face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الثلاثاء، 24 ديسمبر 2019

التوأم والسفر بسرعة الضوء.. خِدعة عِلمية!

0 تعليق


- هل صحيح أن كل إنسان له زمن خاص به؛ وأن السفر بسرعة تقارب 
سرعة الضوء يؤدي إلى تباطؤ ذلك الزمن؟ - هل تعمل ساعة اليد العادية، في الفضاء وعلى القمر والمريخ وغيره، كما تعمل على الأرض؟

 فرضية التوأم والسفر بسرعة الضوء! فرضية التوأم والمنبثقة عن نظرية النسبية، تقول ما معناه: إنه لو سافر أحد أخوين توأم، إلى مجرة أو إلى كوكب يبعد عن الأرض مسافة سنوات ضوئية، بسرعة تقارب سرعة الضوء، وبقي الأخ الآخر على الأرض، فإنه إذا عاد الأخ المسافر إلى الأرض بعد خمس سنوات من سفره – مثلاً- بحسب ساعته، فسيجد أنه قد مضى على وفاة أخيه التوأم على الأرض 500 سنة – مثلاً-، بينما سيكون الأخ المسافر قد تقدم في العمر خمس سنوات فقط..، وذلك بافتراض أن الزمن قد تباطأ عند الأخ المسافر بسبب السرعة التي كان يسير بها، بينما مضى عمر أخيه بحسب تسارع الزمن على الأرض، ولذلك حصل هذا الفارق الكبير (المفترض) بينهما، ويستنتجون من ذلك أن السير أو السفر بسرعة تقارب سرعة الضوء يؤدي إلى تباطؤ الزمن! ما مدى صحة أو منطقية هذه الفرضية؟ وهل يحصل التباطؤ في الزمن أم في العمليات الحيوية؟ هذه محاولة لمحاكاة الفرضية واستجلاء الحقيقة: ما يُفترض أن يحصل مع الأخوين التوأم، في حال سافر أحدهما بسرعة الضوء، وبقي الآخر على الأرض، يمكن محاكاته أو تشبيهه بما يحصل في الواقع مع قطعتين من اللحم، يتم وضع إحداهما في ثلاجة – مُجمِّد، وتوضع الأخرى في الهواء الطلق..، حيث لا شك أن القطعة الموضوعة في الهواء ستتحلل بعد فترة وجيزة بحسب الظروف المحيطة، بينما تظل القطعة الأخرى سليمة – نسبيًا – إلى فترة طويلة بفضل المجمد..، في هذه الحال هل من المنطق أو من العِلم في شيء، أن نقول بأنه يوجد زمن مستقل لكل قطعة من قطع اللحم، وأن زمن قطعة اللحم الموجودة بالمجمد قد توقف أو تباطأ بسبب المجمد؟ وأن زمن القطعة الأخرى قد مر بسرعة طبيعية؟ ليس الأمر كذلك بكل تأكيد! فكل الذي حصل هو أن مادة اللحم لها قدرة على البقاء على قائمة الموجودات، بصورتين مختلفتين، وهما: - صورة طبيعية، وهذه مدتها أقصر، بحكم قوانين الطبيعة! - صورة غير طبيعية، وهذه مدتها أطول، بحكم قوانين الطبيعة كذلك! في الصورة الثانية، تتواجد قطعة اللحم على هيئة كتلة من الثلج، وليس على هيئة قطعة لحم، وفي هذه الحال ستبقى مدة أطول لأنها لم تعد طبيعية، ولا يصح تجاهل التغير الذي حصل عليها، والتركيز فقط على المدة التي تمكثها على قائمة الوجود، حتى يُقال بأن زمنها قد تباطأ، وكأنها كانت طبيعية أثناء وجودها الاستثنائي، وأن عنصر الزمن فقط قد تم التحكم فيه أو التأثير عليه بداخلها! إنها ببساطة لم تعد قطعة لحم، بل تم تحويلها إلى قطعة ثلج، فأخذت خصائص الماء ولم تعد تحمل خصائص اللحم خلال تلك المرحلة! بهذه المحاكاة البسيطة، يتبين لنا أن ما يُفترض أن يحصل مع المسافر بسرعة تقارب سرعة الضوء – فيما لو حصل – فهو تباطؤ عملياتي مادي طبيعي يحدث داخل الخلايا، ولا علاقة لمفهوم الزمن الافتراضي بالأمر..، فالإنسان في تلك المرحلة أو خلال تلك المدة الزمنية يكون غائبًا عن الوعي والإدراك، ولا يُمارس الحياة! قلب الإنسان – مثلاً، يعمل بمعدل ما بين 60 إلى 150 نبضة في الدقيقة، بحسب عمر الإنسان (عند كبار السن 60 ، وعند الأجنة 150 نبضة في الدقيقة- تقريبًا – تبعًا لمتطلبات النمو)، وبحسب الحالة الصحية والنفسية والإثارة والإجهاد، وغيرها من العوامل المؤثرة، والتي تستوجب تسارعًا أو تباطؤًا في عمل الخلايا استجابةً للظروف. والتسارع في عمل الخلايا يتطلب مزيدًا من الدم المؤكسد، وهذا ما يجعل القلب يعمل بسرعة أكبر أو أقل – حسب المطلوب، وفي حال أجبرت الظروف القلب والخلايا على العمل بسرعة أو طاقة أكبر، فإن ذلك سيؤدي إلى إجهادها، واستنفاد طاقتها ومخزونها الحيوي، وبالتالي تقصير مدة بقائها أو وجودها في حالة حية! وبهذا المعنى فإن السير أو السفر بسرعة تقارب سرعة الضوء، لا يجعل الثانية الزمنية أثناء السفر تعادل ساعة زمنية على الأرض – مثلاً، بل إن القلب هو الذي ربما سينبض نبضة واحدة كل ساعة – بحسب حاجة أو طلب الخلايا للدم، والتي من الطبيعي أن تتباطأ عملياتها الحيوية بسبب عدم ممارسة الجسم لأي نشاط وعدم حاجته للنمو – تحت تلك الظروف! فلكي يكون التباطؤ مرتبطًا بالزمن، أو أن العنصر الذي تأثر بالسرعة هو عنصر الزمن، فإنه ينبغي تثبيت قيم بقية عناصر المعادلة، وإثبات أن العنصر الذي تأثر بالسرعة وتغيرت قيمته هو عنصر الزمن – لا سواه..، فمثلاً لو تم إثبات أن معدل نبضات قلب المسافر لا يتغير عند السير بسرعة تقارب سرعة الضوء، ومع ذلك يحدث اختلاف في العمر بين المسافر وغير المسافر، حينها يصح القول بأن التباطؤ يحدث في الزمن، وأن السرعة تؤثر على الزمن، وأن الثانية في السفر تُعادل ساعة على الأرض – مثلاً! أما أن يكون التباطؤ أو التسارع يحدث في عمليات وأشياء مادية، فيُقاس ذلك بالزمن، ثم يُفترض أو يُتصور بأن التباطؤ قد حدث للزمن، فهذا لا يكمن وصفه إلا بأنه خِدعة عِلمية! إن الأمر كان سيبدو منطقيًا وواقعيًا، لو أن النظرية قالت: إن سفر الكائن الحي بسرعة تقارب سرعة الضوء، يُعادل وضع مادة غذائية في مجمد..، وهذا يعني – بالنسبة للمسافر- إيقاف العلمليات الحيوية أو تجميد الحياة لفترة من الزمن، ثم إطلاقها من جديد، وليس التحكم في عنصر الزمن الخاص به! ومن هنا يمكننا الخروج بنتيجة، وهي أن التباطؤ والتسارع فيما يتعلق بالحياة، هي عمليات حيوية طبيعية، تعكس استجابة الخلايا الحية للظروف المادية والنفسية المحيطة والمسيطرة على الكائن الحي..، وأن ذلك يمكن تجربته على الأرض بأكثر من طريقة، دون الحاجة لتلك الفرضية المستحيلة المتمثلة في السفر بسرعة الضوء..، وبالنتيجة فإنه لا علاقة لمفهوم الزمن بموضوع التباطؤ والتسارع في الحياة!

 تساؤل قديم حول واقعية مفهوم الزمن: هل تعمل ساعة اليد العادية، في الفضاء وعلى القمر والمريخ وغيره، كما تعمل على الأرض؟ فإذا كانت الإجابة " نعم" ، فما معنى أن يُقال بأن الزمن يختلف من كوكب إلى آخر أو من مكان إلى آخر في الكون؟ وإذا كانت الإجابة " لا "، فما هو السبب؟ الجواب ( وجهة نظر ): على افتراض أن الساعة التي نستعملها على الأرض، تعمل في الفضاء وتعمل على أي كوكب في الكون، تمامًا كما تعمل على الأرض؛ وعلى افتراض أنها لا تعمل في الفضاء وعلى الكواكب الأخرى كما تعمل على الأرض! النتيجة واحدة، وهي أن الساعة في الواقع لا تحسب زمنًا خارجها– لا على الأرض ولا في أي مكان آخر؛ الساعة في أي مكان هي عبارة عن آلة مادية، صُمِّمت لتَفتعل أحداثًا متتالية مخططة محسوبة مُسبقًا، تحت ظروف معينة؛ وعن طريق المقارنة تُقاس بها أحداث أخرى غير مخططة وغير محسوبة! فإذا تغيَّرت أو انعدمت الظروف المطلوبة كي تعمل الساعة كما صُمِّمت، فمن المنطقي والطبيعي أن تستجيب الساعة للظروف الجديدة وتتغير بحسبها، كما تستجيب أي مادة في الطبيعة لتغير الظروف– حرارة عالية، برودة عالية، ضغط عال، اهتزاز عال، جاذبية كبيرة أو انعدام جاذبية، …الخ! وفي هذه الحال، لا فرق بين القول إن الساعة قد تباطأت أو تسارعت، وبين القول بأن زمن قدرة الساعة على البقاء قد تغير، وذلك بفعل طبيعة مكوناتها وظروف تواجدها، وهو ما يحسبه عداد زمن الوجود الخاص داخل الساعة كمادة لها عمر افتراضي، وليس كساعة تحسب زمنًا خارجها! بصورة أخرى يمكننا القول: إنه لا فرق من حيث الفكرة، بين ما تحسبه لك الساعة في أي مكان، وبين ما تحسبه بنفسك، بواسطة الطَّرق المتتالي والمتواصل على منضدة بطرف مسطرة- مثلاً؛ أو ما تحسبه بواسطة العد الشفهي من 1 إلى 3600 ، وتعتبرها ساعة من الزمن..، وكما أنك لا تستطيع عمل ذلك بنفس الكيفية تحت ظروف مختلفة، كذلك الساعة، لا يمكنها العمل بنفس النسق تحت ظروف مختلفة! بالمحصلة، سواء استعمل الإنسان ساعة، أو عدَّ بنفسه، أو تجاهل الأمر..، فهل يعني ذلك أن شيئًا حقيقيًا اسمه الزمن، يكون قد مر في الأثناء من حوله؟ الجواب المنطقي والواقعي، كلا، لا يوجد شيء يمر من حوله اسمه زمن! كل الذي يحدث هي تغيرات مادية تطرأ على أشياء مادية، بحسب ظروف وجودها وبحسب طبيعة مكوناتها! إن كل شيء متشكل، لا بد له من حد أقصى وحد أدنى لمدة بقائه متشكلاً متماسكًا؛ هذه المدة تُحددها طبيعة مكوناته وظروف تواجده، وهذا ما تطرقنا له في موضوع (حقيقة التباطؤ والتسارع في الزمن)، والذي أشرت له باسم: زمن البقاء أو زمن الوجود الذاتي أو الخاص

الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

الكون الازلي والوجود و حقيقة فرضيّة واجب الوجود !

0 تعليق



هل الصياغة الصحيحة للسؤال حول مفهوم الكون والوجود، هي: 1- كيف ظهر الكون إلى الوجود؟ أم 2- كيف ظهر الوجود في الكون؟
 مقدمة.. معلوم أن وجود مكونات الشيء، لا يعني وجود الشيء ذاته! وأن غياب الشيء ذاته، لا يعني عدم وجود مكوناته! حيث يختفي الشيء من الوجود، لكن مكوناته لا تفنى! لعل هذه الحقيقة البديهية، تختصر العلاقة بين مفهوم الوجود ومفهوم الكون – كما أتصورهما! والمعنى، أن هنالك مكونات وجود، وهنالك عوامل وجود، لا يُغني أحدها عن الآخر، ولا بد من التقائها ليَحدث الوجود! نقول: ظهرت أمريكا إلى الوجود كأمة وكقوة عظمى – على الرغم من أن كل مكوناتها كانت موجودة أصلاً قبل ظهورها، لكنها لم تكن كافية لوجود أميركا كحدث-؛ وهنا: الحدث= الوجود = التقاء عوامل بمكونات! فالوجود لا يعني نشوء المكونات ولا يسبقها، إنما يأتي في مرحلة تالية لها، ليعكس كيفية وطبيعة وصورة اتحادها وتشكلها! نقول: اختفى الاتحاد السوفيتي من الوجود – على الرغم من أن كل مكوناته ما تزال موجودة! ونقول: لا يوجد سلام في العالم، على الرُغم من أن كل مكوناته ودوافعه موجودة!

 السؤال حول مفهوم الكون والوجود بالصيغة الأولى: كيف ظهر الكون إلى الوجود؟ يقوم هذا السؤال على إحدى فرضيتين بالضرورة: وفي الحالتين يكون مفهوم الوجود بمعنى نقيض الغياب وليس نقيض العدم! فمفهوم الوجود هنا، لا يُشير إلى شيء قائم بذاته اسمه الوجود يختلف عن الكون، إنما المقصود بالوجود هنا هو مجرد منح صفة الحضور لشيء اسمه الكون! الفرضيتان اللتان يقوم عليهما السؤال: أ- أن الكون لم يكن معدومًا، إنما كان غير موجود، أي أن مكوناته كانت موجودة لكنها لم تكن متحدة مع عوامل وجوده، ثم " اتحدت" ، فبرز وتشكل وظهر الكون إلى حيز الوجود! وفي هذه الحال، يكون القصد من السؤال، هو كيفية اتحاد عوامل ومكونات الكون! والسؤال بهذا المعنى، يُعتبر ما تطرحه نظرية الانفجار الكبير جوابًا له.
ب- أن الكون قد انبثق عن العدم، فكان بعد أن لم يكن! وبحسب هذه الفرضية، تكون الصياغة الصريحة للسؤال، هي: كيف انبثق الكون من العدم؟ والحديث هنا عن العدم المطلق، وليس عن اللاشيء! ومعلوم أن المقصود بالشيء، هو كل ما يمكن رصده أو قياسه أو إدراكه بالحواس- مباشرة أو غير مباشر! وبذلك يكون الشيء الذي نعجز عن رصده يعادل اللاشيء ويساوي انعدام الوجود الحِسِّي، لكنه لا يعادل ولا يساوي الانعدام المطلق! فالانعدام المطلق، هو الانعدام التام للكينونة والوجودية! ولكي يتم البناء على فرضية العدم هذه، ينبغي أولاً القبول باحتمال الانبثاق عن العدم المطلق، والحال أن هذا الاحتمال غير وارد وغير مقبول منطقيًا ولا واقعيًا، ولا يمكن تصوره، والأهم أنه لا معنى لافتراضه بعد أن ظهر الكون إلى الوجود! فالقول بأن ما قبل ظهور الكون كان عَدَمًا، يعني بالضرورة استحالة نشوء الكون؛ وظهور وتواجد الكون يعني بُطلان فرضية العدمية المسبقة! والقول بوجود قوة أو إرادة، هي التي أوجدت الكون من العدم، هو بحد ذاته إلغاء لفرضية العدم! فمجرد وجود شيء غير العدم، سابق للكون، وله علاقة بظهور الكون، يجعل فرضية العدم غير قائمة! لأن ذلك يعني ببساطة أن الكون قد انبثق عن شيء وليس عن عدم، بغض النظر عن الكيفية والآلية والمادة المستعملة! إن الإقرار بأنه لا مناص من افتراض وجود شيء أزلي، ينبثق عنه الكون، هو إقرار بأزلية الكون – بصورة أو أخرى! والكون ليس مخلوقًا من عدم حتى بالمفهوم الديني للخلق! فالقول بأن الله قد خلق الكون من عدم، هو قول غير صحيح منطقيًا وواقعيًا، وأظنه غير جائز عقائديًا! فإذا كان الكون قد ظهر إلى الوجود بأمر إلهي – صوت وكلام بصيغة (كُنْ)، إذن لا يصح ولا يجوز القول بأنه خُلِق من عدم، لأنه هنا يكون قد خُلِق من كلام وصوت إلهي، ولا يصح اعتبار الكلام والصوت الإلهي عدمًا! وحتى لو قال أحدهم لعل الإله قد خلق الكون بأمر باطني (نِيَّة أو إرادة) بدون كلام ولا صوت مسموع، فالأمر سيان، إذ لا يصح اعتبار نِيَّة أو أمر أو إرادة الإله عدمًا! والمؤمنون بالإله لا يعرفون مواصفاته، لذلك هم يقولون بأن الإله ليس كمثله شيء، وهذا يعني أنه لا يحق لهم منطقيًا أن يعتبروا كلامه أو صوته أو أمره أو نيته أو إرادته، كمثيلاتها عند البشر، ليقولوا بأنه خلق الكون من عدم! فلا أحد من البشر يعرف ماهية وطبيعة ومادة الكلام أو الصوت أو الأمر أو النية أو الإرادة لدى الإله، والتي خُلِق منها أو بواسطتها الكون! وبالتالي لا يحق لأحد القول بأن الكون قد خُلِق من عدم- استنادًا إلى معتقد ديني! مفهوم الوجود - بحسب الفرضيتين "أ ، ب" – يُشير إلى صفة التمظهر التي صار عليها الكون كله..، وهذا الفهم لمعنى الوجود (أن الوجود = الكون كله) يتطلب الإلمام بشكل وحدود الكون- لكي يكون السؤال واقعيًا-، وهذا الإلمام غير متحقق لنا، مما يعني وجود خلل في بُنية السؤال من الأساس! فلا معنى لسؤالنا عن كيفية تشكل شيء نحن لا نرى شكله ولا نحيط بحدوده! وبهذا المعنى أعتقد أنه يتوجب الفصل بين دلالتي مفهوم الكون ومفهوم الوجود، وأن يتم الفصل بين السؤال عن الوجود المرصود، وبين السؤال عن الكون الكلي اللا متخيل والواجب الوجود! وفي هذه الحال يكون تعريفنا للوجود، بأنه إفراز كوني! الوجود هو فقط هذا الجزء المضطرب المتحول من الكون، والذي يمكننا رصده، وإدراك حدوده وماهية وكمية محتوياته! ويكون تعريفنا للكون بأنه هو هذا الوجود المرصود لدينا، مضافًا إليه كل ما يمكن أن يكون موجودًا وغير مرصود لدينا! ونفترض أن الكون الطبيعي، هو الكون الخالي من الوجود، وهو عبارة عن محيط لا نهائي من الوحدات البنائية للمادة، محصورة في حيز هو أكبر من أن تحده حدود مادية من تلك التي نعرفها أو التي يمكننا تخيلها! وعلى هذا الأساس، تكون الصياغة الصحيحة للسؤال حول علاقة الكون بالوجود، هي الصياغة الثانية: 2- كيف ظهر الوجود في الكون؟ وهنا نقول إن الفلسفة التي تعتبر مفهوم الكون مرادفًا لمفهوم الوجود، أو التي تعتبر الوجود صِفة للكون، قد اضطرت إلى استحداث مفهوم الفضاء الكوني، للتعبير عن حيِّز يحتوي الكون! والمنطق يقول، إنه لا حاجة لاختلاق مفهوم الفضاء الكوني المفصول عن مفهوم الكون، فالكون هو كل شيء وكل لاشيء وحسب! إنه لا يستقيم أن نقول: نحن موجودون في الوجود..، ذلك لأننا جزء من الوجود! لكن يستقيم أن نقول: نحن موجودون في الكون، فالوجود هو كل ما هو موجود ومرصود في الكون! وباعتبار أزلية الكون ولا نهائيته، يكون المقصود بالوجود ليس الكون كله، إنما فقط هو هذا التشوه الطارئ الظاهر الطافي من الكون الكلي! بهذا المعنى يكون كل ما هو موجود اليوم بالنسبة لنا، هو ربما عبارة عن وجود واحد من أكثر من وجود، قد تكون انبثقت عن الكون، ونحن جزء من الوجود الآني – المعلوم نسبيًا لنا، وقد نكون جزءًا من وجود قادم، وقد لا نكون..، لكننا دائمًا جزء من الكون! وفق هذه الفلسفة يمكن وصف الكون بأنه مزرعة أزلية أبدية لإنتاج احتمالات متعددة من أنواع الوجود المؤقت – مثل وجودنا! فالوجود لا يكون إلا إفرازًا ناتجًا عن شيء سابق له!

