face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

السبت، 30 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(5).

0 تعليق



الحُكم على أحدهم بأنه مجنون، هو مجرد تعبير عن حدوث جنون خاص يختلف عن الجنون العام..، حيث لا وجود لمرجعية أو معيار طبيعي محدد، يُقاس به مستوى عقلانية البشر وحدود الرُشد والصواب الفطري أو الحَدِّي أو المطلق – إن وُجد! فوجود مجموعة من المجانين في مكان واحد، يجعل من جنونهم معيارًا للعقلانية، ويجعل من سلوكهم وممارساتهم معيارًا للطبيعيات! وبالتالي يُصبح كل سلوك مخالف لسلوكهم، هو سلوك شاذ ومنحرف، ويُصبح صاحبه في نظرهم مجنونًا، حتى لو كان هو الصائب!

تكملة الموضوع… يوجد من البشر مَنْ يعتقدون بإمكانية تحقيق سعادة كاملة، وهؤلاء يرفضون الانطلاق من الواقع، لأن معطيات الواقع قد تم التحقق منها، وثبت أنها لا تحمل عناصر السعادة الكاملة! لكن، الضعف البشري أو العاطفة الإنسانية، تدفع الكثيرين من البشر، إلى رفض وضع أي احتمال يجعل من الواقع هو الحقيقة، أو أن الحقيقة هي الواقع! هؤلاء يعتقدون اعتقادًا جازمًا، أساسه الافتراض والضعف والأمل، وليس العِلم والجِدّ والأمانة..، يعتقدون بوجود شيء اسمه السعادة، ويُصرُّون على أن اختلاف الواقع عن الحقيقة المفترضة، هو سبب نقص أو غياب تلك السعادة! وعلى هذا الأساس نشأت الفلسفة، كباحث عن الحِكمة – الكفيلة بإزالة الاختلاف بين الواقع المعلوم والحقيقة المفترضة! هذا يعني أن الفلسفة عبارة عن معمل لتحضير الحِكمة، وأن الحِكمة هي السبيل لبلوغ الحقيقة! لكن هل من الصواب أو من الضرورة، الربط بين الحِكمة والحقيقة والسعادة؟ البشر يعرفون الواقع ويرفضون وصفه بالحقيقة، ويعرفون الحِكمة ويختلفون حولها، بينما لم يتمكنوا من تخيل الحقيقة المطلقة – فضلاً عن إدراكها أو إثبات وجودها! فأين الصواب وأين الحِكمة من السعي لبلوغ ما عجزوا عن تخيله، أو انتظار سعادة مرتبطة به؟ الفلسفة تُعنى بالبحث عن الحِكمة أساسًا – لا عن الحقيقة المطلقة! لكن، الفلاسفة مضطرون للاستعانة برمزية الحقيقة المطلقة، من أجل تمرير القصور في نظريات الفلسفة البشرية الابتدائية؛ حيث إن البشر يُمررون العيوب إذا نُسِبت إلى الحقيقة المطلقة، لكنهم لا يُمررون ذات العيوب إذا نُسِبت إلى الفلسفة أو الحكمة البشرية؛ ليس معنى ذلك أن البشر يعرفون الحقيقة المطلقة، ويعرفون أن بها عيوب ينبغي تمريرها، إنما يُمررون العيوب المنسوبة إلى الحقيقة لأن الحقيقة هي ملاذهم الأخير في رحلة هروبهم من الواقع، ولا خيار للمستجير غير القبول بعيوب الملاذ الأخير! والذي يحدث هو أنه، إذا نُسِبت عيوب إلى الحقيقة المطلقة، فإن ما يفعله البشر، هو أنهم يُنزِّهون الحقيقة من تلك العيوب، وينسبون العيوب لأنفسهم، وذلك حفاظًا على الأمل المفترض الذي يمنح وجودهم معنى واستمرارية – والمتمثل في ضرورة وجود حقيقة خالية من العيوب، وتحمل لهم السعادة! الإنسان العادي البسيط، يختصر الجُهد والوقت، فينسب غياب السعادة إلى غياب الحقيقة، وينسب غياب الحقيقة إلى قِصر الزمن، فهو يُحب أن يعتقد ويجتهد في الحفاظ على هذا الاعتقاد، الذي مفاده أن السعادة قرينة الحقيقة، وأن ظهور الحقيقة أمرٌ حتمي، لكنه يتطلب وقتًا أكبر من المتاح للبشر، وبذلك لا يتوقف البُسطاء عند الجانب النظري من الحياة، بل يحاولون عمليًا ممارسة قدر من السعادة بما لديهم من فتات زائل! يمكننا القول، بأن دخول مفهوم الحقيقة المطلقة، على خط البحث عن السعادة، قد قوَّض مشاريع الفلسفة، وأجهز على قيمة الحِكمة؛ حيث إن الاعتقاد بوجود حقيقة مطلقة، هو اعتقاد بوجود ما لا يستوعبه الزمان والمكان ولا يُدركه الإنسان! لكن، وتحت ضغط العاطفة