face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الثلاثاء، 11 أكتوبر 2022

الصِدقية الذاتية والمعيار الفطري للحقيقة!

0 تعليق



 .. الصِدقية في اللغة، هي مطابقة القول للعمل! الصِدقية الذاتية، يمكن تعريفها، بأنها اعتناق الإنسان لعقيدة الحقيقة، وما يستوجبه ذلك من التزام شخصي ذاتي بسلوك الصِدق- بغض النظر عن المنفعة! والتزام الصِدق كسلوك، هو في الواقع أمر يتجاوز القول باللسان إلى الفعل..، فلا يكون الإنسان صادقًا وسارقًا – مثلاً، إذ لا بد للسارق من أن يُبيِّت نية الإنكار.. أي الكذب! نقول صِدقية ذاتية وليس صِدقًا ذاتيًا، ذلك ليشمل المعنى القول والعمل! الصِدقية إذن هي تقديم الحقيقة على المصلحة في ميدان التعامل والتواصل البشري! وبهذا المعنى يكون من باب أَولى حِرص الإنسان على طلب الحقيقة في علاقته المفترضة بالإله، ويكون الشعور بالاطمئنان هنا تحصيل حاصل؛ فإذا كانت الحقيقة لا تكفل المصلحة بالضرورة، فإنها لا تتعارض مع العدالة حتمًا؛ وهذا هو مصدر الالتزام وسِر الاطمئنان، في حال الصِدقية الذاتية! إنه لا يمكننا بأي حال، إلا اعتماد المنطق في تقييم علاقة الحقيقة بالعدالة، بما يعني وجوب تحقق العدالة بإنصاف الصادقين؛ ذلك لأن البديل هو افتراض الظُلم، وفي أحسن الأحوال افتراض المزاجية والعشوائية والعبث، والمحصلة في الحالتين هي انعدام الرؤية وحتمية التخبط، وهذا بدوره يلغي كل الثوابت ويجعل كل الاحتمالات قائمة، ويُفضي بالضرورة إلى نتيجة مفادها أن أي اعتقاد وأي سلوك يمكن أن يؤدي إلى أي نتيجة! قال أحدهم: الكذب يهدم الحُب، والصِدق يمنع الحرب! مما لا شك فيه أن كل مَن يتمتع بالصِدقية الذاتية، لا يمكن أدلجته أو خِداعه وتحويله من إنسان طبيعي واقعي باحث عن الحقيقة، إلى إنسان أجوف متعصب – يدَّعي أو يتوهم امتلاك الحقيقة! وبذلك يمكننا إثبات أن افتقارهم للصِدقية الذاتية، هو ما يجعل المتطرفين يحرصون على إلحاق الضرر بغيرهم، ولا يحرصون على التحقق من مدى صواب معتقداتهم وفتاواهم، التي تحضهم على ازدراء وقتل الآخرين! إن من عوامل انتشار الوهم على حساب الحقيقة، هو عدم إدراك الكثيرين لحقيقة أن الصِدق قرين الشك، وأن الكذب قرين اليقين! فالحقيقة الوحيدة المؤكدة والمشتركة بين البشر في هذا الكون، هي أنه لا أحد يُدرك الحقيقة المطلقة! ومن ذلك، أن فقهاء المعتقدات والمذاهب لا يجرؤون على القَسَم والجزم بصحة إيمانهم وقبول أعمالهم ودخولهم الجَنة! إن ترسيخ حقيقة الشك، وفضح أكذوبة اليقين، كفيل باجتثاث الوهم، وتحرير وعي البُسطاء من سيطرة أفكار الحُذاق..، حيث إن مجرد عدم الجزم بحقيقة ونتائج الأمور، هو قوة كافية لتفعيل العقل، ودافع للبحث والتفكير والتثبت وطلب الحقيقة، وبالتالي رفع مستوى الوعي والتحلي بالمسئولية لدى أضعف البشر قدرة على التفكير! وهنا تجدر الإشارة إلى حقيقة أن كل الحروب الكبيرة والصراعات الصغيرة، جميعها لا يمكن أن تقوم وتستمر إلا إذا تمت تغذيتها بالكذب وادعاء اليقين- من كل الأطراف أو من أحدها-، وذلك لاجتناب التحقق وللتغطية على السبب الحقيقي، والذي عادة ما يكون مصلحة لفئة محدودة من البشر – مصلحة عاجلة أو آجلة -، وقد تكون المصلحة وهمًا ناجمًا عن كذبة تاريخية متوارثة؛ وفي كل الأحوال لا بد من اللجوء إلى الكذب وادعاء اليقين لاختلاق سبب مباشر لإيقاد الحروب والصراعات واستمرارها..، عودة إلى أصل الموضوع قالوا: اجتنب الكاذب كما تجتنب المجنون، فكلاهما ليس منطقيًا! الصِدقية في الأصل، صفة بشرية أساسية، وينبغي أن تكون ذاتية، إذ لا يمكن فرضها من الخارج! ولذلك فإن كل إنسان طبيعي لا بد له من أن يَفترض تلقائيًا وجود الصِدقية الذاتية لدى غيره، كشرط مُسبق لكل حوار وكل تعامل جاد بين البشر الطبيعيين، إذ لو افترض أحد الأطراف الكذب في الطرف الآخر، أو لو أن أحدهم أَقرَّ مسبقًا بأنه ليس صادقًا، فإن الطبيعي والمتوقع هو أن يتوقف الحوار الجاد أو التعامل قبل أن يبدأ، حيث لا جدوى ولا قيمة لأي أمر يخلو من الصِدق! ولعل من البديهي القول إن الصِدق قرين الجِد، فلا حاجة لصِدقٍ في هزل، ولا وجود لجِدٍّ دون صِدق..، ولذلك فإن النفاق يستوجب المزج بين الجِد والهزل! ترتبط الصِدقية الذاتية بالحقيقة ارتباطًا بُنيويًا وشرطيًا، فكل مَنْ يتصف بالصِدقية الذاتية، هو بالضرورة باحث عن الحقيقة دون أدنى اعتبار للنتائج، والعكس صحيح! كل المتصفين بالصِدقية الذاتية – عادةً، تتغير قناعاتهم ومساراتهم وسلوكياتهم في مستقبل حياتهم، ذلك لأنهم سيكتشفون أن ما قيل لهم في بداية حياتهم وشكَّل قناعاتهم وميولهم، لم يكن دقيقًا أو لم يكن صادقًا، وبذلك تسقط عندهم كل الثوابت المستوردة، وذلك بمجرد اكتشافهم أن الأهل وأولياء الأمر كانوا يوجهونهم أو يلهمونهم المبادئ والثوابت والمُسلَّمات، لدوافع تربوية لا يُشترط فيها الحقيقة والمصداقية، لكنها قُدِّمت لهم على أساس الحقيقة والمصداقية، واكتشاف ذلك هو بمثابة اكتشاف خديعة بالنسبة لذوي الصِدقية الذاتية! لماذا لا توجد عقوبة للكذب في أي تشريع – تقريبًا؟ لعل السبب في ذلك، هو أن وضع عقوبة للكذب في مجتمع ما، هو إقرار بوجود وانتشار والكذب في ذلك المجتمع، بينما الكذب يُفترض ألا يكون موجودًا في أي مجتمع إنساني؛ لأن وجوده ينفي القيمة الإنسانية الأخلاقية عن ذلك المجتمع! جدير بالذكر أن كل ما يلحق بالإنسان من ضرر، بواسطة إنسان آخر (سرقة، قتل، اغتصاب، ..الخ)، يمكن معالجته لدى المتضرر، أو معالجته بإلحاق ضرر يُعادله بالطرف الآخر..، إلا الكذب! ولذلك يدفع ذوي الصِدقية الذاتية ضريبة باهظة مقابل صِدقهم، حيث يقعون فرائس سهلة للكاذبين المخادعين الذين يستغلون صِدقيتهم دون رادع! لكن، وبالمقابل يكون انتقامهم وردة فعلهم عنيفة عندما يكتشفون الكذب، فهم يعتبرون الكذب جريمة تمس الشرف والكرامة – خاصة إذا تم ارتكابها باستغلال علاقة أو إذا أدى الكذب إلى الطعن في صِدقيتهم! معلوم أنه لا توجد عقيدة ولا ثقافة ولا تشريع ولا عُرف، يأمر أتباعه بالكذب، أو يمتدح الكذب، أو يحط من قيمة الصِدق! لذلك كان من الطبيعي أن يظهر أناسٌ يتصفون بالصِدقية الذاتية في مختلف الأعراق والثقافات، حيث تلتقي طِباعهم الفطرية وصِفاتهم الوراثية مع التربية الاجتماعية- التربية تنبذ الكذب وتحض على الصِدق في كل الأعراف والثقافات والمعتقدات! قال أحدهم: أدرَكتُ كل شيء فخَسِرتُ كل شيء! لعل صاحبنا بهذه الجملة وبهذا المعنى، قد اختزل واختصر مستقبل ومآل كل مَنْ يتصف بالصِدقية الذاتية، وذلك عندما يقع في طفولته ضحية للثقافات الشعبوية والمُسَلَّمات الخرافية والشعارات القومية، ويصطدم لاحقًا بأنه ربما كان الوحيد الذي صدَّق كل ما كان يُقال له، وأن جُله كان كذبًا! ذوو الصِدقية الذاتية، يعتقدون فطريًا، بأنه لا يمكن لإنسان طبيعي أن يكذب تحت ظروف اعتيادية؛ ولا يتصورون إمكانية وجود علاقات إنسانية وروابط اجتماعية يتخللها الكذب! لذلك هم يُصدِّقون كل ما يُقال لهم في بداية حياتهم، ولا يسعون للتحقق من صِدقيته؛ لكنهم مع الخبرة العملية يدركون عدم صِدقية ما قيل لهم، فيُصدمون به، ولا يُدركون له تفسيرًا، ويعتبرونه من شواذ القاعدة! فإذا تعددت حالات الكذب معهم وتراكمت صدماتهم، فهم لا يُغيرون مبادئهم حيال الكذب والصدق، لكن يُغيرون معاييرهم في التعامل مع البشر، وغالبًا ما تكون ردة فعلهم هي الانزواء واعتزال المجتمع! سؤال: لماذا هُم كذلك؟ جوابهم: لماذا غيرهم ليسوا كذلك؟ والواقع أنهم كذلك لأنهم طبيعيون! لكن لماذا غيرهم ليسوا كذلك، ربما لأنهم ليسوا طبيعيين، وربما لا جواب الآن! إن الطبيعي والمتعارف عليه والسائد، هو أن كل ولي أمر ينصح ويأمر بالصدق، ويُحذِّر من الكذب؛ حتى الأب الكاذب والأم الكاذبة ينصحون ويحثون ويأمرون أبناءهم بالصدق، ويُعاقبونهم على الكذب! وبذلك، يكون إصرار ذوي الصِدقية الذاتية، على الربط بين الصِدق والفطرة والطبيعة.. أمرًا مفهومًا ومبررًا! ويكون نفورهم من الكذب، وتجريمهم له، واعتبارهم له شيئًا دخيلاً على الطبيعة..، أمرًا مفهومًا ومبررًا كذلك! قد يبدو للبعض منا، بأن ذي الصِدقية الذاتية، هو إنسان مثالي خيالي طوباوي! لكن في الواقع، هم ليسوا كذلك، بل هم واقعيون عمليون علميون! إنهم يعتقدون بأن كل المعاملات التي تستوجب الكذب، لا بد أن تكون معاملات ثانوية يمكن الحياة بدونها، وأن المعاملات الأساسية الضرورية لحياة الإنسان لا بد أن تكون ممكنة دون الحاجة للكذب..، وإلا فإن كل المبادئ ينبغي إسقاطها، حيث لا قيمة ولا أساس لمبدأ يخلو من الصدق! ذوو الصِدقية الذاتية، لا يقولون بأنه يجب على الإنسان ألا يكذب، بل يعتقدون بأن الإنسان الطبيعي غير قادر على الكذب في الظروف الاعتيادية! والظروف غير الاعتيادية، القادرة على دفع الإنسان إلى الكذب (إغراءً أو إكراهًا)، هي تلك المستويات التي لا يكون الإنسان طبيعيًا عندما يقع تحت تأثيرها، وهي أقصى حالات الفزع أو أقصى حالات الإغراء! الفزع: من الموت أو من العذاب.. مثلاً! الإغراء: يكون ماديًا، ويكون جنسيًا! مثلاً: من المتوقع أن يكذب الإنسان، إذا كان سيجني من وراء الكذب ما يغير حياته من متسول إلى مليونير! ولذلك فإن الأمانة أمام مثل هذا الإغراء، تُعدُّ خرقًا للعادة، ويُعدُّ فاعلها رمزًا للأخلاق! إذن من المفهوم ألا يكون الإنسان طبيعيًا إذا وقع تحت تأثير مثل هذه الظروف فوق الاعتيادية، وبالتالي يُتوقع منه الكذب؛ لكن ما دون ذلك من ظروف، فهي ظروف اعتيادية، وهي بالضرورة أقل من أن تُخرج الإنسان عن حالته الطبيعية؛ والمتوقع دائمًا هو أن تصمد قوة الصِدقية الذاتية الطبيعية لدى كل إنسان طبيعي أمام الظروف الاعتيادية..، هكذا يُفكر ويعتقد المتصفون بالصِدقية الذاتية! هم يعتقدون بتبرير ممارسة الكذب في الظروف الاعتيادية في حالة واحدة فقط، وهي أن يتفق الجميع على ممارسة الكذب في معاملاتهم، فحينها لا يتضرر أحد من الكذب، حيث تغيب الثقة وتصبح الحياة هزلية خالية من الجِد، لا مكان فيها للخداع والنصب والاحتيال..، وهذا ما لا يُلبي حاجة الكاذبين..، فيرفضونه بذريعة حرصهم على فضيلة الصِدق! إن الواقع ليس كما يعتقد ذوو الصدقية الذاتية، ولذلك يبدأ مشوار مأساتهم بمجرد بلوغهم مرحلة الحياة العملية، واضطرارهم لممارستها ومعاملة الآخرين مباشرة- دون مساعدة ودون وسيط-، حيث تتراكم صدماتهم، بتلاشي الشعارات وظهور زيف الحقائق المزيفة، وتتحطم المعايير وتتساقط المبادئ أمام أعينهم، وبأيدي دُعاتها! يمكن وصف ذوي الصِدقية الذاتية بأنهم متطرفون في مواقفهم، لكن تطرفهم مبرر! ويمكن فهم وتبرير تطرفهم بسهولة، حيث إنهم يُصدِّقون بالسجية كل ما يُقال لهم؛ وهم بطبيعتهم يبحثون عن الحقيقة دون أدنى اعتبار للنتائج؛ وحيث إن كل ما يُلقَّن لهم في طفولتهم، يُلقَّن لهم على أساس أنها حقائق مُبرهنة ومؤكدة، ومن بينها أن الصِدق فضيلة، وأن الكذب رذيلة! ثم إنهم يصطدمون باندثار الصِدق تقريبًا، وانتشار الكذب بين الناس في كل المعاملات وعلى كل المستويات، عندها يتسرب إليهم الشك في كل شيء، وينزعون صفة الحقيقة عن كل شيء، ويبدأون في طرح التساؤلات حول كل شيء، فإذا مُنعوا من طرح بعض الأسئلة، حينها تتحول شكوكهم إلى حقائق معاكسة لكل ما قيل لهم! ومن هنا يبدأ بحثهم في كل شيء ومن الصفر، حيث يفقدون الثقة في كل مَنْ عداهم، ويبدأون مشوار البحث عن الحقيقة بأنفسهم ولأنفسهم، وبذلك يبدأ صدامهم مع الوجود والحقائق والآخرين ومع الكذب والكاذبين! ولعل هذا ما جعل صاحبنا يقول: أدرَكتُ كل شيء فخَسِرتُ كل شيء! ولعله ذات السبب الذي أوحى إلى فيلسوف آخر بالقول: إن الحقيقة هي كل ما لا يمكن دحضه، لا كل ما يمكن إثباته! جدير بالقول هنا، إن كل الفلاسفة والمفكرين الأحرار، هم بالضرورة يتمتعون بالصِدقية الذاتية!