لعله يمكننا الآن، أو يتوجب علينا، إعادة صياغة سؤال الكون والوجود، كالتالي: ما المقصود بالوجود؟ وما هو الكون؟ وما العلاقة بينهما؟ وحينها تكون الإجابة – من وجهة نظري: أن الكون هو ما يتراءى للوعي، بعين المنطق، فيما بعد أُفق الخيال! وأن الوجود هو مجموع ما يتبدى للوعي والإحساس، فيما دون أُفق الخيال! وبالمقارنة يمكننا القول: إن الوجود بالنسبة للكون، هو كالواقع بالنسبة للوجود! وإن الكون بالنسبة للوجود، هو كالمكان بالنسبة للواقع! ما هو الواقع؟ كل نظرية أو رؤية أو تصور أو فرضية، هي مجرد خيال، إلى أن تتحقق عمليًا، ويتم إثباتها في المكان الذي يوجد فيه الإنسان (الأرض مثلاً)، وحينها تُصبح واقعًا! وحيث إن الواقع لا يتحقق إلا في مكان (في الأرض مثلاً)، وحيث إن الوجود واقع متحقق في الكون، لذلك قلنا إن الكون بالنسبة للوجود، هو كالمكان (كالأرض) بالنسبة للواقع! الوجود هو بعضٌ من الكون، والفرضية تُصبح بعضًا من الوجود عندما تُصبح واقعًا! كل موجود هو حدث بالنسبة للوجود، والوجود بجملته حدث بالنسبة للكون! عندما نقول الكون فنحن نتحدث عن المطلق واقعيًا، المحدود منطقيًا! وعندما نقول الوجود فنحن نتحدث عن النسبي منطقيًا، اللا محدود واقعيًا! الوجود هو شيء قابل للرصد، لكنه مرصود جزئيًا، بسبب محدودية قدرة الإنسان على الرصد! رصد الوجود، يعني الإدراك والإلمام الواعي بكل ما هو موجود! الكون المحصور حجمًا والمحدود كَمّاً، هو شيء غير ممكن الوجود – عِلميًا، لكنه واجب الوجود- نظريًا وفلسفيًا – ولو على أطراف الخيال، وذلك إثباتًا وتثبيتًا للوعي، الذي لا يمكنه التسليم بوجود شيء (هو الكون) إلى جانب الإقرار ببقائه خارج نطاق الفهم والتصور، لذلك ظل وسيظل مفهوم الكون مادة خصبة ومفضلة للخيال – تعويضًا عن عجز الوعي وقصور الإدراك! لا يمكننا تصور الكون إلا بأنه الحاضن للوجود – ليس الحاضن المكاني فقط بل الحاضن الحامل والمُنتج للوجود! إن الذات لذاتها كون، ولغيرها وجود! لا تُدرِك الذات وجودها إلا بوجود غيرها – ماديًا وقيميًا! عندما تتصور الذات الواعية، وجودها بمعزل عما حولها، فهي إنما تتصور ذاتها كجزء من الكون لا من الوجود، وهذا أمر ممكن نظريًا وفلسفيًا، لكنه غير واقعي بالنسبة لمفهوم الوجود! تحتاج الذات إلى وجود غيرها، لتنتزع منه الإقرار بوجودها، فتقييم الوجود والإقرار بوجود الموجود، يكون من خارجه لا من داخله، إذ لا يكون وجود الشيء قائمًا إلا وهو منسوب لوجود شيء آخر مُدرِك له، ولا شيء موجود لذاته إلا الكون – كوحدة واحدة أزلية أبدية لا محدودة! الموجودات هي مكونات الوجود، والوجود هو ذلك البعض الظاهر المتغير المتحول من الكون! في حدود ساحة الوجود تعتبر الأشياء والذوات الواعية، مستقلة عن بعضها البعض، لكنها ليست كذلك في ساحة الكون! بمفهوم الكون، كل شيء هو جزء من كل شيء! مفهوم الوجود بشكل عام، يُشير إلى الأشياء الموجودة خارج الذوات، والممكن إدراكها ماديًا أو إدراك تأثيرها! ليس فقط الكائنات الحية، بل كل الموجودات، لا بد لها من امتلاك هوية تُمكِّنها من التعبير عن وجودها، وتُثبت إدراكها لوجود غيرها– لكي تكون موجودة! الشكل الظاهر والأثر المحسوس للمادة والطاقة، هي عناصر الهوية العامة للموجودات! ردة الفعل الطبيعية المختلفة من معدن لآخر ومن مادة لأخرى، تجاه الحرارة والكهرباء والتصادم، هي بعض وسائل التعبير عن الهوية وإثبات الوجود لدى تلك الموجودات! الوجود بالنسبة للإنسان، ليس هو ذات الوجود بالنسبة لغيره من الكائنات الحية والأشياء! سمك القرش والنحل ورحيق الأزهار البرية، كلها أشياء موجودة على قائمة الوجود بالنسبة للإنسان! والرحيق شيء موجود على قائمة الوجود بالنسبة للنحل! لكن النحل والرحيق، أشياء غير موجودة على قائمة الوجود بالنسبة لسمك القرش! بافتراض أن سمك القرش والنحل لا يعلمان بوجود بعضهما، ولن يُدركا بعضهما حتى ينعدم وجودهما من الوجود القائم الآن، في هذه الحال يكون كل منهما جزء من الكون بالنسبة للآخر، ومعنى ذلك أنهما جزآن من ذات واحدة! تحت سقف الكون كل شيء محتمل، وتحت سقف الوجود لا شيء إلا المُدرَك المرصود! الوجود بالنسبة للإنسان، هو الجزء المعلوم له من الكون! والكون بالنسبة للإنسان ولغير الإنسان، هو الوجود مضافًا إليه المجهول! كل شيء باقٍ على حاله الآن، لا يتغير، فهو جزء من الكون وليس جزءًا من هذا الوجود الآني المرحلي! فالتغيُّر والتحول والحضور والغياب، صفات أساسية في الوجود! كل شيء حادث، وخاضع لقوانين الطبيعة، هو جزء من الوجود! والتفاعل مع المحيط، تأثيرًا أو تأثرًا، هي من أهم معالم الوجود وصفات الموجود! ولذلك يمكن نزع صفة الوجود عن الموجود- نظريًا، لكن لا يمكن نزع صفة الكينونة عن أي شيء – موجود أو غير موجود! نقول: كأنه غير موجود، أو وجوده كعدمه! ما نقوله هنا، هو تعبير عن معنى نجده متحققًا في كل ما ومَنْ لا يتأثر ولا يتفاعل مع أحداث تجري من حوله! الكون سابق للوجود بالضرورة، فالكون هو أرضية الوجود! يمكن تشبيه الكون بالمكان بالنسبة للوجود، لكن طبيعة الكون ووظيفته وعلاقته بالوجود، تجعله أكبر من أن يكون مجرد مكان! أعشاب طبيعية، تنمو على أرض مزرعة، هي جزء من الوجود طيلة بقائها قائمة، وهنا يمكن اعتبار أرض المزرعة بمثابة الكون والمكان بالنسبة للأعشاب! لكن أرض المزرعة ليست كون، بل هي مجرد مكان بالنسبة لمبنى يقام عليها! يمكن للكون أن يقوم دون وجود، لكن لا يمكن للوجود أن يقوم إلا على الكون! الكون هو نقيض العدم المطلق؛ والوجود هو نقيض العدم الزمني! الكون الخالي من الوجود، هو وجود خالي من الفناء! الكون هو مجموع الأشياء في صورها الأولية – وحداتها البنائية! الكون يتألف من دقائق مختلفة مستقلة منفصلة؛ فإذا اتحدت أو تفاعلت دقائق معينة، تحت ظروف معينة، فإنها تُنتج وجودًا أو ينتج عنها وجود حتمًا! لكن الطبيعة الأزلية للدقائق البنائية – أي طبيعة البقاء والديمومة لدى الوحدات البنائية للتكوين، تستوجب بقاءها حُرة، واتحادها الذي به تبلور الوجود يُفقدها تلك الحرية، أي أنه يُفقدها القدرة على الكينونة الدائمة..، ولذلك هي تعمل باستمرار وبشكل تلقائي على استعادة تحررها، أي أنها تعمل باستمرار على العودة إلى حالتها الأولية، أي إلى صيغتها الكونية؛ ويتحقق ذلك بانفصالها عن بعضها، وذلك يعني بالضرورة الغياب الظاهري للشيء الذي وُجِد باتحادها! وهذا يجعل من معنى الموت والفناء مرادفًا لمعنى الديمومة والبقاء..، بمعنى أن الموت والفناء ينحصر في الوجود الظاهري لا في البقاء الكوني! أي أن موت الإنسان لا يعني موت مكوناته، إنما يعني تحولها من صورة إلى أخرى، أو من حالة إلى أخرى! فغياب الإنسان عن الحياة، يعني عودته من الوجود إلى الكون..، وبهذا المعنى يكون موت الإنسان هو غياب نظري لكيان افتراضي! إن غياب كيان الإنسان عن الوجود، هو أشبه بغياب كيان سياسي فيدرالي، بعد أن تنفصل أقاليمه عن بعضها..، حيث إن الكيان التاريخي المرحلي المألوف لتلك الدولة يختفي من الوجود، لكن مكونات الدولة تظل قائمة! وهذا الانفصال أو التفكك الظاهري لكيان الدولة، يكون سببه شعور الأقاليم بعدم القدرة على الاستمرار الاتحادي..، فيأتي حِرص المكونات على البقاء الذاتي – على حساب بقاء الكيان الاتحادي! وفي هذه الحال، نقول إن الوجود التقليدي المعروف لدينا لتلك الدولة لم يعد قائمًا، لكننا لا نقول ولا نستطيع أن نقول بأن شيئًا من تلك الدولة قد اندثر! إن كل موجود، لا بد له من أن يحتوي على قارئ طبيعي (حاسب آلي)، يحسب له الحد الأقصى الممكن لوجوده.. أي الحد الأقصى لقدرة مكوناته على البقاء متحدة- أي البقاء على غير صيغتها الكونية! الحد الأقصى لوجود الأشياء نسبي، يعتمد على العلاقة بين مكوناتها، والعلاقة تعتمد على طبيعة المكونات وظروف الوجود، ومدى قدرتها على البقاء في حالة استثنائية، وهي حالة الوجود! يمكننا تعريف الوجود، بأنه بروز أو تبلور الأشياء في الكون، بأحجام وصور محددة، وبقاءها إلى أن تفقد قدرتها على الوجود الاستثنائي، فتعود إلى حالتها الكونية – البنائية! ويمكن تعريف الكون بأنه ذلك النسيج الكلي، الذي يتألف من مجموع مكونات الأشياء في صورها الأولية! الكون باختصار هو الوجود المطلق لمكونات الوجود المرحلي

حقيقة التباطؤ والتسارع في الزمن!