والضعف والخوف، اضطر البشر إلى تحجيم وتصغير الحقيقة المطلقة، بحيث يمكنهم استيعابها! والذي حدث، هو أن الاعتقاد بوجود حقيقة تحتوي كل عناصر السعادة، قد أوحى إلى المغامرين والانتهازيين، بفكرة القفز مباشرة إلى تلك الحقيقة، متجاوزين الفلسفة والحكمة، مستغلين العشق البشري للحقيقة المفترضة، فتمكن الانتهازيون باسم الحقيقة من تمرير نظريات تحولت إلى أيديولوجيات، حاربت الفلسفة وتجاهلت الحكمة ولم تُحقق السعادة، لكنها استطاعت الاستمرار، بسبب ارتباطها المزعوم بمعشوقة البُسطاء– الحقيقة المطلقة التي تكفل السعادة التامة! في بدايات الوجود البشري، كان البشر مضطرين لوضع نظريات بدائية قاصرة، لتفسير كل ما هو مجهول! وعلى العكس من الفلسفة والحكمة النخبويتين، فإن تلك النظريات البدائية أو ما يمكن وصفها بنظريات الحقيقة المعلبة (المعتقدات)، قد خاطبت الأغلبية البسيطة التي تميل إلى القوالب الجاهزة! هذه النظريات، تُقر ضمنيَّا بأن إثبات وجود الحقيقة المطلقة هو أمر مستحيل، لكنها لا تقول ذلك بشكل مباشر يفهمه البُسطاء- خوفًا من نفورهم منها؛ وبدل ذلك تتحايل على البشر، بالقول بوجود حقيقة مطلقة، لكن إدراكها يتطلب من البشر فعل المستحيل! زعمت هذه النظريات بأن عيوب البشر هي الحائل دون ظهور الحقيقة وتحقق السعادة، فانشغل البشر بإصلاح عيوبهم وكأنهم مسئولون عنها، في حين أن البشر أضعف من أن يكونوا مسئولين عن ضعفهم الذي هو مصدر كل عيوبهم! لكن البشر أضعف كذلك من أن يُقرُّوا بعيوبهم، لأن الإقرار بأن العيوب جزء أساسي منهم، سيكون على حساب الأمل المفترض؛ وعلى هذا الوتر الحساس عزفت النظريات الجاهزة ألحانها! فوجود العيوب يمنع من إدراك الحقيقة، ولذلك افترضت تلك النظريات، أن تكون عيوب البشر مؤقتة ومرحلية، ومرتبطة بهذا الواقع الذي هو ليس الحقيقة! تقول هذه النظريات – ما معناه، إنه ولكي يتمكن الطبيب من معالجته، فإنه على المريض أن يَشفى من سَقَمِه قبل أن يذهب إلى الطبيب! حيث يقولون بأن الخلل في البشر وليس في المعتقدات، فلو أن البشر صالحون، لتمكنت المعتقدات من إصلاحهم، وبالتالي رفعهم إلى مستوى الحقيقة، ومن ثم إسعادهم! الواقع أن عدم صلاح البشر هو سبب وجود هذه النظريات وسر بقائها، وهي تعمل على تكريس عدم صلاح البشر – بنشر الدروشة وتشريع الخلافات بينهم-، ولا تعمل على إصلاحهم، لأن الإصلاح يستوجب تحرير العقل وحرية الفكر، وحرية الفكر تؤدي حتمًا إلى رفض كل ما هو غير معقول! إن الذي يدعي معرفة الحقيقة المطلقة، ثم لا يُجيب عن كل الأسئلة، هو إنسان غير سوي، أو تنقصه الأمانة والصدق – كي يكتفي بشرف المحاولة، ويكف عن المراوغة! نظريات الحقائق المعلبة، أوهمت البشر بأنهم مسئولون عن غياب الحقيقة، وأنهم مسئولون عن أفعالهم، فأوهمت الضعفاء بأنهم مسئولون عن ضعفهم، والفقراء عن فقرهم! وبظهور هذه النظريات، خسر البشر الفلسفة والحِكمة والحقيقة والسعادة معًا! نحن نعرف الحكمة على أنها السبيل لتحقيق السعادة لكل البشر، وأن السعادة تتحقق بتحقق الرضا والاطمئنان! ويمكن تعريف الفلسفة بأنها محاولة الإنسان لرؤية حقيقة يحجبها واقع؛ أي أن الفلسفة هي محاولة إزاحة الواقع من أجل رؤية الحقيقة! في جميع الأحوال لا يمكن تجاهل تأثير الواقع، إذ لا يمكن الانطلاق إلا من الواقع! وربما كان اعتقاد الإنسان بوجود حقيقة مطلقة، هو إشارة إلى أن تطور الإنسان قد تجاوز الحد الأقصى الذي تسمح به الطبيعة في هذا الواقع. فذكاء الإنسان قد مكَّنه من التمرد على بعض قوانين الطبيعية الأم؛ لكن حتمًا لن يكون بإمكان الإنسان التمرد على الطبيعة ذاتها! لأن حصول ذلك يعني تبادل الأدوار بين الإنسان والطبيعة، حيث يُصبح الإنسان هو أصل الطبيعة، ويتحول مفهوم الطبيعة إلى جزء من الإنسان..