الأربعاء، 28 سبتمبر 2022

الحياة موت بطيء والانتحار حياة سريعة!

3 تعليق


منطقيًا، لا مبرر لبُغض الموت، فكيف بتقبيح الانتحار! ما مبرر انتقاد الخروج المفتعل، والدخول قبله مفتعل؟ جل البشر يستقبحون الانتحار، لا لأنه موت، لكن لأنه موت مفتعل ..، موت يصنعه الإنسان وليس الطبيعة .. والحقيقة أن المنتحرين كذلك إنما يستقبحون الحياة ويستهينون بها لذات السبب، فقد تبيَّن لهم أن الحياة مفتعلة – يصنعها الإنسان وليس الطبيعة - وقد اتضح ذلك جليًا للكل في العصور الأخيرة، إذ أصبحت الحياة صناعة بشرية خَلقًا وممارسة، نشوءًا وتطورًا، ولم يعد للطبيعة ما يمثلها في حياة وكيان الإنسان ..، ولعله يكفي التذكير بأنه قد صار الإنسان اليوم هو من يقرر أجناس وأعداد البشر الجدد على الأرض، ومصائرهم! فكيف يكون الإنسان حرًا في صناعة حياة غيره، بينما لا يكون حرًا في صناعة موته هو، وهو الأمر الذي يمكن أن يصنعه حيوان أو حشرة أو غفلة .. الخ! إن البشر بحاجة لتوحيد معاييرهم بخصوص الحياة والموت وعلاقتهم بالطبيعة، لكي يكون رفضهم وقبولهم طبيعيًا ومنطقيا، وليكونوا هم ذاتهم طبيعيون! علاقة الإنسان التقليدية بفكرتي الحياة والموت، نابعة من علاقته المجهولة بالجزء الخفي من الطبيعة .. لكن الجزء الخفي من الطبيعة لم يعد خفيًا كما كان، بينما ظلت علاقة الإنسان بفكرتي الحياة والموت على حالها التقليدي، وهي مسألة وقت وستتغير كذلك 

 وظيفة رجل الأمن، هي الوظيفة الوحيدة المضمون بقاؤها حتى آخر الزمان .. تشريعات البشر موضوعة ضد فطرتهم، لذلك سيكونون بحاجة دائمة لرجال الأمن، وسيبقى رجال الأمن في حالة عمل متواصل إلى أن يفنى البشر أو تتغير تشريعاتهم .. تشريعات البشر يضعها ويقوم على رعايتها أناسٌ لا تُطبَّق عليهم، باعتبارهم هم من يُشرف على تنفيذها! فلسفة التشريعات تقوم على تقديس الحياة من جهة، وحرمان جُل البشر من أمور ضرورية للحياة من جهة أخرى، مما يضطر المحرومون إلى التمسك بالحياة من جهة، وتجاهل التشريعات وتجاوزها من جهة أخرى - تحت ضغط فطرتهم البشرية وحاجاتهم الحياتية، فيظهرون وكأنهم مذنبون ومجرمون، فيكتب عنهم الكاتب ويقرأ القارئ ويتحرك الشرطي ويتكلم عنهم السياسي ويدافع المحامي ويحكم القاضي .. الخ .. الكل في النهاية مشغول ويعتقد أن حياته مبررة .. وبذلك تدور عجلة الاقتصاد، وتبدو الحياة مبررة، وتستمر كما خطط لها واضعو التشريعات المستفيدون مرحليًا من استمرار الحياة على حساب الغافلين .. جل القوم واهمون، لكن المحرومين الممنوعين من الموت عقائديًا والممنوعين من الحياة واقعيًا، وحدهم من يدفع الثمن الباهظ بلا أدنى مبرر سوى الغفلة! 

لماذا نكتب عن الانتحار؟ ولماذا نبرره؟ لأننا عشنا بداية خديعة كبرى، أهدرت حياتنا بلا هدف، ونراها مستمرة، جعلت الوجود البشري مجرد مهزلة! عندما انتبهنا، وأحسسنا بشدة الألم وهول الفاجعة، رأينا أنه من واجبنا تنبيه غيرنا من أمثالنا، حتى لا يكونوا ضحايا لنهاية الخديعة كما كانوا ضحايا لبدايتها، ونحن لا نخاطب الواهمين والسطحيين! إنه وبعد مستوى معين من الوعي والإدراك، تصبح الكرامة جزءًا حقيقيًا من كيان الإنسان، وليس مجرد شعار أو قناعة عابرة يمكن تغييرها، .. أي أن كرامة الإنسان تصبح مقدمة على حياته! ولأن الوجود بلا غاية هو أمر لا منطقي ولا معنى له .. ولأن حياة جل البشر خالية من الكرامة .. لذلك لا نرى مبررًا لتجريم الانتحار، عندما يكون البديل هو حياة بلا كرامة، أو وجود بلا غاية! القول بأن الانتحار مُحرَّم إسلاميًا، هو قول مدحوض ، فليس الانتحار شِركًا، وكل ما دون الشِرك مغفور .. ولا ينتحر الإنسان إلا لأنه لم يعد يطيق الحياة، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها .. والكلام في هذا الشأن يطول وكله لصالح الانتحار .. والذين يُرعِبون الناس من فكرة الانتحار، ويدفعونهم لتحمل ألم وظلم وذل الحياة، هم الذين عليهم مراجعة أفكارهم ومعتقداتهم ..، إنا نراهم يقترفون إثمًا عظيمًا بأقوالهم وأفكارهم وفتاواهم ..؛ فكرامة الإنسان مقدمة على حياته في كل الأعراف والأديان والمعتقدات، ولا معنى ولا قيمة لحياة إنسان يمارسها مُكرَهًا دونما رغبة- يمارسها فقط اعتقادًا منه أنها مفروضة، وخوفًا مما بعدها ..؛ إن في ذلك تقوُّلٌ على الحقيقة كبير، فما حاجة الله بحياة إنسان هو يرفضها – بغض النظر عن السبب، والموت خبط عشواء، لا يخضع لمنطق، ولا يفرق بين مؤمن وغير مؤمن، ولا بين ظالم ومظلوم - من حيث عبثية أسبابه ووحشية وسائله ومآسي نتائجه أغلب الأحيان! - ليس صحيحًا نعت المنتحر بأنه هارب من مواجهة الحياة، فهو أساسًا لم يدخلها منافسًا ومتحديًا، بل هو إنسان كريم، لا يمكنه البقاء في مكان لا كرامة فيه، ولا شك أن قلب المنتحر خالٍ من الخوف من الموت، ذلك الرعب الذي يملأ قلوب الآخرين المتشبثين بالحياة! وليس صحيحًا القول بأن الوحدة هي سبب الانتحار، وبأن الوحدة بحد ذاتها مرض – مثل الاكتئاب! الوحدة والانطواء والحزن، عادة يكون سببها رفض الفرد للمجتمع بسبب الكذب والخداع والنفاق والعبثية والسطحية التي يتطلبها التواصل مع المجتمع! والرافضون لسلوك المجتمع، لا بد أن تكون لديهم خصوصية، ولا بد أن تكون لديهم بدائل كالكتابة، لتعويض التواصل مع الناس، كما أنه لا يمكن للإنسان أن ينقطع نهائيًا عن الناس، فلا بد أن يكون له تواصل بدرجة أو أخرى وبصورة أو أخرى .. فإذا كانت الوحدة سببًا للانتحار، فالسؤال ينبغي أن يكون عن سبب الوحدة، لا عن نتيجتها .. ما الذي يمكن أن يقدمه الطبيب النفسي للمكتئب؟ مجرد مهدئات ..، أي مخدرات لتخفيض الوعي، لكي تكتفي قوة الإدراك لدى المكتئب باجترار المعرفة المتوفرة لديه، فلا يتوق إلى آفاق معرفية أبعد! إن للانتحار مبرراته المنطقية المشروعة .. مبررات الانتحار ليست هي الفقر والظلم والألم ..، فالفقراء والمظلومون والمتألمون، ليسوا بحاجة لتبرير انتحارهم، بل هم بحاجة لتبرير حياتهم، وهم مجرمون مذنبون قطعًا ببقائهم أحياء أو أنهم غافلون! إن من أهم مبررات الانتحار هو انعدام مبرر الوجود! مثلاً .. إنسان يبني حياته على خديعة كبرى من الناحية العقائدية والاجتماعية والتاريخية والفلسفية .. الخ! ثم يستيقظ بعد فوات الأوان .. بعد أن يكون قد كبَّل نفسه بزواج وأبناء بسبب الخديعة، ولم يتبقَ له في الحياة سوى سنوات الحسرة والندم .. حينها حتى لو كان وجوده مبررًا، فإن استمرار حياته لا يكون ممكنًا! إن جل البشر مخدوعون، لكنهم أقل إدراكًا وشجاعة من أن يلتفتوا ليروا الخديعة، ولذلك هم ماضون في الحياة، حاملين على رؤوسهم مبررات الانتحار!

الخميس، 16 يونيو 2022

يحتاج الأمر إلى تبرير عندما لا يكون مُبرَّرًا!

0 تعليق

ليست الحياة هي التي تُبرر سلوك البشر، بل البشر هم الذين يفتعلون سلوكيات لتبرير الحياة!
 - محاربة الانتحار والإجهاض والموت الرحيم، أمثلة على رفض البشر لسلوك فطري لديهم، وفرض أجندات ثقافية اجتماعية عقائدية لتبرير الحياة! 
 - مفاهيم حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حقوق الطفل، جرائم ضد الإنسانية، .. الخ ..، كلها مجرد سلوكيات لفظية تقدس الحياة سعيًا لتبريرها! لا معنى للقول بوجود ظُلم أو جريمة ضحيتها إنسان وجلادها إنسان ومحاميها إنسان! لا معنى لتصنيف الإرهابي كإنسان، ثم إجازة قتله باسم الإنسانية أو دفاعًا عنها! يمكن أن يوجد ظلم أو جريمة ضحيتها خروف وجلادها ذئب ومحاميها كلب .. لكن لا يوجد ظلم أو جريمة ضحيتها فيل وجلادها فيل ومحاميها فيل .. 
 - الخلط المستمر بين الجد والهزل في سلوك البشر، هو أوضح تعبير تلقائي عن عدم شعورهم بأي مغزى لحياتهم وعدم قناعتهم بأي غاية مفترضة من وجودهم! - المسحورون بسراب المعتقدات لا يمكنهم النظر في عين الواقع، ذلك لأن الواقع مخالف لكل معتقد بالضرورة، فما المعتقدات سوى توهم لأحلام خيالية وتجاهل لمخاوف محدقة! 
 - احتكار أي شيء يمنحه قيمة، حتى لو كان غير ذي قيمة في الحقيقة! - احتكار أقلية من البشر لملذاتها الرغوية (من الرغوة)، مَنَحَ الحياة قيمة فوق حقيقية في نظر المستمتعين والمحرومين على حد سواء، مما جعل الحياة دافعًا للجشع ومصدرًا للوهم، وجعل الموت يبدو قبيحًا دونما دليل ولا مبرر! 
 - نزع القدسية الزائفة عنها يمنح الحياة قيمة مختلفة- قيمتها الحقيقية! - نزع القبح الزائف عنه، يجعل الموت بديلاً إراديًا جميلاً لحياة قبيحة! إذا كان مفهوم الإنسان حقيقة، أو إذا أُريد له أن يُصبح واقعًا، فينبغي الفصل بين الإنسان والبشر، أو بين الضحية وجلادها .. لكن لن يحصل الفصل، لأن الهدف من سلوكيات البشر ونظرياتهم ليس إظهار الحقيقة وإحقاق الحق، إنما الهدف دائمًا هو اختلاق مبررات وإيجاد وقود لاستمرار الحياة بصورتها المغلوطة لصالح الأقلية على حساب الأغلبية، ودائمًا الوسيلة هي خلط المفاهيم عن عمد، لأن إجابة كل الأسئلة تعني إجابة سؤال الحياة، وهذا يعني إفراغ الحياة من معناها التقليدي الزائف! إفراغ الحياة من معناها التقليدي لا يعني أنه سيتوجب على كل البشر الانتحار، بل يعني أنه لن يكون البشر مخدوعين بمعنى وقيمة عامة للحياة لا حقيقة ولا وجود لها في الواقع، إنما سيكون معنى الحياة وقيمتها هي ما تمثله حياة كل فرد لصاحبها بالفعل لا بالاعتقاد والتمني! - عندما تتوزع قيمتها بين البشر بالتساوي، لن تكون الحياة دافعًا لجشع الأقلية ومصدرًا لألم الأكثرية كما هي الآن! -عندما يصبح الانتحار سلوكًا بشريًا جماعيًا واقعيًا، بديلاً لحياة الذل والاستغلال والوهم والبؤس، حينها ستظهر ثقافة شراء الحياة البشرية مقابل الكرامة، وستتوزع قيمة الحياة بين البشر بالتساوي، وهذا هو أسمى وأنبل هدف يمكن أن يضحي لأجله البشر، إذ سيختلفون به عن غيرهم، ويغيرون مسار وصيرورة وجودهم، من وجود بشري إلى وجود إنساني – من وجود حيواني عاقل إلى وجود بشري كريم، فيؤسسون قاعدة وجودية تُبرر إنجاب أجيال قادمة، وتمنح القادمين سببًا منطقيًا للترحم على أجدادهم والتفاخر بهم بدل لعنهم المستحق الآن ..، - كثيرة هي المناسبات والعناوين التي يضحي لأجلها البشر بأرواحهم الآن وليس بينها ما يستحق التضحية، ولعل هذا الهدف وحده الذي يستحق التضحية ويستحق أن يكون مبررًا لوجودهم! إن المساواة الحقيقية قائمة بين الحياة والموت، وليس بين حياة المنعمين وحياة البائسين .. الحياة والموت هما رمزا الوجود البشري – باعتبار أو بافتراض أن الكائن البشري هو الوحيد المدرك للموت والحامل للشعور بالذل والكرامة في الحياة .. - إذا لم تتحقق المساواة بين البشر عمليًا فلا قيمة ولا معنى للتفريق نظريًا بينهم وبين غيرهم من الكائنات! - المساواة بين البشر لا تتحقق بتكافؤ الفرص، لأن القدرات والمهارات العقلية والبدنية ليست متساوية لدى كل البشر .. - المساواة العملية بين البشر تتحقق بالمساواة ثقافيًا بين مفهوم الحياة الكريمة والموت، وتفضيل الموت على الحياة الذليلة .. - لا هدف أجمل وأثمن وأنبل من فعل ينقذ صاحبه من حياة الذل والألم، ويضع اسمه على قائمة المؤسسين لمبدأ المساواة الحقيقية بين البشر، ومبدأ التفريق العملي الواقعي بين الإنسان والحيوان! 