0 تعليق


حقيقة التباطؤ والتسارع، وعلاقتهما بمفهوم الزمن: إذا قلنا إن عُمْر الإنسان يُقاس بوحدة اسمها الزمن، أو أن عمر الإنسان الفرد، هو نصيبه أو حصته الخاصة، من شيء عام اسمه الزمن، إذن تكون عملية تباطؤ وتسارع الزمن ظاهرة معروفة قبل ظهور نظرية النسبية، لكنها كانت تُفهم أو تفسَّر أو تُحلَّل بصور ومفاهيم مادية! فاليوم نحن نعرف مثلاً، أن متوسط عُمر الإنسان في بعض المجتمعات الأفريقية، هو 50 سنة، بينما سن التقاعد في مجتمعات أخرى هو أكثر من 60 سنة! وهنا نتحدث عن ذات المادة (إنسان) وذات المقاييس الزمنية وذات المكان (الأرض) وذات السرعة، ومع ذلك اختلفت قيمة عنصر الزمن بين مادة وأخرى – منعكسة في الوجود.. أي مدة البقاء على قيد الحياة! ولو نقلنا طفلًا أفريقيًا إلى أوروبا، وطفلًا أوروبيًا إلى أفريقيا، فسيتغير مُعامل الوجود لديهما تبعًا لظروف الحياة الجديدة! وهنا يمكننا الملاحظة وبوضوح كبير بأنه إذا اتفقنا على وجود شيء اسمه الزمن، فنحن الذين نصنع هذا الشيء، وذلك بأن نطيل عمر إنسان ونُقصِّر عمر آخر، أو نُطيل زمن سيارة بالمحافظة عليها، ونقصِّر زمن سيارة أخرى بإهمالها..، لكن لا يوجد خزان ولا يوجد حساب للزمن ننهل أو نسحب منه يمكن أن ينضب، أو يمكن أن نُعيد ملئه! إن مفهوم الزمن المرتبط بالمادة (إنسان أو سيارة) هو زمن خيالي وعنصر حسابي نحن الذين نصنعه ونتلاعب به، تمامًا كما تتلاعب به الظروف والمعطيات المادية! ولذلك ينبغي أن نلاحظ بأن العناصر التي تعمل وتتغير قيمتها في معادلة التباطؤ والتسارع، هي عناصر مادية خالصة (مادة وظروف)، وأن خصائص هذه العناصر المادية، هي التي تُحدِّد قوة التماسك بين مكونات المادة، ولا يوجد عنصر اسمه الزمن يمكننا تغيير قيمته والتأثير به على النتيجة، بل إن عنصر الزمن كان عبارة عن وصف نظري مجازي نُشير به إلى تأثير الظروف واختلاف الأحداث! وهذا يعني أنه ربما توجد ظروف على الأرض، تُمكِّننا من جعل سن التقاعد 1000 سنة، فيما لو توفرت تلك الظروف أو اكتشف البشر مسبباتها- دون الحاجة إلى السفر بسرعة الضوء! وهنا نحن نتحدث عن معامل تماسك مكونات الإنسان، وهو معامل مادي بحت، يتمثل في توفير بيئة صحية مناسبة لعمل خلايا وأجهزة الجسم المادية! جاءت نظرية النسبية لتُبلور وتُبرز حقيقة التباطؤ والتسارع في العمليات التي تؤثر على المادة، وتصوغها بلغة علمية ومعادلات رياضية، لكنها افترضت أن التباطؤ والتسارع كعمليات وكنتائج، إنما تحدث في شيء اسمه الزمن، واعتبرت الزمن عنصرًا ومكونًا أساسيًا من مكونات الإنسان! أعتقد أن وصف مفهوم الزمن – حسب نظرية النسبية، كعنصر أساسي يدخل في تركيبة الإنسان، وفي تركيبة المكان (زمكان)، هو وصف يمكن تصوره وفهمه في سياق التشويق وتنشيط الوعي، لكن لا يمكن أخذه على محمل الجِد والواقعية! التسارع والتباطؤ في الواقع، هي نتائج مادية عملية، تعكس عمليات حقيقية في صورة تفاعلات وتغيرات تحدث واقعيًا في المادة والطاقة داخل الخلايا والذرات، وتتأثر بظروف التواجد، وبذلك تتحول المادة – عاجلاً أو آجلاً – من حالة التشكل والاتحاد الظاهر المحسوس (حالة الوجود)، إلى حالة التفكك إلى وحداتها البنائية (حالة الكون – حسب تصوري لمفهوم الكون)! واختلاف المواد من حيث استجابتها وممانعتها أو صمودها وسرعة انهيارها تحت تأثير العوامل الخارجية المتصلة بها، هو ما نُعبِّر عنه اصطلاحًا بمفهوم المدة الزمنية! والقول بأن السير بسرعة تقارب سرعة الضوء (على افتراض أنها السرعة القياسية العُظمى) يؤدي إلى تباطؤ الزمن لدى الإنسان، هو قول لا يُخالف المنطق- إذا تحققت نتائجه المفترضة-، شرط أن يكون المقصود هو تباطؤ نمو الإنسان، بمعنى تباطؤ العمليات الحيوية الخلوية داخله، وليس تباطؤ عداد خيالي يَحسب الزمن خارجه! فلو أرسلنا بدل الإنسان قطعة من عنصر مشع (يورانيوم مثلاً)، بسرعة الضوء، فالمتوقع أن تتوقف عن الإشعاع، وبالتالي تزداد فترة نصف العمر لديها! لكنها ستظل متوقفة عن الإشعاع إلى الأبد- فيما لو استمر سيرها بسرعة الضوء إلى الأبد! وهنا لا يصح أن نقول بأن فترة نصف العمر لدى هذه القطعة من اليورانيوم قد أصبحت لا نهائية، إنما الصحيح أن نقول بأن زمن الوجود الذاتي لها قد أصبح صفرًا، أي أنها لم تعد جزءًا من الوجود المتغير بل أصبحت جزءًا من الكون الثابت! وهذا يعني أن السرعة الفائقة، قد وضعت العنصر المشع تحت تأثير ظروف لا يمكنه الصمود تحتها والعمل بشكل تقليدي، فانهار وخرج من الوجود بأسرع من مثيلاته تحت ظروف أخرى! وكذلك الإنسان، فإنه سيظل مستقرًا متوقفًا عن النمو إلى الأبد، إذا ما استمر مسافرًا بسرعة الضوء إلى الأبد! وهنا لا يصح أن نقول عن الإنسان إنه قد تَخلَّدَ، إنما الصحيح أن نقول إن ذلك الإنسان لم يعد جزءًا من الكون بصورته الوجودية المألوفة لدينا، بل أصبح جزءًا من الكون بصورة أخرى! هنا يمكننا أن نتصور وجود خصائص للكون، تفرض على المادة الاستقرار آجلاً أو عاجلاً، ونتصور قوانين للوجود، تفرض على المادة التغير المستمر بطيئًا أو سريعًا باتجاه الاستقرار، وهذا يعني أن قوانين الوجود تعمل بموجب خصائص الكون! كما أسلفت فقد اصطلحنا على تسمية الاختلاف بين المواد من حيث صمودها أو انهيارها أمام الظروف بـالزمن، وهو ما أدعوه هنا بـ" عداد زمن الوجود الذاتي أو زمن البقاء"، داخل كل واحد منا، وداخل كل مادة وفي كل شيء، وهو ما يمكن تسميته بعداد وجودي يحسب ما يتبقى لنا من مدة البقاء على قيد الحياة (فترة زمن الوجود الذاتي)، ويحسب للمادة مدة بقائها متماسكة متشكلة (فترة زمن الوجود الذاتي)، وهو ما يمكن تشبيهه بما يُعرف بفترة نصف العمر في العناصر المشعة..، ولا ننسى أن الذي يحدث في الواقع هي عمليات حقيقية ونتائج مادية تجري وتتحقق داخل المادة، تتسارع أو تتباطأ عمليًا في أداء وظائفها- بما يعكس ظروف تواجدها! إن النظرية العلمية لا تصطدم بالمنطق حول النتيجة المترتبة على فرضية السفر بسرعة الضوء، لكن التصادم والاختلاف يحدث حول التفسير! المنطق يقول بأن الذي يتوقف بسبب السير بسرعة الضوء، هو القدرة على الإشعاع لدى العنصر المشع، وهو القدرة على النمو لدى الإنسان، وبالتالي يكون الذي توقف هي العمليات الموجِبة للبقاء أو الممثلة للوجود الشكلي – داخل هذه الأشياء وحسب..، سواء عاد المسافر بعد السفر إلى حالته السابقة واستأنف حياته من حيث توقفت، أو لم يعد! ما أدعوه هنا بعداد زمن الوجود الذاتي، يمكن وصفه بعداد طبيعي – اصطلاحًا لا واقعًا، وهو لا يحسب ما ينقضي من زمن الوجود الذاتي، إنما يحسب فقط ما تبقى للمادة من قدرة على الصمود والبقاء في حيز الوجود- تلك القدرة التي تتغير بحسب تغير الظروف! هذا العداد الطبيعي الافتراضي الذي يحسب لنا ما تبقى ولا يعتد بما انقضى من زمن، يمكن تشبيهه بعداد الحاسوب الذي يُظهر لنا ما تبقى من زمن خلال نقل بيانات أو إجراء عمليات، حيث يحسب لنا ما تبقى من زمن بحسب ظروف كل لحظة، ولذلك فإن تقديراته تتغير من لحظة إلى أخرى- بحسب طبيعة البيانات التي ينقلها في تلك اللحظة، والتي يتخذ منها مقياسًا لحظيًا افتراضيًا لما تبقَّى من بيانات – دون اعتبار لما تم حسابه سابقًا..، ولذلك نلاحظ أن تجانس البيانات يجعل الحاسوب يعطي زمنًا ثابتًا منذ البداية للزمن الكلي اللازم للنقل..، وهذا يُعادل تغير الظروف أو ثباتها في حال الإنسان، حيث يمكن تحديد عُمْر الإنسان – ولو تقريبيًا – منذ يوم ولادته – شرط ثبات الظروف وإدراك المعطيات؛ لكن هذا العمر يمكن أن ينقص أو يزيد بحسب ظروف اللحظة وما بعدها- دون اعتبار لما قبلها! يتوقع الطبيب مثلاً، للمريض ذي الأربعين سنة، أن يعيش لمدة سنة أخرى فقط، ليس لأن ما فات من عمره هو 40 سنة، إنما لأن المعطيات في تلك اللحظة تقول هكذا، وقد تتغير المعطيات فيتجاوز المريض المدة التقديرية، وقد يسبقها بالرحيل! إن الحديث هو دائمًا عن تسارع أو تباطؤ فعلي في عمليات مادية تتم داخل الذرات والخلايا، وليس عن زمن عام يتدفق خارج أو داخل المادة!

 إن العنصر المشع، لو سار بسرعة الضوء، فإنه سيتوقف عن الإشعاع، لكنه حتى لو سار بسرعة تفوق سرعة الضوء، فإنه لن يستعيد ما قد فقده من إلكترونات، وهذا يعني أنه لا معنى ولا مجال لفرضية السفر عبر الزمن! وعلى هذا الأساس يكون تجاوز سرعة الضوء، إما أنه أمر غير ممكن، أو أنه سيُحيل المادة مباشرة إلى وحداتها البنائية التي تتألف منها..، ولا شيء غير ذلك..، هذا على افتراض أن سرعة الضوء هي أقصى سرعة يمكن بلوغها في الكون

الثلاثاء، 17 ديسمبر 2019

ماهية الزمن كعنصر في الطبيعة والوجود!

0 تعليق


هل يوجد شيء خارج مخيلة الإنسان، اسمه الزمن؟ ما طبيعة الزمن حسب نظرية النسبية؟ في  العام (2012) أنعقد أوّل مؤتمر دولي، حول دلالة مفهوم الزمن في العِلم والفلسفة والفكر الديني، وكان ذلك في دولة الإمارات العربية المتحدة. ومجرد الدعوة لعقد مؤتمر دولي في هذا العصر، حول مفهوم الزمن، يُثبت أن الذين يعتقدون أو يدَّعون معرفة وإدراك دلالة مفهوم الزمن، إنما هم في الواقع يقبعون خارج الزمن الذي يعتقدون معرفته! مفهوم الزمن يتم تداوله عادةً من خارجه، من حيث اختلاف الرؤى حول تصوره وأثره، وربما حول بدايته ونهايته! - هذه محاولة لتناول مفهوم الزمن من داخله، ومن الناحية الموضوعية والعملية، من حيث ماهيته ومدى واقعية وجوده كعنصر حقيقي في الطبيعة، وموقعه من الذات البشرية، وعلاقته بالأشياء المادية! الزمن المقصود هنا، ليس الزمن بمعنى الوقت أو التوقيت، فهذان المفهومان يمكن تصورهما بمعزل عن مفهوم الزمن، حيث إن التوقيت والوقت هما عبارة عن قياس معنوي بواسطة مقارنة أحداث مادية، بقصد ترتيب التعاملات وشئون الحياة – كقياس موعد استيقاظ الإنسان مقارنة بشروق الشمس، أو قياس موعد نومه مقارنة بغروبها، ثم تتم تسمية هذا القياس وهذه المقارنة: وقتًا أو توقيتًا..، وهي في الواقع عبارة عن أحداث مادية طبيعية يتكرر حدوثها في كون مطلق لانهائي..، وإطلاق مُسمَّى الوقت أو التوقيت على "مقارنة" بين أحداث مادية مختلفة، لا يعني وجود شيء أو عنصر اسمه الوقت أو التوقيت في الوجود أو في الطبيعة! الفروق بين مفهوم الوقت والتوقيت والزمن والزمان، تناولناها في موضع آخر بشيء من التفصيل! أما المقصود بالزمن هنا، فهو فقط ذلك السهم الخيالي المتجه من الماضي إلى المستقبل، والمشتق من مفهوم الزمان المرتبط بالمكان، والمنحوت أسطوريًا في ذاكرة الإنسان، والذي تتغير به وعبره وبسببه الأشياء – افتراضًا!
 ماهية الزمن.. يبدو التلازم واضحًا بين مفهوم الزمن، ومفهوم الوجود! فالذين يتصورون وجود شيء اسمه الزمن، هم أولئك الذين لا يُفرِّقون بين مفهوم الكون ومفهوم الوجود، إنما يرون أن لهما ذات الدلالة وذات الحقيقة! فهؤلاء لا يؤمنون بأزلية الكون واختلافه عن مفهوم الوجود، إنما يعتقدون بأنهما شيء واحد، وأن هذا الشيء له بداية ليس قبلها بداية..، ويعتبرونها البداية لكل شيء موجود الآن..، وبذلك يتصورون انطلاق ما يُشبه السهم الزمني، من تلك البداية باتجاه نهاية مفترضة. ومكمن الخلل في هذا التصور، هو أنهم يفترضون انطلاق بداية للوجود من العدم، متجاهلين استحالة نشوء وجود من عدم. والذين يُفرِّقون بين مفهوم الوجود ومفهوم الكون، ينبغي أن يكون تصورهم للأمر، كالتالي: إذا كان نشوء الوجود من العدم أمرًا ممكنًا، إذن فالوجود أزلي – باعتبار أن العدم أزلي، وفي هذه الحال يكون الزمن أزليًا! أو أنه ينبغي البحث عن شيء آخر سابق للعدم، يكون قد انبثق عنه العدم، وهكذا رجوعًا إلى ما لانهاية..، وهنا كذلك يكون الزمن قد انطلق منذ ما لانهاية! والأهم من كل ذلك، هو أنه لا معنى لمفهوم العدم الذي يمكن أن ينبثق عنه وجود! فإذا كان العدم يحتوي على إرادة تُقرِّر وتستطيع تحويله إلى وجود..، إذن هو ليس عدمًا، إنما هو وجود أزلي من نوع آخر، انبثق عنه هذا الوجود العابر..، وذاك الوجود الأزلي هو الذي ندعوه نحن بالكون ( نحن = المُفرِّقون بين مفهوم الكون ومفهوم الوجود)، والكون هنا يكون شيئًا آخرَ غير هذا الوجود المؤقت المحسوس المرصود! ولذلك نحن لسنا بحاجة لافتراض وجود شيء اسمه الزمن..، حيث إن الوجود عبارة عن جزء من الكون، والكون شيء أزلي أبدي مطلق، لا مكان لمفهوم الزمن فيه! فالوجود الحالي، يمكن تصويره وتصوره بأنه مجرد نبتة كونية، نمت وبرزت على مساحة معينة من سطح الكون، وستختفي – ليس بالفناء، إنما بعودة مكوناتها من حيث أتت، واندماجها مجددًا مع أديم الكون الأزلي الأبدي – دون أي أثر أو اعتبار لوجودها الاستثنائي الذي ظهر واختفى! وهنا نقول، إنه حتى لو افترضنا زمنًا محدودًا مستقطعًا من زمن أزلي أبدي مطلق-، فسيكون زمنًا افتراضيًا لا قيمة ولا اتجاه له..، لا شك أنه لو كان عُمر كل إنسان يساوي وقت شروق واحد فقط، لأصبحنا نقول توقيت الإنسان وليس عُمر الإنسان، وحينها لا معنى لمفهوم الزمن! ومصطلح عُمْر الإنسان الآن، هو عبارة عن مجموع توقيتات افتراضية مصاحبة لـ 36500 عملية شروق حقيقية! وكما أن اللحظة أقل من أن تُحتسب في عمر الإنسان، وعُمر الإنسان الفرد أقل من أن يُحتسب في عُمر الوجود..، فإنه وبذات المعنى، يكون عُمر الوجود أقل من لحظة في عُمر الكون المطلق الأزلي الأبدي، وهو بذلك أقل من أن يُحتسب في عمر الكون، إذن يكون الزمن الحقيقي والعُمْر الحقيقي هو زمن أو عُمْر الكون، وهو أزلي أبدي مطلق – لا بداية ولا نهاية له، وبذلك فإنه لا قيمة ولا معنى لمفهوم الزمن ولا وجود لسهم الزمن في حياة البشر، وغير البشر – بالمفهوم الديني والثقافي التقليدي للزمن! أما مفهوم الزمن في الساحة العِلمية، فلعل أهم تصور له، هو ما جاء في النظرية النسبية!
 نظرية النسبية تقول بأن الزمن شيء موجود، وأنه عنصر أساسي متحد مع عنصر المادة، وأن هذا الخليط هو قوام الوسط الفضائي الذي يحوينا والذي تجري به وفيه وعليه كل عملياتنا الحياتية، والذي أسمته النظرية بالزمكان! وتقول نظرية النسبية إن لكل إنسان زمنه الخاص الذي يمكن أن يتباطأ ويتسارع متفاعلاً مع المادة وخاضعًا لقوانين الطبيعة! وبحسب هذه النظرية العلمية الفيزيائية، يكون الزمن عنصرًا له وجود فعلي في الطبيعة! وبحسب هذا التصور لمفهوم الزمن: يحق لنا التفكير في الحصول على كمية من عنصر الزمن الخالص، فتحضيره أو استخلاصه من الإنسان أو من مركب الزمكان يبدو ممكنًا – بحسب هذه النظرية! وهذا يعني أن الزمن عنصر قابل للتلوث والتنظيف، كما هو الحال مع المكان والمادة! ومعنى ذلك أن الحُفر التي نقع فيها أحيانًا، بعضها حُفر زمنية وليست كلها حُفر مكانية مادية، وذلك على اعتبار أن الموجود حولنا عبارة عن زمكان، وهو مركب من عنصري الزمن والمكان، وكما أن خلو الزمكان من المادة يترك حُفرة، كذلك يكون خلوه من الزمن ينبغي أن يترك حُفرة! ومعنى ذلك أن بعضًا من زمن الإنسان يمكن أن يتبقى بعد موته، تمامًا كما يتبقى بعضًا من ممتلكاته المادية، وبالتالي يمكن توريث الزمن! ويترتب على ذلك أنه يمكن للإنسان أن يقتطع جزءًا من زمنه – كذا سنة، فيتبرع بها أو يبيعها أو يرميها إذا كانت فاسدة- خاصة إذا كان المتبرع فقيرًا أو مجندًا إلزاميًا أو سجينًا- وذلك كما يفعل بأعضائه المادية عند الضرورة! ومعنى ذلك أيضًا، أن أحدهم قد يموت بسبب نقص في الزمن.. على غرار نقص في الأوكسجين! وعلينا أن نتوقع حصول نزاعات وحروب على الزمن، كما هو حاصل على المكان ومصادر الطاقة! ولا ينبغي أن نستغرب حصول ازدحام وتدافع بين أفراد معدودين من البشر، في صحراء الربع الخالي أو في الصحراء الكبرى، وذلك بسبب نقص حاد في الزمن – رغم غزارة المكان! وينبغي أن نستعد لاحتمال حصول جفاف زمني، يؤدي إلى شح في عنصر الزمن الصالح للاستهلاك البشري على الأرض – مع التزايد السكاني، كما هو الحال مع تناقص الغذاء البشري على الأرض! وربما يتوجب على المختبرات البدء في إجراء التجارب لإنتاج زمن صناعي- تمامًا كما أنتج البشر المكان اصطناعيًا في البحر، وكما أنشأوا مكانًا في الفضاء – المحطة الفضائية الدولية! وعلى البشر أن يدرسوا مدى صلاحية الزمن الحيواني والزمن النباتي للاستهلاك الآدمي، وربما وجدنا طريقة لتخزين أزمنة النباتات والحيوانات التي نُقرر إيقاف أزمنتها، أو نتغذى على أزمنتها كما نتغذى على مادتها! وليتوقع كل منا أن يظهر عليه تورم زمني، أو أن يُصاب بجفاف أو ضمور زمني، أو أن يحصل لديه تقلص زمني! وبالمحصلة، فإنه ولكي يكون هذا التصور العِلمي للزمن صحيحًا، فإن عملية فصل عنصر الزمن عن المكان ينبغي أن تكون ممكنة، وهذا ما لا يقبله العقل والمنطق، ولم يقل به العِلم – رغم قبول بعض العلماء لفكرة وجود مُركَّب الزمكان الناتج عن اتحاد الزمن بالمكان!

