن بعض المعتقدات (شركات تأمين ما بعد الموت) في وصفه بأنه عذاب لا يُطاق..، وذلك لتبرير زيادة رسوم الاشتراك..، وهذا أمر غير ممكن، وهو محض افتراء وهراء وهلوسة وترهيب للبشر بُغية السيطرة عليهم، بحُجة إمكانية التوسط لهم لدى الإله! لكن، الإفراط في وصف العذاب، هو في الحقيقة انتقام لفظي آني، يُمارسه أصحاب المعتقدات ضد الذين كذبوهم ..، وهو لا يعدو أن يكون أُمنية لديهم، بُغضًا لأناس أبرياء، كل ذنبهم أنهم عقلاء، رفضوا القبول بتصورات بشرية لا دليل على صحتها! لعله من الأهمية أن نذكر هنا، أنه حتى أولئك الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب، هم في الواقع يُدركون أنهم لا يملكون إثباتًا لصحة قناعاتهم، لكنهم مطمئنون أكثر من أولئك الذين يؤمنون بالبعث والحساب ويعتقدون أن لديهم وصفة النجاة! ومصدر اطمئنان غير المؤمنين، هو حقيقة أنهم لا يُنكرون أمرًا معلومًا، واعتقادهم بأنهم ليسوا بحاجة لافتراض وجود ما لا يعلمونه، وقناعتهم بأن تكذيبهم لبشر مثلهم لا يعني الكفر بإله يجهلونه! فإذا حصل بعث وحساب بعد الموت، فإنهم سيتكيفون معه حتمًا، كما تكيفوا مع البعث والحساب الذي هم فيه الآن، والذي تكيف معه كل البشر دون استعداد مسبق، وأصبح كثيرون منهم لا يريدون مغادرته، رغم أنه لم يألُ جهدًا في إيلامهم وإذلالهم وإخافتهم! لا تفسير لخوف حقيقي من أمر افتراضي، إلا الوهم! يُروى عن أحد الفلاسفة الملحدين، عندما سألوه: على افتراض حصول البعث والحساب، ماذا ستقول للإله، إذا سألك لماذا لم تؤمن بي كما آمن بي آخرون؟ فأجابهم: الأمر بسيط، سأقول له لم أؤمن بك نظرًا لعدم كفاية الأدلة أيها الإله! في الحقيقة، ليس أدل على أن تعاسة البشر مفتعلة، من بُغضهم للموت وهو الذي أوجدته الطبيعة لنجدة التُعساء! ما هو الفَناء، ولماذا يخشاه بعض البشر؟ أعتقد أنه لا يمكن استحضار شعور الخوف من الفناء، لأنه لا يبدو حقيقيًا .. ولذلك لا يوجد الكثير مما يمكن قوله حول مفهوم الفناء! فالفناء باختصار هو عبارة عن نوم متواصل بلا كوابيس مفزعة ولا أحلام كاذبة؛ وإذا كان شعور الخوف من الفناء له وجود حقيقي لدى بعض البشر، إذن ينبغي أن يكون لدى هؤلاء رُهاب من النوم، فالاختلاف بين النوم والفناء نسبي، وهو يميل لصالح الفناء

السبت، 29 ديسمبر 2018

قوانين الطبيعة وجود أزلي وسلوك حتمي!خلق بلا خالق(3).

0 تعليق


يبدو أن الطابع الاحتمالي لفيزياء الكوانتم أو ميكانيكا الكم، وما تفرضه تنبؤاتها – بل وحتى نتائجها – من غرابة، مقارنة بالفيزياء الكلاسيكية التي اعتدنا قوانينها، والتي تصف واقعنا المحسوس والمُشاهَد– كما بتنا نفهمه أو نتفق عليه..، من السلوك المُحدد إلى الشكل والحجم والسرعة والمكان والمسافة والكتلة والطاقة..الخ! هذا الطابع الاحتمالي بقوانينه العشوائية، وما يترتب عليه من غرابة، يبدو أنه في الحقيقة يتجاوز العالم التحت ذري، ليحكم واقعنا الفيزيائي البشري المادي العملي الحياتي! فبإسقاط نتائج تجارب وتصورات فيزياء الكوانتم أو ميكانيكا الكم على الواقع المُشاهَد، نلاحظ تشابهًا كبيرًا – يقترب من درجة التطابق-، بين سلوك الموجودات المحسوسة المستقلة في الواقع - الإنسان مثلاً، وبين سلوك الجسيمات – تحت الذرية التي تتألف منها تلك الموجودات- الإلكترونات مثلاً..، حتى كأن العلماء يستعملون الإلكترون لوصف طبيعة وسلوك الإنسان! وربما يكون تفسير ذلك – إذا صحَّ هذا الإسقاط أو التشبيه – هو أن سلوك المادة عبارة عن مجموع سلوك مكوناتها – التحت ذرية، وبذلك فهي تخضع لذات القوانين أو ذات التراكبية – والتراكبية هنا هي المزج بين المتناقضات أو الجمع عمليًا بين مراحل ينبغي أن تكون متعاقبة نظريًا ومنطقيًا! مقارنة بين سلوك الإنسان وسلوك الإلكترون:
 1- أثبتت تجارب فيزياء الكوانتم، أن سلوك الإلكترون تحت المشاهدة، يختلف عن سلوكه عندما لا يكون تحت المشاهدة! ويمكننا أن نلاحظ: أن هذا بالضبط هو سلوك الإنسان، فليس سلوك الإنسان وهو تحت المشاهدة هو ذاته دون مشاهدة! ليس سلوك الإنسان وهو يعلم أنه تحت المراقبة، كسلوكه دون مراقبة! بل أكثر من ذلك، فإن سلوك الإنسان عشوائي ولا إرادي أمام التجارب الحياتية، شأنه شأن الإلكترون..، فليس سلوك الإنسان أمام القاضي هو ذاته أمام الصديق..، والسبب هو وقوع الإنسان تحت تأثير أحاسيس ومشاعر عشوائية لا إرادية، تستمد سلطتها الطاغية من طبيعة الحدث وطبيعة العلاقة مع الطرف الآخر في المعادلة، ومن الاحتمالات المتعددة للنتائج المترتبة على كل سلوك، مما يؤدي إلى نشوء حالة من الارتباك والاضطراب تُهيئ الإنسان للاستعداد لسلوك كل المسارات وكل الخيارات الممكنة! وبالمثل فإن الحالة النفسية اللا إرادية التي تُربك الإنسان وتُحدد سلوكه أمام فرد الأمن، ليست هي ذاتها التي تخلق سلوكه الغرامي أمام المعشوق..، وليس الإنسان هو الذي يُقرر سلوكه واختياراته في الحالتين، بدليل شعوره بالسعادة إذا وُفِّقَ في اختيار السلوك والقرار المناسب – حسب النتيجة، وكثيرًا ما يأتي الأسف مُصاحبًا لنتيجة السلوك والاختيار، وكأن سلوكه واختياراته كانت عشوائية لا تخضع لمنطق أو قانون – حيث لا يؤكد الإنسان صواب اختياره من عدمه إلا بعد ظهور النتائج وفوات الأوان- والحال أنه سلوك عشوائي بالفعل، حيث لا يُقرره الإنسان اختياريًا – بالمفهوم التقليدي للإنسان والاختيار، وإنما تُقرِّره خلايا وذرات تكاد من الصِغر أن تكون عدمًا، وهي التي يتألف من مجموعها كيان الإنسان الظاهر! وكذلك فإن مُحدِّدات سلوك الإنسان العادي، أمام الرئيس (راعي البشر)، ليست هي ذاتها مُحدِّدات سلوكه أمام راعي الغنم، وليس الإنسان – التقليدي – هو الذي يختار تلك المُحددات، بل إن الإنسان عبارة عن شاشة تعرض سلوك مكوناتها! وليس سلوك المريض كالمعافى، ولا سلوك المحتاج كالمقتدر..، إزاء ذات الحدث..، وهكذا!