 مفهوم الحكمة .. - ليست الحكمة هي الانتصار للحق، وليس الهدف من الحكمة هو إظهار الحقيقة .. - الحكمة هي الخضوع للواقع، والهدف منها هو المحافظة على الحياة وحسب .. - الحِكمة باختصار هي إتقان وممارسة الخداع والنفاق والتغابي والهروب، كبديل للمواجهة المباشرة للواقع والحقيقة! - الحياة تقوم على الخطأ واللا منطق، وانعدامهما يعني انعدامها! - عند البحث في أي مسألة تتعلق بالحياة على الأرض، فإن الهدف من البحث لا يتعدى محاولة لمعرفة نوع وحجم الخطأ ومصدره في تلك المسألة، وليس بحثًا عن المنطق أو الصواب .. - غافل من أنفق حياته في تعريف البشر بالمنطق والصواب .. - واهم من ظن أن المتخاصمين يجهلون الحل المنطقي لخلافهم! 

- لطالما كان الكلام سببًا للخلاف بين متفاهمين! - كثيرًا ما كان الصمت سبيلاً للتفاهم بين مختلفين! - جُل مناسبات البشر عبارة عن أحداث مفتعلة لممارسة الكلام! - أن نصمت بذات الفهم أهم وأفيد من أن نتكلم بذات اللغة! - عند التواصل الصامت يتم التركيز على الفهم كهدف فيحصل التفاهم، بينما عند التواصل الناطق يتم التركيز عادة على عدم التفاهم حَذَرًا أو سوء ظن، فلا يحصل الفهم! - التفاهم لا يعني تطابق الفهم، فتطابق الفهم لا يكون إلا بين المرء ونسخة منه .. هذه حقيقة يجهلها جلنا! - التفاهم يعني فقط تبادل الشعور بالأمان! - الاعتقاد بأن تطابق الأفهام ممكن، وأن سبيله الكلام، هو اعتقاد خاطئ جعل الصمت أقدر على تحقيق التفاهم من الكلام! - يمكن اعتبار القدرة على الكلام، مصيبة ابتلي بها البشر أكثر منها ميزة، فأدمغة البشر لا تستعمل ذات المعايير ولا ذات المراجع لتحليل الكلام المسموع، ناهيك عن غياب الثقة، وبذلك كثيرًا ما كان الكلام سببًا في نشوب خلافات من غير سبب، ووقودًا لتأجيج خلافات كانت محدودة! - تجاهل وجودك واترك جسدك للحياة تستهلكه بطريقتها، وستشعر بالوهم المُسمَّى سعادة! - أقصر طريق لرفض الحياة هو الجدية في طلب الحقيقة!

الثلاثاء، 31 مايو 2022

تشريع الزيف وتمرير الخُرافة لتبرير الهَوَس بالخلافة

0 تعليق



من البديهي القول: إن تغطية الحقيقة لا تجعل من الزيف حقيقة، وغيابها لا يُكسبه صفاتها..، تمامًا كما أن العجز عن تحديد السبيل الصحيح، لا يُبرر السير في السبيل الخاطئ! نظريًا، ممارسة الزيف فعل مُجرَّم، وحصول الوهم نتيجة مذمومة – وفق مبادئ ومعايير الأعراف البشرية! لكن في الواقع، يجري تبرير الزيف وافتعال التَوَهُّم في جُلِّ مناحي الحياة البشرية، وعلى أوسع نطاق وبعلم ومباركة الجميع – تقريباً! 

للزيف وجوه اجتماعية، منها.. من المفارقات أن يكون الإنسان هو الكائن الوحيد أو هو أشد الكائنات نبذاً للزيف وادعاءً لحب الحقيقة والبحث عنها، وفي ذات الوقت يتفرد بممارسة الزيف وقبوله، بل ويضع له التشريعات..، ابتداءً من تفرّده بارتداء الملابس التي تحولت وظيفتها من ستر العورة إلى إخفاء الحقيقة..، وكأن حقيقة الإنسان عورة! حيث أصبح اللباس ميداناً ووسيلةً للتنافس على الظهور بصورة مهيبة أو مُخيفة أو مغرية أو بريئة…الخ، وذلك حسب الغاية لا حسب الحاجة! فالصورة التي ترسمها الملابس لمرتديها في مخيلة الناظرين لا تعكس حقيقته، ولم تقف عند وظيفتها الأساسية المتمثلة في إخفاء عورته، بل تجاوزتها لتعكس رغبته في إبراز عيوب الآخرين – الأقل منه مقدرة مادية – على إخفاء عيوبهم! بالنتيجة، كل البشر يحرصون على الظهور بصورة مُزيَّفة – تم تشريعها في عرف البشر، وهو الزيف الذي لا يُمارسه غير البشر، وهم الذين ينبذون الزيف ليلاً نهارا! ليس بين البشر- مثلاً- من لا يتجمّل، ليُخفي صورته الحقيقية، ويظهر بصورة مُزيَّفة يوم زفافه..، ويتقبل منه الطرف الآخر ذلك، ويُبرر له المجتمع تزييفه للحقيقة! وما ذلك إلا زيف متبادل، لإظهار شعورٍ كاذب بسعادة مفتعلة في مناسبات وهمية.. تعكس خَواءً قيميّا لدى البشر، مُرعِباً للعارفين والصادقين! ومع امتداد الطريق تنتهي صلاحية رخصة التزييف، ليجد الأصدقاء والجيران والزملاء والأزواج أنفسهم مضطرين إلى إظهار معظم حقائقهم ومواجهة حقائق الآخرين – شكلاً ومضموناً –، مما يؤدي إلى ظهور الخلافات وتبادل الاتهامات بالتزييف والخداع، لتنتهي العلاقات بالفراق أو الاستمرار القسري الناجم عن الحاجة وقلة الحيلة! 

 للزيف وجوه سياسية، منها .. قلَّما وُجِد رئيس أو زعيم مفكر، يمتلك مَلَكَة أو آلية إنتاج الأفكار الخلَّاقة، لكي يستحق أن تُنسب له إنجازاته، فجُل الرؤساء لا يُمثلون الصورة المرسومة لهم في مخيلة شعوبهم وخصومهم – على حدٍّ سواء! بل إن كل ما يُبهِر البُسطاء ويُخيف الأعداء مما يشاهدونه ويسمعونه من مواقف الرؤساء، مما يُنسب زيفاً إلى أشخاصهم..، هي في الحقيقة مَشَاهد مختلقة لتزيين صورهم وإعطائهم خصوصية وغموضاً بما يؤهلهم لبقائهم حيث هم! أما ما يُرى على أرض الواقع فهي نتائج لأفكار وأذواق خليطٍ من البشر – أعدادٍ كبيرة من المستشارين وأجهزة الأمن والاستخبارات! ولا يليق بنا أن ننسى دور الخياط والمزيِّن- الحلاق-، والإعلاميين والأطباء، وسواهم ممن يسهرون على إظهار الرؤساء بما يُبهر البُسطاء! 

 للزيف وجوه عقائدية، منها.. رجال الدين – الفقهاء أو علماء الغيب–، يُحذرون الناس من استعمال العقل في شئون الدين، ويمنعونهم من محاولة فهم رسالتهم في الحياة أو إخضاع مسألة وجودهم للعقل والمنطق البشري..، ويُبررون ذلك بحُجّة أن نتيجة استعمال العقل في أمور الدين، تؤدي بالضرورة إلى الكفر بالدين، ولا تأتي بالبديل! وبالمقابل يأمرونهم بأفعال وأقوال، وينهونهم عن أخرى، … ولا يكفلون لهم النتيجة، ولا يأتونهم ببرهان! بمعنى أن الإيمان والالتزام بفتاوى الفقهاء، تكتسب مشروعيتها من غياب البديل، وليس من برهان وحُجّة ودليل! فإذا ظهر وثبت الخطأ في أحكام الدين، بواسطة العقل والعلم..، ظهر السؤال عن البديل..، وكأنها عقائد مؤقتة لحين ظهور البديل! وكأن العجز عن تحديد الطريق الصحيح، يُبرر للعاقل السير في الطريق الخاطئ! أما إذا ظهر الخلل في نتائج تطبيق أحكام الدين- المستنبطة بواسطة الفقه، فإنه من السهل تبرير تلك الأخطاء، وذلك بتفسيرها بما لا يقبله العقل، باعتبار أن استنباط الأحكام وتفسير المبهم في الشرائع والأديان لا يخضع أساسا للعقل ولا للمعايير المفهومة! إن اختلاف المجتمع البشري عن غيره من المجتمعات، واتصافه بالعقل، لا يُحسب لصالحه بالضرورة! فوصفه بالمجتمع الأخلاقي أو الديني أو القانوني، لا ينفي تفرده بجملة من المَشَاهد اللا أخلاقية المُخزية والمصاحبة لوجود العقل، والتي ينعدم وجودها في المجتمعات غير العاقلة! ولعل التفوق في صناعة وممارسة الزيف والكذب، والقابلية اللا محدودة للجهل والوهم، هي من أبرز الأخلاق والصفات المناقضة للعقل، والتي تتربع على عرش الحياة والعلاقات في المجتمع البشري .. أفراداً وجماعات! ولسنا بحاجة للشرح، إذ تكفي الإشارة إلى مركزية رذيلة الكذب، باعتبارها القاسم المشترك بين كل الخصال البشرية الخسيسة، وهي الأساس في كل مأساة إنسانية وخلف كل جريمة بشرية! ولو أردنا أن نكون أكثر مصارحة لأنفسنا، وواقعية وعقلانية، لأمكننا أن نكشف عن الزيف والكذب في جوهر علاقة الإنسان الفرد بالحياة ورؤيته للوجود..، حيث نلاحظ أن الإنسان يشغل فكره وبصره- متعمداً- ببريق العاطفة الكاذب، ويُغلق مسامعه أمام صوت العقل الصادق؛ .. وهو لا يجهل ولا يُخفي سلوكه المنافي للعقل، وإنما يُبرره بأنه إنما يتجاهل الحقيقة، ليتمكّن من الاستمرار في الحياة؛ وليس من تفسير لذلك سوى أن النفس البشرية العاقلة تُبرر الوهم وتعشق الزيف، فتوهم ذاتها بأن للعدم جوهر ووجود وقيمة تستحق منا أن نحيا لأجلها، .. فتستمر النفس في سعيها وبناء علاقاتها دون أن تنتظر هدفاً من وجودها! ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه بإمكان العقل البشري، أن يسحب كل المجرمين بخيط مشترك واحد، هو خيط الكذب؛ كما يمكنه توحيد كل العقوبات في عقوبة واحدة؛ .. إذ لو اقتصرت معاقبة العاقل على جريمة الكذب، لكانت عقوبة شاملة لكل الجرائم؛ ولو ارتدع الكاذبون لاندثر الآثمون والمجرمون! فالكذب هو عباءة البراءة الخادعة التي يختفي خلفها المجرم والإرهابي والمنافق والخائن والسارق والقاتل والمتملّق والعابث وكل الآثمين..، إذ لا أحد من هؤلاء المجرمين يُظهر حقيقته قبل ارتكاب جريمته! فالكذب.. هو مذهب العقلاء، وهو صِفةٌ من صفات الأحياء، وهو المذهب الوحيد الذي لا يُدافع عنه معتنقوه؛ فحتى وأنت تعلم بوجود الكاذبين من حولك، فإن لك أن تصرخ بكل حرية وعلى الملأ وبملء فيك.. سُحقاً وتبّاً للكذب والكاذبين..؛ دون أن تخشى همجية الإرهابيين، أو ملاحقة المتحضّرين، حتى لو كُنت تُخاطب أكذب الكاذبين..، ولعل هذا التناقض هو الداء المزمن المكين، والذي ينفي كل أساس لوجود الأخلاق الإنسانية التي يتغنى بها المجتمع البشري! 

 أكذوبة الدهر الخُرافية.. إن أبشع نماذج التزييف والكذب، هي تلك الأنماط ذات الطابع البشري العام، وذات الصبغة الثقافية المؤدلجة التي تتوارثها الأجيال عبر العصور، فتبتعد صورتها عن جذورها، وتكتسب طابع البداهة زوراً؛ والممزوجة عادةً بتهديدات أسطورية وإغراءات خرافية، والتي تؤدي إلى إرباك وتعطيل عقول الضعفاء والبُسطاء والمغفلين، وتُفضي إلى خضوعهم واستسلامهم الكامل وغير المشروط وغير المبرر بين أيدي الكاذبين! ومن أمثلة ذلك، الأكذوبة الأزلية، التي تقول بأن كل عاقلٍ هو بالضرورة حاملٌ لمسئوليةٍ يجهلها، وأنه مُكلفٌ بأمورٍ تفوق إدراك عقله، وأنه محاسبٌ عليها بدقة متناهية كما لو أنه قرأ بنودها وتعهّد بحملها سلفاً – متطوعاً متحدياً..، فهذه الأكذوبة الخرافية، هي على درجة من الخبث، حتى أنها لا تُضاهَى من حيث أثرها السلبي في تاريخ الوجود والعلاقات البشرية، ولا ريب أنها سببٌ أساسي ومباشر في جُل أو كل ما عاشه ويعيشه البشر من صراعات وصدامات مؤلمة مدمرة وغير مبررة! وذلك لأن هذه الأكذوبة، قد انطلت على الملايين من البُسطاء والمغفلين، فعطّلت عقولهم وجعلتهم ألعوبة بين أيدي الكاذبين والواهمين الذين أوهموهم بمقدرتهم على استنطاق الغيب المحجوب، وإخبار العاقل بما ينبغي تركه وما يجب فعله من سلوك وممارسات وطقوس! والمفارقة تكمن في أن المجاهرة بمثل هذه الأحجية المكذوبة رديئة الفبركة، كان ينبغي أن تؤدي بالضرورة إلى إسقاطها، أو إلى فك ارتباط التكليف والحساب بالعقل! ولكنها بدلاً من ذلك، كشفت عن مدى سطحية الفكر البشري في جُلِّه، وقابليته للوهم والجهل! فهذه الأحجية يمكن دحضها ببساطة شديدة، حيث إن القصور أو العجز الطبيعي عن إدراك الرسالة ينفي المسئولية عنها حتماً! وارتباط التكليف والمسئولية بالحياة، دون قدرة للعقل على فهمها، يجعل من كل المخلوقات الحية مسئولة، وينفي تفرّد الإنسان بها! إن الذي يقول بهذه الأكذوبة ويدعو لها، هو ليس جاهلاً ولا واهماً، بل هو كاذب يتعمد الكذب، ويهدف إلى اصطياد السُذَّج، لبناء مملكة من التُبَّع المرعوبين السامعين الصامتين المسحورين الطائعين! فهو يعلم تماماً أن ما يقوله لا يمكن أن يكون صحيحاً إلا بمقاييس السَذَاجة والقصور الفكري لدى المعاقين عقلياً والمرتجفة قلوبهم. ولذلك فهو لا يقبل التساؤل حول نظريته، وتكون إجابته للمتسائلين عادة، هي التهديد بغضب غيبي، والوعيد بأصناف من عذابات بمقاييس فلكية، يدّعي هو أنه مُطلع عليها - دون برهان! .. وبذلك فهو كاذبٌ وليس واهماً! لكن الواهم والجاهل هو الطرف الآخر الذي يُصدّق مثل هذه الأكذوبة المفضوحة – أمام أقل العقول خبرة وإطلاعًا! إذ كيف يكون العاقل مكلفاً ومسئولاً ومحاسباً – بسبب العقل – عن أمورٍ لا علاقة لها بالعقل، أو لا يمكن أن يُدركها العقل، ولا ينبغي البحث والتفكير فيها بالعقل! والأدهى من ذلك، أن يُقال ويُصدَّق، بأن تلك التكاليف والمسئوليات التي سيُحاسب عليها كل عاقل، هي من حيث إدراكها تقع في متناول قلة قليلة من العقلاء دون غيرهم، وأنه على البقية إتّباعهم دون استعمال العقل، ودون طلب الدليل والبرهان! إذ لو كان الأمر كذلك، لكان التكليف والمسئولية والمحاسبة مقتصرة على أولئك القلائل القادرين على فَهْمِ واستنطاق الغيب واستنباط الأحكام! ولكان نصيب التابعين القاصرين عن الفهم، هو التكليف وحده دون المسئولية! ولكن الأمر ليس كذلك، فالزيف ظاهر للعيان، فأنت تابع لغيرك- ليس لك حق الاستقلال عنه، وأنت في ذات الوقت مسئول عن كل خطأ تقع فيه بسبب إتّباعك له..، وفي نشر وتصديق مثل هذه المهزلة البشرية، يتجلى الكذب والزيف والوهم والجهل في أوضح صورها! 