السبت، 30 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(5).

0 تعليق



الحُكم على أحدهم بأنه مجنون، هو مجرد تعبير عن حدوث جنون خاص يختلف عن الجنون العام..، حيث لا وجود لمرجعية أو معيار طبيعي محدد، يُقاس به مستوى عقلانية البشر وحدود الرُشد والصواب الفطري أو الحَدِّي أو المطلق – إن وُجد! فوجود مجموعة من المجانين في مكان واحد، يجعل من جنونهم معيارًا للعقلانية، ويجعل من سلوكهم وممارساتهم معيارًا للطبيعيات! وبالتالي يُصبح كل سلوك مخالف لسلوكهم، هو سلوك شاذ ومنحرف، ويُصبح صاحبه في نظرهم مجنونًا، حتى لو كان هو الصائب!

تكملة الموضوع… يوجد من البشر مَنْ يعتقدون بإمكانية تحقيق سعادة كاملة، وهؤلاء يرفضون الانطلاق من الواقع، لأن معطيات الواقع قد تم التحقق منها، وثبت أنها لا تحمل عناصر السعادة الكاملة! لكن، الضعف البشري أو العاطفة الإنسانية، تدفع الكثيرين من البشر، إلى رفض وضع أي احتمال يجعل من الواقع هو الحقيقة، أو أن الحقيقة هي الواقع! هؤلاء يعتقدون اعتقادًا جازمًا، أساسه الافتراض والضعف والأمل، وليس العِلم والجِدّ والأمانة..، يعتقدون بوجود شيء اسمه السعادة، ويُصرُّون على أن اختلاف الواقع عن الحقيقة المفترضة، هو سبب نقص أو غياب تلك السعادة! وعلى هذا الأساس نشأت الفلسفة، كباحث عن الحِكمة – الكفيلة بإزالة الاختلاف بين الواقع المعلوم والحقيقة المفترضة! هذا يعني أن الفلسفة عبارة عن معمل لتحضير الحِكمة، وأن الحِكمة هي السبيل لبلوغ الحقيقة! لكن هل من الصواب أو من الضرورة، الربط بين الحِكمة والحقيقة والسعادة؟ البشر يعرفون الواقع ويرفضون وصفه بالحقيقة، ويعرفون الحِكمة ويختلفون حولها، بينما لم يتمكنوا من تخيل الحقيقة المطلقة – فضلاً عن إدراكها أو إثبات وجودها! فأين الصواب وأين الحِكمة من السعي لبلوغ ما عجزوا عن تخيله، أو انتظار سعادة مرتبطة به؟ الفلسفة تُعنى بالبحث عن الحِكمة أساسًا – لا عن الحقيقة المطلقة! لكن، الفلاسفة مضطرون للاستعانة برمزية الحقيقة المطلقة، من أجل تمرير القصور في نظريات الفلسفة البشرية الابتدائية؛ حيث إن البشر يُمررون العيوب إذا نُسِبت إلى الحقيقة المطلقة، لكنهم لا يُمررون ذات العيوب إذا نُسِبت إلى الفلسفة أو الحكمة البشرية؛ ليس معنى ذلك أن البشر يعرفون الحقيقة المطلقة، ويعرفون أن بها عيوب ينبغي تمريرها، إنما يُمررون العيوب المنسوبة إلى الحقيقة لأن الحقيقة هي ملاذهم الأخير في رحلة هروبهم من الواقع، ولا خيار للمستجير غير القبول بعيوب الملاذ الأخير! والذي يحدث هو أنه، إذا نُسِبت عيوب إلى الحقيقة المطلقة، فإن ما يفعله البشر، هو أنهم يُنزِّهون الحقيقة من تلك العيوب، وينسبون العيوب لأنفسهم، وذلك حفاظًا على الأمل المفترض الذي يمنح وجودهم معنى واستمرارية – والمتمثل في ضرورة وجود حقيقة خالية من العيوب، وتحمل لهم السعادة! الإنسان العادي البسيط، يختصر الجُهد والوقت، فينسب غياب السعادة إلى غياب الحقيقة، وينسب غياب الحقيقة إلى قِصر الزمن، فهو يُحب أن يعتقد ويجتهد في الحفاظ على هذا الاعتقاد، الذي مفاده أن السعادة قرينة الحقيقة، وأن ظهور الحقيقة أمرٌ حتمي، لكنه يتطلب وقتًا أكبر من المتاح للبشر، وبذلك لا يتوقف البُسطاء عند الجانب النظري من الحياة، بل يحاولون عمليًا ممارسة قدر من السعادة بما لديهم من فتات زائل! يمكننا القول، بأن دخول مفهوم الحقيقة المطلقة، على خط البحث عن السعادة، قد قوَّض مشاريع الفلسفة، وأجهز على قيمة الحِكمة؛ حيث إن الاعتقاد بوجود حقيقة مطلقة، هو اعتقاد بوجود ما لا يستوعبه الزمان والمكان ولا يُدركه الإنسان! لكن، وتحت ضغط العاطفة والضعف والخوف، اضطر البشر إلى تحجيم وتصغير الحقيقة المطلقة، بحيث يمكنهم استيعابها! والذي حدث، هو أن الاعتقاد بوجود حقيقة تحتوي كل عناصر السعادة، قد أوحى إلى المغامرين والانتهازيين، بفكرة القفز مباشرة إلى تلك الحقيقة، متجاوزين الفلسفة والحكمة، مستغلين العشق البشري للحقيقة المفترضة، فتمكن الانتهازيون باسم الحقيقة من تمرير نظريات تحولت إلى أيديولوجيات، حاربت الفلسفة وتجاهلت الحكمة ولم تُحقق السعادة، لكنها استطاعت الاستمرار، بسبب ارتباطها المزعوم بمعشوقة البُسطاء– الحقيقة المطلقة التي تكفل السعادة التامة! في بدايات الوجود البشري، كان البشر مضطرين لوضع نظريات بدائية قاصرة، لتفسير كل ما هو مجهول! وعلى العكس من الفلسفة والحكمة النخبويتين، فإن تلك النظريات البدائية أو ما يمكن وصفها بنظريات الحقيقة المعلبة (المعتقدات)، قد خاطبت الأغلبية البسيطة التي تميل إلى القوالب الجاهزة! هذه النظريات، تُقر ضمنيَّا بأن إثبات وجود الحقيقة المطلقة هو أمر مستحيل، لكنها لا تقول ذلك بشكل مباشر يفهمه البُسطاء- خوفًا من نفورهم منها؛ وبدل ذلك تتحايل على البشر، بالقول بوجود حقيقة مطلقة، لكن إدراكها يتطلب من البشر فعل المستحيل! زعمت هذه النظريات بأن عيوب البشر هي الحائل دون ظهور الحقيقة وتحقق السعادة، فانشغل البشر بإصلاح عيوبهم وكأنهم مسئولون عنها، في حين أن البشر أضعف من أن يكونوا مسئولين عن ضعفهم الذي هو مصدر كل عيوبهم! لكن البشر أضعف كذلك من أن يُقرُّوا بعيوبهم، لأن الإقرار بأن العيوب جزء أساسي منهم، سيكون على حساب الأمل المفترض؛ وعلى هذا الوتر الحساس عزفت النظريات الجاهزة ألحانها! فوجود العيوب يمنع من إدراك الحقيقة، ولذلك افترضت تلك النظريات، أن تكون عيوب البشر مؤقتة ومرحلية، ومرتبطة بهذا الواقع الذي هو ليس الحقيقة! تقول هذه النظريات – ما معناه، إنه ولكي يتمكن الطبيب من معالجته، فإنه على المريض أن يَشفى من سَقَمِه قبل أن يذهب إلى الطبيب! حيث يقولون بأن الخلل في البشر وليس في المعتقدات، فلو أن البشر صالحون، لتمكنت المعتقدات من إصلاحهم، وبالتالي رفعهم إلى مستوى الحقيقة، ومن ثم إسعادهم! الواقع أن عدم صلاح البشر هو سبب وجود هذه النظريات وسر بقائها، وهي تعمل على تكريس عدم صلاح البشر – بنشر الدروشة وتشريع الخلافات بينهم-، ولا تعمل على إصلاحهم، لأن الإصلاح يستوجب تحرير العقل وحرية الفكر، وحرية الفكر تؤدي حتمًا إلى رفض كل ما هو غير معقول! إن الذي يدعي معرفة الحقيقة المطلقة، ثم لا يُجيب عن كل الأسئلة، هو إنسان غير سوي، أو تنقصه الأمانة والصدق – كي يكتفي بشرف المحاولة، ويكف عن المراوغة! نظريات الحقائق المعلبة، أوهمت البشر بأنهم مسئولون عن غياب الحقيقة، وأنهم مسئولون عن أفعالهم، فأوهمت الضعفاء بأنهم مسئولون عن ضعفهم، والفقراء عن فقرهم! وبظهور هذه النظريات، خسر البشر الفلسفة والحِكمة والحقيقة والسعادة معًا! نحن نعرف الحكمة على أنها السبيل لتحقيق السعادة لكل البشر، وأن السعادة تتحقق بتحقق الرضا والاطمئنان! ويمكن تعريف الفلسفة بأنها محاولة الإنسان لرؤية حقيقة يحجبها واقع؛ أي أن الفلسفة هي محاولة إزاحة الواقع من أجل رؤية الحقيقة! في جميع الأحوال لا يمكن تجاهل تأثير الواقع، إذ لا يمكن الانطلاق إلا من الواقع! وربما كان اعتقاد الإنسان بوجود حقيقة مطلقة، هو إشارة إلى أن تطور الإنسان قد تجاوز الحد الأقصى الذي تسمح به الطبيعة في هذا الواقع. فذكاء الإنسان قد مكَّنه من التمرد على بعض قوانين الطبيعية الأم؛ لكن حتمًا لن يكون بإمكان الإنسان التمرد على الطبيعة ذاتها! لأن حصول ذلك يعني تبادل الأدوار بين الإنسان والطبيعة، حيث يُصبح الإنسان هو أصل الطبيعة، ويتحول مفهوم الطبيعة إلى جزء من الإنسان..، وهذا غير ممكن! هذا غير ممكن باعتبار أن الإنسان يعتمد على الذكاء، والذكاء مصدر أساسي من مصادر ضعف الإنسان؛ فحسابات الإنسان تعتمد على المكسب والخسارة، بينما الطبيعة لا تعتد بالمكسب والخسارة، ولذلك يتردد الإنسان حيث لا تتردد الطبيعة! نخلص إلى القول، بأن الحقيقة المطلقة هي مفهوم لا يتجاوز قدرة الإنسان على التصور فحسب، بل يتجاوز قدرة الواقع على استيعابه، وليس الإنسان سوى جزء من الواقع! إن من البديهي القول، إن الوجود هو مفهوم يشمل كل ما يمكن أن يكون موجودًا! والحقيقة التي تحكم الوجود، لا يمكن أن تكون جزءًا منه! وأعتقد أنه لا يمكن كسر جدار هذه المفارقة، إلا بالنظر إلى الكون كحقيقة أزلية واحدة، تتفاعل مكوناتها ذاتيًا بحسب اختلاف خصائصها الأزلية! وليس الإنسان سوى جزء من الحقيقة المطلقة، لكنه الآن في حالة وجود، ولا يمكن للجزء أن يُدرك الكل طالما بقي موجودًا! إدراك الحقيقة يكون بالاتحاد بها، والاتحاد بالحقيقة المطلقة يعني التحول من حالة الوجودية إلى حالة الكونية..، أي العودة إلى ما قبل الوجود

الجمعة، 29 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(4).