 2- يتصف الإلكترون بالسلوك المزدوج - جسيم وموجة ..، ويمكننا ملاحظة: أن هذا السلوك المُستغرب لدى الإلكترون، هو في الواقع سلوكٌ بشريٌ عمليٌ موجود وممارس لدى الإنسان – وإن تم تجاهله قبل أن يتم اكتشافه لدى الإلكترون ويتم الإعلان عنه! فرُغم أن الإنسان الفرد، يحتفظ ويفتخر بحالته ومواصفاته الفردية واستقلاله، إلا أنه لا يُنكر ولا يستغني عن انتمائه وسلوكه الجَمَاعي، وهو يستعمل خصائص ومميزات الحالة الفردية (الجسيمية) أو الحالة الجَماعية (الموجية) حسب ما تفرضه الحالة التي يمر بها..، وهذا ما يفعله الإلكترون! فكثيرًا ما يتكلم ويُمارس إنسان فرد، ممارساتٍ تختص بالجماعة (قد تتطلب توقيعات موكلين أو موافقين أو مؤيدين له)..، فهو يسلك سلوكًا جَمَاعيًا – موجيًا! وعندما يقول إنسان فرد: نحن العرب، أو نحن المسلمين، أو نحن المساجين، أو نحن الفقراء والمغلوبين على أمرهم، أو نحن العمال،…الخ، فهو إنما يسلك سلوكًا موجيًا، ليوحي إلى المشاهِد أو المخاطَب أو إلى الخصم، بأن الذي أمامه هي جماعة وليس فردًا! ولعل السلوك الموجي لدى البشر، يوجد ويُمارس كأوضح ما يكون، في المجتمعات الدينية العقائدية، التي تتألف من عجين بشري أو موجات بشرية يتم تحريكها والتأثير فيها عن بُعد، ولا تتألف من أفراد لهم قناعات فردية تُحدد سلوكهم..، حيث إنه في تلك المجتمعات التي تُمثِّل أغلب الكتلة البشرية على الأرض، تكون خُطبة أو فتوى من رَجلي دِين مختلفين، كفيلة بأن تُحرِّك أمواجًا بشرية لتتصادم وتفني بعضها..، ثم تظهر مكانها طائفة أو مذهبًا جديدًا (موجة)، تقوم على أنقاض السابقين ومستفيدة من أخطائهم..، وذلك تمامًا كما تتداخل موجات الإلكترونات والموجات المائية وغيرها
  !
 3- الإلكترون يسلك كل المسارات الممكنة أثناء انتقاله من نقطة إلى أخرى..، وهذا كذلك سلوك بشري معروف، حيث إن الإنسان يدرس كل الاحتمالات الممكنة لتحقيق هدفه، ولا يكتفي بالدراسة النظرية، بل يقوم بتجربة كل الاحتمالات عمليًا – بحسب إمكاناته! وإذا كان الإلكترون يمر عمليًا من خلال كل المسارات الممكنة بين نقطتين، فإنه يقوم بذلك بحسب ما يحمله من طاقة، ولذلك تقول التجارب العلمية بأنه أمكن السيطرة على سلوك الإلكترون بتخفيض طاقته! وهنا يمكننا مقارنة سلوك الإلكترون بسلوك الإنسان الفقير والغني، ففي حين أن الهدف الذي يسعون لأجله واحد وهو جمع أكبر قدر ممكن من المال والمكتسبات، إلا أن الفقير وبسبب محدودية إمكاناته (ضعف طاقته)، فإنه يكتفي – مُرغمًا- بالاستثمار في مشروعٍ واحد – أي سلوك مسار واحد نحو الهدف..، بينما نجد الغني يستثمر في مجالات مختلفة، بل وفي كل المجالات - إن استطاع إلى ذلك سبيلاً! 4- حسب الفيزياء الكمية، ينبغي أن تكون هناك تواريخ متعددة وماضٍ ذو احتمالات متعددة للعالم، وليس ماضٍ واحد ولا تاريخ واحد! وهذه حقيقة مُعاشة تحت رماد الواقع البشري، قبل أن تتنبأ بها وتصوغها وتُثبتها وتُصرِّح بها فيزياء الكوانتم! فالإنسان في تصرفاته لا ينطلق فقط من خبرته في التجارب التي خاضها عمليًا، بل إنه يستحضر ويستفيد من كل الاحتمالات التي كان من الممكن حدوثها في تجاربه الماضية! فالإنسان يرسم ويصطحب نماذجَ لكل المَشاهِد التي يمر بها، ويدون كل الاحتمالات الممكنة لتصرفاته حيالها والنتائج المتوقعة لها..، وإن تدوين ذاكرة الإنسان لاختياره إزاء حدثٍ ما - في الماضي، والنتائج العملية التي ترتبت على ذلك الاختيار في تلك اللحظة..، لا يختلف عن تدوين ذاكرة الإنسان لكل سلوك كان ممكنًا – لكن تم استبعاده، أي لم يقع عليه الاختيار حينها- حيال ذلك الحدث وكل النتائج المحتملة..، أقول لا يختلف الأمران، سوى أن السلوك الذي وقع عليه الاختيار والنتائج العملية التي ترتبت عليه، يتم تدوينها لدى كثيرين غير الإنسان صاحب التجربة – حيث إنها علنية مكشوفة، بينما يقتصر على من خاض التجربة واللصيقون به فقط تدوين كل سلوك كان ممكنًا وتم استبعاده والنتائج المحتملة له! 5- تقول فيزياء الكم، إن الإلكترون يتواجد في أكثر من مكان في الوقت ذاته..، ولم يعد هذا أمرًا مستحيلاً ولا غريبًا على الإنسان، فهو اليوم يستخدم خصائص الإلكترون للظهور في أكثر من مكان في ذات الوقت. فظهور الإنسان على شاشات العديد من الفضائيات في الوقت ذاته، هو تواجد متزامن في أكثر من مكان..، ولعل استخدام تقنية الهولوغرام في الاتصالات أثناء البث التلفزيوني، ستجعل وجود الإنسان المتزامن في أكثر من مكان وبشكل ثلاثي الأبعاد، أشبه بالواقع منها بالتصوير، وأقرب إلى التطابق مع سلوك الإلكترون وتواجده المتزامن في أكثر من مكان! ( ما يُسمَّى بالهولو غرام أو التصوير المجسم، هو تصوير ثلاثي الأبعاد للأشياء، تُستخدم موجات ضوء ليزري لإنتاجه وتفعيله، وقد تستخدم هذه التقنية قريبًا في محطات التلفزة، بحيث يظهر الشخص المشارك عن بعد، في الاستوديو- كما لو كان متواجدًا بالفعل)! كذلك يتم تواجد الإنسان المتزامن في أكثر من مكان، باعتبار تأثيره في الآخرين وشعورهم بتواجده، ويكون ذلك بالشعر والرسم والموسيقى والإنجازات والجرائم وغيرها.. كما أن الإنسان بواسطة المرايا قد أحدث تواجدًا متعددًا في المكان موحدًا في الزمان! كذلك يتواجد الإنسان بعيونه وجواسيسه وأفكاره في، أكثر من مكان في ذات الزمان! 

كيف يصدر السلوك العشوائي واللا إرادي عن كائن عاقل؟ المنطق هو استعمال العقل لمواءمة الواقع مع العشوائيات الطبيعية! وليست العقلانية نقيض العشوائية، بل هي أحد مستوياتها المتعددة! إن العشوائية لا تعني الخطأ بالضرورة، كما أن العقلانية لا تعني الصواب دائمًا! لا يوجد في الواقع مُحدِّداتٌ وحواجز تفصل الصواب عن الخطأ! كل أمرٍ توافرت مبررات فعله أصبح صوابًا وإن لم يتحقق على الواقع! وكل أمرٍ غابت مبررات فعله عُدَّ خطأً وإن كان بالأمس صوابًا! وكل أمرٍ توافرت إمكانيات حدوثه صار جزءًا من الواقع! لعلنا نفهم العشوائية انطلاقًا من مفهوم خاطئ للعقلانية! أغلب البشر يتحدثون عن العقل باعتبار وجود سقف معين وحد أدنى من العقلانية يُمثِّل قاسمًا مشتركًا بين كل العُقلاء! وبهذا المعنى، فهم يفترضون أن الإنسان إما عاقلاً وإما مجنونًا! وهم بذلك يتجاهلون حقيقة اختلاف العُقلاء عند مختلف المستويات المفترضة للعقل وتحت السقف المفترض للعقلانية..، وليس ذلك سوى ضربٌ من العشوائية التي يرفضها العُقلاء! فإذا كان "س" من الناس عاجزًا عن إقناع "ص" منهم، بأمرٍ يراه "س" مفهومًا وصائبًا وعقلانيًا، وهما كلاهما يعملان في ذات المستوى العقلي المُحدد بالسقف الافتراضي..، فإنه لا معنى لذلك سوى بُطلان فرضية الحد الأدنى من العقل البشري المشترك، وإثبات لحقيقة العشوائية التي تُبطِّن العقلانية البشرية! لعله آن الأوان لكي يضع العُقلاء تصورًا جديدًا لمفهوم العقل والعقلانية، بديلاً لنظريات السقف والحد الأدنى والقاسم المشترك..، لعلهم سيفترضون أن الإنسان يحمل عددًا من الخلايا المسئولة عن التفكير وتحديد القناعات والسلوك! وأنه بقدر العدد المُفعَّل من تلك الخلايا، وبحسب نوع التفعيل، تتحدد العقلانية وتختلف من إنسان لآخر! بحيث يكون الجنون هو الحالة التي تكون عندها كل الخلايا مُعطَّلة! ويكون الفارق في الذكاء دلالة على الفرق في عدد الخلايا المُفعَّلة! ولعل التلقين والاعتقاد والخوف، تكون من بين وسائل التفعيل والتعطيل لتلك الخلايا! إن الاعتقاد هو عبارة عن حالة انفعال مستمرة! فإذا كان الانفعال اللحظي، يؤدي إلى اتخاذ قرارات خاطئة عمدًا، بما يُخالف القناعات والمبادئ الاختيارية، فلا شك أن الانفعال المستمر (الاعتقاد) يؤدي بدوره إلى اتخاذ مواقف لا عقلانية وبشكلٍ مستمر! وبذلك ينشأ الاختلاف اللا إرادي، وتختلف القناعات والمواقف بين العُقلاء حول الأمر الواحد، وهي السلوكيات غير المفهومة في ظل نظرية السقف العقلي والعقل البشري المشترك، فيتم تفسير الاختلاف اللا إرادي على أنه مكابرة وعناد وعداء عقلي متعمد، بما يستوجب مواجهته ماديًا – أي تصفية المختلف جسديًا!