 الخوف والطمع.. منافذ لدخول الزيف! الخوف والطمع المرتبطان بالزمان والمكان والموضوع المحدد، يمكن اعتبارهما من الصفات المشتركة بين كل الكائنات الحية، بصورة أو بأخرى! أما الخوف والطمع المرتبطان بالمجهول والغيب، وبما بعد الموت، فهما من صفات العقلاء دون غيرهم، كما هو شأن الكذب والجهل! ولَمَّا كان الكذب هو سلاح المرتزقة والعابثين بالأخلاق والمبادئ، فقد كان الخوف والطمع هما نقاط ضعف البُسطاء والغافلين في الجانب الآخر! فالذين يُخاطبون العقلاء- باعتبارهم مكلفين ومحاسبين بسبب العقل -، ثم يُطالبونهم بتعطيل العقل، ويوحون لهم بأنهم مكلفون بما يفوق إدراك عقولهم..، فهم في الحقيقة إنما يستعملون خاصية الكذب لديهم، لتفعيل خاصيتي الخوف والطمع لدى المخاطَبين! وهم يُراهنون على أن تفعيل وتنشيط خاصيتي الخوف والطمع قبل غيرهما، كفيل بتعطيل بقية خواص العقل..، وقد نجحوا في رهانهم مع جُل البشر! 

كائن أخلاقي مفترس! إذا كان الافتراس سلوكاً بشعاً، وإذا كان كل كائن حي، ينتزع الحياة من كائن حي آخر، ليقتات على جسده، من أجل أن يعيش هو، يُعدُّ كائناً همجياً مفترساً! فإن هذا ما تفعله كل الكائنات الحية – بمستوى أو بآخر – والإنسان في مقدمتها؛ وبذلك تكون كل الكائنات الحية على الأرض، همجية ومفترسة؛ ويكون الإنسان هو ذلك الصنف الذي تجتمع فيه كل صفات الكائنات الحية على الأرض ..، الذكي منها والمُفسِد والوضيع والمتوسط والمفترس الصريح! فالإنسان يقتل غيره من الحيوانات ويأكلها، من أجل أن يحيا هو.. كما تفعل الحيوانات المفترسة؛ وكذلك فهو يُفسد في البر والبحر والهواء، من أجل رفاهيته وإشباع غروره واكتشاف ما أخفته الطبيعة عن مخلوقاتها، وذلك ما تفعله الديدان والحشرات والميكروبات وغيرها! ولكن تبقى صفات الكذب والخوف والطمع، خاصة بالإنسان العاقل، لا ينازعه فيها صنف آخر من الكائنات الحية على سطح الأرض! إذن، لا خصوصية للإنسان تُميّزه عن الحشرات والحيوانات، سوى العقل! والعقل ليس بمقدوره نفي وجود الموجود، ولا إثبات وجود ما لا وجود له؛ فالعقل ليس سحراً، كما أنه لا يتواصل إلا مع عقلٍ مثله! وبذلك فإنه لا بديل للعاقل عن العقل، ولا مُبرر مُطلقاً للتشكيك بصواب وتفرّد مرجعية العقل، ولا حُجّة لمن يرفض استعمال العقل كمُرشِّح ومختبر بشري مشترك ومعتمد النتائج في كل ما يخص الإنسان، من قبول أو رفض للأفكار والآراء.. بما في ذلك نظريات الأديان! رجال الأديان يرفضون مسئولية أديانهم عن تخلّف مجتمعات أتباعهم- حضارياً وعلمياً وإدارياً وقضائياً وسياسياً …-، بل هم يرون في الواقع المتخلّف للمؤمنين ..، تقدماً وتحضّراً ينبغي الاقتداء به ونشره! في حين أن الإنسان العاقل الطبيعي الحر، لا يجد سبباً ولا نتيجة لحكم الإنسان للإنسان باسم الدين، سوى المحافظة على درجة من الجهل والغفلة والبساطة والسطحية والسذاجة لدى المحكومين، بما يُحقق السيطرة على مجاميع كبيرة من البشر دون مُبرر ودون معارضة! إن العقل البشري عاجز حتى هذه اللحظة، وربما سيظل عاجزاً عن إدراك حقيقة مُبرهَنة، تُفسّر الوجود وما قبله وما بعده، هكذا يُجمع البشر! فهل الإيمان والتصديق، بأن إنساناً اتصل بالغيب دون شاهد، والذي هو أمرٌ دخيل على معارف الإنسان، وخارج عن ثوابته، والذي يرفضه جوهر الإنسان، ولا يقبله إلا تحت التهديد والإغراء، والذي هو عبارة عن تصديق إنسان لإنسان، وهروب من مواجهة العدم.. - هل الإيمان الذي هو بهذه الصورة، والذي لا يمكن أن نراه بغيرها..، هل هو البديل المناسب عن العقل، وهل هو الجواب النهائي الذي يُبرر لِجُل البشر الاكتفاء به والخضوع لمضاعفاته القاتلة، والتوقف عن البحث، والتظاهر بقناعات والتمسّك بمعتقدات لا تصمد أمام سؤال العقل؛ .. الأمر الذي جعل رسالة جُل المؤمنين مُختزلة في حماية معتقداتهم من مواجهة العقل، بدل إثباتها بواسطته! إن رجال الدين في ذلك إنما يُحاكون عموم البشر، الذين يرفضون اعتبار الإنسان حيواناً كسائر الحيوانات، متجاهلين واقع معظم البشر الذين يفوقون معظم الحيوانات من حيث السلوك الحيواني البهيمي والهمجي الفوضوي والعدواني الخالي من أدنى مظاهر المسئولية الذاتية والذوق والمنطق والعقل والأخلاق والوفاء؛ ويتساوون مع معظم الحيوانات من حيث القيمة الوجودية الموضوعية! حيث لا فرق بين الخِراف التي يتم ذبحها بأمر مالكها في مناسباته، وبين البشر الذين يُساقون إلى القتل والقتال بأمر زعيمهم في معاركه! فالاختلاف الظاهر بين البشر والخِراف هنا، سببه فقط أن ما يصلح له الخروف لا يصلح له الحارس الشخصي والعبد والعامل والمُجنّد البشري! ولا شك أنه لو كانت لحوم البشر تؤكل لدى البشر، لرأينا قطعاناً من الشعوب تُذبّح في مناسبات رؤسائها؛ ولكن، ولكي لا يكتمل المشهد ويتضح للجميع- كما هي صورة الطبيعة الناقصة في كل مشاهدها– فإن الحيوانات لا تأكل لحوم أجناسها، والإنسان أحدها، ولم يشذ عن هذه القاعدة..؛ وإلا فإنه بالنسبة للسيد، لا فرق بين العبيد والخراف، إلا من حيث المهمة التي يصلح لها هذا الصنف من المخلوقات ولا يصلح لها سواه! إن العقل هو العنصر الأساسي في تكوين وتحديد وإثبات كينونة الإنسان بتميّزه وخصوصياته؛ حتى أن وجود العقل بات العقبة الكأداء أمام تقدّم وانتشار نظرية النشوء والارتقاء – التطور، واكتسب العقل صورة الورقة الرابحة التي ترفعها نظرية الخلق! ومع ذلك يتمسك أنصار نظرية الخلق، بأحجيتهم القائلة، بأنه لا إيمان بدون عقل، ولا عقل مع الإيمان! 

العيش بين الفروع يَخلقُ منها أصولاً كاذبة.. الإنسان لا يمكنه رؤية الأحداث والأشياء من حوله، وتقييمها والخروج بصورة متكاملة عنها، إلا بوقوفه مسافة كافية منها، والنظر لها من خارجها..، وذلك لا يكون إلا بواسطة الاختلاء بالنفس وممارسة حياة الوحدة، والاقتصار على الحد الأدنى من التواصل مع الآخرين! إن من ألدَّ أعداء الحيادية والإنصاف، وأشدَّ الأمراض الفكرية فتكا بالعقول وتمييعاً للحقيقة وتشتيتاً للفكر واختلاقاً للعداوات والأعداء، وتوهماً بوجود الأصدقاء ووجود الأمان والطمأنينة بينهم..، هو التواصل المستمر مع الناس لغرض التواصل، والخوض في جزئيات ويوميات الحياة – ذات العناوين الخادعة والشعارات الخاوية..، ذلك التواصل الخالي من كل معنى،والذي يُعطي صفة المصيرية لأحداث يومية عابرة، ونتائج ثانوية، وأمور زائفة تافهة. إن العيش المستمر بين جزئيات الأمور وفروعها، والنظر لها عن قرب شديد، وتقييمها من داخلها، يُكسبها أحجاماً كاذبة وقيماً لا تحملها! إن التواصل الاجتماعي لغرض التواصل وأداء الواجبات الجوفاء، يحول دون رؤية الأمور المصيرية، ويجعل من هوامش صفحات الحياة وملحقات كتاب الوجود ..، يجعل منها متوناً بديلة تشغل الفكر عن المتون الحقيقية! 

لا بقاء لحقيقةٍ بعد اكتشافها! لا يمكن أن تجتمع الحقيقة الكاملة مع مكتشفها في الزمان والمكان! فالحقيقة إما أن تلتهم مكتشفها لحظة اكتشافها، أو أنها تفقد وجودها بمجرد العثور عليها! الكل يُقر بأن الموت هو لحظة تتجلى فيها حقيقة مطلقة، ولكن لا أحد من الموجودين يمكنه أن يستعمل هذه الحقيقة التي يُقرُّ بوجودها، لأن استعمالها يستوجب الالتقاء بها واستمرار الوجود بعد الالتقاء.. وهذا ما لا يمكن حصوله! الموجودون دائماً هم الباحثون عن الحقيقة، ولا وجود لمكتشفي الحقيقة؛ فالذين أدركوا حقيقة الموت كانوا قد فارقوا عالم الإدراك لحظة إدراكها..، ليبقى الوجود فقط للحقيقة وحدها أو للباحثين عنها، وليس للاثنين معاً! الآنسة الجميلة الفاتنة، التي تُخفي هي مفاتنها، بينما تفضحها مواضع الجمال التي لا تستطيع إخفاءها ..، هي تظهر في صورة الكاذب الذي يتظاهر بامتلاك الحقيقة وإخفائها؛ وهي تبدو على هيئة المنافق عند تظاهره بالإيمان..، فتثير فضول الباحثين عن الحقيقة، بغض النظر أكان الكذب والنفاق هنا طوعيين مُعبرين عن قناعة وهادفين إلى غاية معينة، أو كانا رضوخاً لأعراف مجتمع..، فالنتيجة واحدة في حسابات الآخرين وأثرها عليهم! فالفاتنة هنا، تُبقِي على جزءٍ من حقيقة جمالها محجوباً، ليستمد منه الجزء الظاهر طاقة البقاء؛ فالجزء الظاهر قد تمّ اكتشافه وفقد جاذبيته، ولم يعد يُمثّل حقيقة تستهوي الباحثين..، حيث إنه أصبح جزءاً من حقيقة اجتمعت مع مكتشفها في الزمان والمكان، ففقدت وجودها بفقدانها لروح الحقيقة الباقية التي لا يمكن أن تلتقي بالباحثين عنها! 

 كأنما الزيف جوهر وقيمة في وجود الإنسان .. إن الإنسان، ذلك الكائن الذي يدّعي التفرد بالوعي وامتلاك الحكمة فوق الأرض، هو في الواقع الكائن الوحيد الذي يكذب متعمداً، لكي يجعل لحياته معنى، فيضع عناوين مزورة لتِيهِهِ، ويُخفي تفاهة قيمته..، وذلك ببحثه الظاهري عن حقيقة مفقودة ليس لها أثر، أو حقيقة غائبة مفترضة لم يكن لها وجود في حياته في يوم من الأيام! إنه يسعى بوعيه المفترض وكذبه المعلوم، ويقترب من خلق عالم من الزيف الودود، بديلاً لعالم الحقيقة – المجهول واقعاً والمفزع افتراضاً! إن الإنسان يُمعن في الكذب ويتفنن ويُتقن صناعة الوهم ويُعدد مجالاته، كأنه يرمي إلى إلحاق الهزيمة بالحقيقة التي عجز عن إدراكها أو عن مواجهتها! فيسعى الإنسان مبكراً للحصول على شهادة بشرية، تُثبت أنه يمتلك قسطاً من المعرفة، يؤهله لنيل رضا بعض البشر عنه، متوهماً أن شهادته تلك هي مفتاح السعادة! ثم يبحث عن وظيفة، يُسلّم بمقتضاها مفاتيح حريته علناً لرب العمل! وتكون الوظيفة عادة على حساب إنسان آخر؛ ثم يزعم المستفيد من الوظيفة، شعوره بالحزن والشفقة والأسى لحال ذلك التعيس الذي حرمه هو من تلك الوظيفة! ثم يبدأ بالتخطيط للتضييق على نفسه وحرمانها من بعض مستحقاتها الطبيعية، وتحطيم ما يعترض تخطيطه من مبادئ أخلاقية – طالما آمن بها ودعا لها -، سعياً لتوفير ما يمكن توفيره من المال، بهدف اقتناء المنزل والأثاث والمركوب، ثم الزواج والإنجاب ..، ليبدأ رحلة الألم المُخطط له، .. ولينتهي إلى لا شيء، وهي النتيجة التي يعلمها مسبقاً، والتي كان يمكنه بلوغها دون جهد! فالحقيقة التي يتعامى عنها الإنسان ويتجاهل ذكرها، هي أن كل ما يفعله وما يقتنيه، لا تعدو أن تكون أوهاماً وأشياءً مُزيفة، يسعى لتجميعها ووضعها بجانبه في كفة الميزان، لعله يكتسب قيمة ووزناً في نظر الآخرين، وليشغل بها نفسه عن رؤية حقيقة يعلمها، وكأنه يهدف لإثبات أن للعـدم وجود ووزن وقيمة! 