، وهذا غير ممكن! هذا غير ممكن باعتبار أن الإنسان يعتمد على الذكاء، والذكاء مصدر أساسي من مصادر ضعف الإنسان؛ فحسابات الإنسان تعتمد على المكسب والخسارة، بينما الطبيعة لا تعتد بالمكسب والخسارة، ولذلك يتردد الإنسان حيث لا تتردد الطبيعة! نخلص إلى القول، بأن الحقيقة المطلقة هي مفهوم لا يتجاوز قدرة الإنسان على التصور فحسب، بل يتجاوز قدرة الواقع على استيعابه، وليس الإنسان سوى جزء من الواقع! إن من البديهي القول، إن الوجود هو مفهوم يشمل كل ما يمكن أن يكون موجودًا! والحقيقة التي تحكم الوجود، لا يمكن أن تكون جزءًا منه! وأعتقد أنه لا يمكن كسر جدار هذه المفارقة، إلا بالنظر إلى الكون كحقيقة أزلية واحدة، تتفاعل مكوناتها ذاتيًا بحسب اختلاف خصائصها الأزلية! وليس الإنسان سوى جزء من الحقيقة المطلقة، لكنه الآن في حالة وجود، ولا يمكن للجزء أن يُدرك الكل طالما بقي موجودًا! إدراك الحقيقة يكون بالاتحاد بها، والاتحاد بالحقيقة المطلقة يعني التحول من حالة الوجودية إلى حالة الكونية..، أي العودة إلى ما قبل الوجود

الجمعة، 29 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(4).

0 تعليق


كل ما يصدر عن الإنسان، هي مضاعفات ونتائج حتمية، لمعطيات هو غير مسئول عنها بالأساس! لا شك أن وصف الإنسان بأنه سجين، بأحد معسكرات الكون، وهو معسكر الأرض، هو وصف جاد ودقيق وصحيح، لواقع قائم وحقيقة ماثلة! فالاتفاق متحقق، على أن الإنسان ليس مُخيَّرًا ولا مسئولاً عن وجوده بالأساس، ووجوده الجغرافي والتاريخي بشكل خاص! لكن، إذا كان عدم المسئولية عن الوجود قاسمًا مشتركًا بين كل البشر، فهل يتحمل الإنسان المسئولية عما بعد عملية الوجود؟ في الواقع، ليس الإنسان سجينًا جغرافيًا وتاريخيًا فحسب، بل هو مجند إجباري، وخاضع إلزاميًا لتدريبات وتوجيهات معينة مستمرة، ومنذ اللحظة الأولى لالتحاقه بمعسكر الوجود أو مخيم الحياة على الأرض! وأكثر من ذلك، هو مزود بإعدادات نفسية متغيرة متجددة، وهي التي تُحدِّدُ سلوك الإنسان وردات فعله الآنية، وهو غير مسئول عنها ولا سيطرة له عليها..، على اعتبار أنها تتغير لاإراديًا (أوتوماتيكيًا)، استجابة للظروف الخارجية! وهو ليس مسئولاً عن تدريبه وظروفه الخارجية، وبالنتيجة هو ليس مسئولاً عن سلوكه! وما يعنينا هنا، هو الاتفاق على أنه لا توجد للإنسان نُسخة نهائية – قبل الموت، بحيث يمكن أن نُحيط بكل مواصفاتها، لنفهمها ونُقيِّمه ونحاسبه على أساسها! إن آخر نسخة لكل إنسان – بأحدث إعدادات وآخر تحديثات-، هي تلك التي نراها ونتعامل معها في آخر لحظة نراه أو نتعامل معه فيها! فإذا كُنا نعتقد ونتعامل على أساس أن ظاهر الإنسان وباطنه شيئًا واحدًا! حيث يُحاسب جسد الإنسان على سلوكه الناجم عن إعداداته النفسية! وإذا كُنا نجد العُذر لسلوك المُعاقين ظاهريًا- جسديًا، لأننا نرى أسباب سلوكهم! فإن عدم قدرتنا على رؤية الأسباب الداخلية لسلوك الأصحاء جسديًا، لا ينفي وجودها! إذن، قبل أن نُعطي لأنفسنا الحق بالحُكم على الإنسان من خلال سلوكه؛ ينبغي أن نعرف مواصفاته وإعداداته في تلك اللحظة، ونعرف كيف تعمل نسخته الأخيرة تلك، تحت ظروفه في تلك اللحظة! قد يتساءل بعضنا: وما علاقتنا بوجود الآخرين وإعداداتهم وظروفهم؟ هل علينا أن نقبل سلوكهم إذا أضرَّ بمصالحنا، بحُجَّة أنهم غير مسئولين عن وجودهم وظروفهم وإعداداتهم؟ بكل تأكيد ليس هذا هو القصد! إنما القصد هو كشف مدى جهلنا بحقيقة الآخر؛ وكم من الخلافات يمكننا اجتنابها، إذا أدركنا أن الكثير مما نرفضه من سلوك الآخرين، هو من وجهة نظرهم سلوكًا طبيعيًا وينبغي أن يكون مقبولًا لدينا، وربما لا يعرفون غيره؛ وقد يعتقدون أن سلوكهم في أسوأ الأحوال يستحق النقد أو الرفض، لكن لا يستدعي الغضب ولا يستوجب العقاب! وبالمحصلة، إذا فعل أحدهم ما استوجب معاقبته، فينبغي أن نتذكر، أن أساس العقاب هو وجوده وليس سلوكه! ……………………………….. انتهى الباب السابق (3) من هذا الموضوع، بالقول: إن الواقع يُخبرنا أن سلوك وممارسات البشر، تدل على أنهم يعتنقون ثقافة إحدى ثلاث نظريات افتراضية، من حيث علاقة الأنا بالآخر: - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، ومعلوم الهوية! - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، لكنه مجهول الهوية! - نظرية تعتبر الوجود المادي للآخر مجرد فرضية، وبالتالي فهو مجهول الهوية حُكمًا! ملاحظة للتذكير: غني عن القول، بأن الحديث هنا ليس عن الهوية الاسمية الخارجية الاصطناعية التوافقية الإجرائية – الاجتماعية والسياسية والدينية..، الخ! إنما هو عن الهوية الذاتية الطبيعية للإنسان الفرد، والتي لا تحمل اسم حاملها – ذلك الاسم البشري الثقافي الاجتماعي العشوائي المتغير! هي تلك الهوية التي هي ذات حاملها، والتي تُحدد سلوكه الطبيعي، وتعكسها ممارساته في الواقع! ………………………… النظرية الأولى: وهي التي يسير وفقها معظم البشر، ولذلك تحدث الخلافات والصدامات وتستمر الصراعات! فهي نظرية خاطئة، لأنها تتعامل مع الآخر على أساس أنه معلوم لدى الأنا، بينما الواقع أن الأنا ذاتها تجهل جزءًا كبيرًا من هويتها هي، وليس فقط هوية الآخر! فلا يمكن للإنسان أن يعرف غيره، إلا من خلال ما يسمح به ذاك الغير، وذلك يعتمد على مدى معرفة الغير لذاته، ومدى قدرته على التعبير عما يعرفه! إن فهم ورؤية الإنسان لهويته الذاتية، تختلف بين النظري والعملي، كما تختلف في الظروف الطبيعية الاعتيادية -عنها في الأزمات! فالإنسان ذاته، ولكي يعرف حقيقة ومواصفات هويته الذاتية، هو بحاجة للمرور بكل الظروف والأزمات عمليًا! أو هو بحاجة لمقدرة فكرية ذهنية استثنائية، تُغنيه عن خوض التجارب عمليًا، وتُمكِّنه من خوضها نظريًا، والخروج بنتائج وأحكام تتطابق مع النتائج العملية! فإذا كان فهم الإنسان لحقيقة هويته الذاتية، هو بهذه الصعوبة- شبه المستحيلة! فكيف للأنا أن تحكم على الآخر، وتفترض أنه معلومٌ لديها! فالطبيعي هو أن الأنا لا تعرف عن الآخر إلا ما يقوله هو عن ذاته! وتعريف الآخر لذاته، يخضع لمعادلة، بها العديد من المجاهيل: حقيقة فهم الآخر لذاته، وحريته، أمانته، ثقته بالأنا، مقدرته الذهنية، درجة الوعي، المزاج الآني، الظروف الخاصة، البيئة العامة..، الخ! ولهذا فإن الحُكم على الآخر وفق هذه النظرية، لا يمكن أن يكون صائبًا، إلا من قبيل الافتراض أو من قبيل الصدفة- التي لا يُعوَّل عليها! النظرية الثانية: وهي الأقرب إلى الصواب، والأولى بالاتِّباع في معظم المعاملات والاتصالات البشرية العامة! حيث لا خلاف على الوجود الظاهري المادي للآخر عند عموم البشر. وأما حقيقة الآخر ومواصفاته الذاتية، فهي مجهولة! والتعامل مع الآخر على هذا الأساس، يوفر قدرًا كافيًا من الحذر المتبادل، يكفل للآخر حقوقه لدى الأنا، ويكفي الأنا شر الآخر، فيتحقق الحد الأدنى المطلوب للحياة الإنسانية! النظرية الثالثة: وهي التي تعتبر الوجود الظاهري للآخر موضع تساؤل، وبالتالي يكون الحديث عن هويته أمر سابق لأوانه دائمًا! وهي ثقافة فلسفية، بُنيت على أفكار بعض الفلاسفة وعلى بعض (الحقائق) العلمية! مما تتصوره هذه الثقافة، أنه لا يمكننا الجزم، هل أن الذي يجري في اليقظة هو الواقع الحقيقي، أم أن الواقع الحقيقي هو الذي تجري أحداثه في الأحلام – ونحن نيام! عِلميًا – حتى الآن على الأقل – كل شيء مكون من ذرات، والذرات يمكن اعتبارها أشياء