الزمن.. لعل الزمن لا يكفي والمكان لا يتسع، لظهور حقيقةٍ لا تأبه بمخاوف الخائفين، ولا تعبأ بعواطف الضعفاء والحالمين، وتفضح الكاذبين والطامعين، وتصدم الواهمين! الزمن التقليدي: إننا نقول بعفوية، بأن الأحداث تتوالى والحضارات تتغير والحياة تتطور عبر الزمن! إننا نكتشف الجديد عبر الزمان لا خلال المكان! كأن المقصود بالزمان هو الاختلافات الكامنة في الإنسان، والتي تتبدى وتتطور عبر الأجيال! حتى أن الزمن ليبدو في مخيلتنا كوعاءٍ أزليٍّ، يضم أعدادًا لا نهائية من حقائق وغرائب متجددة..، يعرض وعاء الزمن مخزونه في معرضٍ متحركٍ، أمام زوارٍ يتبادلون مقاعد الجلوس، لا يُغادر أحدهم مكانه إلا إلى خارج المعرض، ولمرة واحدة! من الزوار من يترك ملاحظاتٍ على مقعده، فيستفيد منها ويبني عليها الذي يأتي بعده، فلا ينطلق من الصفر في فهم وإدراك المعروضات..، ومن الزوار من يخرج من المعرض كما دخله، لا يفقه شيئًا مما يدور ويُعرض أمامه، فيكتفي بالحد الأدنى مما يستوجبه دخول أي زائرٍ لأي معرض! ومنهم من لا يستطيع متابعة المُشاهدة، نظرًا لفرط التناقض بين ما يُقال وما يُعرضُ، فيُقرر لحظة خروجه من معرض الزمن مختارًا! الزمن الحقيقي: ليس للزمن وجود فيزيائي – طبيعي – مستقل، وليس الزمن صفة من صفات الأشياء الفيزيائية.. لعله، وربما إنه، لا وجود للزمن خارج عقل الإنسان! إن عنصر الزمن هو افتراض بشري ومتغير حسابي، لا وجود له في الواقع! إنه لا يوجد منبع قابل للنضوب، يتدفق منه شيء اسمه الزمن! إن كل ما هُنالك هي أحداث وتفاعلات ونتائج، تظهر كلما التقت مكوناتها وتوافرت شروطها، ثم إنها تنضج لتندثر لتستمر الدورة، وتختفي لتظهر بدائلها! ويبقى المؤكد هو أننا بحاجة مستمرة لإعادة النظر في كل شيء! ويظل الأصعب هو إدراك حدود البساطة الطبيعية لكل شيء، والأهم هو عدم تجاوزها!

الخميس، 13 ديسمبر 2018

قوانين الطبيعة وجود أزلي وسلوك حتمي! خلق بلا خالق(2).