 ابتداع مبررات وتجاهل المبررات.. لو اقتصرت العقوبة بتهمة الزنا، على حالات الاغتصاب، ولأجل حماية القُصّر..، لفُهمت الغاية وقُبلت الرواية! أما استخدام تهمة الزنا لمعاقبة من يُمارس الجنس في غير هاتين الساحتين، فلا معنى له، والصحيح هي معاقبته على جريمة الكذب..، بسبب البراءة الكاذبة التي يتظاهر بها! فالمأساة الحقيقية للمتهم بالزنا ليست في العقوبة..، إنها في زيف التهمة وحقيقة العقاب! وما يُسمّى بالزواج الشرعي أو المُقدّس، هو في الحقيقة أحد أوضح مظاهر الزيف المُرخّص والمُعلن.. من حيث هوإيذان بممارسة العملية الجنسية، بشهادة أطراف خارجية، ليسوا أطرافاً في تلك العملية! إن ما يكفله العقل والمنطق والأخلاق للإنسان، هو الدفاع عن نفسه وعن ممتلكاته، وعن مظلوم يطلب نصرته! والإنسان العاقل البالغ الحر، لا يصح أن يُحسب ضمن ممتلكات إنسان آخر- مهما تكن صلته به، ولا يصح أن يخضع العاقل لوصاية عاقل مثله..، وإلا انتفت عنه صفة العقل! ومن هنا فإن العقلاء البالغين لا ينبغي أن يسمحوا بمراقبة ووصاية أو أن ينتظروا موافقة من الآخرين على أي نشاط أو علاقة خاصة بينهم – لا تمس حرية وحقوق الآخرين، إلا أن يكونوا عبيداً مملوكين لغيرهم، وليسوا أحراراً في حياتهم؛ وهنا ينبغي تسمية الأمور بمسمياتها، فنقول إن العقوبات المُطبَّقة بشأن الممارسات الشخصية، هي لإثبات وتكريس مبدأ الوصاية الفكرية والاستعباد وثقافة المجتمع الأبوي، وليست عقوبات يُبررها أو يقبلها العقل البشري!

الجمعة، 20 مايو 2022

أوهام العارفين ومعارف الواهمين!

0 تعليق


الفيلسوف والسطحي، أيهما أغبى؟ بين الفلاسفة والسطحيين توجد درجات يشغلها المثقفون والمفكرون وأشباههم، وأولئك هم الواهمون، وهم جميعًا أقرب إلى السطحية وأبعد عن الفلسفة! الفلاسفة والسطحيون متساوون من حيث البساطة والغباء .. ما يميزهم عن غيرهم هو أنهم تقليديون "طبيعيون"، وليسوا مشوهين كالواهمين! الفيلسوف يبذل جهدًا فكريًا قاتلاً، ليمنح معنًى لوجودٍ لا معنى له .. السطحي يبذل جهدًا جسديًا قاتلاً، ليجني معنًى من وجودٍ لا معنى فيه! الواهم يعتقد بوجود المعنى ويتوهم بلوغ الحقيقة! 
 - الفيلسوف هو كل إنسان يمتلك رؤية خاصة لكل شيء في حياته الخاصة وفي الوجود من حوله – من أصغر مكونات الذرة إلى الكون كله، ولا يتعاطى مع أي أمر أو أي شيء إلا من خلال رؤيته الخاصة، سواء اتفقت رؤيته مع رؤى غيره أو اختلف مع رؤى الكل، وسواء توافقت رؤيته مع مصلحته أو تضاربت! - السطحي هو كل إنسان لا يمتلك رؤية خاصة حيال أي أمر، ولا يشعر بحاجة لامتلاكها! - الواهم هو كل إنسان يعتنق رؤى غيره صدفةً ودون مقدرة على إدراك حقيقتها، ويتعاطى مع الأمور من خلالها متجاهلاً جهله بها! 
 - الفيلسوف مرتاح جسديًا، مرهق فكريًا حتى الجنون!
 - السطحي مرتاح فكريًا، مرهق جسديًا حتى الموت! الإنسان المثالي، إنسان بجسد فيلسوف وعقل سطحي! الفلاسفة والسطحيون لا يعلمون بوجود بعضهم، بل لا يمكن لأي منهم تصور وجود الآخر – بدايةً .. كل إنسان لا يمكنه بدايةً إلا أن يفترض بأن كل الناس مثله – فكرًا وفهمًا وقناعات ورغبات .. الخ، ثم يبدأ باكتشاف الاختلافات، وهي التي تتحول إلى خلافات عند الواهمين، بسبب افتراضهم للتطابق الفكري بين البشر، وهذا ما أوجد فكرة أو فقه الإرهاب الديني، فالإرهابيون يعتقدون بأن كل البشر نسخة واحدة من الناحية الفكرية، ما يجعلهم يعتقدون بأن عدم قناعة الآخرين بأفكارهم هو مجرد استهزاء وتكبر، بينما الآخرون مختلفون عنهم فعليًا، ويموتون ويتألمون بسبب قناعات لا يمكنهم تغييرها، وليس تكبرًا 
 - السطحيون لا يتوقفون عند الاختلافات بين البشر إلا لحظيًا، مع عدم القدرة وعدم الرغبة في فهمها! - الفلاسفة يتوقفون عند أبسط الاختلافات، ولا يمكنهم تجاوزها إلا بعد أن يجدوا لها تفسيرًا وعلاجا! - الواهمون لا يقرون بوجود الاختلافات، أو لا يسلمون بتأثيرها على البشر، فالمساواة قائمة وممكنة عندهم مهما بلغت الاختلافات! - الفيلسوف يتصور بدايةً، أن كل الناس مثله، وأنهم فقط غافلون عما انتبه له هو ..، فيعمل على تنبيههم! - السطحي لا يمكنه دائمًا إلا تصور الناس على أنهم مثله، ويتصرف كالأعمى - ليس ملزمًا بتصديق ولا تكذيب ما يراه غيره ولا يراه هو! 
 - مأساة الفلاسفة وعلماء الفيزياء .. علماء الفيزياء تمنوا أن لو كانوا قد توقفوا خارج الذرة – هناك حيث توقف المنطق، لأنهم خسروا بدخولهم لها سعادتهم ونشوتهم بما حققوه خارجها! كذلك يتمنى الفلاسفة في نهاية المطاف أن لو كانوا قد توقفوا عند تخوم المعرفة- هناك حيث يقف السطحيون، فقد خسروا بفلسفتهم سعادتهم وحياتهم، ولم يُغيروا في الواقع شيئًا! علماء الفيزياء أخطأوا باعتقادهم أن كل شيء محكوم بالمنطق، حيث تجاهلوا أو غفلوا حقيقة أنهم هم أنفسهم يحتكمون للمنطق ككيان مركب فقط، أما من داخلهم فهم خاضعون لمزاج فاعل، لا سيطرة لهم عليه ولا معنى للمنطق معه، وهذا بالضبط هو حال الذرة ..، وليس الإنسان سوى عدد هائل من الذرات! - المزاج الفاعل موجود داخل الذرة وداخل الإنسان، وبالضرورة .. - السلوك المزاجي ضروري لإحداث الوجود، فلو كان كل شيء منطقي، لما تغير شيء من الأساس، أي لما كان لشيء أن يوجد، فليس الوجود سوى تغير في الكون، والتغير لا يكون إلا بفعل سلوك مزاجي .. - السلوك المزاجي هو طبيعة الوحدات الكونية، والتي هي مكونات الذرة وغيرها، مما بات يُعرف بالعالم الكمومي! - مفهوم المزاج الفاعل – كوجهة نظر، قمنا بطرحها بشيء من التفصيل في مقال سابق .. الرابط!
. - ما كان الفلاسفة لينطقوا بكلمة لو كانوا يعلمون بحقيقة السطحيين وأعدادهم وفائدة السطحية .. ربما كان الفلاسفة سينصحون بعضهم بالتسطح، بدل أن ينصحوا السطحيين بالتعمق، لو أنهم أدركوا وجود السطحيين واستطاعوا تصديق الأمر وتصوره .. السطحية ضرورة للحياة ذاتها قبل أن تكون عماد السعادة فيها! الفلاسفة يطرحون رؤاهم كتوعية لبني جنسهم، ولا يتصورون أنهم كمن يخاطب جنسًا آخر مختلفًا عنه.

الاثنين، 9 مايو 2022

بين العِلم والإيمان كما بين الواقع والخيال (2).

0 تعليق


 ما هو الوجود؟ 
عندما يُقال الوجود، فإن المقصود إما أن يكون وجودًا عمليًا 
ماديًا – نقيضًا للغياب، أو أن يكون وجودًا فلسفيًا مطلقًا – نقيضًا للعدم! مفهوم الوجود المطلق بمعنى نقيض العدم المطلق، يمكن اعتباره مفهومًا افتراضيًا – لا واقعيًا، باعتبار أن الوجود قد كان، ولا معنى للحديث عن عدم مطلق محتمل سابق، في ساحة وجود مادي عملي آني! أما مفهوم الوجود بمعنى نقيض الغياب، فهو مفهوم عملي واقعي، ولعله الدلالة الصحيحة للفظة وجود! ومن هنا يكون الحديث عن الوجود بمعنى أنه نقيض العدم المطلق، هو من قبيل الترف الفكري لا أكثر! بالنسبة للإنسان، فإن كل شيء يمكن إدراكه بالحواس أو إثباته بالبرهان، فهو شيء موجود! والوجود بصفة عامة، يتجسد في الشكل والتأثير اللحظي أو المرحلي، الذي تكون عليه المادة أو الطاقة – المتحولة المتغيرة – بسبب خضوعها لقوانين الطبيعة! وقوانين الطبيعة يمكن تعريفها بأنها النتيجة الحتمية التي تنجم عن تلاقي مواد ذات خواص مختلفة! وبالتالي تكون قوانين الطبيعة هي القوة – الافتراضية – التي تمنح للموجودات أشكالها وسلوكها بحكم تلاقي المختلفات! 

 ما معنى الحياة؟
 عند مقارنة جماد (مادة ميتة) بكائن حي (مادة حية)، نلاحظ أنهما يتشابهان إلى حدٍّ كبير من حيث أن كليهما يتغير أو يتحول.. التحول في المادة الحية يكون سريعًا ومحسوسًا، بينما التحول في المادة الميتة يكون بطيئًا وغير محسوس..، لكن بالنتيجة كلاهما في حالة تحول مستمر! بشكل عام وظاهريًا، يبدو لنا أن الجماد يتغير أو يتحول بسبب عوامل خارجية..، بينما يتغير أو يتحول الكائن الحي ذاتيًا أو داخليًا- الكائن الحي يَستهلك ذاته-، وهذا هو معنى وحقيقة الحياة! أي أن الكائن أو الشيء الذي يَستهلك ذاته ولا يحتاج إلى عوامل خارجية كي يتحول من حال إلى حال، يوصف بأنه كائن حي؛ بينما الكائن أو الموجود الذي يبقى على حاله إذا لم تؤثر عليه عناصر خارجية، يوصف بالجماد! وإذا كان الأمر كذلك – ولعله كذلك – فإنه يمكننا وصف بعض الجمادات بأنها كائنات حية، حيث إنها تستهلك ذاتها وتتغير خواصها دون تأثير خارجي، وبصورة سريعة نسبيًا، وتتحول إلى أشياء أخرى مختلفة عن الأصل.. مثل العناصر الطبيعية المُشِعَّة! وربما لا نكون قد ابتعدنا عن الحقيقة والواقع كثيرًا، إذا قُلنا بأن بعض البشر يصح وصفهم بالجماد، من حيث أن سلوكياتهم وممارساتهم وقناعاتهم ومبادئهم التي تحدد هوياتهم، لا تنبع من ذواتهم، إنما تنبع من خارجهم! ولتوضيح ما يبدو أنه مفارقة هنا، عند القول بخضوع كل الموجودات لقوانين الطبيعة، وفي ذات الوقت القول بأن الكائن الحي ذاتي التحول والتغير، نقول: إن الكائن الحي هو عبارة عن اتحاد مجموعة من العناصر المختلفة، وبحسب قوانين الطبيعة فإن تلاقي العناصر ذات الخصائص المختلفة، يُحتِّم حصول التحول وظهور نتائج محددة وحتمية! وبهذا يكون التحول الذاتي عند الكائن الحي، هو نظرية صحيحة فقط عند النظر إلى الكائن الحي على أنه كتلة واحد، بينما يكون سلوك الكائن الحي نتيجة طبيعية لقوانين الطبيعة عند النظر إليه باعتباره اتحاد مجموعة من العناصر المختلفة المتفاعلة – وهذا هو الواقع الحقيقي 
. حياة البشر 
.. يمكننا أن نُعرِّف حياة البشر – بالعموم وليس بالمطلق- بأنها مستوياتٌ أو مراحل أربعة، من الانتظار الحقيقي المصحوب بفعل جزئي واستعداد افتراضي..،
 1- مرحلة الشعور بالحياة! وهي انتظار الصغار لمرحلة البلوغ، أملاً في إدراك ما يجهلونه، وتحقيق ما يعتقدون أن طفولتهم تحول دون تحقيقه!
 2- مرحلة الإحساس بالحياة! وهي انتظار المراهقين وسعيهم لانتزاع إقرار المجتمع بوجودهم، وانتزاع حقهم في إشباع الغرائز وتلبية الشهوات والرغبات، والمنافسة على المراكز التي تُثبِتُ وجودهم وتُبرز تَمَيُّزهم – المفترض!
 3- مرحلة انتظار المجهول بعد تجاوز المعلوم! حيث يدخل الإنسان – بعد الزواج والإنجاب – ساحة الاستسلام رافعًا راية الرفض، مُكابرًا مُحاولاً تجاهل خيبة الظن التي لم تبرح حساباته في كل المحطات التي مرَّ بها!
 4- مرحلة البحث عن الحياة! حيث يتساءل الإنسان، عندما تخور قواه ويكاد يُدركه اليأس ويرفضه المكان ويستعجله الزمان..، يتساءل: هل أنه كان حيّاً بالفعل فيما مضى من زمن! لكن ذلك غير صحيح، لأن معنى ذلك أن الحياة التي تم احتسابها عليه، هي فقط ذلك القلق الذي كان يملأه، والجُهد الذي كان يبذله، والسرور اللحظي الذي كان يختفي قبل أن تكتمل مَشاهده! أم إنه لم يكن حيّاً، بل كان يبحث عن شيء اسمه الحياة..، وهل عليه أن يَجدَّ ويجتهد في البحث عنه – أكثر من ذي قبل – فيما تَبقى له من قُدرة ومن زمن، وهو الهدف الذي لم يُحققه عندما كانت ظروفه أفضل! أم إن فلسفة الكينونة والحياة ونظرية الوجود المستقل التي يعتقدها ويعمل ويحلم ويُفكِّر الإنسان على أساسها، هي العنصر الذي يحمل القيمة الخطأ في معادلة وجود الإنسان..، وأن تلك الفلسفة والنظرية هي التي أعطت لكل النتائج انحرافها..، وأن الإنسان الفرد في حقيقته ربما لا يعدو أن يكون ذرة في جزيء أو خلية في نسيج، يؤدي وظيفة ثانوية تكميلية غير مباشرة، تتنافس على أدائها كل الخلايا المتشابهة، في جسد كائن مجهولٍ اسمه الحياة..، وأن جسد ذلك الكائن يُجَدِّد خلاياه بما يوافق مصلحته وغايته، وأن الخلية التي يَقِلُ عطاؤها، ينتهي دورها، ويُصبح وجودها عبئًا على الجسد، فيلفظها – حين يستغني عن خدماتها..، وكل الخلايا سيَقِلُّ عطاؤها وستُلفَظُ يومًا..، وذلك تمامًا ما تفعله كل الأجساد الحَيَّة مع خلاياها، حيث إنَّ الخلايا (كرات الدم البيضاء – مثلاً) تبدو ككائناتٍ تُفكِّر وتعمل كما لو كانت لها كيانات مستقلة ذاتية القرار..، بينما هي في الحقيقة خاضعة لآلية خارجة عن سيطرتها، تقوم تلك الآلية بتفعيل الخلايا وتوجيهها وحثها على الفعل والتكاثر وأداء دور معين، كما تقوم تلك الآلية بتجديد الخلايا – تدمير القديم واستحداث البديل..، فلو كان للخلايا كيانات مستقلة وذاتية القرار، لأصبح موتها انتحارًا، ولأصبح تكاثرها وأداؤها لدورها المميت غباءً..، وكذلك الإنسان! في المرحلة الأولى، يكون الإنسان مهووسًا بتعبئة الفراغات المعرفية، مدفوعًا بحب الاكتشاف وإدراك الجديد..، في المرحلة الثانية، يبدأ الإنسان بمطاردة أملٍ وهمي، مصدره ثقة مفرطة في النفس، تُبرِّرها حيوية مرحلية، تدفع الإنسان على الاعتقاد بجهل وضعف الآخرين..، والأساس في كل ذلك هو جهل الإنسان – شبه التام – بحقيقة ما يجري من حوله، وجهله المرحلي بحقيقة مكانته ومحدودية إدراكه ودوره وقدرته! في المرحلة الثالثة، يقل اهتمام الإنسان بمبدأ القناعة بما يفعل، حيث تدخل عناصر جديدة مجهولة القِيم في معادلة الفعل، حين يُصبح الإنسان يعمل لمصلحة غيره – بغض النظر عن رغبته وإرادته وحتى مقدرته -، حيث يتغاضى الوالدان عن قِسم كبيرٍ من حقوقهما وسعادتهما وقناعتهما، نزولاً عند حاجة الأبناء، ورضوخًا لعاطفة مصدرها الإحساس بالضعف الطبيعي والشعور الزائف بقوة وقيمة افتراضيتين وهميتين..، إن حجم الأسرة وخصوصية متطلباتها، هي التي تُحدد لولي الأمر الحد الأدنى من الجُهد الذي عليه أن يبذله، وحجم القلق الذي عليه أن يحمله! في المرحلة الرابعة، يكون الإرهاق قد نال من الإنسان، فلا يعود عقله وذاكرته وإمكاناته الذهنية والنفسية والجسمانية تُسعفه أو تسمح له بالتفكير بهدف إنتاج المعرفة، ولا حتى باستقبالها من خارجه! فَيَنصَبُّ جهده على تقليب محتويات الذاكرة، ويقتصر تفكيره على المقارنة بين نتائج التجارب السابقة، بحثًا عن أنسب المقاربات كإجابة نهائية لسؤاله عن كُنه الحياة..، ذلك السؤال الذي يتجدد ويزداد قوة بالتناسب الطردي مع ضعف الإنسان واقترابه من نهاية الطريق – وهو صِفر اليدين من أي قيمة وأي معنى وأي تعريف للحياة – التي كانت عنوانًا لكل ما بذله من جُهد وما أنفقه من زمن! في هذه المرحلة، يتطرف الإنسان ويتشدد ويتعصب إلى النتيجة التي يقع اختياره عليها من بين مخزوناته العقائدية..، فإذا كان الإنسان مؤمنًا بالبعث وحياة أخرى بعد الموت، يكون في آخر أيامه مُتطرفًا في إيمانه ملتزمًا واعظًا ناصحًا كأنه لم يكن مؤمنًا قبل ذلك..، وهو السلوك الذي يدعوه المؤمنون بالتوبة! ولعل الحقيقة هنا، هي أن ما يُسمَّى بالتوبة – خاصة في نهاية العُمر – هي ليست سوى إقرار من الإنسان بالفشل والصدمة وخيبة الظن، وبأنه لم يعد أمامه مُتَّسع من الوقت للبحث بنفسه أو لانتظار نتائج أبحاث الآخرين عن كُنه وقيمة الحياة، فيحسم أمره على التصديق بالحياة الأخرى، ويدعوها بالحياة الحقيقية والأبدية، ويُشدد على الربط بينها وبين الحياة التي يوشك على مغادرتها..، وذلك كعزاء أخير من الإنسان لنفسه وكورقة أخيرة يرميها في وجه اليأس دون المقدرة على التحقق من النتيجة، بل ودون المقدرة حتى على مجرد الخوض في تفاصيل واحتمالات النتيجة هذه المرة، مكتفيًا بتفاؤلٍ وأملٍ ليس لهما ما يُبررهما سوى الضعف واليأس اللذين لم يعد الإنسان قادرًا على إخفائهما!