0 تعليق


كل ما يصدر عن الإنسان، هي مضاعفات ونتائج حتمية، لمعطيات هو غير مسئول عنها بالأساس! لا شك أن وصف الإنسان بأنه سجين، بأحد معسكرات الكون، وهو معسكر الأرض، هو وصف جاد ودقيق وصحيح، لواقع قائم وحقيقة ماثلة! فالاتفاق متحقق، على أن الإنسان ليس مُخيَّرًا ولا مسئولاً عن وجوده بالأساس، ووجوده الجغرافي والتاريخي بشكل خاص! لكن، إذا كان عدم المسئولية عن الوجود قاسمًا مشتركًا بين كل البشر، فهل يتحمل الإنسان المسئولية عما بعد عملية الوجود؟ في الواقع، ليس الإنسان سجينًا جغرافيًا وتاريخيًا فحسب، بل هو مجند إجباري، وخاضع إلزاميًا لتدريبات وتوجيهات معينة مستمرة، ومنذ اللحظة الأولى لالتحاقه بمعسكر الوجود أو مخيم الحياة على الأرض! وأكثر من ذلك، هو مزود بإعدادات نفسية متغيرة متجددة، وهي التي تُحدِّدُ سلوك الإنسان وردات فعله الآنية، وهو غير مسئول عنها ولا سيطرة له عليها..، على اعتبار أنها تتغير لاإراديًا (أوتوماتيكيًا)، استجابة للظروف الخارجية! وهو ليس مسئولاً عن تدريبه وظروفه الخارجية، وبالنتيجة هو ليس مسئولاً عن سلوكه! وما يعنينا هنا، هو الاتفاق على أنه لا توجد للإنسان نُسخة نهائية – قبل الموت، بحيث يمكن أن نُحيط بكل مواصفاتها، لنفهمها ونُقيِّمه ونحاسبه على أساسها! إن آخر نسخة لكل إنسان – بأحدث إعدادات وآخر تحديثات-، هي تلك التي نراها ونتعامل معها في آخر لحظة نراه أو نتعامل معه فيها! فإذا كُنا نعتقد ونتعامل على أساس أن ظاهر الإنسان وباطنه شيئًا واحدًا! حيث يُحاسب جسد الإنسان على سلوكه الناجم عن إعداداته النفسية! وإذا كُنا نجد العُذر لسلوك المُعاقين ظاهريًا- جسديًا، لأننا نرى أسباب سلوكهم! فإن عدم قدرتنا على رؤية الأسباب الداخلية لسلوك الأصحاء جسديًا، لا ينفي وجودها! إذن، قبل أن نُعطي لأنفسنا الحق بالحُكم على الإنسان من خلال سلوكه؛ ينبغي أن نعرف مواصفاته وإعداداته في تلك اللحظة، ونعرف كيف تعمل نسخته الأخيرة تلك، تحت ظروفه في تلك اللحظة! قد يتساءل بعضنا: وما علاقتنا بوجود الآخرين وإعداداتهم وظروفهم؟ هل علينا أن نقبل سلوكهم إذا أضرَّ بمصالحنا، بحُجَّة أنهم غير مسئولين عن وجودهم وظروفهم وإعداداتهم؟ بكل تأكيد ليس هذا هو القصد! إنما القصد هو كشف مدى جهلنا بحقيقة الآخر؛ وكم من الخلافات يمكننا اجتنابها، إذا أدركنا أن الكثير مما نرفضه من سلوك الآخرين، هو من وجهة نظرهم سلوكًا طبيعيًا وينبغي أن يكون مقبولًا لدينا، وربما لا يعرفون غيره؛ وقد يعتقدون أن سلوكهم في أسوأ الأحوال يستحق النقد أو الرفض، لكن لا يستدعي الغضب ولا يستوجب العقاب! وبالمحصلة، إذا فعل أحدهم ما استوجب معاقبته، فينبغي أن نتذكر، أن أساس العقاب هو وجوده وليس سلوكه! ……………………………….. انتهى الباب السابق (3) من هذا الموضوع، بالقول: إن الواقع يُخبرنا أن سلوك وممارسات البشر، تدل على أنهم يعتنقون ثقافة إحدى ثلاث نظريات افتراضية، من حيث علاقة الأنا بالآخر: - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، ومعلوم الهوية! - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، لكنه مجهول الهوية! - نظرية تعتبر الوجود المادي للآخر مجرد فرضية، وبالتالي فهو مجهول الهوية حُكمًا! ملاحظة للتذكير: غني عن القول، بأن الحديث هنا ليس عن الهوية الاسمية الخارجية الاصطناعية التوافقية الإجرائية – الاجتماعية والسياسية والدينية..، الخ! إنما هو عن الهوية الذاتية الطبيعية للإنسان الفرد، والتي لا تحمل اسم حاملها – ذلك الاسم البشري الثقافي الاجتماعي العشوائي المتغير! هي تلك الهوية التي هي ذات حاملها، والتي تُحدد سلوكه الطبيعي، وتعكسها ممارساته في الواقع! ………………………… النظرية الأولى: وهي التي يسير وفقها معظم البشر، ولذلك تحدث الخلافات والصدامات وتستمر الصراعات! فهي نظرية خاطئة، لأنها تتعامل مع الآخر على أساس أنه معلوم لدى الأنا، بينما الواقع أن الأنا ذاتها تجهل جزءًا كبيرًا من هويتها هي، وليس فقط هوية الآخر! فلا يمكن للإنسان أن يعرف غيره، إلا من خلال ما يسمح به ذاك الغير، وذلك يعتمد على مدى معرفة الغير لذاته، ومدى قدرته على التعبير عما يعرفه! إن فهم ورؤية الإنسان لهويته الذاتية، تختلف بين النظري والعملي، كما تختلف في الظروف الطبيعية الاعتيادية -عنها في الأزمات! فالإنسان ذاته، ولكي يعرف حقيقة ومواصفات هويته الذاتية، هو بحاجة للمرور بكل الظروف والأزمات عمليًا! أو هو بحاجة لمقدرة فكرية ذهنية استثنائية، تُغنيه عن خوض التجارب عمليًا، وتُمكِّنه من خوضها نظريًا، والخروج بنتائج وأحكام تتطابق مع النتائج العملية! فإذا كان فهم الإنسان لحقيقة هويته الذاتية، هو بهذه الصعوبة- شبه المستحيلة! فكيف للأنا أن تحكم على الآخر، وتفترض أنه معلومٌ لديها! فالطبيعي هو أن الأنا لا تعرف عن الآخر إلا ما يقوله هو عن ذاته! وتعريف الآخر لذاته، يخضع لمعادلة، بها العديد من المجاهيل: حقيقة فهم الآخر لذاته، وحريته، أمانته، ثقته بالأنا، مقدرته الذهنية، درجة الوعي، المزاج الآني، الظروف الخاصة، البيئة العامة..، الخ! ولهذا فإن الحُكم على الآخر وفق هذه النظرية، لا يمكن أن يكون صائبًا، إلا من قبيل الافتراض أو من قبيل الصدفة- التي لا يُعوَّل عليها! النظرية الثانية: وهي الأقرب إلى الصواب، والأولى بالاتِّباع في معظم المعاملات والاتصالات البشرية العامة! حيث لا خلاف على الوجود الظاهري المادي للآخر عند عموم البشر. وأما حقيقة الآخر ومواصفاته الذاتية، فهي مجهولة! والتعامل مع الآخر على هذا الأساس، يوفر قدرًا كافيًا من الحذر المتبادل، يكفل للآخر حقوقه لدى الأنا، ويكفي الأنا شر الآخر، فيتحقق الحد الأدنى المطلوب للحياة الإنسانية! النظرية الثالثة: وهي التي تعتبر الوجود الظاهري للآخر موضع تساؤل، وبالتالي يكون الحديث عن هويته أمر سابق لأوانه دائمًا! وهي ثقافة فلسفية، بُنيت على أفكار بعض الفلاسفة وعلى بعض (الحقائق) العلمية! مما تتصوره هذه الثقافة، أنه لا يمكننا الجزم، هل أن الذي يجري في اليقظة هو الواقع الحقيقي، أم أن الواقع الحقيقي هو الذي تجري أحداثه في الأحلام – ونحن نيام! عِلميًا – حتى الآن على الأقل – كل شيء مكون من ذرات، والذرات يمكن اعتبارها أشياء خيالية، وبالتالي يمكن اعتبار كل شيء – بما في ذلك الإنسان – أو يمكن أن يكون كل شيء خياليًا بالفعل – من الناحية المادية! كذلك يرى معتنقو هذه الثقافة، أنه طالما أن الحواس هي القاسم المشترك بين البشر للحُكم على الأشياء، وهي وسيلتهم الأساسية لإثبات وجود الأشياء من عدمه، وحيث إننا نعتمد عليها اعتمادًا كاملاً في إثبات وجود الآخر وفي تعاملنا معه، وحيث إنه قد ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أن حواسنا يمكن اعتبارها خادعة لنا، ويمكن اعتبارها مخدوعة بواسطة الأشياء (السراب، والنظر من خلال الماء أو من خلال زجاج مقوس، الحركة الظاهرية الشمس، الثبات والتسطح الظاهري للأرض، وجود الميكروبات بالأطعمة والمياه، الفرق بين الهواء والفراغ، عمى الألوان، إحساسنا الكاذب ببرودة عالية في الهواء والأشياء – عندما ترتفع درجة حرارة أجسامنا، ..الخ)! فحيث إن حواسنا يمكن أن تخدعنا، أو أن حواسنا يمكن أن تخدعها الأشياء، إذن لا يمكن الجزم بوجود الآخر بالاعتماد على الحواس! وحيث إن الإثبات التقليدي لوجود الآخر، يعتمد على الحواس، إذن وجود الآخر غير مؤكد! فإذا اتفقنا على أن الوجود المادي للآخر غير مؤكد، يُصبح جهلنا بهويته تحصيل حاصل!
مما يلفت أو يستحق الانتباه هنا، هو أنه وعلى الرغم من غرابة النظرية الثالثة – المذكورة أعلاه، ورفض جُل البشر لها نظريًا- فيما يخص وجود الآخر، إلا أن الواقع العملي في حياة ومعاملات البشر، يكاد يعكس اعتناق جُل البشر لها! فالوجود المادي الجسدي للإنسان، إنما هو شاشة تستعملها الذات للتعبير عن هويتها! فإذا رفضنا سلوك الآخر، فذلك يعني عدم إقرارنا بوجوده كذات مستقلة ومنفصلة عن تصوراتنا وتوقعاتنا! وهذا يعني أن الآخر الذي نعترف بوجوده، ليس هو هذا الموجود أمامنا، إنما هو ذاك الموجود في مخيلتنا! وهذا يعني أننا نعتبر الوجود المادي للآخر بمثابة وجود افتراضي، بينما نرى الوجود الحقيقي للآخر هو ذاك الموجود في مخيلتنا! إن إكراه الإنسان على فعل شيء أو ترك شيء، هو أوضح دليل على عدم الإقرار بوجوده ككيان مستقل عنا! إن إقرارنا بوجود الآخر واستقلال هويته، يتحقق بحصر أصناف البشر، وليس بدمج أنماطهم وتوحيد سلوكهم- كما هو حاصل! فكل فرد من البشر، هو الوحيد القادر على وصف ذاته، وذلك من خلال سلوكه وممارساته! فإذا اتفق البشر على رفض ممارسات أو سلوك بشري معين، وقرروا أن يكون الإعدام مصيرًا لفاعله، فإن الوصف الدقيق والصحيح لقرارهم هذا، هو أن صِنفًا من البشر، يرفضون وجود صنف آخر من البشر! إذ لا معنى للقول بأن صنفًا من البشر يرفضون سلوك صنف آخر من البشر، إلا باعتباره إنكارًا لوجودهم ككيانات مستقلة عنهم..، وهذا يتوافق مع تصورات هذه النظرية الفلسفية، حول معنى وحقيقة وجود الآخر لدى الأنا! إن الأنا لا تقول، لكنها تُمارس، رفض الواقع وعدم الإقرار بوجود الآخر، وذلك من خلال حُكمها على الآخر الموجود في الواقع – لا من خلال سلوكه وممارساته العملية – ولكن من خلال صورته الثقافية والتاريخية والعقائدية لديها! المسلمون يرفضون غير المسلم – لا بسبب سلوكه العملي في الواقع- إنما بسبب صورته الثقافية والتاريخية والعقائدية لديهم! إن التعصُّب العِرقي والمذهبي والطائفي، هو تجاهل أو إنكار للواقع العملي، وتعامل مع الآخر على أساس الصور الذهنية، وهو الأمر الذي يجعل الإنسان يرى صواب جماعته في ذهنه، ولا يرى أخطاءها في الواقع العملي! وفي هذا ما يدعم فرضية وطرح النظرية الثالثة – سالفة الذكر-، ويُشير إلى اعتناق الكثيرين من البشر لها! فصورة الآخر لدينا، هي التي تحكم علاقتنا به، وليس وجوده وسلوكه في الواقع!

الخميس، 28 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(3).

0 تعليق



لماذا تنتشر مظاهر الفوضى والعبث، بمجرد غياب
 السلطة السياسية في أي مجتمع بشري..، على الرُغم من وجود مفترض للوازع الديني والأخلاقي الذاتي- المستقل عن السلطة السياسية! الجواب: لأن غياب السلطة السياسية، يعني انتفاء الحاجة للتمثيل والتزييف عند البُسطاء والضعفاء- وهم الغالبية دائمًا! فسلوكهم الظاهري الموحد، الذي تفرضه عليهم القوانين والتشريعات والأعراف بواسطة السلطة..، لا يعكس طبيعتهم الحقيقية إنما يطمس اختلافاتهم الطبيعية! وأما مظاهر الالتزام الديني والأخلاقي، فهي في جُلها عبارة عن مُسكِّن وبديل احتياطي، يلجأ إليه الإنسان عادة، عند الضعف وغياب الحرية! بالطبع، ليس المقصود هنا، القول بأن الفوضى هي السلوك الطبيعي للبشر! فالإنسان مضطر للحياة الاجتماعية – ليس حُبًا فيها بالضرورة- إنما لأنه غير مُهيأ للحياة الفردية! والحياة الاجتماعية تتطلب مراعاة مصالح الآخرين، وهو ما يعني ضرورة الاتفاق على حد أدنى من الانضباط العام! لماذا إذن، ممارسة الفوضى بمجرد انهيار السلطة؟ إن الانفجار الفوضوي البشري الشرس، الذي يعقب انهيار كل سلطة عادة، هو ردة فعل عنيفة لكنها طبيعية وحتمية، فهي تعكس إعلان الآخر المقهور عن تحرره، وإعلان الذوات المغمورة عن وجودها! هو تصريف مفاجئ لمخزون كبير ومتراكم من الكبت والتزييف الإجباري! ولذلك نلاحظ تسارعًا وتنافسًا في ممارسة الفوضى لحظة سقوط السلطة، وذلك يعكس الخوف من رجوعها قبل تفريغ الشحنة! وليس بالضرورة أن تكون السلطة – أشخاص الرئيس والحكومة – هي المقصودة مباشرة بردة فعل البُسطاء والضعفاء الفوضوية، إنما المقصود كل ما هو مرفوض لديهم من تشريعات وعوائق خلقت الفوارق بينهم وبين الأقوياء والحُذاق – في وجود السلطة! وربما كان السبب لكل ذلك هو تلك القوانين والتشريعات والأعراف التي تتعامل مع البشر في المستويات الدنيا، كقطعان متساوية – لا كأفراد مختلفين!