0 تعليق


حقيقة الواقع الكمومي وفرضية الواقع الحقيقي! أوشك العِلم في ساحة فيزياء الكوانتم أو ميكانيكا الكم، أن يصطف إلى جانب المعتقدات في تجاوز وعي الإنسان وقدرته على التصور، وتجاهل ثوابته المنطقية التي يعتمد عليها للحفاظ على توازن كيانه، وذلك حين أعلن العُلماء عن تنبؤاتهم التي مفادها أن الجسيمات الأولية التي تتكون منها المادة والطاقة (عالم الكوانتم)، والتي يتكون منها الإنسان أيضًا..، أنها تسلك سلوكًا عشوائيًا ذاتيًا في تصرفاتها- لا يخضع لقانون بعينه ولا لنموذج مما يمكن أن يتصوره العقل، الأمر الذي يجعل كل النتائج في الحاضر والمستقبل وحتى الماضي، هي نتائج احتمالية متعددة وليست محسوبة ومحددة! تقول فيزياء الكوانتم، إن الفوتون هو جسيم أولي، ناقل للطاقة، وليست له كتلة سكونية! ونحن نعلم سلفًا – أو لنقل أن العلماء قد أدركوا واتفقوا وأخبرونا قديمًا، أن الذرة تتكون من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات! وجاءت فيزياء الكوانتم لتقول، بأن الإلكترون مثل الفوتون، من حيث هو أحد الجسيمات الأساسية الأولية في الوجود، التي ربما لا تتجزأ إلى أصغر منها..، بينما البروتونات والنيوترونات، قد ثبت أنها تتكون مما هو أصغر منها – الكواركات – مفردها كوارك، وأن الكوارك لا يوجد منفردًا في الطبيعة، أي أن الكوارك لا يوجد في الطبيعة إلا كمكون لغيره، أو هو ليس وحدة كاملة – حتى أنهم قالوا أنه لا يحمل شحنة كهربية تامة-، هذا إذا لم يكن الكوارك يتكون من مكونات أصغر منه – هو الآخر! يُطلق العلماء مصطلح (تحت ذري) على الجسيمات المكونة للذرة، وعلى كل ما هو أولي في الطبيعة -وهو بالضرورة أصغر من الذرة! الإلكترون، وبسبب مواصفاته وإمكانية فصله أو عزله واستعماله من قِبل العُلماء، وربما أيضًا بسبب انتشاره بين مختلف المستويات المعرفية والثقافية للبشر – كمفهوم ذري وكهربي – حتى بات الجميع يعتقدون بمعرفتهم له وكأنهم يستطيعون تصوره..، لهذه الأسباب وغيرها أصبح الإلكترون هو أكثر الجسيمات ذِكرًا وترشيحًا لإجراء التجارب العلمية في فيزياء الكوانتم! أظهرت التنبؤات كما أثبتت التجارب العلمية التي أجريت على سلوك الإلكترون وعلى الفوتون (جسيمات تحت ذرية)، بعض الحقائق الجديدة والغريبة - التي لا يستسيغها من تعود على قوانين الفيزياء الكلاسيكية التي يمكن تخيلها بدرجة أو أخرى..، من تلك الحقائق أو النتائج: 1- أن الإلكترون يمكن أن يتواجد في أكثر من مكان في وقت واحد! 2- أن الجسيمات ما تحت الذرية (الإلكترون مثلاً)، هي ذات طبيعة مزدوجة – موجية وجسيمية! 3- أن الإلكترون يسلك كل المسارات الممكنة أثناء انتقاله من نقطة إلى أخرى، ولا يكتفي بمسار واحد! 4- أنه لا يمكن فصل عملية المُشاهَدة عن سلوك المُشاهَد، أي أن الإلكترون – مثلاً، إذا تَمكنتَ من مشاهدته، فإنه لا بد وأن يتأثر بمشاهدتك له، فيكون قد اضطرب وغيَّر من حالته آنيًا بما يسمح لك بمشاهدته، ثم ما يلبث أن يعود إلى حالته الطبيعية بعد انتهاء المشاهدة، وهذا يعني أنه لا يمكن مشاهدة إلكترون طبيعي (ويُفسرون ذلك، بأن المشاهدة لا تكون إلا بتسليط ضوء (فوتون) على الشيء المراد مشاهدته، ولا بد للإلكترون من ردة فعل تتناسب مع فوتون الضوء، وبذلك لا يكون الإلكترون أثناء عملية المشاهدة هو ذاك الإلكترون قبلها وبعدها)!
. ربما كان على العُلماء أن يسلكوا مسار الفلاسفة بدل مسارات الإلكترون، فيقولون مثلاً: إن طبيعة وسلوك الجسيمات - تحت الذرية - تلك الطبيعة التراكبية، لا يمكن وصفها بالمفردات والمصطلحات المتوفرة في اللغات والثقافات والمعارف البشرية، ولا يمكن قياسها بدقة كاملة، ولذلك لا معنى للحديث العلني عنها الآن- وإن كانت واقعًا! وربما كان عليهم قبل ذلك، إيضاح الأهمية الكبيرة لعنصر الوقت – قياس الزمن – في تنبؤاتهم وتجاربهم..، بما يفرضه ذلك من الإقرار بأن عنصر الزمن ليس فقط آلية قياسه هي كلاسيكية تقليدية ونسبية، بل إن فكرته وفلسفته هي ذاتها نظرية افتراضية وفكرة فلسفية..، إذ ليس الزمن شيئًا فيزيائيًا مستقلاً بذاته يمكن دراسته، ولا هو قانون طبيعي ينبغي التسليم بنتائج معادلاته، ولا هو شعور لا إرادي يمكن وصفه، ولا هو خاصية فيزيائية لشيء آخر..، إنه ليس نتيجة علمية بالأساس! فالزمن هو عنصر معنوي رمزي، تتم إضافته إلى معادلةٍ، كل عناصرها الأخرى فيزيائية – طبيعية (مادية)! ولكن، ورغم – ما يمكن تسميته - بتسرع العُلماء في التصريح بتنبؤاتٍ لا منطقية في مجال فيزياء الكوانتم، والتي أربكت الكثيرين، ودعت الكثيرين إلى إعادة النظر في كل معارفهم ومُسلَّماتهم – دون إحاطة ودون إلمام كافٍ بهذا العالم المعقد المتشابك ذي الطبيعة الاحتمالية والثنائية – عالم الكم، والذي يُقال بأن آينشتاين مات ولم يُسلِّم بصحته! إلا أنه يُحسبُ للعِلم والعُلماء – كما هُم دائمًا - حفاظهم على أعلى درجات الصرامة في تحقيق وتكرار التجارب والتثبت من نتائجها قبل إعلانها، تمامًا كما يُحسب لهم اتصافهم بعدم المكابرة، وحضور الأمانة والصدق والشفافية في تعبيرهم عن رؤاهم ودهشتهم من نتائج تنبؤوا بها وحققوها بأنفسهم – عندما تكون مدهشة بالفعل، بل وأكثر من ذلك نجد العلماء لا ينسلخون عن محيطهم ولا يتنكرون لطبيعتهم البشرية، ولا يتجردون من بساطتهم، مما يجعل الكثيرين منهم لا يُنكرون على الإنسان العادي حقه في رفض ما لا يستطيع تصوره – مما أثبتوه!
 الذرة في الغرب والزوجة في الشرق.. تطابق السلوك: عادةً ما تكون الزوجة الشرقية على إطلاع بحدود إمكانيات زوجها المالية، وعادةً ما تطلب منه توفير ما يفوق قدراته..، ويبدو هذا الأمر للزوج سلوكًا غير منطقي، أو مفارقة غير مفهومة – سلوك كوانتي – تراكبي (الزوجة تعرف ولا تعرف في ذات الوقت)! ولعل ما لا يعلمه الكثيرون من الأزواج أو لا يستطيعون تصوره أو لا يريدون تصديقه، هو أن قناعات الزوجة لحظية – لا يتجاوز بقاؤها لحظات محدودة (ليس لها كتلة سكونية)! وأن تعارض المعلومة مع المصلحة هو دليل على عدم صحة المعلومة – في قاموس الزوجة! وأن إجابة الزوجة على سؤال الزوج، تُحدِّدها ظروف ومعطيات لحظة السؤال، وليس حقيقة الأمر! ويبدو أن الذرة عند عُلماء الفيزياء في الغرب، مثل المرأة (الزوجة) عند حُكماء الرِجال في الشرق، حيث يَدَّعون معرفتها ويُقرُّون بغموضها (سلوك تراكبي لدى الرجال)! فلا يمكنهم رؤية جوهرها وإدراك أسرارها، ولا يمكنهم تجاهل وجودها وحقيقة تأثيرها! يعتقدون أنهم يُجرون عليها التجارب، بينما في الواقع هي التي تُحدِّد زمان ومكان ومسار التجربة والخطوات التالية! والنتيجة تكون احتفاظ الذرة والمرأة بأسرارهما، ومتابعة العلماء والرِجال السير خلفهما!.
 - العالم الشهير ريتشارد فاينمان المعروف بمشاركته في صياغة نظرية المجالات (الكمية) عام 1947، وبنظريته في (حاصل جمع التواريخ) لتفسير نظرية (الكم)، قال: (أظن أنني يمكنني القول بأمان إنه لا أحد يفهم ميكانيكا الكم). - وقد سبق للعالم الشهير ألبرت آينشتاين المعروف بنظريته (النسبية العامة) أن اعترض بشدة على (ميكانيكا الكم). قال آينشتاين: "إن أكثر الأشياء الغير مفهومه في هذا العالم هو أنه يمكن فهمه". وقال:"إن فيزياء الكوانتم تجعل كما لو أن الإله يلعب النرد مع العالم". - وقال ريتشارد فينمان: "لا يوجد أي ضرر من الشك والارتياب، فخلالهما أُنجِزت الاكتشافات الحديثة". - وقال ديفيد هيوم (الفيلسوف التنويري والمؤرخ البريطاني الشهير): "بالرغم من أنه لا يوجد أساس منطقي للاعتقاد في وجود واقعية موضوعية، ولكن لا يوجد بديل أمامنا سوى العمل كما لو كانت حقيقة". - دانييل جرينبرج، وهو عالم مرموق من سيتي كولج في نيويورك، يذكر أن آينشتاين سبق أن قال (إنه إذا كانت ميكانيكا الكم حقيقة، فإن العالم يكون قد جُن)؛ ثم يضيف دانييل جرينبرج: حسناً، آينشتاين كان مُحقاً، فالعالم هو حقًا مجنون). - أما أنتوني زيلينجر من جامعة إينزبروك فيقول: (بالنسبة لي الهدف الأساسي من عمل التجارب هو بيان مدى غرابة الفيزياء الكمية..؛ ويضيف: إن معظم الفيزيائيين هم غاية في السذاجة لأنهم ما زالوا يعتقدون في الوجود الحقيقي للموجات والجسيمات. - يقول عالم الفيزياء المعروف، ستيفن هوكنج، صاحب كتاب( التصميم العظيم): إن القانون العلمي ليس قانونا علميا إذا كان ثباته يعتمد على قرار من كائن ما - فوق الطبيعة، يختار عدم التدخل غالبا والتدخل أحيانا. ولذا فعندما سأل نابليون لابلاس عن مكان الله في نظرياته، أجابه: ” سيدي، أنا لم أكن بحاجة إلى تلك الفرضية”. وقال ستيفن هوكنج (عام 1988): كل ما فعلته أن أوضحت أنه من الممكن أن يبدأ العالم من قوانين الطبيعة، وفي هذه الحالة لا حاجة إلى طلب من الإله أن يقرر كيف يبدأ العالم . هذا لا يثبت ألا وجود للإله، ولكن فقط أنه غير ضروري . وقال ستيفن هوكنج (عام 2010):" إذا كنت تؤمن بالعلم مثلي، سوف تؤمن بأن هناك قوانين يجب أن تُطاع دائما، إذا أحببت يمكن أن تقول أن تلك القوانين هي عمل الإله، ولكن هذا سيكون تعريف للإله وليس إثباتا لوجوده .
 قال الفلكي كارل ساجان، في برنامجه الشهير باسم النظام الكوني “كوزموس ” في الثمانينات من القرن المنصرم: إن العلوم لا تتميز بالمثالية { ولا بالمطلق من المعلومات} ؛ وبالإمكان إساءة استغلالها؛ فهي مجرد وسيلة؛ و لكنها أفضل وسيلة نمتلكها على الإطلاق، فهي تتميز بكونها ذاتية التصحيح، مستمرة، وبالإمكان تطبيقها على كل شيء. ولكن لها قانونان {يجب ألا تحيد عنهما}. الأول: لا توجد حقائق مقدسة؛ فكل الافتراضات فيها يجب أن تكون تحت التجربة النقدية؛ ومناقشات ذوي السلطة حيالها غير مجدية {لأنها لا يجب أن تخضع لأهواء المسئولين و نزواتهم و اعتقاداتهم السابقة }. وثانيا: كل ما هو غير متفق مع الحقائق {التنبؤات} وجب رميه أو إعادة مراجعته… و لذا “فالبديهيات” (في المجال العلمي) تصبح أشياء خاطئة {أحيانا }، و“المستحيلات ” تصبح أشياء واقعية في أحيان أخرى.. 
بحسب فينمان: فإن الطريقة التقليدية للنظر للأمور غير مجدية." وعليه فإن النظرة السطحية للواقع لا تتواءم مع قوانين الفيزياء الحديثة". وحتى يتعامل "ستيفن هوكنغ" مع هذه المتناقضات، قام بطرح طريقة للنظر إلى الأمور سماها: “الحتمية المعتمدة على النموذج” (Model-Dependent Realism). هذه الطريقة مبنية على قاعدة " أن أدمغتنا تفسر المدخلات من الأجهزة الحسية بصنع صورة للعالم. وعندما يكون هذا النموذج ناجحا في شرح الأحداث، فنحن ننسب له، وللعناصر والمفاهيم التي يحتويها، خاصية الواقعية أو الحقيقة المطلقة". يقول ستيفن هوكنج: نحن نُعتبر توافه صغيرة في المقاييس الكونية العظيمة، ولكن ندرة وجود أمثالنا هو ما يجعلنا نوعا ما سادة المخلوقات. ولكن حتى نفهم الكون بمستوى أعمق فنحن نحتاج أن نعرف، ليس فقط كيف يعمل الكون، ولكن أيضا لماذا؟ ولماذا يوجد شيء بدلا من اللاشيء؟ و لماذا نحن موجودون؟ ولماذا هذه المجموعة المحددة من القوانين الكونية وليس غيرها؟ إن هذا هو السؤال الكلي عن الحياة، والكون، وكل شيء! يقول ستيفن هوكنج: ” إن التجارب الحديثة في علم الأعصاب، تدعم التوجه القائل بأن أدمغتنا الفيزيائية، والتي تتبع القوانين العلمية الطبيعية، هي التي تقوم بأخذ قراراتنا، وليس وكالة ما موجودة خارج نطاق هذه القوانين، فعلى سبيل المثال، بينت دراسة لمرضى تحت عمليات فتح الدماغ بدون تنويمهم، أن التأثير الكهربي على أماكن معينة في الدماغ، يجعل المريض في حالة يشعر بها بالرغبة في تحريك يده، أو ذراعه، أو قدميه أو شفتيه {حسب المكان المثار} . ويُستنتج من ذلك أنه ” من الصعب أن نتصور كيف بالإمكان القول “بحرية الاختيار” إذا كانت تصرفاتنا مقيدة بالقوانين الطبيعية، ولذا، فمع أنه يبدو لنا أننا لم نعد تلك المكائن البيولوجية {أو الدمى المتحركة}، فإن حرية الاختيار مجرد وهم .
  الفيزياء الكمية تقول لنا إنه “ وعلى الرغم من كثرة مشاهداتنا للوضع الحالي، فإنه ليس فقط المستقبل، بل إن الماضي الذي لم نقم بمشاهدته، هو غير مؤكد لأنه يوجد في حيز من عدة احتمالات. ولذا فالعالم حسب قوانين الفيزياء الكمية، لا يوجد له ماضي واحد أو تاريخ واحد، بل عدة تواريخ وأحوال ومواقع محتملة