الثلاثاء، 12 أبريل 2022

بين العِلم والإيمان كما بين الواقع والخيال !!

0 تعليق

 


ليس الإيمان مرادفًا للعِلم، وليست العقيدة مرادفة للمعرفة.

واتفاق جماعة من الناس على الإيمان والاعتقاد بصحة أمرٍ ما.. هو شيء يمكن فهمه وقبوله أو رفضه في آنٍ معًا..
أما اعتقادهم بأن ذلك الأمر هو الحقيقة أو هو ما ينبغي أن يكون.. فذاك شيء آخر لا يمكن فهمه ولا ينبغي قبوله – إلا إذا تحوَّل إيمانهم إلى عِلم واعتقادهم إلى معرفة!
إن العِلم والمعرفة هي التي تجعل المريض المؤمن يُفضِّل الطبيب المُلحد على الطبيب المؤمن!
أما الإيمان والعقائد، فهي التي تجعل المؤمن يتبع هذا الفقيه أو هذا المذهب دون سواه، ودون دليل على صحة اختياره!
ولهذا السبب نجد – عبر التاريخ البشري- أن الملوك والرؤساء والأقوياء والأغنياء كانوا يُسلِّمون أرواحهم بين أيدي الأطباء بكل بساطة، بينما لم يؤمنوا ويُسلِّموا مصيرهم بين أيدي الرُسُل سِوى الفقراء والضعفاء، ذلك لأن الضعفاء والفقراء ليس لديهم ما يخسرون اليوم، ففضلوا أن يتبعوا الرُسُل ويعيشوا على أمل – هو أفضل من لا شيء!
أما الحُكام والأقوياء والأغنياء، فوجدوا أن إتباعهم للرُسُل يعني فُقدانهم لما يملكون اليوم، دون إثبات لصحة وعود الرُسُل، ولذلك لم يؤمن منهم طوعًا إلا قليلون، ولأسباب فردية وخاصة في الغالب!


العِلم أساسه المعرفة والإدراك، والمعرفة أساسها تفعيل العقل!
أما الإيمان بالأديان، فإن أساسه تصديق بشر لبشر، وليس إدراك لحقيقة الأمر!
ولا يمكن أن يكون تصديق البشر أو تكذيبهم لبعضهم، حُجَّةً لهذا أو حُجَّةً على ذاك..، فالأمر المصيري الفردي يتطلب حُجَّةً من جنسه وبحجمه!
أما المعتقدات فإن أساسها تعطيل العقل وتقديس الموروث!
ولذلك ظلت الأرض مُسطَّحةً وثابتةً ومركزًا للكون، والشمس تدور حولها، وقُبة السماء تعلوها – رُغم أنف كوبر نيكس وجاليليو، وذلك باعتقاد كل البشر بحُكمائهم وفقهائهم وجهلائهم وضعفائهم وبحسب كُتب رُسُلهم وأنبيائهم..،
لقد استمر هذا الاعتقاد سائدًا إلى أن أتت الفلسفة وفعَّلت العقل، فأنتج السؤال الذي شَكَّك في حقيقة هذه المُسلَّمات، ثم أثبت العِلم أن كل تلك المسلَّمات ما هي إلا اعتقادات متوارثة، لا أساس لها في الواقع، وأنها عبارة عن تخمينات وتفسيرات بدائية ظاهرية تعود بجذورها إلى العصور الأولى للوجود البشري!
ولذلك اعتذرت الكنيسة لـ"جاليليو" عن محاكمتها وظلمها له بعد 359 عامًا، وبرَّأته من الهرطقة، وأقرَّت بصحة رؤيته لدوران الأرض حول الشمس (المحاكمة 1633)، (الاعتذار تم عام 1992)!
ومن هنا وجب على العاقل أن يُبقي على كل الاحتمالات قائمة فيما يخص الحقيقة الكاملة!

وبذلك يكون ترك الحقيقة في صورة سؤال، هو أصدق ما يمكن وأقصى ما ينبغي أن يُقال! فحُجَّة الذين يجزمون بعدم وجود خالق للكون – مثلاً -، لا تقل ضعفًا عن حُجَّة المؤمنين بوجوده!

وأما الأضعف حُجَّة والأبعد عن العقلانية والواقعية والذين تعوزهم المصداقية والأمانة، فهُم أولئك الذين يدَّعون معرفة الخالق، ويؤمنون في الوقت ذاته بأن الإنسان ليس مؤهلاً لإدراك الخالق!
وتكريسًا للوهم والجهل، نجد العقائديين يُسمُّون التساؤلات الفطرية الطبيعية البديهية العفوية المرتبطة بوجود العقل،.. يُسمُّونها بالوساوس الشيطانية – ترهيبًا للضُعفاء -، فيُحذِّرون أتباعهم من السؤال ومن الإطلاع على ما لدى الآخرين من معلومات وحقائق..، وذلك لكي تبقى عقولهم معطلة، ويدورون في دائرة المعتقدات المُلغَّزة التي تستعمل عواطفهم وطمعهم وضعفهم للسيطرة عليهم، فيستمرون بذلك في تصديقهم لما لا يُعقل من الخرافات والأساطير!
في حين أن غير المؤمنين، يحثون أبناءهم وأتباعهم على طلب الحقيقة والإطلاع على ما لدى الآخرين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا!
فأي إله ذا الذي يُكافئ الطامعين ويَفرح بخوف الضعفاء منه والمقلِّدين، ويُعاقب العُقلاء على صِدقهم وبحثهم عن الحقيقة!

- لماذا يرتكب المؤمنون، ما يُسمى بالمعاصي والذنوب، رُغم تظاهرهم بالخوف من نار الإله؟
ولماذا تكتفي شرائع الأديان بظاهر الإيمان، وتتغاضى عن حقيقة سلوك الإنسان؟

السبب واضح، إنهم يؤمنون ويعتقدون بما يُخالف فطرتهم،
ولا بُدَّ للفطرة الداخلية من أن تتغلب على أي إيمان خارجي، وذلك أمرٌ طبيعي وحتمي، لكنه في شريعة المؤمنين يُعتبر معصية، وذلك لكي يُبرروا اعتقادهم بالحساب والعقاب والعبادة والحاجة للمغفرة، وكأن المصنوع يستطيع الخروج عن مشيئة الصانع!
إنه لئن عاقب الصانع ما صنعت يداه، فهو ببساطة يُعاقب ذاته، وهذا ما لا يليق ولا يصح أن يُنسب إلى إله!

- إن مِن البشر مَنْ لا يزالون يعتقدون بالمجهول ويُصلُّون للسماء طلبًا للاستسقاء!
وغيرهم باتوا يُدركون مُسبقًا، كَيف وأين ومتى ينزل الماء!
- وإن مِن البشر مَنْ لا يزالون يعتقدون بوجود شيء فوقهم اسمه السماء، يخشون وقوعه على الأرض يومًا ما!
وغيرهم أضحوا يعلمون بأنه لا شيء فوق الأرض سوى الفضاء، وصاروا يُدركون أنه لا معنى ولا مكان لمفهوم "فوق أو تحت" بالنسبة لكوكب يدور حول نفسه سابحًا في فضاء!
حيث إن العقائد تُحرِّم استعمال العقل في تفسير وفهم الدين!
وحيث إن طاعة الأهل وطاعة حكماء المجتمع، هي واجب على كل إنسان، حسب كل العقائد والشرائع والأديان!
إذن، لا مسئولية على عموم البشر، فكلهم أتباع ومأمورين وممنوعين من استعمال العقل، بما في ذلك الملحدين!
ومن المفارقة أن ينتظر رِجال الأديان من الملحدين استعمال العقل لكي يؤمنوا، في الوقت الذي يمنعون فيه المؤمنين من استعمال العقل خوفًا من أن يُلحدوا!
إن كل الأديان والمعتقدات، ليست قائمة – رُغم اختلافها وتشابه أتباعها، إلا بفضل هذه المفارقات المصحوبة بأحلام ووعود بتعويض الضعفاء!


العقيدة والمعرفة..
كثيرًا ما يحدث الخلط – عَمدًا أو جهلاً – بين العقيدة والمعرفة، أو بين الإيمان والعِلم!
والحقيقة أنه يمكن أن يؤمن أي الإنسان بأي أمر ويعتقد بوجود أي شيء، لكن لا يمكن لأي إنسان أن يعرف إلا ما يعلمه بالبرهان ويُدركه بالحواس!
فالفرق شاسعٌ بين المعرفة بالشيء والعِلم بوجوده من جهة، وبين الإيمان به والاعتقاد بحقيقته من جهة أخرى..،
إن الاعتقاد كما الإيمان يبقى أمرًا نظريًا عقليًا – خارج الواقع-، حتى تُدركه الحواس، وحينها فقط يتحول الاعتقاد إلى معرفة والإيمان إلى عِلم..، وذلك هو سبيل العِلم والعلماء!
إنه بمقدور أي إنسان عاقل، أن يُقنع كل البشر العُقلاء، بما يعرفه ويعلمه يقينًا..،
لكن ذات الإنسان العاقل، لا بُد له من أن يلجأ إلى الإكراه والخداع، لحمل الآخرين على تصديق ما يعتقده ويؤمن به دون معرفة..، وهذا ما يخلق النفاق!
لذلك يوجد النفاق – عادةً – في ساحات الأديان والمعتقدات والسلطة والسياسة، لكن لا معنى ولا وجود للنفاق في ساحات العِلم والمعرفة والفكر والفلسفة!
لقد أدرك البدو الأُمِّيون رُعاة الإبل والغنم قاطنو الصحارى، حقيقة ما يقوله العِلم والعُلماء، من خلال استعمالهم لوسائل المواصلات والاتصالات وأجهزة تحديد المواقع وغيرها..،
لكن الخوف النابع من الجهل، كان وحده السبب في تصديقهم لمعتقدات وتكهنات فقهاء الأديان ورجال السلطة!