خيالية، وبالتالي يمكن اعتبار كل شيء – بما في ذلك الإنسان – أو يمكن أن يكون كل شيء خياليًا بالفعل – من الناحية المادية! كذلك يرى معتنقو هذه الثقافة، أنه طالما أن الحواس هي القاسم المشترك بين البشر للحُكم على الأشياء، وهي وسيلتهم الأساسية لإثبات وجود الأشياء من عدمه، وحيث إننا نعتمد عليها اعتمادًا كاملاً في إثبات وجود الآخر وفي تعاملنا معه، وحيث إنه قد ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أن حواسنا يمكن اعتبارها خادعة لنا، ويمكن اعتبارها مخدوعة بواسطة الأشياء (السراب، والنظر من خلال الماء أو من خلال زجاج مقوس، الحركة الظاهرية الشمس، الثبات والتسطح الظاهري للأرض، وجود الميكروبات بالأطعمة والمياه، الفرق بين الهواء والفراغ، عمى الألوان، إحساسنا الكاذب ببرودة عالية في الهواء والأشياء – عندما ترتفع درجة حرارة أجسامنا، ..الخ)! فحيث إن حواسنا يمكن أن تخدعنا، أو أن حواسنا يمكن أن تخدعها الأشياء، إذن لا يمكن الجزم بوجود الآخر بالاعتماد على الحواس! وحيث إن الإثبات التقليدي لوجود الآخر، يعتمد على الحواس، إذن وجود الآخر غير مؤكد! فإذا اتفقنا على أن الوجود المادي للآخر غير مؤكد، يُصبح جهلنا بهويته تحصيل حاصل!
مما يلفت أو يستحق الانتباه هنا، هو أنه وعلى الرغم من غرابة النظرية الثالثة – المذكورة أعلاه، ورفض جُل البشر لها نظريًا- فيما يخص وجود الآخر، إلا أن الواقع العملي في حياة ومعاملات البشر، يكاد يعكس اعتناق جُل البشر لها! فالوجود المادي الجسدي للإنسان، إنما هو شاشة تستعملها الذات للتعبير عن هويتها! فإذا رفضنا سلوك الآخر، فذلك يعني عدم إقرارنا بوجوده كذات مستقلة ومنفصلة عن تصوراتنا وتوقعاتنا! وهذا يعني أن الآخر الذي نعترف بوجوده، ليس هو هذا الموجود أمامنا، إنما هو ذاك الموجود في مخيلتنا! وهذا يعني أننا نعتبر الوجود المادي للآخر بمثابة وجود افتراضي، بينما نرى الوجود الحقيقي للآخر هو ذاك الموجود في مخيلتنا! إن إكراه الإنسان على فعل شيء أو ترك شيء، هو أوضح دليل على عدم الإقرار بوجوده ككيان مستقل عنا! إن إقرارنا بوجود الآخر واستقلال هويته، يتحقق بحصر أصناف البشر، وليس بدمج أنماطهم وتوحيد سلوكهم- كما هو حاصل! فكل فرد من البشر، هو الوحيد القادر على وصف ذاته، وذلك من خلال سلوكه وممارساته! فإذا اتفق البشر على رفض ممارسات أو سلوك بشري معين، وقرروا أن يكون الإعدام مصيرًا لفاعله، فإن الوصف الدقيق والصحيح لقرارهم هذا، هو أن صِنفًا من البشر، يرفضون وجود صنف آخر من البشر! إذ لا معنى للقول بأن صنفًا من البشر يرفضون سلوك صنف آخر من البشر، إلا باعتباره إنكارًا لوجودهم ككيانات مستقلة عنهم..، وهذا يتوافق مع تصورات هذه النظرية الفلسفية، حول معنى وحقيقة وجود الآخر لدى الأنا! إن الأنا لا تقول، لكنها تُمارس، رفض الواقع وعدم الإقرار بوجود الآخر، وذلك من خلال حُكمها على الآخر الموجود في الواقع – لا من خلال سلوكه وممارساته العملية – ولكن من خلال صورته الثقافية والتاريخية والعقائدية لديها! المسلمون يرفضون غير المسلم – لا بسبب سلوكه العملي في الواقع- إنما بسبب صورته الثقافية والتاريخية والعقائدية لديهم! إن التعصُّب العِرقي والمذهبي والطائفي، هو تجاهل أو إنكار للواقع العملي، وتعامل مع الآخر على أساس الصور الذهنية، وهو الأمر الذي يجعل الإنسان يرى صواب جماعته في ذهنه، ولا يرى أخطاءها في الواقع العملي! وفي هذا ما يدعم فرضية وطرح النظرية الثالثة – سالفة الذكر-، ويُشير إلى اعتناق الكثيرين من البشر لها! فصورة الآخر لدينا، هي التي تحكم علاقتنا به، وليس وجوده وسلوكه في الواقع!

الخميس، 28 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(3).