البشر يُقرُّون باختلاف الحيوانات عن بعضها، ويتجاهلون اختلافاتهم! حقوق الحيوان، تعني توفير البيئة الطبيعية لكل صنف من أصناف الحيوان! والواقع أن الإنسان يُعاني من غياب البيئة الطبيعية أكثر من معاناة الحيوان! فالبشر بحاجة لإعلان عالمي لطبيعة الإنسان، وليس لحقوق الإنسان! الاختلافات الطبيعية بين الحيوانات خارجية، ولذلك كان أساس حقوق الحيوانات هو توفير بيئة طبيعية خارجية، تعكس اختلافاتها الخارجية! ولأن الاختلافات الطبيعية بين البشر داخلية، فإنه لا قيمة للحديث عن حقوق الإنسان ما لم يكن أساسها توفير بيئة طبيعية تعكس اختلافات البشر الداخلية! 
 تساهل أو إذعان القادرين على عدم الإذعان، للثقافات والأعراف والمعتقدات، التي تتجاهل اختلافات البشر الطبيعية، وتختزل سلوكهم في نمطٍ واحد، تفرضه على الكل، وتمنحه صفة السلوك السَوِي، لتُحرِّم أو تمنع أو تُسفِّه كل سلوك يُخالفه..، هذا التساهل أو الإذعان لا يمكن فهمه كقناعة لدى العارفين، ولا ضعف لدى القادرين! إنه إنما يعكس جهلاً أو رغبة، في دفع الضعفاء والبُسطاء لممارسة الكذب والخداع والنفاق..، فهؤلاء مضطرون لمحاكاة السلوك المفروض،.. أي تزوير المستند المطلوب لنيل الحد الأدنى من الاحترام- فيتظاهرون بتبني السلوك الذي يتجاهل اختلافاتهم ويصطدم بفطرتهم! وتكون النتيجة أو كانت، ظهور مجتمعات من الكاذبين والمنافقين والمخادعين، المجبرين على رفع شعار: السلوك البشري السَوِي المُوحَّد- طالما وُجِدت قوة تفرضه! فقد صار لزامًا على الإنسان أن يكون استثنائيًا لكي يعترف له الآخرون بأنه مختلف عنهم، وبأنهم يجهلونه..، وهو ما من شأنه حصوله على قيمة ذاتية وخصوصية يحترمها الآخرون، وتفرض عليه هو احترام ذاته..، وهو الأمر الذي لو تحقق بشكل طبيعي لكل إنسان، لما كان استقرار المجتمعات رهنًا بوجود سلطة سياسية! إنه ومن حيث المبدأ، لا فرق بين شجار الأطفال وملاكمة الكبار ومصارعة الثيران والتنافس على السلطة؛ فكل ما يجري في ميادين التنافس البشري بشري، هو بالأساس وبالنتيجة محاولات من كل الأطراف لانتزاع اعتراف بوجود اختلاف يجهله الآخرون..، وذلك في مقابل وضع قائم يرفض الإقرار بوجود الاختلاف أو يُسفِّه المختلف! كان التنافس سيكون طبيعيًا، لو أنه استمر كما كان بين الإنسان والجوع؛ بين الإنسان والطبيعة؛ بين الإنسان والمرض؛ بين الإنسان والجفاف، بين الإنسان والجهل..، الخ..، أي أنه تنافس في مجالات مختلفة ولغاية واحدة.. هي مصلحة وراحة الإنسان! وكان التطرف عندها سيكون مطلبًا إنسانيًا، لأنه يعني بلوغ أقصى ما يمكن بلوغه مما ينفع الإنسان! وكانت الوسطية- التي يطلبها البشر اليوم وقد استحال حدوثها- ستكون مرفوضة- باعتبارها كسلاً وتخاذلاً! بيد أن الأمر لا يستحق التجاهل، ولا يتطلب كل هذا الجُهد وكل هذه السلوكيات التنافسية البدائية، إنه يتطلب فقط سن تشريعات، تؤسس لإقرار الجميع بأن المجتمع البشري هو مجموع أفراد مختلفين لا إراديًا، وأنه لكل فرد منهم ما يميزه ويجعله مختلفًا عن سواه ومجهولاً لهم- بما يوجب احترام خصوصيته! أما عندما يتطلب الأمر من كل إنسان أن يكون قادرًا على تجاوز الواقع واستحضار الحقيقة (صُنع معجزة)، لكي ينتزع من الآخرين الإقرار بالواقع- لا بالحقيقة! فالحقيقة هنا لا تُدرك، إنما تُستحضر ليُدرك من خلالها الواقع! الواقع هو وجود الاختلاف بين البشر، أما الحقيقة فهي ما وراء هذا الاختلاف..، وهو ما لا يمكن إدراكه، أو ربما لا حاجة بالبشر لإدراكه- قياسًا إلى التكلفة! عندما يكون الأمر على هذه الحال، وهو كذلك، فهذا يعني أن الإقرار بالاختلافات الطبيعية بين البشر، أصبح ميزة لا يتمتع بها غير القادرين على انتزاعها! بينما يتم التعامل مع الغالبية العظمى من البشر كمستنسخين- لا يمكن أو لا يحق لهم أن يكونوا مختلفين، وبذلك تُسنُّ القوانين والتشريعات- التي تحكم عامة الناس- على مقاس فرد افتراضي، له مواصفات محددة! هذا الأمر يترتب عليه بالضرورة خرق تلك القوانين والتشريعات بواسطة المختلفين عن ذلك الفرد الافتراضي! والمختلفون هنا، يمكن أن يكونوا كل البشر! هذا الأساس الخاطئ، جعل من القوانين والتشريعات وسيلة لصنع إنسان وليس سبيلاً للتعامل مع الإنسان! إن الصواب والطبيعي هو أن لا نكون بحاجة لإثبات الواقع..؛ لكن إصرار المتنفذين من البشر على تجاهل وتجاوز الواقع، جعل من إثبات المثبت ضرورة! إن الواقع عبارة عن مرآة تعكس حقيقة – أي أنه مرآة تُثبت وجود حقيقة- لكن لا تُحقق إدراكها! البشر يتوارثون اعتقادًا خاطئًا، مفاده أن الآخر لا يمكن أن يكون إلا أحد احتمالات بشرية معدودة ومحصورة ومعروفة! 
. لماذا نستغرب سلوك الآخر عندما يخالف توقعاتنا؟ لأننا نعتقد أننا نعلم كل المعطيات والخلفيات التي تصنع سلوك الآخر، ولذلك نعتقد أن سلوك الآخر لا بد وأن يكون في متناول تخيلاتنا وحساباتنا..، وإذا خالف توقعاتنا وجب انتقاده أو عقابه..، فلكي تكون توقعاتنا صحيحة، كان لا بد أن نفترض أن سلوك الآخر المخالف لتوقعاتنا هو انحراف متعمد! نحن كذلك، لأن وعينا – سواء عن قصد أو عن جهل- قد تم توجيهه وتصنيعه ليكون أقل من أن يستوعب وجود ذات أخرى مستقلة ومختلفة عن ذاتنا! فنحن نقر للآخر بالوجود المادي المنفصل عنا-فحسب! نحن لا نعترف باستقلال الآخرين عنا كذوات نجهلها، بل ككائنات نعرفها ويمكننا أو يحق لنا أو من واجبنا احتواؤها! نحن نعرف الآخر من خلال صورة نرسمها له في أذهاننا، وليس من خلال وجوده وسلوكه الفعلي في الواقع! نحن نرسم للآخر صورة في أذهاننا بمجرد أن يدخل مجال الإدراك لدينا- عن طريق المجتمع، التعليم، الإعلام، الثقافة، التاريخ، ..الخ؛ ثم نقوم بتضمين تلك الصورة كل المواصفات التي نعتقد مسبقًا أنه ينبغي أن يحملها الآخر ولا يمكن له الخروج عنها؛ ثم نتخذ من تلك الصورة مقياسًا للأصل! وبالتالي فإن رفضنا لسلوك الآخر، هو تعبير عن رفضنا للواقع، وعن خيبة أملنا في الحقيقة التي ظهرت بغير ما كُنا نتوقع ونرغب! هذا السلوك من الأنا تجاه الآخر، يمكن اعتباره حالة مَرَضية بشرية متوارثة؛ حيث يتوارث البشر اعتقادًا خاطئًا، مفاده أن الآخر عبارة عن واحد من احتمالات بشرية معدودة ومحصورة ومعروفة! لذلك توجب على الآخر أن يكون استثنائيًا، لكي نُقر له بوجود مستقل ومختلف عنا! فصار لزامًا على الآخر أن يكون سيدًا، رئيسًا، مَلِكًا، عالِمًا، غنيًا، مشهورًا، ..الخ، لكي تعترف له الأنا بأنه مختلف عنها وأنها تجهله! إثبات الذات للآخرين يكون بإثبات الاختلاف عنهم! والواقع أن الأنا تشعر بأن أي قيمة تُعطيها لأي آخر، إنما تكون على حسابها ومن رصيدها؛ لذلك كان سعي الأنا دائمًا باتجاه التقليل من شأن وقيمة الآخر؛ وكان سعي الآخر دائمًا باتجاه فرض التنافس لانتزاع نصيبه من القيمة المفترضة والمتنازع عليها عمليًا! ولذات السبب، نحن نمنُّ على الأحباب والأصدقاء بما نُقرُّ به لهم من قيمة- ممثلة في مكانتهم لدينا؛ ونفخر بمكانتنا لديهم- لأنها تُمثِّل لنا إقرارًا منهم بجزء من قيمتنا المُجزَّأة- التي نبحث عن أشلائها في كل مكان وبأي وسيلة! ولذات الأسباب، نحن ندَّعي معرفتنا بالآخر، ونرفض الإقرار بأنه مجهول لنا، ذلك لأن الإقرار بجهلنا به هو إقرار ضمني بأن له قيمة ووجود مستقل عنا، وفي ذلك إقرار بنقص فينا، ولذلك نرفضه! لو أن إدراكنا للوجود البشري، توقف عند اتفاقنا على وجود ظاهري يتكون من: أنا وآخرين؛ لكانت علاقة الأنا بالآخر طبيعية، وليست اصطناعية كما هي الآن! وذلك باعتبار أن الإدراك الظاهري للوجود هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة حتى الآن! لكن الأمر تجاوز إدراك الأنا لوجود الآخر، إلى اعتقاد الأنا بمعرفة ماهية الآخر..، وبسبب هذا الاعتقاد الخاطئ..، شهدت العلاقات البشرية إخفاقات وصدامات ومظالم- ما تزال قائمة! ومن أهم النتائج المترتبة على هذا الاعتقاد الخاطئ، والتي نلمسها في الواقع: 1- ظهور ثقافة الوصاية الفكرية..، وكان ذلك نتيجة حتمية لاعتقاد الأنا بمعرفة الآخر؛ حيث إنه قد نتج عن هذا الاعتقاد، حق الأنا في التكهن بسلوك الآخر، فأصبح كل سلوك من الآخر مخالفًا لتكهنات الأنا، هو بمثابة انحراف متعمد ومرفوض- في نظر الأنا! 2- تشريع الصدام بين الأنا والآخر..، الصدام في حدود تضارب المصالح المعلومة، هو أمر طبيعي وجزء من القانون العام للوجود، لكن ومع اكتشاف عناصر القوة وامتلاكها، لم تعد الأنا القوية تكتف بانتقاد سلوك الآخر الضعيف- المخالف لتكهناتها، ولم تعد تكتف بصدام المصالح الطبيعي..؛ فإحساس الأنا بالقدرة على توجيه الآخر وتحديد سلوكه، أشعرها بأن لها الحق في تصويب الآخر، واتخذت من ذاتها ومصالحها معيارًا لما ينبغي أن يكون، فأصبح التصويب يُعادل الإخضاع، فكان تشريع الصدام وتبريره! 3- ظهور مفهوم الـ ( نحن ) إلى حيِّز الوجود الثقافي والاجتماعي- على الرغم من استحالة وجوده في الواقع! حيث إن مفهوم الـ(نحن) يُشير إلى مجموع (الأنا)، وتلك مغالطة، إذ لا يمكن جمع الأنا، ولا يمكن أن يوجد أكثر من أنا واحدة، فكل ما هو موجود عبارة عن أنا واحدة- وكل ما عداها هم آخرون بالنسبة لها! من الواقع، يمكننا القول بأن البشر يتوزعون ثقافيًا بين ثلاث نظريات افتراضية- في علاقة الأنا بالآخر: - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، ومعلوم الهوية! - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، لكنه مجهول الهوية! - نظرية تعتبر الوجود المادي للآخر مجرد فرضية، وبالتالي فهو مجهول الهوية حُكمًا

الأربعاء، 6 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(2).

0 تعليق



نظرية لا تُفسِّر الوجود إلا بطمس بعض معالمه، لا يصح اعتبارها نظرية لكل الوجود! ودستور لا يستوعب البشر إلا بسحق بعضهم، لا يصح اعتباره دستورًا لكل البشر! فلو أن نظرية علمية، اشترطت استثناء الحديد من  معادلاتها، لكي تتعامل مع المعادن..، فإنها في أحسن الأحوال ستحصل على وصف: نظرية قاصرة أو ناقصة! أو أن نظرية اشترطت استثناء المشتري، لكي تضع معادلة لفهم ووصف الكواكب..، فهي نظرية قاصرة أو ناقصة! كذلك لو أن أحدهم جاء بدستور، وادَّعى أنه يصلح لكل البشر وأنه صالح لكل زمان ومكان، ثم اشترط قتل أو إكراه أو سلب إرادة كل من لا يقتنع بهذا هذا الدستور..، فإن مثل هذا الدستور لن يحصل حتى على صفة " دستور قاصر أو ناقص"، لأن وصفه الصحيح هو أنه: دستور وهمي عبثي لا إنساني استبدادي إجرامي بربري همجي كاذب مزور فاشل!
- المنتحرون دون تردد، والذين تسيل دموعهم دون تكلف، عند اصطدامهم الفردي المباشر بالمأساة العامة..، هؤلاء يفرضون احترامهم بدرجة كبيرة لا يبلغها سواهم! ذلك لأنهم يُجسِّدون الصورة النهائية للمشهد العام في مواقف فردية لحظية صادقة صادمة، متجاوزين مراحل العبث التي يتنافس حولها ويسعد بها الواهمون! - المنتحرون هم أناسٌ صادقون مع أنفسهم، لكنهم لا يستطيعون البُكاء عند الحاجة إلى البكاء، لذلك يُريقون دماءهم بدل الدموع!
 تكملة الموضوع.. إن حدوث القلق الطبيعي التلقائي، مرهون بنضوج الوعي بشكل طبيعي، فإذا لم ينضج الوعي، امتنع حدوث القلق التلقائي، وهذه حالة طبيعية لا ينبغي تلويثها بفرض القلق من الخارج! إن القلق يحدث عندما يشعر العاقل بأنه قادر على الفهم والفعل، ثم يصطدم بعجزه عن الفهم والفعل! إن إقرارنا بوجود الاختلاف بين البشر، وبعدم مسئوليتهم عنه، يُلزمنا بمبدأ: أنَّ ما يُحسب لإنسان لا يُحسب على غيره! فما يُبرر مدحنا لبعض البشر، لا يبرر لنا ذم غيرهم! إن ما استطاع جاليليو وكيبلر ودافنشي وآينشتاين وبوهر وستيفن هوكنج وأمثالهم، تصوره وفهمه وتحقيقه، هو مبرر لمدحهم، لكن من الطبيعي ألا يُعاب على غيرهم عدم قدرتهم على مجاراتهم، والأهم ألا يُكرَه بقية البشر على النفاق والرياء بالتظاهر بقدرتهم على تصور وفهم وتحقيق ما حققه أولئك العباقرة! هذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال في كل المجالات..، لكن مع الأسف ليس هذا هو الحال في مجال المعتقدات- مثلاً! فالإنسان في هذا المجال، يُذم ويُهان، فقط لأنه لم يستطع مجاراة غيره، أو لأنه لم يستوعب ولم يقتنع بما قالوه! ثم يُجبر ويُكره على الإقرار بأنه أقل قيمة منهم، أو يُكره على النفاق والتظاهر بأنه قد فهم واستوعب نظرياتهم واقتنع بها! لنا أن نتصور كيف تكون حياة وسلوك إنسان بسيط، وهو مُكره على الإقرار والتظاهر بأنه قد استوعب واقتنع بكل ما قاله واستوعبه ستيفن هوكنج في الفيزياء النظرية، وما قاله واستوعبه بوهر في فيزياء ما تحت الذرية! إن سلوك الإنسان المُكره على إظهار القلق، يكون كسلوك الحاسوب المُكره على تشغيل برنامج هو ليس معدًا لتشغيله، فيكون بحاجة لتدخل المشغل في كل خطوة، وفي النهاية يعجز الجهاز عن العمل تمامًا، ويُصبح أداة جامدة- تُستعمل ولا تعمل! إن التربية والتلقين باسم التوعية، هي في الواقع قتل وتحريف متعمد للوعي الطبيعي، من أجل خلق قلق مزيف لدى الإنسان، يجعله بحاجة دائمة لتدخل أولئك الذين خلقوا لديه القلق المزيف، وهذا ما يفعله الدُعاة مع البُسطاء! بينما القلق الطبيعي الناتج عن وعي طبيعي، يُحصِّن الإنسان ضد التزييف والتخويف، فلا يقبل إلا إجابة طبيعية مكتملة الأركان عن تساؤلاته، وهو يُفضِّل البقاء في دائرة الحيرة الصادقة على الخروج إلى فضاء الأحلام والاعتقاد! إن الحقيقة المطلقة التي يستقيم بها الوجود، ربما أمكن استنباطها من حياة الحيوانات، حيث إنها لا تعرف القلق! الحيوانات تعرف الخوف، والخوف غريزة مرتبطة بالحياة والوعي! الخوف قلق لحظي، والقلق خوف مستمر! القلقون ينظرون إلى بقية البشر- الذين يستمتعون بحياتهم- كأن ليس فيها ما يستوجب القلق- على أنهم سُذَّج بُسطاء، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن القلقين يحسدون البُسطاء على بساطتهم، والتي لا يمكن أن تكون إلا حقيقية، فالقلق إما أن يكون أو لا يكون، فهو ليس إراديًا وليس موضوعًا للمزاح! إن القلق يمكن تصديره رغم أنه مُكلِف، بينما البساطة لا يمكن استيرادها رغم أنها مجانية! القلق يأتي نتيجة طبيعية لنضوج الوعي، وقد ينشأ القلق بسبب موقف معين أو نتيجة انتباه مفاجئ! بينما البساطة هي وضع ابتدائي قابل للتغير، لكنه غير قابل للاستعادة بعد التغير! ولذلك فإن إصرار النخبة من البشر على تأصيل وعقلنة المبادئ، كان لا بد أن يُنتج لدى البُسطاء الكذب والنفاق؛ ذلك لأنه ولكي تسير الحياة لدى جُل البشر، فهي تستوجب البراغماتية واللا مبدئية – حيث إن الالتزام بالمبادئ يصطدم مع المصالح بالضرورة، وحيث إن النخبة من البشر قد افترضوا أن المبادئ عنصر أساسي من الإنسانية، فلم يكن أمام البُسطاء والضعفاء الغير قادرين على دفع فاتورة المبادئ، ومن أجل إثبات انتمائهم للإنسانية، سوى التظاهر بالمبدئية، فكان الكذب والنفاق! وكذلك فإن ترسيخ الاعتقاد بوجود حقيقة مطلقة مستقلة، كان لا بد أن يُفضي إلى الموت أو إلى الجنون لدى الصادقين! فإذا كان الإنسان على درجة كافية من الوعي، تؤهله لطرح السؤال، وتبنى مشروع البحث عن الحقيقة المطلقة، بذاته ولذاته، فإنه حتمًا سينتهي إلى الانتحار إذا لم يسبقه الجنون! وإذا كان الانتحار موتًا ماديًا، فإن الجنون موت معنوي، فالنتيجة واحدة في كل الأحوال! أما الذين ادَّعوا معرفة الحقيقة المطلقة كمشروع للآخرين، فهم مستثنون من قاعدة الانتحار والجنون، لأن حقيقتهم مصطنعة ومفصلة على مقاسهم؛ ومع ذلك فهم يُبررون ويُشرِّعون قتل الآخرين الذين يتعارض وجودهم مع حقيقتهم المزعومة ..، وبالنتيجة فإن الحقيقة التي لا يستوعبها الإنسان إلا بالانتحار أو بالجنون؛ والحقيقة التي لا تستوعب البشر إلا بقتل بعضهم، هي حقائق وهمية يرفضها الوجود الطبيعي! في المجتمعات البشرية الأكثر تمدنًا وتطورًا، بدأوا بإلغاء عقوبة الإعدام مهما يكن جُرم الإنسان؛ وهذا مؤشر على أنهم بلغوا من الوعي درجة، أدركوا معها أن الحقيقة تظل ناقصة ما لم تستوعب الجميع..، وهذه هي أقرب نقطة إلى الحقيقة المطلقة بلغها البشر حتى اليوم! بحسب القانون الطبيعي، لا يوجد فرق من حيث النتيجة، بين قتل "س" من الناس بحكم القانون، وقتل "ص" على يد إنسان آخر! الفرق الواقعي هو أن "س" قد قُتِل، لأن جماعة كبيرة قوية من البشر قد أجازوا قتله، بينما "ص" قد أجاز قتله واحد أو مجموعة صغيرة من البشر! في الحالتين، يكون مبرر القتل هو رؤية بشرية محدودة- قد تكون خاطئة وقد تكون صائبة! ما أردتُ قوله، هو أن قتل الإنسان للإنسان، ومهما كانت مبرراته وحيثياته، فهو في أحسن الأحوال إجراء تنظيمي للمحافظة على شكل معين للمجتمع البشري، وفق رؤية مجموعة من البشر، لكن لا علاقة له بالحقيقة المطلقة! فاتفاق المعتقدات والأعراف البشرية، على أن الإنسان هو العنصر المركزي في الوجود، لا يصح معه تشريع قتله بأي حال من الأحوال! إن الشريعة التي لا تقوم إلا على جثث بعض البشر، لا يصح اعتبارها شريعة لكل البشر! كما أن النظرية التي تشترط إلغاء بعض عناصر الوجود، لا يصح اعتبارها نظرية لكل الوجود! الوجود بشكل عام، والوجود البشري بشكل خاص، يبدو كمحاولة عملية فاشلة، لمحاكاة، حقيقة نظرية مفترضة! الوجود انقسم على نفسه مرتين بسبب الإنسان: الإنسان، هو أحد عناصر الوجود، تفوَّق بذكائه على بقية العناصر، فتمرَّد الجزء على الكل، حيث أصبح الإنسان يتعامل مع الوجود، كمراقب له لا كجزء منه ..، وبهذا يكون الوجود قد انقسم على نفسه – المرة الأولى! ثم انقسم الإنسان على نفسه، عندما نصَّب الأكثر ذكاءً من البشر، أنفسهم، أوصياء على بقية البشر- الأقل ذكاءً ..، وبهذا يكون الوجود قد انقسم على نفسه للمرة الثانية! إن بحث الإنسان الدائم عن الحقيقة، هو إقرار منه، بأنه جزء من مشهد مزيف، وفي أحسن الأحوال هو جزء شبه معلوم من مشهد غامض! أقول بأن الإنسان جزء شبه معلوم، لأن غيره جزء شبه مجهول، فالإنسان يمتلك اللغة، ويستطيع التعبير عن ذاته دون حاجة لإخضاعه لتجربة معملية، لكنه يظل تعبيرًا ناقصًا إما بسبب نقص المعرفة، أو عدم الرغبة، أو ضعف اللغة، أو غياب المصداقية التامة! أما غير الإنسان، فكلها أشياء لا نعرف عنها إلا ما استطعنا انتزاعه منها دون إرادتها، وبقدر معرفتنا بخصائصها، ولذلك فهي أقرب إلى المجهول منها إلى المعلوم! هذا كله، يُعتبر واقعًا ماثلًا بالنسبة للبعض منا، لا يمكن تجاهله أو نسيانه! والبعض الآخر من البشر- الذين لا يرون هذا الواقع الماثل-، لو أنهم تمكنوا من استحضار هذا الواقع على صورة حقيقة في أذهانهم، لما أصبح الاختلاف الطبيعي مصدرًا للخلاف المصطنع

الجمعة، 1 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(1).