الإيمان والعِلم..
كان جُلُّ البشر وإلى وقتٍ قريب، يعتقدون بالتدخل الإلهي المباشر واللحظي، في تكوين الأشياء وحصول الأحداث وتحديد نتائجها..، مع أن هذا الاعتقاد يتناقض مع إيمانهم بأن الإله هو الذي قدَّر للأحداث والأشياء مسبقًا كيف تكون؛ فأصبح اعتقادهم يعني أن الإله يتدخل لخرق مشيئته أو أنه يتراجع عن إرادته!
ثم تقدَّم العِلم بفضل تطور العقل البشري، ليتجاوز الإنسان مرحلة تفسير الأحداث ويبلغ مرحلة التكهن بها قبل حدوثها، بل والتحكم بنتائجها..،
حيث أثبت العِلمُ أن كل الأحداث والأشياء خاضعة بالضرورة لقوانين طبيعية ذات نتائج حتمية..،
وأمام هذا التقدم العِلمي وما أثبته من حقائق لا مجال لتجاهلها، اضطر المؤمنون العقائديون إلى التراجع عن أهم مبادئهم، والتي كانت تستند إلى فرضية التدخل الإلهي المباشر واللحظي لتفسير الأحداث..، فادَّعوا بأن إلههم هو مَنْ أوجد قوانين الطبيعة التي يخضع لها وجود الأشياء ونتائج الأحداث..،
وهنا تجاهل صريح من المؤمنين العقائديين للقواعد التي قامت عليها الرسالات والأديان والمعتقدات..، حيث كان منظرو الأديان يقولون بأن إثبات مصداقية الرُسُل وصحة الرسالات لا يقوم على الإقرار بسلطة قوانين الطبيعة، بل يقوم على تحطيم وخرق قوانين الطبيعة بواسطة المعجزات..، وكأن الإله الذي بعث الرُسُل قديمًا، ليس هو ذاته الذي وضع قوانين الطبيعة المكتشفة اليوم!
فإذا كان الرُسُل والأنبياء يعلمون بأن قوانين الطبيعة مِن خَلق الإله، فما معنى وما قيمة وما مُبرِّر خرقهم لها بالمعجزات لإثبات صحة رسالاتهم؟
ولماذا لا تُخرق قوانين الطبيعة اليوم إكرامًا للمؤمنين!

نتائج حتمية..
إنه لمن الحقيقة الإقرار بوجود الاختلاف الباطني الفطري الطبيعي اللا إرادي بين البشر، كما هو الاختلاف الظاهر في عالم الحيوان والنبات والجماد!
وإنه لمن الحقيقة القول، بأنه لا يمكن استعمال ذات المعايير لمحاسبة ومعاقبة المختلفين..، إلا في عالمٍ يسوده الجهل ويحكمه الظُلم!
وإنه لمن الحقيقة القول، بأن لكل إنسانٍ قدراتٍ وأجهزةِ قياسٍ وإدراكٍ – هي الحواس والوعي والقدرة على الفعل، وهي التي لا قيمة للإنسان بدونها، ولا شأن له في اختيارها، وهي المختلفة من إنسان لآخر..،
وإنه لا مُبرر للإنسان ولا حاجة به لتجاوز عقله وتجاهل حواسه، كي يفترض ويتوهم أو يُصدِّق بوجود حقائق لا قدرة له على إدراكها والتحقق منها!

الوجود والخَلق..
يمكن وصف كل الأشياء بأنها موجودات طبيعية، ويمكن وصف بعضها بأنها مخلوقات!
لكن من المغالطة وصف كل الأشياء بأنها مخلوقات..، ذلك أن وصف أي شيء بأنه مخلوق يستوجب وجود خالق مُحدَّد مُدرَك- معلوم ومعروف، وهو ما ليس متحققًا دائمًا مع كل الأشياء..، إلا إذا كان المقصود بالخالق، هو: قوانين الطبيعة!
إن ألفاظًا مثل: خَلْق وخالق ومخلوق، ترتبط في أذهان البشر بحسب ثقافاتهم ومعتقداتهم – لا بحسب عِلمهم بها ومعرفتهم بحقيقة دلالاتها – التي تتغير عند ترجمتها من لغة إلى لغة أُخرى!
إنه يصحُّ القول عن الإنسان بأنه مخلوق، فقط إذا كان المقصود بالخالق – هنا – والديه أو قوانين الطبيعة!
بينما يصح دائمًا أن نقول عن الكرسي بأنه مخلوق، ذلك لأننا نعلم مَن خلقه ونعرف لماذا خلقه!
لكن ليس من الصواب أن نقول عن الوادي أو الجبل بأنه مخلوق، ذلك لأننا لا نعلم مَن خلقه ولا نعرف لماذا خلقه – إلا إذا كُنا نقصد بالخالق -هنا- البراكين والرياح والأمطار وغيرها من الأشياء الخاضعة لقوانين الطبيعة والناجمة عنها!
إن كل ما نراه من حولنا ما هي إلا موجودات طبيعية، أوجدتها قوانين الطبيعة التي بات العقل البشري يُحيط بقدرٍ كبيرٍ منها!
لقد أنتج الإنسان جهاز الحاسوب، باستعمال مواد الطبيعة وقوانينها، وذلك بفضل العقل وبسبب الحاجة..،
بينما يُنتج الإنسان الإنسان باستعمال قوانين الطبيعة، وذلك بفضل الفطرة وبسبب الغريزة!
ومعنى ذلك أن الإنسان بحاجة إلى عقل خاص من أجل إنتاج حاسوب، لكنه ليس بحاجة للعقل مُطلقًا من أجل إنتاج إنسان!
إن التكاثر هو نتيجة طبيعية لغريزة فطرية، وهو صفة حياتية تتمتع بها كل الكائنات الحية، ولا دخل للعقل فيها، إلا من حيث توجيه تلك الغريزة!
إن التكاثر عند كل الكائنات الحية، لا يعدو أن يكون خضوعًا فطريًا لقوانين الطبيعة وغرائزها، ولذلك لا يوجد اختلاف بين البشر والحيوانات والحشرات في طريقة التكاثر!
إن التكاثر ليس سوى استعمال فطري غريزي لمعادلة طبيعية عناصرها الذكورة والأنوثة!
ولعل الاختلاف بين البشر والحيوان – مثلاً – في موضوع التكاثر، هو قدرة البشر على التكهن بمصير الأبناء قبل إنجابهم..، الأمر الذي لا يملكه الحيوان!
أما الشعور بالمسئولية تجاه الأبناء بعد إنجابهم، فهو شعور غريزي طبيعي فطري تشترك فيه كل الكائنات الحية – كما تشترك في معرفة السبيل إلى التكاثر والمقدرة عليه!
إن وصف الإنسان بأنه مخلوق، لا يكون وصفًا عِلميًا واقعيًا صادقًا، إلا إذا كان المقصود بالخالق هنا هم الوالدين أو قوانين الطبيعة!


فقه الطوائف.. وعبث الكبار ببراءة الصغار!

0 تعليق

 


لماذا تتعدد الطوائف ويزداد أتباعها وأنصارها، رغم فساد عقائدها بشهادة بعضها على بعضها الآخر؟

وأين الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها، والتي لا تبديل لها – بحسب كل الطوائف والأديان!

إن السر أو الداء يكمن في سياسة القائمين على الفقه الطائفي، وإيمانهم بأن الغاية تبرر الوسيلة، وإن لم يُعلنوا ذلك أو يعترفوا به صراحةً!

فليس بين الطوائف القائمة اليوم، من يستطيع أن يجزم بأن فقه طائفته يتوافق مع الفطرة البشرية!

ولذلك فإن كل الطوائف دون استثناء، يقوم فقهها وسر بقائها بالدرجة الأولى على الطعن في مصداقية بعضها البعض.. رُغم أنها تدَّعي ذات الهدف وتسلك ذات السبيل!

وبدرجة ثانية – وربما أهم – تقوم الطوائف على نظرية تلقين التراث وفرض الأفكار ودس الثقافات في نفوس الأطفال قبل أن يكون لهم الحق والقدرة على السؤال! وهو الأمر الذي لم يفعله الرُسُل؟

نتساءل: هل خاطب الرُسُل الأطفال بدعوتهم! أم إنهم كانوا يخاطبون أجيالهم واندادهم من الرجال البالغين المكلفين الذين يملكون حق الموافقة والقدرة على الرفض! وهم الذين لم يسمعوا في طفولتهم بالدين الذي يُدعَون له، وهم الذين أصبحوا رموزًا وقادةً للأديان فيما بعد!

وتلك القصة الشهيرة عن ذلك الطفل الذي لم يكترث لمرور الأمير أو الخليفة من الشارع ..، حيث كان يلعب الطفل!

هل كان ذلك الطفل سيتصرف بتلك العفوية كما أرشدته فطرته، لو كان قد تم المساس بفطرته وتلويث براءته بتهديده بالنار وإغرائه بالجنة وشحنه بضرورة تقديسس الكبار – قبل أن يبلغ سناً يُحسب له فيها الأجر أو الإثم.

وهل كان سيتصرف الطفل بعفوية فطرته، لو كان قد لُقِّن بأنه لا يُساوي التراب الذي يمشي عليه الخليفة، .. كما يقول الخطباء والفقهاء على المنابر اليوم، وكما يُدرّس ذلك للأطفال والتلاميذ في مدارسهم الابتدائية!

إن كل الرُسُل تقريباً بُعثوا عند أو بعد سن الأربعين سنة، من أعمارهم! وكلهم كانوا قد ترعرعوا وشبوا وتربوا في أحضان ثقافات وأعراف اجتماعية وعقائدية تُناقض وتُخالف رسالاتهم وتعاليمهم التي اعتنقوها ودعوا لها فيما بعد!

أي أن الرُسُل لم يُلقنوا تعاليم الدين والإيمان في طفولتهم، وإنما أخذوها بالوحي بعد بلوغهم، وبعد أن أمضوا بداية حياتهم بصورة طبيعية ضمن أعراف وسلوكيات مجتمعاتهم المنحرفة.

ولم تقف ثقافة مجتمعاتهم الجاهلية عائقاً في سبيل رُشدهم بعد بلوغهم!

يحلو للبعض القول بأن رسولهم، قد لُقِّن الإيمان والدين الصحيح في طفولته بواسطة الملائكة!

ولكن بالطبع، ليس لمثل هذا القول من أساس ولا سبب سوى الهروب من سؤال الحقيقة، أو محاولة الحيلولة دون طرحه!

لأنه وببساطة، إذا كان الرُسُل قد حظوا بتربية ورعاية سماوية إلهية مباشرة، أو خضعوا لعمليات جراحية لإزالة الأحقاد والضغائن من صدورهم منذ طفولتهم، إذن فما ذنب البشر العاديين الذين زُرعت فيهم الأحقاد والضغائن بدل أن تُنتزع، والذين لم يحظوا بهذه الرعاية الربانية!

ثم أليس في مثل هذه الرواية أو الدعاية تطاول على العدل الإلهي، ومساس بحرمة وقدسية الأمانة التي ينبغي أن يتساوى البشر في حملها لكي يكونوا متساوين في الحساب عنها!

ثم، أين فضل الرسُل – كبشر- في مقاومة شرور النفس البشرية، حتى نمتدحهم بحسن الخُلق ومقاومة الهوى، طالما أنهم لا يحملونها أصلاً!

إن الحقيقة – واستناداً إلى الكتب المقدسة وتراث الأديان -، هي أنه من الرُسُل من قتل نفساً متعمداً – تعصباً لقومه -، ومن غير تشريع ولا تفويض إلهي، وذلك قبل أن يُصبح رسولاً.

مما يدلل على أن ذلك الرسول كان إنساناً عادياً، بل ربما كان في قومه من الرجال والنساء من هم أعدل وأحكم وأتقى منه في حينها!

ومن الرُسُل من تزوّج قبل أن يُصبح رسولاً، بطقوس ومباركة رجال دين من الديانات التي لم يكن يؤمن بها، بل وأكد على انحرافها وضلال أتباعها، وحرّم طقوسها التي تزوج وفقها..، بعد أن أصبح رسولاً!

فهل من مجال أو من حُجّة لقائل يقول بأن هذا الرسول أو ذاك كان مؤمناً ومحصناً منذ طفولته!

البعض لا يقبل الحديث عن الرُسُل بهذه الصراحة. ولمثل هؤلاء نقول ماذا عن أتباع الرُسُل الذين آمنوا بهم، وأصبحوا رموزاً في تاريخ هذا الدين أو ذاك! هل منعتهم البداية الجاهلية ( ) لحياتهم من الإيمان وإتباع الرُسُل؟ كلا لم تمنعهم، بل آمنوا بعد بلوغهم في أحضان ثقافة مغايرة للدين الجديد!

والذين نراهم اليوم، ينتقلون من دين إلى دين؛ هل تلقوا في طفولتهم تعاليم الدين الذي انتقلوا له! أم إن الحرية التي وفرتها لهم مجتمعاتهم كانت كفيلة بممارسة حقوقهم في الاختيار!

فهل سيمر على الإنسانية يوم، تُترك فيه فطرة الإنسان دون مساس، وتحترم فيه براءة الأطفال!

ويُترك للإنسان بعد رُشده، الحق في اختيار عقيدته ودينه، أو حتى طائفته إذا كان للطائفة ضرورة في الإيمان!

وهل نتوقع من فقهاء الطوائف الذين يؤكدون بأن فقه طائفتهم هو الفقه الذي يُرضي الله، وأن طائفتهم منسجمة تماماً مع الفطرة السوية للبشر ..، هل نتوقع منهم أن يُبادروا بالإفتاء وبدعوة كل الطوائف إلى ضرورة ترك الأطفال يعيشون طفولتهم دون تدخل طائفي وتأثير فقهي على براءتهم وفطرتهم!

وأنه لا يجوز الدعوة إلى دين أو طائفة لغير البالغين!

للأسف، لا نتوقع ذلك في المدى المنظور! لأن القائمين على الطوائف يُدركون عيوب فقههم وطوائفهم، ويعلمون أن جزءاً كبيراً وأساسياً من فقههم واجتهاداتهم لا يقبلها الفكر السليم الحر، ولا يمكن غرسها في الإنسان إذا تجاوز مرحلة الطفولة.

ولذلك فإن كل الطوائف تجنّد وتجيّش الأطفال، وتزرع الخوف والشك في نفوسهم البريئة الضعيفة، وتضع فقهها بمثابة المنقذ والملجأ الوحيد لهم.

ثم يكتمل مشهد المؤامرة بمنعهم من استعمال العقل عند بلوغهم، ليُصبحوا أجهزة مبرمجة بفقه الطائفة، تفجرهم أنى وأين تشاء!

وإن ما يُثير الاستغراب حقًا هو تفاخر الطوائف بأعداد أتباعها، وتجاهلها للطريقة والوسيلة اللا حضارية التي تكاثر بها هؤلاء الأتباع، حتى صاروا أرقاماً حسابية، يصح أن يُشار بها إلى عدد العبيد والأتباع. ولكن الحيلة لا تنطلي إلا على المبرمجين الممنوعين من التفكير باسم الدين!

يبقى الأمل معقوداً على هيئة الأمم، بأن تضع حداً لتجنيد الأطفال، والتلاعب ببراءتهم!

وذلك بأن تفرض منهجاً دراسياً موحداً لكل أطفال العالم حتى سن الرُشد!

لكي تظهر أجيالٍ طبيعية تنظر إلى الحياة من ذات الزاوية وبذات المعايير!

حتى يختفي هذا العار من على جبين الإنسانية..، والمتمثل في اختلاف العقلاء على بديهيات العقل الواحد!


الثلاثاء، 1 مارس 2022

الواقع العقائدي والواقع الحقيقي!