0 تعليق



لماذا تنتشر مظاهر الفوضى والعبث، بمجرد غياب
 السلطة السياسية في أي مجتمع بشري..، على الرُغم من وجود مفترض للوازع الديني والأخلاقي الذاتي- المستقل عن السلطة السياسية! الجواب: لأن غياب السلطة السياسية، يعني انتفاء الحاجة للتمثيل والتزييف عند البُسطاء والضعفاء- وهم الغالبية دائمًا! فسلوكهم الظاهري الموحد، الذي تفرضه عليهم القوانين والتشريعات والأعراف بواسطة السلطة..، لا يعكس طبيعتهم الحقيقية إنما يطمس اختلافاتهم الطبيعية! وأما مظاهر الالتزام الديني والأخلاقي، فهي في جُلها عبارة عن مُسكِّن وبديل احتياطي، يلجأ إليه الإنسان عادة، عند الضعف وغياب الحرية! بالطبع، ليس المقصود هنا، القول بأن الفوضى هي السلوك الطبيعي للبشر! فالإنسان مضطر للحياة الاجتماعية – ليس حُبًا فيها بالضرورة- إنما لأنه غير مُهيأ للحياة الفردية! والحياة الاجتماعية تتطلب مراعاة مصالح الآخرين، وهو ما يعني ضرورة الاتفاق على حد أدنى من الانضباط العام! لماذا إذن، ممارسة الفوضى بمجرد انهيار السلطة؟ إن الانفجار الفوضوي البشري الشرس، الذي يعقب انهيار كل سلطة عادة، هو ردة فعل عنيفة لكنها طبيعية وحتمية، فهي تعكس إعلان الآخر المقهور عن تحرره، وإعلان الذوات المغمورة عن وجودها! هو تصريف مفاجئ لمخزون كبير ومتراكم من الكبت والتزييف الإجباري! ولذلك نلاحظ تسارعًا وتنافسًا في ممارسة الفوضى لحظة سقوط السلطة، وذلك يعكس الخوف من رجوعها قبل تفريغ الشحنة! وليس بالضرورة أن تكون السلطة – أشخاص الرئيس والحكومة – هي المقصودة مباشرة بردة فعل البُسطاء والضعفاء الفوضوية، إنما المقصود كل ما هو مرفوض لديهم من تشريعات وعوائق خلقت الفوارق بينهم وبين الأقوياء والحُذاق – في وجود السلطة! وربما كان السبب لكل ذلك هو تلك القوانين والتشريعات والأعراف التي تتعامل مع البشر في المستويات الدنيا، كقطعان متساوية – لا كأفراد مختلفين!

البشر يُقرُّون باختلاف الحيوانات عن بعضها، ويتجاهلون اختلافاتهم! حقوق الحيوان، تعني توفير البيئة الطبيعية لكل صنف من أصناف الحيوان! والواقع أن الإنسان يُعاني من غياب البيئة الطبيعية أكثر من معاناة الحيوان! فالبشر بحاجة لإعلان عالمي لطبيعة الإنسان، وليس لحقوق الإنسان! الاختلافات الطبيعية بين الحيوانات خارجية، ولذلك كان أساس حقوق الحيوانات هو توفير بيئة طبيعية خارجية، تعكس اختلافاتها الخارجية! ولأن الاختلافات الطبيعية بين البشر داخلية، فإنه لا قيمة للحديث عن حقوق الإنسان ما لم يكن أساسها توفير بيئة طبيعية تعكس اختلافات البشر الداخلية! 
 تساهل أو إذعان القادرين على عدم الإذعان، للثقافات والأعراف والمعتقدات، التي تتجاهل اختلافات البشر الطبيعية، وتختزل سلوكهم في نمطٍ واحد، تفرضه على الكل، وتمنحه صفة السلوك السَوِي، لتُحرِّم أو تمنع أو تُسفِّه كل سلوك يُخالفه..، هذا التساهل أو الإذعان لا يمكن فهمه كقناعة لدى العارفين، ولا ضعف لدى القادرين! إنه إنما يعكس جهلاً أو رغبة، في دفع الضعفاء والبُسطاء لممارسة الكذب والخداع والنفاق..، فهؤلاء مضطرون لمحاكاة السلوك المفروض،.. أي تزوير المستند المطلوب لنيل الحد الأدنى من الاحترام- فيتظاهرون بتبني السلوك الذي يتجاهل اختلافاتهم ويصطدم بفطرتهم! وتكون النتيجة أو كانت، ظهور مجتمعات من الكاذبين والمنافقين والمخادعين، المجبرين على رفع شعار: السلوك البشري السَوِي المُوحَّد- طالما وُجِدت قوة تفرضه! فقد صار لزامًا على الإنسان أن يكون استثنائيًا لكي يعترف له الآخرون بأنه مختلف عنهم، وبأنهم يجهلونه..، وهو ما من شأنه حصوله على قيمة ذاتية وخصوصية يحترمها الآخرون، وتفرض عليه هو احترام ذاته..