0 تعليق


الطبيعي هو التعامل المنطقي مع الواقع، وذلك باستعمال المعلوم لاكتشاف المجهول! لكن ذلك لا يكفل السعادة ولا يعتد بالعواطف..، لذلك ظهرت نظريات الوهم! الوهم هو افتراض مجهول على مقاس العواطف والأحلام، واستعماله لتجاهل المعلوم! المعلوم هو الواقع، ولأن الإقرار بالواقع هو إقرار بوجود ما لا يُحقق أحلام الواهمين! لذلك يتعامى الواهمون عن سذاجة النظريات التي يؤمنون بها، لأنها تُمثِّل لهم تحقيق المستحيل، وهو تجاوز الواقع! نحن بحاجة إلى فقدان جزئي للوعي، لكي نتجاهل مأساة ونفتعل سعادة! خرج البشر بفضل هذه النظريات من عالم الواقع الكئيب إلى عالم الحُلم السعيد، فنظروا إلى صورة الواقع في مرآة الوهم، فبدا لهم الضعيف قويًا، والذليل عزيزًا، والفقير غنيًا، والميت حيًا، …الخ! ولذلك فإنه من الصعب- وربما من غير المعقول- محاولة إخراج الواهم من وهمه، لأنه يُعادل إخراج السعيد من سعادته! إن الواقع مرفوض لأنه معلوم، والحقيقة المفترضة مقبولة لأنها مجهولة! المعلوم.. لا مجال فيه للوهم والعاطفة والأماني، ومن هنا كان الواقع مرفوضًا! المجهول.. مجال يتسع لكل ما يمكن أن يأتي به الخيال، ومن هنا كان قبول الحقيقة! إن الحقيقة هي الواقع، في نظر الذين يصنعون الواقع! والحقيقة هي نقيض الواقع، في نظر ضحايا الواقع! والحقيقة هي النتيجة التي تُنصِف الجميع، في نظر الجميع! أما الحقيقة المطلقة، فهي مفهوم يعكس القلق، والقلق هو سِمة الحياة الذكية- التي يُمثل الإنسان الواقعي المنطقي قمتها على الأرض! يمكن اعتبار الوعي أو الذكاء نقمة على الإنسان، لأنه أنتج القلق، بطرحه لسؤال الحقيقة، وعجزه عن إيجاد الجواب! كذلك فإن الوعي أو الذكاء قد أصبح عائقًا يمنع الإنسان من قبول الجواب ما لم يكن في صالحه، وذلك لأن الوعي أو الذكاء هو مخترع السؤال، ولا يرضى بأقل من المشاركة في صنع الجواب! أمر آخر هام جدًا بشأن الذكاء، وهو أن البشر هم عبارة عن أوعية (جمع وعاء) مناسبة لعمل وتطور نوع من الذكاء الطبيعي، وبسبب تعدد هذه الأوعية، أصبح هذا الذكاء يُنافس ذاته، فبدا الذكاء وكأنه ينقلب على ذاته محاولاً وضع حد لتطوره، وذلك لأنه من طبيعة الذكاء رفضه الإقرار بالعجز، فأصبح الذكاء عند "س" من الناس، يرفض الإقرار بعجزه أمام الذكاء عند "ص" من الناس، فنشأت بذلك تشريعات قمع حرية التفكير والتعبير، ولعله من هنا بدأ الصراع على السلطة- من أجل تغليب فكر على فكر! الإنسان يتميز عن غيره من الموجودات بنوعية الوعي، والوعي هو إطار مناسب لتجميع وتنظيم وحفظ المعلومات والبيانات، بصورة تسمح للذكاء باستخدامها لإنتاج الأفكار! كل الموجودات الأخرى تمتلك نوعًا من الوعي، وقدرًا من الذكاء، لكنه نوع من الوعي عشوائي ومحدود، يُعيق ذكاءها من العمل والتطور! الحقيقة المطلقة التي يمكن أن يجتمع حولها البشر، هي عنصر افتراضي، إذا أُضيف إلى معادلة الوجود، يتحول الواقع إلى حقائق لا تحتمل التساؤل! صراع الإنسان مع البيئة وجهله بها ورفضه الإقرار بالعجز أمامها، هو الذي كان وراء طرحه للسؤال في الماضي، ولذلك جاء السؤال على مقاس جواب افتراضي يُحقق رغبات الإنسان ويُبعد مخاوفه، فأصبح هدفه من البحث هو الحصول على الجواب الذي يُريده، وليس الجواب الصحيح! ويتضح ارتباط سؤال الحقيقة وجوابها بالبيئة، من اختلاف معتقدات البشر اليوم بحسب اختلاف ثقافاتهم ومستوى معيشتهم ( اختلاف البيئة)! إن طلب الإنسان للحقيقة، هو تعبير عن قلق ناجم عن صراع بين الشعور بالقوة والإحساس بالعجز! كل النظريات (المعتقدات) المطروحة حول الحقيقة المطلقة، لم تُعالج القلق الحقيقي، هي عالجت القلق لدى أولئك الذين يتصنعون القلق درءًا لمسبة الغباء! الواقع يقول إن السواد الأعظم من البشر بُسطاء، لا يتجاوز اهتمامهم يوميات الحياة، لأن وعيهم محدود، لا يكفي لتطور الذكاء وطرح السؤال وإحداث القلق ذاتيًا! هؤلاء لم يتساءلوا ولم يقلقوا من تلقاء أنفسهم، ولو أنهم تُرِكوا وشأنهم لما تساءلوا ولما عرف القلق لهم سبيلا! لكن، جاءهم مَنْ أوعز لهم بأن عليهم أن يتساءلوا وأن يقلقوا، وبأن ذلك هو ما يُميز الإنسان عن سواه من الموجودات. ولأن البُسطاء أعجز من أن يُدافعوا عن بساطتهم، فلم يجدوا بُدًّا من تقليد التساؤل وتَصَنُّع القلق! ولأن التساؤل لم يكن من إنتاجهم، فكان من الطبيعي أن يكون جوابه كذلك مستوردًا! ولذلك سَهُل إقناع البُسطاء، حيث لا يتطلب إقناعهم سوى جواب غامض يُربك ذكاءهم الذي عجز أصلاً عن طرح السؤال وإنتاج القلق! توارث البُسطاء ثقافة استيراد القلق الجاهز والجواب المعلَّب، وتوارث الحُذاق وظيفة تصدير القلق والجواب، وبذلك وجد جُل البشر أنفسهم ملزمين بطاعة وتقديس كل من يدعي امتلاك سر الحقيقة، وهو في الواقع إما كاذب أو أنه ضحية وهم، لا يمتلك سوى مهارة المراوغة وفن التهرب من الجواب الصادق! لكن بساطة البُسطاء لها وجهان، فهي التي سهَّلت على الآخرين إقناعهم، وهي ذاتها التي تُسهِّل على البُسطاء تجاهل وتجاوز ما تعهدوا للآخرين بالالتزام به، ولذلك يضطر الدُعاة إلى الاستمرار في مخاطبة البُسطاء ترهيبًا وترغيبًا. إن البُسطاء لا يتصنعون البساطة، فهي طبيعتهم التي لا يتقنون سواها، لذلك وبمجرد غياب الداعية أو الخطيب، ما يلبث البُسطاء أن يعودوا إلى ممارسة حياتهم المَرِحة الخالية من التساؤل والقلق! إن الذي يدعي امتلاك الجواب، يستطيع إقناع مَنْ يتصنع القلق، لكنه يعجز عن إقناع مَنْ يتملكه القلق! ولأن من طبيعة الذكاء رفض الإقرار بالعجز ولو كان قائمًا، لذلك يرفض المُدعي الإقرار بضعف حُجَّته أمام المتسائل الحقيقي الباحث عن الحقيقة، فيلجأ إلى المراوغة بتخوينه أو اتهامه بالضلال، أو محاولة الإيهام بأن الإله لم يشأ هدايته – وكأنما يطلب منه مقاومة مشيئة الإله، .. إلى آخره من المراوغات التي لا تحجب عيوب المُدعي، بقدر ما تُثبت الصِدق والأمانة وقوة الحُجة لدى المتسائل- في بحثه عن الحقيقة! ويُمعن المُدعون بمعرفة الحقيقة، في خداع أنفسهم ومراوغة الآخرين، حتى أنهم يقلبون المعادلة، فيتخذون من تصديق البُسطاء لهم، دليلاً على صحة نظرياتهم! حيث يُفاخر المُدَّعي، بقوة حُجَّته التي أقنعت أعدادًا غفيرة من البُسطاء، اللاهثين خلف أي تفسير لهذا القلق المصطنع الذي وجدوه أمامهم كعادة متوارثة تستمد قداستها من تعصب الإنسان لأسلافه لا من علاقتها بالحقيقة! إن قلق الذين يتصنعون القلق، لا يتعدى قناعتهم الآنية بضرورة اتخاذ قرار يواكب تسارع الزمن- قبل فوات الأوان- فمحدودية الأعمار في نظرهم لا تسمح بالانتظار! ومن هنا نجد أن كل جماعة بشرية اعتنقت النظرية المتوفرة والمتوارثة لديها، وبسبب غياب البديل لا بسبب حضور البرهان! إن حاجة البشر لنظرية مُبرهَنة تُعطي لحياتهم معنى، وعدم وجود نظرية مطلقة، أوجدا فراغًا فكريًا، جعل كل جماعة بشرية تتمسك بنظريتها، وتسعى لإثبات صحتها وتغليبها على ما سواها، وبذلك انطلقت الصراعات العقائدية! من الطبيعي أن عدم وجود منافس لإنسان أو لنظرية ما في مجال ما، يجعلها تحتكر الحقيقة في ذلك المجال، مهما كانت عيوبها! لكن مجرد وجود المنافس- مهما كان ضعفه-، سينتقص من حقيقة الطرف الآخر! لذلك كانت الصراعات العقائدية نتيجة طبيعية وحتمية لوجود التنافس، وهدفها إلغاء المنافس! لكن اختلاف البشر كان وما يزال كفيلًا بإيجاد أتباع لكل نظرية، وبالتالي إعطاء إمكانية وليس شرعية الوجود لكل المتنافسين! ولأنه لا أحد يمتلك الحقيقة الخالية من العيوب، لذلك أصبح تركيز المتنافسين في مجال الحقيقة ينصب على تضخيم عيوب الآخر! قالوا في مدح نظرية الديمقراطية مثلاً، أنها أسوأ نظام باستثناء جميع الأنظمة! وذلك لأنها تتفرد بمزايا حسنة لا يستطيع منافسوها إنكارها، لكنها ليست خالية من العيوب! الصراعات العقائدية حولت النظريات إلى أيديولوجيات! النظرية عبارة عن وجهة نظر تفترض الصواب، مطروحة للنقاش، تقبل النقد والتصحيح، تهدف إلى حل مشكلة! بينما الأيديولوجية، هي وجهة نظر تعتقد الصواب، مطروحة للتنفيذ، لا تقبل النقد والتصحيح، تهدف إلى تغيير واقع!

الأربعاء، 9 أكتوبر 2019

ليس الموت لغزًا ولا هو بمخيف!

0 تعليق




حب الحياة أمر طبيعي، لكن الفزع من الموت ليس أمرًا طبيعيًا! الموت أوجدته الطبيعة بذات المعادلة التي أوجدت بها الحياة .. الموت أوجدته الطبيعة كامتداد طبيعي للحياة بشكل عام، لكن في حالة الإنسان ككائن واعٍ قادر على صنع الموت للذات (الانتحار)، فإن الموت ليس فقط امتدادًا للحياة إنما هو بديل طبيعي للحياة عندما تفقد الحياة طبيعتها، وتصبح أمرًا آخر بين الحياة الطبيعية والموت الحقيقي في حال الشيخوخة والعجز والألم الشديد والعوز الشديد .. الخ! - هل صحيح أن البشر لا يستطيعون النظر إلى الحقيقة إلا من وراء قناع؟ الحقيقة المقصودة هي تلك المتعلقة بالوجود والحياة والموت! هنا طرحٌ، قوامه تفسير فلسفي، وتحليل منطقي واقعي، لمفهوم الموت ولعملية الموت والخوف من الموت، بالإضافة إلى مفاهيم البعث والحساب والعقاب والفناء والخلود! هنا طرح جديد، خاص ونوعي، نزعم أن فيه ما يُثبت أن الخوف من الموت هو خوف مَرَضي ثقافي زائف، وأن التخلص منه ممكن جدًا، ولكل من شاء!
حياة، موت، بعث، حساب، عقاب، خلود، فناء! هذه المفردات اللغوية، لا تشير إلى أشياء أو أمور محددة بذاتها، بقدر ما تشير إلى مفاهيم تاريخية مُشوهَّة ومضخمة ثقافيًا في مخيلتنا، بما يفوق حجم وحقيقة دلالاتها الواقعية بكثير، حتى أصبحت تُنسج حولها الأساطير، وتُشاع باسمها المخاوف والأوهام والأحلام، في الثقافات والمعتقدات البشرية! هي مفاهيم يتم تداولها بتفسيرات وتحليلات بدائية وثقافة مغلوطة لا أساس لها في الطبيعة والواقع- سواء عن قصد أو عن جهل -، بالنتيجة تم استغلالها لاختراق الوعي البشري عبر العواطف وحاجة البشر للاطمئنان، حتى بات معظم البشر يستبعدون فكرة وإمكانية التحرر منها، ويُفضِّلون التبعية لكل من يدَّعي امتلاك شيء من أسرار هذه النمور الورقية الجوفاء الخاوية الهشة! سنتناول هذه المفاهيم بالتحليل المنطقي الواقعي والموضوعي والطبيعي، وسندحض هيبتها المزعومة، وسنفرغها من محتواها الوهمي، حتى يتبين لنا كيف أنه يتم توجيهنا واقتيادنا عن طريق التعاطي مع أشباحها الثقافية والتاريخية، وأنها لا تُقدَّم لنا مباشرة كمعطيات طبيعية بسيطة – لا معنى للخوف منها ولا قيمة للأحلام المعقودة عليها!