السبت، 1 ديسمبر 2018

قوانين الطبيعة.. وجود أزلي وسلوك حتمي!لا خلق بلا خالق(1).

0 تعليق


ما هي قوانين الطّبيعة! كيف نشأت، وما علاقتها بالمادة؟ هنالك تساؤل فلسفي قديم، ولا يزال يُتداول اليوم ! يقول التّساؤل: إذا كان الوجود وكل ما يجري فيه، هو عبارة عن مادة خاضعة لقوانين طبيعية صارمة، ولا شيء غير ذلك؛ فهل سبقت المادة القوانين، أم إن القوانين سابقة للمادة؟ ولتبسيط التساؤل: نقول مثلاً – هل إن وجود مادة الحديد في الطبيعة كان أولاً، ثم جاء قانون الصدأ والمغنطة لاحقًا؟ بحيث بقي الحديد في الطبيعة ردحًا من الزمن لا يصدأ ولا يتمغنط، ثم جاءت قوانين من خارج الطبيعة، وتم توزيعها بين المواد لتحكم علاقاتها ببعضها و ردات فعلها على الظروف المحيطة بها، فكان من نصيب الحديد الصدأ والمغنطة..، أم أن قانون الصدأ والمغنطة – مثلاً- كان موجودًا في الكون – دون وجود مادة الحديد، ثم تكوّنت المادة، ومنها الحديد، فاختار أو أُمِرَ كل قانون بملاحقة مادة معينة، وكان من نصيب قانون الصدأ والمغنطة، ملاحقة مادة الحديد! وبذلك نتوقع أن تصدر أوامر جديدة للقوانين أو للمادة، فيُصبح الصدأ من نصيب الهواء، وتُصبح المغنطة من نصيب الخشب – مثلاً! في الواقع، إن إعادة طرح مثل هذا التساؤل في هذا العصر، ربما لا يستطيع الكثيرون فهمها بمعزل عن مراوغة متعمدة – دون غاية، أو أنها تعكس نية مُبيتة لتكريس نتيجة مفترضة مسبقًا! إذ لا يصح منطقيًا أن يكون الجواب هو هذا أو ذاك! فالجواب الماثل عن هذا التساؤل، هو أن قوانين الطبيعة التي تحكم سلوك المادة، ما هي إلا انعكاس طبيعي لخصائص المواد المختلفة..، أي أن القوانين قد انبثقت أو نشأت متزامنة مع وجود المادة..، فهي تتغير بتغيرها وتنحرف بانحرافها وتختفي باختفائها! ربما أن أحدًا من البشر لم يتساءل يومًا، ويقول: عندما نكتب بقلم حبر على ورقة، لماذا تظهر الكتابة مُسطَّحة ودائمًا، ولا تظهر مُجسَّمة أبدًا؟ لكن الكثيرين تساءلوا: ما الذي يجعل القمر ثابتًا في مداره حول الأرض، بينما كل ما نقذفه يعود ليقع على الأرض! في الواقع أن الجواب هو قوانين الطبيعة في الحالتين، لكن سهولة التصور المنطقي في العلاقة الأولى (الكتابة والتسطح)، وقدرة الجميع على فهم السبب، حال دون طرحها كتساؤل، مما حال دون ربطها بقوانين الطبيعة، وأظهرها كأنها بديهية لا تحتاج إلى شرح..، بينما صعوبة التصور المنطقي للعلاقة الثانية (ثبات القمر وسقوط الأشياء)، أظهرها بصورة المفارقة، فأوجب التساؤل حولها! ولما كانت قوانين الطبيعة هي الجواب في الحالة الثانية، فقد أصبح مفهوم قوانين الطبيعة بمثابة مفهوم القوة التي تحكم المادة والطاقة من خارجها! بينما في الحقيقة، مفهوم قوانين الطبيعة لا يعدو أن يكون وصفًا للسلوك الطبيعي الحتمي للأشياء، وللعلاقات المنطقية بينها – المترتبة على اختلاف خصائص مكوناتها، وظروف تواجدها! وبذلك يمكننا اختصار تعريف قوانين الطبيعة، بأنها تلك الذاتية التي تُحدد سلوك المادة والطاقة، وتستوجب حدوث التفاعل والتغيّر والتطوّر – بما في ذلك الحياة والموت..، وذلك ترجمةً لخصائص المادة والطاقة! ولعل الأهم هنا، هو التذكير بأن طرح هذا التساؤل (هل سبقت المادة القوانين، أم إن القوانين سابقة على المادة؟)، يعني أو يَفترض أننا قد تجاوزنا مرحلة السؤال عن كيفية نشوء أو وجود المادة والطاقة والقوانين..، ولم تعد أمامنا معضلة سوى تحديد زمن النشوء أو مراحل الوجود وأيها السّابق؟ فإذا كان الأمر كذلك، إذن لا معنى لطرح التساؤل! لأن الجواب سيكون تحصيل حاصل، فكما نشأت وتكونت المادة والطاقة، بشكلهما الظاهر المحسوس، كذلك نشأت معها خصائصها، والتي أصبحت بمجموعها واختلافها، تُسمَّى قوانين المادة أو قوانين الطبيعة! لكن، ما يمكن استنباطه من هذا التساؤل، هو أنه يبدو كمحاولة للفصل بين مكوّنات الطبيعة وبين القوانين التي تحكمها، لإيجاد مكان ودور لعنصر ثالث بينهما، بُغيّة الوصول إلى القول بضرورة وجود قوّة خارجية هي التي أوجدت هذه القوانين التي تحكم الكون..، وصولاً إلى القول بأن فلان هو رسول تلك القوة إلى البشر! فإذا كان الأمر كذلك، فهي محاولة غير موفّقة، فالذي لم يُسعفه وجود المادة والقوانين ذاتها، لن يسعفه زمن وجودها، للبرهنة على وجود قوة خارجيّة قد أوجدتها! إن الفهم الذي يُنتِج أو يطرح مثل هذا التّساؤل، لا يستند إلى شواهد واقعية أو عِلميّة، إنما ينطلق من خلفيات عقائديّة وتفسيرات بدائيّة للوجود والكون! فقوانين الطبيعة – هي النتائج الحتميّة التي تترتب على الخصائص المختلفة للمادة والطاقة، عند التفاعل والحركة والسكون..، وهذا يعني أن قوانين الطبيعة محسوبة – لأنها تنجم عن السلوك الذّاتي للمادة والطاقة، ذلك السلوك الثابت للمادة الواحدة عند ثبات الظروف..، وكذلك هو الحال مع المستويات والأنواع المختلفة للطاقة! وهنا نقول أو نُذكَّر بما هو معروف: حيث إنه ليس ثمّة ما يمنع من أن تكون الطاقة والمادة أزليتي الوجود! بهذا المعنى يكون من الطبيعي والبديهي، أن تكون خصائص المادة أزلية، أي أن قوانين الطبيعة أزلية! وبذلك تنتفي الحاجة – منطقيًا وعمليًا- لأي دور أو مكان لقوة خارجيّة – بين الطبيعة وقوانينها! والذين يُصرُّون على الاعتقاد بوجود قوة خارجيّة تحكم الطبيعة والوجود، هم ليسوا بالضرورة في حالة عداء ومواجهة أو تناقض مع المنطق أو العِلم الذي يُثبت عدم الحاجة لوجود تلك القوة – بشرط ألا يحاول المعتقدون تجاوز سقف الاعتقاد! فالاعتقاد هو عبارة عن مستوى من الظّن والأمل، فهو مبني على تصديق بشر لبشر، وليس مبنيًا على إثبات علمي أو تحليل منطقي! والعِلم لا يُمانع من افتراض أي شيء، لكن الشيء المفترض يُعتبر غير موجود إلى أن يتم إثبات وجوده – عمليًّا حِسيَّا! وعلى هذا الأساس، يظل الاعتقاد اعتقادًا – لا يُلزم غير المعتقدين به؛ بينما، من الطبيعي أن يكون كل ما يُثبته العِلم، وكل ما يقره المنطق، مُلزمًا – إراديًا – لكل من أدركه أو تصوره.