، وهو الأمر الذي لو تحقق بشكل طبيعي لكل إنسان، لما كان استقرار المجتمعات رهنًا بوجود سلطة سياسية! إنه ومن حيث المبدأ، لا فرق بين شجار الأطفال وملاكمة الكبار ومصارعة الثيران والتنافس على السلطة؛ فكل ما يجري في ميادين التنافس البشري بشري، هو بالأساس وبالنتيجة محاولات من كل الأطراف لانتزاع اعتراف بوجود اختلاف يجهله الآخرون..، وذلك في مقابل وضع قائم يرفض الإقرار بوجود الاختلاف أو يُسفِّه المختلف! كان التنافس سيكون طبيعيًا، لو أنه استمر كما كان بين الإنسان والجوع؛ بين الإنسان والطبيعة؛ بين الإنسان والمرض؛ بين الإنسان والجفاف، بين الإنسان والجهل..، الخ..، أي أنه تنافس في مجالات مختلفة ولغاية واحدة.. هي مصلحة وراحة الإنسان! وكان التطرف عندها سيكون مطلبًا إنسانيًا، لأنه يعني بلوغ أقصى ما يمكن بلوغه مما ينفع الإنسان! وكانت الوسطية- التي يطلبها البشر اليوم وقد استحال حدوثها- ستكون مرفوضة- باعتبارها كسلاً وتخاذلاً! بيد أن الأمر لا يستحق التجاهل، ولا يتطلب كل هذا الجُهد وكل هذه السلوكيات التنافسية البدائية، إنه يتطلب فقط سن تشريعات، تؤسس لإقرار الجميع بأن المجتمع البشري هو مجموع أفراد مختلفين لا إراديًا، وأنه لكل فرد منهم ما يميزه ويجعله مختلفًا عن سواه ومجهولاً لهم- بما يوجب احترام خصوصيته! أما عندما يتطلب الأمر من كل إنسان أن يكون قادرًا على تجاوز الواقع واستحضار الحقيقة (صُنع معجزة)، لكي ينتزع من الآخرين الإقرار بالواقع- لا بالحقيقة! فالحقيقة هنا لا تُدرك، إنما تُستحضر ليُدرك من خلالها الواقع! الواقع هو وجود الاختلاف بين البشر، أما الحقيقة فهي ما وراء هذا الاختلاف..، وهو ما لا يمكن إدراكه، أو ربما لا حاجة بالبشر لإدراكه- قياسًا إلى التكلفة! عندما يكون الأمر على هذه الحال، وهو كذلك، فهذا يعني أن الإقرار بالاختلافات الطبيعية بين البشر، أصبح ميزة لا يتمتع بها غير القادرين على انتزاعها! بينما يتم التعامل مع الغالبية العظمى من البشر كمستنسخين- لا يمكن أو لا يحق لهم أن يكونوا مختلفين، وبذلك تُسنُّ القوانين والتشريعات- التي تحكم عامة الناس- على مقاس فرد افتراضي، له مواصفات محددة! هذا الأمر يترتب عليه بالضرورة خرق تلك القوانين والتشريعات بواسطة المختلفين عن ذلك الفرد الافتراضي! والمختلفون هنا، يمكن أن يكونوا كل البشر! هذا الأساس الخاطئ، جعل من القوانين والتشريعات وسيلة لصنع إنسان وليس سبيلاً للتعامل مع الإنسان! إن الصواب والطبيعي هو أن لا نكون بحاجة لإثبات الواقع..؛ لكن إصرار المتنفذين من البشر على تجاهل وتجاوز الواقع، جعل من إثبات المثبت ضرورة! إن الواقع عبارة عن مرآة تعكس حقيقة – أي أنه مرآة تُثبت وجود حقيقة- لكن لا تُحقق إدراكها! البشر يتوارثون اعتقادًا خاطئًا، مفاده أن الآخر لا يمكن أن يكون إلا أحد احتمالات بشرية معدودة ومحصورة ومعروفة! 
. لماذا نستغرب سلوك الآخر عندما يخالف توقعاتنا؟ لأننا نعتقد أننا نعلم كل المعطيات والخلفيات التي تصنع سلوك الآخر، ولذلك نعتقد أن سلوك الآخر لا بد وأن يكون في متناول تخيلاتنا وحساباتنا..، وإذا خالف توقعاتنا وجب انتقاده أو عقابه..، فلكي تكون توقعاتنا صحيحة، كان لا بد أن نفترض أن سلوك الآخر المخالف لتوقعاتنا هو انحراف متعمد! نحن كذلك، لأن وعينا – سواء عن قصد أو عن جهل- قد تم توجيهه وتصنيعه ليكون أقل من أن يستوعب وجود ذات أخرى مستقلة ومختلفة عن ذاتنا! فنحن نقر للآخر بالوجود المادي المنفصل عنا-فحسب! نحن لا نعترف باستقلال الآخرين عنا كذوات نجهلها، بل ككائنات نعرفها ويمكننا أو يحق لنا أو من واجبنا احتواؤها! نحن نعرف الآخر من خلال صورة نرسمها له في أذهاننا، وليس من خلال وجوده وسلوكه الفعلي في الواقع! نحن نرسم للآخر صورة في أذهاننا بمجرد أن يدخل مجال الإدراك لدينا- عن طريق المجتمع، التعليم، الإعلام، الثقافة، التاريخ، ..