0 تعليق



ما معنى أن يأمر إنسانٌ إنسانًا آخر، بالإيمان بالله أو بالاعتقاد بوجود الله، إذا لم يتحقق الإيمان في نفس الثاني؟ هذا يعني أن الآمر يعتقد بأن الإنسان قادر على صنع قناعاته بقرار، وقادر على تكييف عواطفه ومشاعره حسب رغبته وإرادته ..، ولا شك أن هذا مجرد هراء أو وهم أو مرض نفسي لدى الآمر، أو هي ذريعة زائفة لقتل البشر أو لاستعبادهم باسم الله! تقنية الاعتقاد والإيمان .. لا يمكننا أن نأمر إنسانًا بأن يحس بالحرارة، لكن يمكننا أن نجعله يحس بالحرارة – إذا وفرنا الحرارة، وكان هو قادرًا على الإحساس بها! لا فرق بين عدم وجود الحرارة، وبين افتقاد الإنسان للأعصاب والمجسات التي تحس بالحرارة، في الحالتين الإنسان لن يحس بالحرارة، وهو ليس مذنبًا بذلك ..، والمنطق يقول بأن الحرارة تعتبر غير موجودة، وهي والعدم سواء – بالنسبة لهذا الإنسان ..، إذ ليست العبرة بوجود الشيء فقط، لكن العبرة بقدرة الإنسان على رصده! ما كان البشر ليتحدثوا يومًا عن وجود الشمس والقمر والفرق بينهما، لو كان كل البشر يفتقدون لحاسة البصر! لا معنى لأن نأمر الأعمى بالاعتقاد أو الإيمان بأن الوقت في هذه اللحظة هو ليل أو نهار! المصاب بالبرد، يمكنه وصف إحساسه به، لكن لا يمكنه نقل إحساسه للأصحاء من حوله بتقنية الاعتقاد والإيمان! لا يمكن لإنسان أن يعتقد بأنه مصاب بالبرد، ما لم يكن مصابًا به فعلاً! إنه ولكي يكون الإنسان قادرًا على صنع قناعاته وأحاسيسه، ينبغي أن يكون قادرًا على تجاوز المنطق، ولكي يكون كذلك ينبغي ألا يكون طبيعيًا ..، أي ينبغي أن يتم تحويله إلى إنسان آلي، وحينها لا يكون هناك معنى لما يقوله ولا قيمة لما يفعله، وسيان قبوله ورفضه! الإنسان الطبيعي لا يقول إلا ما يجده في نفسه، ولا يمكنه أن يعتقد أو يؤمن بما يشاء أو بالإكراه والأمر أو بالإغراء! لو كانت المشاعر والأحاسيس والقناعات تحدث بالأمر والإكراه أو بالرغبة، لما حدثت عملية طلاق واحدة .. فسيكفي أن يؤمر الزوج بحُب زوجته وقبول سلوكها، وأن يُكره على الإيمان بجمالها – بغض النظر عما يراه أمامه، وأن تؤمر الزوجة بالاعتقاد بأن زوجها الفقير والمنحرف، هو رجلٌ صالحٌ وصاحب ثروة ..، لتتوقف بذلك كل الخلافات الزوجية ولا يحدث طلاق أبدًا ..، بحسب تقنية الاعتقاد والإيمان، يمكن ألا يكون هناك إنسان واحد غبي، بل سيتحول كل البشر إلى علماء وفلاسفة، حيث ستصدر الأوامر لكل البشر بأن عليهم الاعتقاد بأنهم أذكياء، وعليهم الإيمان أن بإمكانهم استيعاب كل العلوم وتصور كل الأفكار! ​كل المشاكل والخلافات البشرية يمكن حلها بهذه التقنية لو كانت هذه التقنية قابلة للعمل بالفعل! تقنية الاعتقاد والإيمان بما يخالف الواقع والمنطق هي التي جعلت العرب والمسلمين أبطالاً بلا إنجازات، متقدمين بلا تقدم، منتصرين بلا نصر، وعلماء بلا عِلم، وإخوة أشقاء متباغضين متحاربين! في الحقيقة لا توجد في الطبيعة إرادة مستقلة عن تأثير قوانين الطبيعة ..، وقوانين الطبيعة تعمل وتقرر داخل الذرات والخلايا، وما سلوكنا وممارساتنا سوى تجسيد أو تعبير مُكبَّر لعمل قوانين الطبيعة داخلنا وتأثيرها الخارجي علينا .. الخضوع لقوانين الطبيعة يعني عدم امتلاكنا إرادة مستقلة نصنع بها رغباتنا ونقرر عبرها مشاعرنا ونتحكم من خلالها في سلوكنا ..، وهذا هو الواقع الحقيقي!

السبت، 19 فبراير 2022

الوجوديّة الطبيعيّة !

0 تعليق




معلوم أن ممارسة الوجود هي سلوك بشري مرتبط بالوعي، ما يعني أنه شيء آخر غير ممارسة الحياة والتي هي سلوك غريزي يشترك فيه البشر مع كل الكائنات الحية! لكن، من أكبر العيوب الطبيعية الخلقية المصاحبة للوعي أو لممارسة الوجود، هو القابلية للتوجيه المعنوي، وهو ما يعني القابلية للانقياد للآخرين، وبالتالي القابلية للوهم! هذا العيب سببه ضعف طبيعي وضعف مفتعل! الضعف الطبيعي ناجم عن وجود مساحات كبيرة خالية ومعتمة، في الوعي البشري، تعكس عدم الإحاطة بحقائق كل الأشياء والأمور (طبيعة الروح، بداية الكون ونهايته، المستقبل، ما بعد الموت، ..الخ)! كذلك ينجم الضعف الطبيعي عن الإحساس بالهزيمة الحتمية أمام الكثير من الأشياء المكتشفة (الكِبَر، المرض، النار، الكهرباء، السلاح، ..الخ). وهذا الإحساس الحقيقي بالضعف الواقعي، يؤدي إلى حدوث الضعف المفتعل، متمثلًا في المخاوف من المجهول! الضعف المفتعل هو ضعف ثقافي الطابع وخيالي بالأساس! مثلاً.. معظم البشر يخافون الموت، ويتمنون الخلود، وكثيرون منهم يُبررون ذلك بخوفهم مما بعد الموت – سواء عقاب أو فناء! ومع أن الأمر لا يبدو منطقيًا، حيث لا معنى للمبالغة في الخوف من الموت، ولا معنى إطلاقًا للخوف من العقاب والفناء، ولا حاجة للحلم بالخلود! ملاحظة: هذه المفاهيم تطرقنا لها تحت العنوان التالي.. ( ( بُعْبع الأديان ، ليس لغزًا ولا هو بمخيف!).). لكن في الواقع تم استغلال هذه المفاهيم لتوجيه الوعي البشري، فأصبح معظم البشر يُمارسون وجودهم بإيحاءات خارجية، مرتبطة بهذه المفاهيم وهذا الخوف المفتعل! التفجيرات الانتحارية وما شابهها، هي عبارة عن ممارسة للوجود، بتوجيه عقائدي! ممارسة العبث دون شعور بالمتعة ولا اعتبار للنتيجة، والهيام اللا منطقي بممارسة سلوك ما، والارتباط العاطفي المفرط بالأشخاص والرموز..، كل ذلك وما شابهه، هي ممارسات للوجود بتوجيهات أيديولوجية (نظريات)! ما يهمنا هنا هو إيضاح الخيار الثالث، الطبيعي، والكفيل بتحصين الوعي البشري ضد التوجيه! أساس هذا الخيار هو تفعيل الإدراك الذاتي، والقبول بنتائجه باعتبارها طبيعية وتعكس اختلافات حقيقية بين البشر! البشر عمومًا من حيث ممارسة الوجود، هم مصنَّفون بالضرورة إلى ثلاثة أصناف: إنسان عقائدي، إنسان وجودي مؤدلج، إنسان وجودي طبيعي! - المعتقدات الدينية تدعو لإعادة الوعي البشري إلى حالة السكون الكوني السابقة للوجود، وكأن ظهوره كان خطأً بالأساس! - النظريات الوجودية تدعو لوضع الوعي البشري في مهب رياح الوجود المادي، وكأن أداءه المنطقي قد توقف مع فشل المعتقدات! الوجودية الطبيعية تتحقق برفع التوجيه عن الوعي البشري العام، وتركه ينمو ويتموضع في الطبيعة بحرية وبشكل تلقائي، ويختار ما يناسبه من المعروض الفكري المتنافِس في الساحات الخاصة! معلوم أن ذوي القدرات الفكرية الخاصة والكبيرة، ليسوا محصنين ضد الخطأ، لكنهم قادرون على توجيه البُسطاء بالصواب والخطأ، ولذلك كثيرًا ما تنتشر أفكار خاطئة، تؤدي إلى انحرافات سلوكية اجتماعية، ثم يتراجع عنها مُطلِقوها لكن بعد فوات الأوان، وبعد أن تُصبح موروثًا ثقافيًا بشريًا يصعب اجتثاثه! صاحب الفكرة يستطيع التراجع عنها، بينما المُوجَّه بها لا يملك القدرة على التراجع عنها..، ذلك لأن صاحب الفكرة طبيعي، بينما المُوجَّه لم يعد طبيعيًا! لذلك ينبغي أن تكون خطابات وحوارات المفكرين والفلاسفة والفقهاء، موجهة لأمثالهم، القادرين على كشف أخطائهم وصد توجيههم! إن المجال الفكري والفلسفي والتنظيري، هو ببساطة مجال للتنافس واستعراض المواهب كغيره من المجالات! - المعتقدات تُصوِّر الإنسان على هيئة مصيدة للخطايا، وساحة لتجارب الحُذاق! - النظريات الوجودية، تُصوِّر الإنسان على هيئة مادة وساحة مفتوحة للتجارب الذاتية! - الإنسان الوجودي الطبيعي، هو الذي يرفض كل أمر يخالف المنطق الطبيعي، بما في ذلك المصلحة! مثلاً .. المعتقدات الدينية تدعو إلى الأمانة والصِدق، لكن ليس من منطلق أن الأمانة والصِدق فضائل حري بالإنسان أن يتحلى بها، إنما من منطلق أنه على الإنسان أن يؤمن بأن الكذب والظلم والخِداع خِصال سيئة ينبغي محاربتها، وأن مصداق إيمانه هو أن يجعل من نفسه ميدانًا لمعركة يخوضها آخرون ضد الخطايا، تبدأ بجهله وتستمر ببؤسه وتنتهي بموته! ولذلك نجد المعتقدات تدعو للإيمان تحت الوصاية والترهيب والترغيب والتحقير، والاتهام القائم والشك الدائم، والمعاقبة المُهينة المُذِّلة – من أجل تحقيق فضيلة! إن مجرد الحاجة للاستعانة ببشر غير معصوم، لمراقبة ومحاسبة ومعاقبة وتوجيه بشر تائه، هو خلل أساسي كفيل بإفشال كل نظرية وكل معتقد! الفكر الذي لا يهدف أو لا يؤدي إلى تفعيل الإدراك الذاتي لدى البشر، هو فكر مرحلي، محكوم عليه منطقيًا بالفشل! النظريات الوجودية تقول إن ما تدعو له المعتقدات الدينية، ليست فضائل ولا قيمة لها ولا يمكن تحقيقها..، وهي محقة في ذلك نسبيًا، لكنها لم تطرح بديلًا منطقيًا! الوجودية الطبيعية، هي إدراك أن الأمانة فضيلة وذات قيمة، لكن الإطار الذي وضعته حولها المعتقدات الدينية، أظهر هذه الفضيلة على هيئة سلوك مرفوض فطريًا! الوجودية الطبيعية هي إدراك أن الصِدق سلوك بشري طبيعي، وأن الكذب خيار بشري اضطراري – سببه تحميل البشر المسئولية عن اختلافاتهم، والمبالغة غير المبررة وغير الواقعية في تكريم الكائن البشري، ما جعله يضطر للكذب كي يظهر بالصورة المثالية – العقائدية أو الفلسفية – التي لا نواقص بها – والتي لا وجود لها في الواقع! في الواقع لا أحد مُطالَب بفعل الصِدق، الجميع مُطالَبون فقط بعدم فعل الكذب! وطالما كان الكذب ممكنًا، يكون حديثنا وحوارنا مع مَنْ لا نثق بهم، هو مساهمة منا في فعل الكذب! الخلل المشترك بين المعتقدات الدينية والنظريات الوجودية، هو افتراض المساواة الفكرية بين البشر، وتجاهل الاختلافات الطبيعية، وتجاهل تأثير القوة اللا إرادية الكامنة فيهم! إن توجيه المختلفين، إلى اتجاه واحد، يعني توجيههم في اتجاهات مختلفة، وبلوغ نتائج مختلفة! ومخاطبة المختلفين، بخطاب واحد، يعني مخاطبتهم بخطابات مختلفة، وتحقيق أهداف مختلفة! لكن، مخاطبة المختلفين، بخطابات مختلفة بحسب اختلافاتهم، يعني مخاطبتهم بخطاب واحد، وبلوغ ذات النتيجة وتحقيق ذات الهدف – إذا كان ذلك هو الهدف! ليست الوجودية الطبيعية هي مجرد انتقاد الآخرين، إنما هي تفعيل النقد لديهم، لكي يشترك الجميع في تصحيح المسار! الوجودية الطبيعية هي إدراك أن تجاهل اختلافات البشر، أو تحميل البشر المسئولية عن اختلافاتهم، هو جهل مطبق، وهو سبب كل الانحرافات، وهو بمثابة دفع وإكراه للبشر على ممارسة الكذب واللا واقعية! دعوة البشر للإقبال على وجود يفتقر للمعنى، لا تختلف عن دعوتهم للعبث، ولا تختلف عن دعوتهم للانتحار دون سبب..؛ فهي حث لهم على السير دون تحديد اتجاه – ولذلك يتصادم البشر ببعضهم وبالأشياء وبالمآسي؛ هي تشويه لمشهد طبيعي بدعوى محبة الوجود البشري؛ هي توجيه وتدخل غير مبرر في وجود الآخرين – بما لا يُحقق لهم سعادة آنية ولا يكفل نتيجة مستقبلية! السبيل للخلاص من حالة الوهم والتوهان، هو ممارسة الوجودية الطبيعية! الوجودية الطبيعية هي البديل الطبيعي الواقع بين النظريات الوجودية المتطرفة وبين المعتقدات الدينية الساذجة والغير محصَّنة ضد سوء الفهم والاستغلال! كما أسلفنا، فإن الخلل المشترك بين المعتقدات الدينية والنظريات الوجودية، هو توحيد الخطاب بافتراض المساواة الفكرية بين البشر..، بينما في الواقع، الاختلاف بين البشر من حيث المقدرة الفكرية، هو كالاختلاف بين الصاحي والنائم! السطحيون، كالنائمين في دار تحترق، توشك النيران أن تلتهمهم، وآخرون يسعون لإنقاذهم، بينما هم غارقون في أحلامهم! المعتقدات الدينية تُخاطب الصاحي والنائم بذات الخطاب، فتعتبر صمت النائم بمثابة فهم وموافقة، وتعتبر تساؤل الصاحي بمثابة رفض ومكابرة! كذلك النظريات الوجودية تُخاطب الصاحي والنائم بذات الخطاب، فتعتبر صمت النائم بمثابة جهل، وتوهان الصاحي بمثابة استجابة! الوجودية الطبيعية هي التفريق بين المستويات الفكرية المختلفة طبيعيًا!