 
مقارنة: قُلنا إن قوانين الطبيعة، هي سلوك المادة! وعلى هذا الأساس، تكون محاولة فصل المادة عن سلوكها، هي كمحاولة الفصل بين الإنسان وسلوكه – بقصد تبرير معاقبة الإنسان على سلوكه! فالإنسان لا يُحاسَب على طوله ولونه – مثلاً- وفق القوانين والأعراف البشرية..، لأن البشر يُدركون أن اللون والطول جزءٌ من الذات – لا كيان للإنسان بدونها- وهو ليس مسئولاً عن وجودها ومواصفاتها! بينما يُحاسَب الإنسان على سلوكه، لأن معظم البشر لا يُدركون علاقة السلوك بالذات، فيفصلون بينهما، ويعتبرون الجسد هو أساس الذات، وينظرون إلى السلوك على أنه شيء طارئ على الذات من خارجها- تمامًا كما يُحاول واضع التساؤل المذكور، الفصل بين المادة وقوانينها! ويتجاهل البشر هنا، أنهم كأنما يعتبرون الإنسان قد وُجِد كذات، وبلغ سُن الرُشد ونضج وعيه واكتمل عقله..، كل ذلك حصل والإنسان بدون سلوك! ثم إنه قرر واختار بوعيه وإدراكه وبمحض إرادته، هذا السلوك وهذه الرؤية وتلك القناعات – دون غيرها- فقط ليزعج الآخرين ويعبث بالقوانين والأعراف! لا شك أن هذه سطحية وتبسيط مُخل بالحقيقة والواقع! فسلوك الإنسان وقناعاته، قد نشأت بالتزامن مع نشوء ذاته (جسده الحي)، وليست الذات سابقة للسلوك ولا هي مهيمنة عليه بالمطلق! فليس السلوك والذات سوى انعكاس طبيعي وحتمي، للجينات الوراثية، ولثقافة المجتمع وظروف الحياة منذ الطفولة..، فهي التي كونت بمجموعها واتحادها شخصية الإنسان – سلوكًا وجسدًا-، فلا وجود ولا كيان للإنسان بمعزل عن ذاته وسلوكه، ليكون له الخيار فيها وليكون بالتالي مسئولاً عنها! وفي هذا الصدد أقول، إن محاسبة الإنسان على سلوكه لا تختلف كثيرًا عن محاسبته على وجوده! وإذا كان الإنسان لا يوصف بحُسن أو سوء السلوك، إلا عند اتصاله بغيره..، حيث لا وجود ولا معنى للصِدق والكذب والسرقة والجريمة.. وغيرها، في حياة الإنسان الفرد المنعزل! كذلك هو سلوك المادة أو قوانين الطبيعة..، حيث لا وجود ولا معنى لقوانين الطبيعة إلا في وجود وتفاعل مواد مختلفة..، فقولنا بخضوع المادة لقوانين الطبيعة، لا يعدو أن يكون وصفًا لسلوك المواد المختلفة عن اتصالها ببعضها!

  يُحسبُ للفلسفة، قولها إن المفردات اللغوية المتوفرة لا تكفي دائمًا للتعبير عن كل الأفكار وإيصالها بأمانة! ويُعتبر ذلك احترامًا من الفلسفة لوعي الإنسان وحفاظًا على كيانه، الذي هو ميدان التنافس وغايته، وهو مجال البحث ومادته على الدوام – في ساحة الفلسفة والعِلم والدين! أما الأديان والمعتقدات، وبغض النظر عن القدسيّة التي تُصبغ عليها، وما يُقال عن نُبل أهدافها وحُسن نوايا القائمين عليها ومِصداقية مصادرها، إلا أنها في الواقع لا تُقيم وزنًا لعقل الإنسان، وتتجاهل انهيار كيانه أمام صرامة وتناقض تعاليمها، فهي – ومع هشاشة حُجَّتها – تُلزم الضُعفاء بتجاهل الواقع لصالح الاعتقاد، مما أوجد أجيالاً من البشر – هم في أحسن الأحوال أشباه عُقلاء! إن ذلك واقعٌ لا يغفله عاقل، ولا يُجادل فيه صادقٌ يُعبِّر عن ذاته، ولا يخشى قوله إلا واهمٌ أو ضعيف، ولا يتجاهله إلا طامعٌ يُتاجر بالمبادئ! إن المعتقدات تعبث بقيم الإنسان ومُثله حين تقتحم عليه أستار حُرمته، متسللة من نوافذ ضعفه، لتُجبره – طمعًا أو فزعًا – فتنتزع منه اعتقادًا بصحة ما لا يفقهه، وتصديقًا بواقعية ما لا يُدركه، وإقرارًا بوجود ما لا يعلمه، وشهادةً بحصول ما لم يشهده، واعترافًا بذنبٍ لم يقترفه، وخوفًا من تضييع أمانةً لم يتعهد بحملها، وافتراضًا لصوابِ ما يَرى على الأرض خطأه! إن العاقل الذي يمتنع عن وصف الواقع الذي يراه كما يراه، بدعوى الحذر من غضب الإله! أولى به أن يَحذر من غضبه في النقيض..، فيتوقف عن العبث بالأمانة والعقل والضمير، وذلك بأن يمتنع عن إهداء صفة الواقعية والحقيقة لما لا يراه ولا يعلمه! إن تجاوز الإنسان لمحدودية قدراته – كما يفعل فقهاء الأديان -، والإفتاء بمقاييس غيبية، لهو أدعى للغضب الإلهي – من الوقوف عند حدود الإمكانات المعلومة والواقع المُعاش! إن التقليل من شأن الحواس والإمكانات العقلية للإنسان، لصالح التكهن والاعتقاد، لهو طعن في مشيئة الإله الذي يؤمنون به، ورفض للمستوى الذي هيأهم له! إن الإنسان ليس في منافسة مع إله لكشف أسراره..، إننا بحاجة إلى أعلى درجة ممكنة من الحُمق والغباء، لكي نُصدِّق بأن رسالة المخلوق هي فك رموز الخالق، وأن فشله في ذلك يعني معصيته للخالق! فإذا كان فشل المخلوق في فك رموز الخالق مُبرِّرًا لغضب الخالق، فماذا يعني نجاحه.. ألا يعني نجاح المخلوق فشل الخالق! إن نشر ثقافة الاعتقاد بوجود إله، هو الذي خلق البشر، وأنه سيُحاسبهم ويُعاقبهم بسبب واقعيتهم، هي مؤامرة تطعن في عدل ذلك الإله من جهة، وتستغفل البشر وتستغل ضعفهم من جهة أُخرى..، بقصد إبقائهم قُطعانًا تحت وصاية ورهن إشارة علماء الغيب المزعومين، الذين يزعمون بأن الإله قد أوكل لهم مهمة رعاية البشر – كما يرعى العُقلاء الأطفال والمجانين! والأدهى من كل ما سبق، هو الاعتقاد بـ: - أن الإله بجلال قدره، سيُحاسب ويُعاقب هؤلاء السُذَّج الجهلاء الضعفاء العاجزين بالضرورة عن فهم رسالتهم وعن أدائها! - وأن الإيمان والتصديق تحت عصا الخوف وأمام جزرة الطمع، هو كل ما استطاع ذلك الإله فعله لكي يؤمن به البشر..، وهو الذي من المفترض أنه مطلق القدرة والعلم، مما يعني أنه أكبر من هذه المعايير البدائية التي تجاوزتها حتى الحضارة البشرية على الأرض! وأما العِلم، فقد كان وعلى الدوام، مثلاً للحَكم العادل، والحُجَّة الفاصلة التي لا اختلاف على صحتها، ولا صعوبة في استيعابها ورؤية نتائجها!

نظرية كل شيء :1- النظريّة الشّاملة أو نظريّة كل شيء، هي النظريّة التي تُفسَّر الوجود وكل ما به من أشياء وجزئيات وعلاقات وسلوكيات وأحداث ومَشَاهد، وكل شيء! هذه النظرية المفترضة، التي يُقال أن "آينشتاين" قد أنفق السنوات الأخيرة من عمره في محاولات فاشلة لإنجازها، حتى يُقال بأنه كان يُفكِّر بها وهو على فراش الموت! لم يتوصل العلماء إلى هذه النظرية حتى اليوم، ولم يدَّعوا بأنهم توصلوا لها! ولو كان هدف العلماء هو إقناع غيرهم من البُسطاء، لتآمروا عليهم، وزعموا أنهم توصَّلوا إلى نظرية كل شيء..، حيث إن أعقد التجارب تُجرى في مختبرات وبأجهزة لا يعلم عنها جُل البشر شيئًا! لكن شعار العلماء هو الأمانة وصرامة التحقق من النتائج، وهدفهم هو إدراك حقيقة تُقنعهم قبل غيرهم..، ولذلك لم يجدوا غضاضة في الإقرار بفشل جهودهم حتى الساعة!
 2- لكن ما يدعو للأسف ويبعث على الألم والأسى واليأس، هو ادعاء غير العُلماء، بأنهم يمتلكون العديد من النظريات الشاملة أو نظريات كل الأشياء..، وليس فقط نظرية واحدة – كالتي عجز العلماء عن إيجادها! نظريات كل شيء "الثّانية" لم تكتسب اسمها من قدرتها على تفسير كل شيء، بل أخذت اسمها من استعدادها لاستعمال كل شيء، من أجل إجبار وإرغام كل البشر على تصديقها والإيمان بها والإقرار بصحة كل ما تقوله..، بما في ذلك استعمال الضرب والسجن والتهديد والقتل والإغراء! نظريّة أو نظريات كل شيء الثانية، لا تصمد أمام اختبار العقل، ولا تُجيب عن سؤال العاقل! ولكي لا يتم اعتبار هذه النظريات مجرد محاولات بريئة جريئة فاشلة، فقد تبنى مبدعوها مبدأ التزوير المتعمد المفضوح، حيث لم يتردد أتباعها في إطلاق صفة "عُلماء" على رجال نظريات الخوف والطمع، والتهديد والوعيد والإغراء تلك! ما أكبر الفارق وما أجلاه، بين العُلماء الحقيقيين، والعلماء المزيفين!
 