- الخوف كصفة بشرية، هو شعور طبيعي مرتبط بالحياة! - الحياة التقليدية هي نقيض الموت التقليدي .. - الخوف من المرض، الخوف من الحروب، الخوف من التقدم في السن، الخوف من الفقر، الخوف من الفشل، الخوف من أي شيء هو عبارة عن صورة من صور الخوف من الموت! - هذا يعني أن زوال الخوف من الموت، هو زوال للخوف من كل شيء تقريبًا! - هنا أزعم أن زوال الخوف من الموت ممكن، ويتحقق بمعرفتنا لطبيعة الموت، لماهية الموت، لعملية الموت، ولما بعد الموت..، وكلها معارف ممكنة بنسبة كبيرة! سنتطرق ضمنًا لتعريف الموت وماهية الموت منطقيًا وواقعيًا، لكن سنبدأ وسيكون تركيزنا على خوف أو فزع الإنسان من الموت! الرهبة من الموت يمكن اعتبارها محل إجماع .. فلماذا يخاف البشر الموت؟ في الواقع، لو كان الخوف من الموت سببه فقط حُب الحياة، لاقتصر الخوف على صغار السن والمرفَّهين السُعداء، ولما زاحمهم عليه العجزة والبؤساء، ولكانت عمليات الانتحار أكثر من عمليات الولادة! ولو كان الخوف من الموت سببه الضعف، لاقتصر الخوف على الضعفاء، ولما زاحمهم عليه الأقوياء! ولو كان الموت مخيفًا في ذاته، لكانت الأسباب معلومة ومقنعة، ولما تجرأ أحد على الانتحار! الخوف من الموت، بحُجَّة الخوف من بعث وحساب وعقاب بعده، هو أمر لا يصح منطقيًا أن يكون سببًا لدى المؤمنين لأنهم مستعدون للبعث والحساب، ولا يصح لدى غير المؤمنين حيث أنهم لا يؤمنون بالبعث والحساب! بحسب هذا العرض، يبدو أنه لا يوجد سبب معلوم يجعل البشر يخافون الموت، لكن الخوف من الموت موجود! إذن، لماذا يخاف البشر الموت؟ نحن نفهم ونقدر حقيقة أنه حتى العلاقات الاجتماعية والصداقات الحميمة، والمُتع والملذات، والمشاهد الجميلة، والاكتشافات الجديدة، يمكن اعتبارها أسبابًا منطقية وعاطفية تدفع الإنسان لحب البقاء! لكن هذه المغريات والدوافع، ليست متاحة للجميع، وليست مغرية للجميع، ولا يفهمها ولا يتذوقها الجميع، في حين أن الخوف من الموت، هو قاسم مشترك بين الجميع، بغض النظر عن وجود أسباب من عدمها! لذلك نقول، إن ما نتحدث عنه هنا، وما نريد فهمه ومن ثم دحضه، ليس حب الحياة، إنما الخوف المَرَضي وغير المبرر من الموت، والذي يؤدي بالبشر إلى القبول بالحياة الرديئة والوجود البائس المهين! كذلك ما نريد فهمه ومن ثم دحضه، هي هذه الهالة المحيطة بمفهوم الموت ثقافيًا وعقائديًا، والتي تُترجم سلوكيًا وواقعيًا على شكل مفاجأة صادمة للبشر عند موت كل إنسان – خاصة القريب، والتي تؤدي عادة إلى البكاء والحُزن الشديد – حتى لو كانت العلاقة مع الميت قبل موته سيئة..، مما يعني أن السر في الموت وليس في الميت! في الواقع البشر يخافون الموت فُرادى، ولا يخافونه جماعات..، وكذلك تفعل كل الكائنات الحية! الإنسان منفردًا، يهاب دخول مكان مهجور مجهول ليلاً، لكن جماعة من البشر لا تهاب ذلك! الجماعة عبارة عن عدد من الأفراد، ودخول الفرد ضمن جماعة، لا يوفر له حصانة أكيدة من الأخطار التي يخشاها بمفرده، لكن وجود الجماعة يوفر له اطمئنانًا زائفًا، كافيًا لإزالة خوف زائف، هو خوفه من الموت! إن الخوف عمومًا، هو مُعطى طبيعي، مرتبط بالحالة الفردية، وأساسه غريزة الحذر من كل مجهول، وهو الحذر الطبيعي المصاحب للإحساس بالحياة! لكن لا معنى للحذر من الموت، طالما أنه قادم لا محالة، والصحيح والمنطقي هو أن نفهم الموت لنُبدد الخوف منه، أو نفهمه ليتحول خوفنا منه إلى شيء مبرهن ومبرر، وقد يكون الصواب حينها هو أن يبكي الإنسان نفسه حيًا، قبل أن يَبكيه الآخرون ميتًا! إن خوف البشر من الموت، له سببان أساسيان، واحد طبيعي، وآخر مفتعل! أما السبب المفتعل، فهو الخوف مما قد يكون بعد الموت؛ وهذا مصدره الشك والتردد والسطحية وعدم المصداقية، لدى المؤمنين ولدى غير المؤمنين بالبعث والحساب! الجماعات والمذاهب العقائدية الدينية، هي مؤسسات التأمين الوحيدة المتوفرة والمتخصصة في التأمين لما بعد الموت؛ وهي الوحيدة التي تفترض وجود مبرر للخوف مما بعد الموت، وذلك لكي تمارس نشاطها المتمثل في اجتذاب أتباع أو زبائن أو عمال أو جنود! ولأن الافتراض الذي لا يمكن اختباره لا يمكن دحضه، لذلك تكوَّن لدى أغلب البشر خوف مستمر مما بعد الموت، وهو ما يُفسِّر انتشار عقائد هذه المؤسسات، وسيطرتها على عقول البُسطاء! ولأن الموت هو سر استقطاب هذه المؤسسات للبُسطاء، لذلك كان من السهل عليها تجنيدهم لقتل الخصوم، وجعلت من الموت في سبيلها أعلى سهم ضماني لما بعد الموت؛ … فتجارتها تقوم على الموت بداية ونهاية! وحيث إن الخوف مرتبط بالحالة الفردية، لذلك نلاحظ أن أغلب البشر منضمون إلى جماعات عقائدية، وذلك لتبديد الخوف مما بعد الموت! لكن، ولأن الجماعة عمومًا، توفر الاطمئنان للفرد مع بقاء الخطر قائمًا- سواء من الموت أو من سواه..، لذلك نلاحظ أغلب البشر ينضمون لجماعات عقائدية، لكنهم لا يدفعون رسوم الانضمام ..، أي أنهم لا يلتزمون بشروطها وضوابطها! لماذا تُطالب الجماعات الإسلامية – مثلاً، بتطبيق الشريعة الإسلامية، .. أي تطبيق العقوبات والحدود على المسلمين؟ السبب هو عدم التزام المسلمين بشروط وضوابط جماعة الإسلام، التي وفرت لهم الاطمئنان! ولماذا لا يلتزم المسلمون بشروط وضوابط جماعة الإسلام؟ لأن انضمام الأفراد للجماعات العقائدية، ليس انضمامًا طبيعيًا واعيًا، إنما هو انضمام احترازي، بهدف الحصول على اطمئنان آني، يواجهون به الخوف النفسي الذي تكوَّن لديهم مما قد يكون بعد الموت- على أساس احتمال صحة ما تنبأت به هذه المؤسسات العقائدية! الجماعات الدينية هي التي افترضت ضرورة الخوف مما بعد الموت دون برهان، وهي التي افترضت سُبُل الخلاص من هذا الخوف دون برهان كذلك، ولذلك هي غير مقنعة للإنسان، لكن شيئًا من الخوف لا بد أن يحصل لديه، ولذلك يكون مترددًا، وانضمامه للجماعة غير حقيقي! الخوف الزائف يزول باطمئنان زائف، وهذا الأخير يتحقق بمجرد الانضمام لأي جماعة عقائدية، ولا يتطلب تدقيقًا في مصداقيتها ولا التزامًا بشروطها..، وذلك لأن الخوف مفتعل أساسًا وليس طبيعيًا، ولذلك يزول بانضمام مفتعل لأي جماعة عقائدية – بما في ذلك جماعة الملحدين! لهذا يُصرُّ القائمون على الجماعة الإسلامية (الإسلام)- وهم في الحقيقة نصَّبوا أنفسهم كقائمين على الإسلام..، يُصرُّون على مراقبة بقية المسلمين ومحاسبتهم ومعاقبتهم على عدم التزامهم بشروط الانضمام للجماعة، لأنهم ينظرون للمسلمين كمخادعين، تحصلوا على الاطمئنان ولم يدفعوا ثمنه – وهو الالتزام بشروط الإسلام! أما السبب الطبيعي لخوف الأفراد من الموت، فهو معلوم، ولا يقتصر على البشر، بل هو أمر غريزي موجود وفاعل لدى كل الكائنات الحية، لكن تأثيره لدى البشر أقل- بسبب وجود الوعي، ولذلك يُقدِم البشر على الانتحار ولا يُقدم عليه غيرهم! هذا السبب هو: رهبة التجربة الأولى! الكائنات الحية المتنقلة، التي تخوض تجارب متجددة طوال حياتها، تتولد لديها تلقائيًا رهبة من خوض التجربة الأولى في كل شيء جديد، وذلك كخاصية للحياة، وهي خاصية الحذر اللازم لاستمرار الحياة، والناجم أساسًا عن وجود أخطار ومجاهيل تهدد الحياة! والموت بالنسبة للفرد هو تجربة أولى دائمًا! التجربة الأولى التي تترتب على الموت، هي تجربة التحول إلى جماد؛ هي تجربة الوجود على شكل جماد..، وهذه هي ماهية الموت! بالنسبة للإنسان، التحول من حالة وجودية إلى حالة وجودية أخرى، هو تجربة أولى دائمًا، وهو أمر مخيف عاطفيًا وليس عقليًا أو منطقيًا! عندما يفقد الإنسان بشريته (عقله)، يكون قد تحول إلى الحالة الوجودية للحيوان (مجنون)! عندما يعود للمجنون عقله، لا يتذكر شيئًا مطلقًا من حالة الحيوان التي خاض تجربتها، وتعتبر المدة التي قضاها في الحالة الحيوانية، منطقة خالية في شريط الذاكرة! عندما يفقد الإنسان وعيه (موت سريري مثلاً)، يكون قد تحول إلى الحالة الوجودية للنبات (تنفس، تغذية بالسوائل، نمو بطئ، وبدون حركة)! عندما يعود للفاقد وعيه، فهو لا يتذكر شيئًا من حالة النبات التي خاض تجربتها، وتعتبر المدة التي قضاها في الحالة النباتية، منطقة خالية في شريط الذاكرة! عندما يموت الإنسان، يكون قد تحول إلى الحالة الوجودية للجماد! ولو أمكن عودة الإنسان من حالة الجماد (الموت)، إلى الحالة البشرية، فهو كذلك لن يتذكر شيئًا من حالة الجماد التي خاض تجربتها، وستكون المدة عبارة عن منطقة خالية في شريط الذاكرة! خوف الإنسان من الموت، يُعادل خوفه من الجنون، يُعادل خوفه من فقدان الوعي..؛ هي كلها مخاوف من التحول من حالة وجودية مألوفة لديه، إلى حالة وجودية غير معروفة له، وهي عبارة عن مخاوف من تجربة أولى! إدراكنا لطبيعة الموت، ولسبب الخوف منه، يُبطل العجب منه، ويجعله خوفًا طبيعيًا، أقل وطأة علينا من الخوف التاريخي الثقافي المصحوب بالمخاوف والأهوال! ولأن تجربة الموت هي دائمًا أولى وأخيرة، لذلك يبدو لنا الخوف من الموت وكأن له أسباب أخرى لا نعلمها، بينما في الواقع لا توجد أسباب أخرى منطقية وحقيقية للخوف من الموت، سوى رهبة التجربة الأولى! تجربة الموت تتكرر لدى الجماعات، ولذلك لا تخشى الجماعة الموت، بينما يخشاه الأفراد، لأن الموت تجربة أولى دائمًا بالنسبة للفرد! هذا هو مفهوم الموت، وهذه أسرار خوف البشر من الموت، وربما لاشيء غير ذلك مطلقًا! 


ما هو الخلود، ولماذا هو حلم لمعظم البشر؟ أنا أشعر، بأن الخلود هو الحماقة الوحيدة التي لم ترتكبها الطبيعة في حقنا! وأقول إن حُلم البعض أو رغبتهم بالخلود، إنما تبدو حقيقية وجادة بسبب يقينهم بأنها لن تتحقق، وأن الخلود لو أصبح ممكنًا فسيرفضه الكثيرون، ثم سيرفضه الجميع! أعتقد أن رغبة البشر في الخلود، مجرد تعبير عن بطء الفهم! فالذين يطلبون الخلود، هم فقط يريدون فرصة كافية للتأكد من أن المشاهد التي أمامهم مكررة ومؤسفة ومملة حقًا! الخلود المطلوب بشريًا، هو خلود خاص، وليس الخلود بمعنى البقاء وحسب! ولو كان الخلود المطلوب بشريًا، أمرًا واقعًا ومفروضًا، لكن في سن الشيخوخة وليس بحسب رغبة البشر، لكان الموت هو طلبهم بدل الخلود! والواقع، أن طلب الخلود، لا يمكن تبريره عقليًا، ولا يمكن قبوله عاطفيًا، وذلك حتى لو أصبح الخلود اليوم ممكنًا، خاصة بعد رحيل الكثير من الأحباب والأصدقاء الأعزاء! إن العقلانية والمنطق والعاطفة اليوم، لا تقتضي فقط عدم تمني الخلود، إنما تقتضي طلب الموت، لحاقًا بالأعزاء ووفاءً للأصدقاء، وذلك سواء أكان هناك بعث وخلود بعد الموت، أو لم يكن..، وهذا سبب آخر يُقلل من حِدة الخوف من الموت! هل الخوف من البعث والحساب حقيقة، وهل هو مبرر؟ لا شك أن الخوف في هذه الحالة – إن وُجِد، فهو خوف من العقاب، وليس من مجرد البعث والحساب! والخوف في هذه الحالة، لا يوجد إلا لدى المؤمنين بالبعث والحساب! معلوم أنه لا يخاف العقاب دون ذنب، إلا العبد أو الأسير، وفقط عندما يكون السيد أو الآسر ظالمًا! أما الإنسان الحُر، فهو لا يخاف العقاب إلا إذا كان مذنبًا متعمدًا! والإنسان الحُر، لا يرتكب ما يوجب العقاب، إلا في واحدة من خمس حالات – تقريبًا: - أن يكون غير طبيعي! - أن يكون غير مُدرِك بأن هذا السلوك مُجرَّم وممنوع! - أن يكون واثقًا بأنه سيفلت من العِقاب! - أن يكون مدركًا لحجم ونوع العقاب، ولديه استعداد لتحمله! - أن يكون مضطرًا لارتكاب الخطأ! وإذا كان هناك من يخشى البعث والحساب والعقاب، فهو لا بد أن يكون أحد هذه الحالات، وهي كلها لا تُبرر الخوف! إن الخوف من عقاب البعث والحساب، سببه أمران افتراضيان زائفان، هما: - أن يكون الإله مزاجيًا، ويمكن أن يفعل بالبشر أي شيء، دون الاحتكام لقواعد منطقية عادلة..، وهذا ما أجمعت المعتقدات على نفيه، وبذلك لا معنى لخوف المؤمنين، ولا وجود أصلاً لهذا الخوف لدى غير المؤمنين! - الخوف من طبيعة العقاب، حيث تتفنن بعض المعتقدات (شركات تأمين ما بعد الموت) في وصفه بأنه عذاب لا يُطاق..، وذلك لتبرير زيادة رسوم الاشتراك..، وهذا أمر غير ممكن، وهو محض افتراء وهراء وهلوسة وترهيب للبشر بُغية السيطرة عليهم، بحُجة إمكانية التوسط لهم لدى الإله! لكن، الإفراط في وصف العذاب، هو في الحقيقة انتقام لفظي آني، يُمارسه أصحاب المعتقدات ضد الذين كذبوهم ..، وهو لا يعدو أن يكون أُمنية لديهم، بُغضًا لأناس أبرياء، كل ذنبهم أنهم عقلاء، رفضوا القبول بتصورات بشرية لا دليل على صحتها! لعله من الأهمية أن نذكر هنا، أنه حتى أولئك الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب، هم في الواقع يُدركون أنهم لا يملكون إثباتًا لصحة قناعاتهم، لكنهم مطمئنون أكثر من أولئك الذين يؤمنون بالبعث والحساب ويعتقدون أن لديهم وصفة النجاة! ومصدر اطمئنان غير المؤمنين، هو حقيقة أنهم لا يُنكرون أمرًا معلومًا، واعتقادهم بأنهم ليسوا بحاجة لافتراض وجود ما لا يعلمونه، وقناعتهم بأن تكذيبهم لبشر مثلهم لا يعني الكفر بإله يجهلونه! فإذا حصل بعث وحساب بعد الموت، فإنهم سيتكيفون معه حتمًا، كما تكيفوا مع البعث والحساب الذي هم فيه الآن، والذي تكيف معه كل البشر دون استعداد مسبق، وأصبح كثيرون منهم لا يريدون مغادرته، رغم أنه لم يألُ جهدًا في إيلامهم وإذلالهم وإخافتهم! لا تفسير لخوف حقيقي من أمر افتراضي، إلا الوهم! يُروى عن أحد الفلاسفة الملحدين، عندما سألوه: على افتراض حصول البعث والحساب، ماذا ستقول للإله، إذا سألك لماذا لم تؤمن بي كما آمن بي آخرون؟ فأجابهم: الأمر بسيط، سأقول له لم أؤمن بك نظرًا لعدم كفاية الأدلة أيها الإله! في الحقيقة، ليس أدل على أن تعاسة البشر مفتعلة، من بُغضهم للموت وهو الذي أوجدته الطبيعة لنجدة التُعساء! ما هو الفَناء، ولماذا يخشاه بعض البشر؟ أعتقد أنه لا يمكن استحضار شعور الخوف من الفناء، لأنه لا يبدو حقيقيًا .. ولذلك لا يوجد الكثير مما يمكن قوله حول مفهوم الفناء! فالفناء باختصار هو عبارة عن نوم متواصل بلا كوابيس مفزعة ولا أحلام كاذبة؛ وإذا كان شعور الخوف من الفناء له وجود حقيقي لدى بعض البشر، إذن ينبغي أن يكون لدى هؤلاء رُهاب من النوم، فالاختلاف بين النوم والفناء نسبي، وهو يميل لصالح الفناء