الأربعاء، 7 مارس 2018

ما لا يمكن تخيله لا يمكن تصديقه!

0 تعليق


من الثّوابت الكونيّة الضّابطة للمنطق والفطرة البشرية: أن كل ما لا يمكن تخيله لا يمكن حصول التصديق به، وكل ما لا يحصل تصديقه لا يحصل الالتزام بمقتضياته!.
 لماذا توجد مراقبة ومحاسبة وعقوبات للمؤمنين، في الحياة الدنيا؟ لأن المؤمنين عادةً لا يلتزمون بمقتضيات ما آمنوا به، فيصبح إيمانهم مجرد ستار يُخفي حقيقتهم! ولماذا لا يلتزم المؤمنون بمقتضيات الإيمان؟ لأن الإيمان بأي أمر لا يعني التصديق به، وكل علاقة دون التصديق، فهي لا تُحقق التزامًا ذاتيًا لدى الإنسان! بينما كل ما يُصدِّق به الإنسان، يلتزم بمقتضياته فطريًا دون الحاجة لرقيب أو حسيب .. لماذا لا يجرؤ البشر على تجرع السم عمدًا؟ لأنهم لا يؤمنون بأنه قاتل، بل يُصدِّقون بأنه قاتل! وإذا قرر الإنسان تجرع السم، فلا تردعه مراقبة ولا تهديدات ولا عقوبات، لأنه يكون مُدرِكًا لما يفعل! كل ما يعتنقه الإنسان من وراء المنطق والفطرة، يظل افتراضيًا في ذاكرته، فلا يجد صعوبة في تجاهله وتجاوزه لأتفه الدوافع والأسباب! المعتقدات الدينية تستعمل مفهوم الإيمان بالله لا مفهوم التصديق بالله، لأن الإله لا يمكن تخيله ..، ولذا عادة ما يكون التركيز على ذكر وتعظيم وتقديس الرُسُل أكثر من التركيز على الإله ذاته، باعتبار أن الرُسُل يمكن تخيلهم، وبالتالي يمكن التصديق بوجودهم، ومن خلال التصديق بالرسل يأمل رجال الأديان في حصول عملية التصديق بالله لدى البشر – وليس فقط الإيمان به ..، لكن التصديق بالرُسُل لا يسد حاجة البشر الفطرية لتخيل الإله ذاته، لكي يحصل التصديق بوجوده! فالتصديق بأي أمر مرتبط شرطيًا بالقدرة على تخيله هو مباشرة لا من خلال غيره ..، وهذا الشرط غير قابل للتحقق في حال الإله العقائدي، ولذلك يتم الاكتفاء بالإيمان، فلا يحصل الالتزام، وتلك نتيجة حتمية لعدم التصديق!.
المؤمنون بالأديان وغير المؤمنين بها، الكل يُسلِّم بوجود سر خفي خلف هذا الوجود الظاهر .. والجميع متفقون تلقائيًا على وجوب أزلية هذا السر .. لكن السؤال والاختلاف يدوران حول ماهية ذلك السر، ومكان تواجده، وهل له غاية محددة، أم هو مجرد قوة ذكية عمياء؟ المعتقدات الدينية المتعددة المتجددة، جميعها عبارة عن نُسخ مختلفة لنظرية فلسفية واحدة، وُضِعت أساسًا لتفسير ظاهرة الوجود والحياة، لكنها أخفقت في ذلك، كما أخفقت كل النظريات العلمية حتى الآن .. المعتقدات الدينية عجزت عن إجابة سؤال الإنسان حول سر الوجود، فتركت الوجود والتفتت إلى الإنسان، وتركت السؤال وتوجهت إلى السائل ..، فحمَّلت الإنسان المسئولية عن ضعفه الطبيعي وجهله اللا إرادي بأسرار الوجود، ووجدت أن أسهل جواب للسؤال هو قمع السائل ومنعه من طرح السؤال .. تحولت المعتقدات بذلك من نظريات فلسفية قابلة للنقاش حولها، إلى ضوابط أخلاقية تفرض نفسها على البشر بحجة القداسة، وتعدهم بحياة أفضل قبل الموت وبعده .. واعتنقها جُل البشر طمعًا في وعودها، ورهبةً من غموضها ..، لكنها أخفقت هنا أيضًا، فلم تحقق ما قبل الموت ولم تبرهن على ما بعده ..، بل وأصبحت سببًا للعداوات والمآسي، وأكثر من ذلك أصبحت وسيلة بيد الحذاق للسيطرة على البُسطاء وتجنيدهم لمواجهة خصوم الفكر والسياسة والاقتصاد والعِرق! القواسم المشتركة بين المعتقدات كثيرة، منها أن كل قوم يسخرون من معتقدات غيرهم ويرونها ساذجة! المعتقدات تقوم على وضع قراءات ضبابية مراوغة لكل شيء، لتستوعب بذلك كل جديد تكتشفه المعرفة البشرية عبر تطورها الطبيعي، وتنسبه لها! المعتقدات تقوم على تقديس أشخاص، والتعصب لهم في كل ما يقولونه دون إعمال للفكر .. ولهذا انحرفت كل المعتقدات دون استثناء، وتشرذم وتصادم أتباعها بمجرد موت شخص الرسول! ولا زال القائمون على كل المعتقدات يحرصون كل الحرص على منع أتباعهم من إعمال الفكر .. هل الخلل في البشر أم في المعتقدات؟ معلوم أنه لو لم يكن هناك خلل طبيعي في حياة البشر ووجودهم، لما كانت هناك حاجة للمعتقدات .. ولو لم يكن هناك خلل طبيعي في حياة الشعوب، لما كانت هناك حاجة لوجود سلطة تشريعية وتنفيذية لمعالجته، فإذا كان 80% من الشعب ملتزمين بالقانون، و20% مجرمين مخربين خارجين عن القانون .. فمن الذي من وظيفته وواجبه وبمقدوره حماية البلاد من هؤلاء الـ 20% ؟ وما حاجة كل الدول بالشرطة والأجهزة الأمنية، لو كان بإمكان الشعوب تأمين نفسها من الخارجين عن القانون- من الداخل والخارج؟ فرجال الأديان يُحمِّلون البشر المسئولية عن عدم نجاح الأديان، وفي ذات الوقت يُحرِّمون عليهم تفسير الكتب الدينية بأنفسهم !.
 كيف أخفقت المعتقدات في تفسير ظاهرة الوجود؟ أخفقت من حيث أنها لم تستطع برهنة وإثبات الفكرة التي تقوم عليها ..، فلم تُقنع بحُجتها المفكرين، ولم تحل بها مشاكل الآخرين الذين اعتنقوها دون تفكير! النظريات العقائدية، لكي يكون تفسيرها لظاهرة الوجود تفسيرًا منطقيًا مقنعًا، ربما كان يتوجب عليها أن تفترض أحد أمرين، وهو ما لم تفعله .. كان عليها أن تفترض:
 - أن الإله غير كلي القدرة، فهذه فرضية يمكن أن تفسر الوجود عقائديًا إلى حد كبير، لكنها تنزع عن الإله صفة الإلوهية المطلقة .. - أو أن تفترض أن الإله قد أوجد الوجود، وضَمَّنه قوانين منطقية صارمة، ثم انفصل عنه بالكامل، بحيث أن الإله لا يعلم الآن ما الذي يجري في هذا الوجود ..، أو أن الإله لم يخلق هذا الوجود بنفسه، إنما كان قد كلَّف غيره بخلق هذا الوجود، وأن الإله لا يريد أن يعلم شيئًا عما يجري الآن، وسيرى النتائج لاحقًا .. هذه الفرضية تسد الكثير من الفراغات المنطقية في النظريات العقائدية .. فبذلك يكون هناك معنى للحياة وغاية من الوجود ..، لكن لا معنى للقول بأن الإله ينتظر اكتمال أحداث الوجود، بينما كل الأحداث والنتائج معروفة لديه مسبقًا! كما تجيب هذه الفرضية منطقيًا عن سؤال المظالم والمآسي والآلام والأخطاء التي تحدث في الوجود! كذلك تُفسِّر هذه الفرضية عدم استجابة الدعاء! أيضًا هذه الفرضية ستفرض على البشر الالتزام بما يؤمنون به، حيث لن يكون هناك من يدَّعي القدرة على التكهن بالنتيجة – طالما أن الإله ذاته لا يعلمها الآن .. وبذلك يوضع الناس أمام مسئولياتهم وضمائرهم، لا خلف فتاوى وتفاسير فقهائهم - كما هو حاصل الآن .. وتتوقف بذلك ممارسة الوصاية على البشر باسم الله والدين، حيث لا أحد يمكنه ادعاء قبول إيمانه هو، ليكون قدوة أو مرجعية لغيره

الأربعاء، 3 يناير 2018

اللّف و الدّوران في تخريج مؤّلف القرآن !

1 تعليق


إنّ كل مسلمٍ مسكين صادق الايمان يشكّ في نفسهِ و لا يشكّ في القرآن , و كيف لا و هو مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ , ولذلك اخترع المفسّرون ( المرّقعون ) فلسفة اسلاميّة , و علوم شرعيّة , و علم البلاغة و البيان و علم حديث يُسمى " اللّف و الدّوران " , و السفسطة و السخافة و الهذيان و غيرها بل اخترعوا اشياء لا تنطبق إلا على القرآن , ولسان حال مؤّلف القرآن :: عليّ أن أقول و عليكم التّخريج . 

إن لعبة التخريج و التّفسير و التّّرقيع يُمكن تطبيقها على أي كتاب ليًصبح من لدن حكيم عليم , فالقرآن مليء بالأخطاء العلميّة و اللغويّة و التّاريخيّة و التناقض و الخرافة و الأساطير بل و الغموض و الهراء ! لنأخذ مثالاً على ذلك "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " النحل/106 
إن هذا المقطع القرآني لا معنى له , غامض , لا يوجد بهِ بلاغة و لا بيان و لا هم يحزنون ! إنّه لشيء واضح وبسيط و غير عسير و يتضّح لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد , ولكن ؛ أين مفتاح اللعبة وحلّ اللغز ؟ الأمر يكمن في الإيمان و اضفاء هالة مقدّسة حول القرآن فينشأ المسلم على ذلك و من شَبَّ على شيءٍ شابَ عليه , فالقرآن معجز ! و لا شيء آخر , حتّى لو جئت له بمقاطع قرآنيّة سخيفة و محض هراء وكأنّهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون ! لنأخذ مثالاً يُثبت مما لا يدع مجالاً للشّك أنّ التّفسير ما هو إلا تهريج و البحث عن محرج لكلّ ما يقع فيه مؤلّف القرآن , و هذا الأمر يستخدمه المسلم في تعاملهِ و نقاشهِ فهو لا يُفكّر في الأمر بل يطلق عليها " شبهة " و يذهب مباشرةً ليبحث عن تأويل و تخريج و تفسير و لفّ ودوران ثمّ ينسخه و يلصقه كما هو ! ولنأخذ مثالاً على تناقض القرآن الواضح وضوح الشّمس متبوعاً بتخريج و تأويل و تفسير حتّى نريحهم من مشقّة النّسخ و اللّصق المصدر هنــــا :: 

السؤال

ورد عن سيدنا يونس عليه السلام في سورة القلم الآية (49) قوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ}
وفي سورة الصافات (143-145): {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ}.
والسؤال: يرجى حل التناقض بنفي نبذه عليه السلام بالعراء بالآية الأولى وإثباته بكلمة (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) بالآية الثانية.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فليس بين الآيتين الكريمتين تناقض، ففي تفسير القرطبي: (قال في هذه السورة: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وقال في نون والقلم: لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ { القلم : 49 } والجواب: أن الله عز وجل أخبر هاهنا أنه نبذه بالعراء وهو غير مذموم، ولولا رحمة الله عز وجل لنبذ بالعراء وهو مذموم، قاله النحاس). ومثل هذا الكلام عند البغوي وغيره.
والخلاصة أن النفي في سورة القلم ينصب على الحالة التي لم تذكر في سورة الصافات، وهي كونه مذموما مبعدا من كل خير. فظهر منها أن النبذ بالعراء واقع، وأن الذم لم يقع بفضل الله تعالى ومنته.
وأخيرا ننبه السائل أن القرآن الكريم ليس فيه تعارض ولا تناقض، فهو كلام حكيم عليم، وإنما قد نتوهم نحن لضيق صدورنا وعجزنا عن ذلك.
والله أعلم.

كما يتّضح أن هذا الأمر لا يعدو كونهِ مجرّد تهريج و تخريج ليس إلا , وما يفعله هؤلاء هو مجرد لعبة سخفية يُمكن تطبيقها على كلام أي شخص ليُصبح صديقنا حكيم عليم خبير ولكن ؛ من أحسن من الله قيلا ؟ , إن التّناقض في هذه الآيات أمر لا مفرّ منه , فالإشكاليّة هي : هل نبذ يونس في العراء أم لا ! لكن كما نلاحظ مقطع قرآني يًثبت و آخر ينفي ولا تأويل هنا , لكن من قال أنّه لا يُمكن إيجاد مخرج لها ؟! كيف وهو من لدن حكيم عليم خبير ، فيلجأ المرقّعون إلى نقل الإشكاليّة من النّبذ إلى حالة يونس وكونهِ مذموماً أم لا ! ها هم قد أخترعوا فناًّ جديداً وهو فن التبجّح ! الذي لا يقبله أي عاقل مهما كانت قدرتهِ العقلية , إنّ السّجع هو ما دفع مؤلّف القرآن لتغيير اللّفظ من بين " سقيم " و " مزموم " وليس شيء آخر ، فكما نلاحظ قافية مقطع الإثبات :: 
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ

امّا المقطع الذي ينفي لك هو : 

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ

لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ 

إنّه السجع لا شيء آخر فاعتبروا يا أولي الألباب !! . فنٌ آخر و هو لعبة التّحدي و نظريّة استخراج كلّ ماهو جديد ومثير وإن تطلّب الأمر التّدليس فهو في سبيل الله و حور الجنّة العين ! , ولنأخذ مثالاً على ذلك :: يقول مؤلّف القرآن مهاتراً أبا لهب " تبت يدا أبي لهب و تب ...... سيصلى نارا ذات لهب " المسد , فالتحدي واضح و المقطع القرآنيّ صريح في تحديد مصير أبي لهب، ويقولون أنّ جبريل نزل بها في بدايات الدّعوة، وأنّ أبو لهب كان بإمكانهِ الإيمان بمحمّد ويخرج للنّاس ليقول " إني آمنتُ بالله " حتّى ولو كذباً ! 
ولكنه لم يحدث، لماذا؟ لإنه علمُ الغيب فلا يظهر على غيبه احدا !! لكن مهلاً !! هل حقاً لو آمن أبو لهب لكان ذلك دليلاً على كذب و ادعاء مؤلّف القرآن ؟ الجواب هو : كلا ! الأمر بسيط يمكن أن تنضم إلى مقاطع تمّ نسخها أو أكلها الدّاجن أو حرقها عثمان أو أنساها الشيطان حفظة القرآن ! فهذا اللغو و اللغط لا لشيء إلا لكونها لعبة سخيفة مطاطيّة لا سقف لها , لا قانون ولا عقل و لا مكان ولا زمان يحدّها ! وهذا بالضبط ما يحدث فخذ مثلاً هذا المقطع القرآنيّ المشابهِ :: " إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم " النحل 104 , إنّ هذا المقطع القرآنيّ أو التحدّي أو الاعجاز في علم الغيب سمّ ما شئت ، ما هو إلا تعميم سخيف و باطل و عجز ليس إعجاز لانّ هناك من تاب و آمن و سيدخل الجنّة و ليس له عذاب أليم بل حور مقصوراتِ في الخيام ! والسؤال الآن :: من الذي هداهم إن كان الله نفسه تبرأ منهم و أقسم بالنّمل على نفسه بعدم هدايتهم ؟ مؤلف القرآن و مرقّعوه لا يعرفون لأنّ هذا الهُراء ليس من عند الله و أطفال الإعجاز و نظريّاتهم العاجزة الباطلة و تحدياتهم لا تعدو كونها مجرّد هُراء ! هذا التحد مثله مثل " نظريّة الصَّرْفة" وتحدي القرآن في الأتيان بمثلهِ , فإن قلنا أنّه يُمكن الإتيان بمثل هذا القرآن و أفضل منه يذهبون بالأمر إلى بعد آخر و سخف لا يضاهيهِ شيء , ويقولون : أنّ الله ذو البلاغة و البيان و الفصاحة صَرْف دواعي وهمم سادة قريش و من بعدهم عن القيام بذلك ! إنّ من يصدق و يؤمن بهذا الدين وتلك اللعبة الهزليّة المضحكة لا يحترم عقلهِ وادعوه لقراءة القرآن قراءة نقدية محايدة وسيجد العجب العجاب .