الخ؛ ثم نقوم بتضمين تلك الصورة كل المواصفات التي نعتقد مسبقًا أنه ينبغي أن يحملها الآخر ولا يمكن له الخروج عنها؛ ثم نتخذ من تلك الصورة مقياسًا للأصل! وبالتالي فإن رفضنا لسلوك الآخر، هو تعبير عن رفضنا للواقع، وعن خيبة أملنا في الحقيقة التي ظهرت بغير ما كُنا نتوقع ونرغب! هذا السلوك من الأنا تجاه الآخر، يمكن اعتباره حالة مَرَضية بشرية متوارثة؛ حيث يتوارث البشر اعتقادًا خاطئًا، مفاده أن الآخر عبارة عن واحد من احتمالات بشرية معدودة ومحصورة ومعروفة! لذلك توجب على الآخر أن يكون استثنائيًا، لكي نُقر له بوجود مستقل ومختلف عنا! فصار لزامًا على الآخر أن يكون سيدًا، رئيسًا، مَلِكًا، عالِمًا، غنيًا، مشهورًا، ..الخ، لكي تعترف له الأنا بأنه مختلف عنها وأنها تجهله! إثبات الذات للآخرين يكون بإثبات الاختلاف عنهم! والواقع أن الأنا تشعر بأن أي قيمة تُعطيها لأي آخر، إنما تكون على حسابها ومن رصيدها؛ لذلك كان سعي الأنا دائمًا باتجاه التقليل من شأن وقيمة الآخر؛ وكان سعي الآخر دائمًا باتجاه فرض التنافس لانتزاع نصيبه من القيمة المفترضة والمتنازع عليها عمليًا! ولذات السبب، نحن نمنُّ على الأحباب والأصدقاء بما نُقرُّ به لهم من قيمة- ممثلة في مكانتهم لدينا؛ ونفخر بمكانتنا لديهم- لأنها تُمثِّل لنا إقرارًا منهم بجزء من قيمتنا المُجزَّأة- التي نبحث عن أشلائها في كل مكان وبأي وسيلة! ولذات الأسباب، نحن ندَّعي معرفتنا بالآخر، ونرفض الإقرار بأنه مجهول لنا، ذلك لأن الإقرار بجهلنا به هو إقرار ضمني بأن له قيمة ووجود مستقل عنا، وفي ذلك إقرار بنقص فينا، ولذلك نرفضه! لو أن إدراكنا للوجود البشري، توقف عند اتفاقنا على وجود ظاهري يتكون من: أنا وآخرين؛ لكانت علاقة الأنا بالآخر طبيعية، وليست اصطناعية كما هي الآن! وذلك باعتبار أن الإدراك الظاهري للوجود هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة حتى الآن! لكن الأمر تجاوز إدراك الأنا لوجود الآخر، إلى اعتقاد الأنا بمعرفة ماهية الآخر..، وبسبب هذا الاعتقاد الخاطئ..، شهدت العلاقات البشرية إخفاقات وصدامات ومظالم- ما تزال قائمة! ومن أهم النتائج المترتبة على هذا الاعتقاد الخاطئ، والتي نلمسها في الواقع: 1- ظهور ثقافة الوصاية الفكرية..، وكان ذلك نتيجة حتمية لاعتقاد الأنا بمعرفة الآخر؛ حيث إنه قد نتج عن هذا الاعتقاد، حق الأنا في التكهن بسلوك الآخر، فأصبح كل سلوك من الآخر مخالفًا لتكهنات الأنا، هو بمثابة انحراف متعمد ومرفوض- في نظر الأنا! 2- تشريع الصدام بين الأنا والآخر..، الصدام في حدود تضارب المصالح المعلومة، هو أمر طبيعي وجزء من القانون العام للوجود، لكن ومع اكتشاف عناصر القوة وامتلاكها، لم تعد الأنا القوية تكتف بانتقاد سلوك الآخر الضعيف- المخالف لتكهناتها، ولم تعد تكتف بصدام المصالح الطبيعي..؛ فإحساس الأنا بالقدرة على توجيه الآخر وتحديد سلوكه، أشعرها بأن لها الحق في تصويب الآخر، واتخذت من ذاتها ومصالحها معيارًا لما ينبغي أن يكون، فأصبح التصويب يُعادل الإخضاع، فكان تشريع الصدام وتبريره! 3- ظهور مفهوم الـ ( نحن ) إلى حيِّز الوجود الثقافي والاجتماعي- على الرغم من استحالة وجوده في الواقع! حيث إن مفهوم الـ(نحن) يُشير إلى مجموع (الأنا)، وتلك مغالطة، إذ لا يمكن جمع الأنا، ولا يمكن أن يوجد أكثر من أنا واحدة، فكل ما هو موجود عبارة عن أنا واحدة- وكل ما عداها هم آخرون بالنسبة لها! من الواقع، يمكننا القول بأن البشر يتوزعون ثقافيًا بين ثلاث نظريات افتراضية- في علاقة الأنا بالآخر: - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، ومعلوم الهوية! - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، لكنه مجهول الهوية! - نظرية تعتبر الوجود المادي للآخر مجرد فرضية، وبالتالي فهو مجهول الهوية حُكمًا

الأربعاء، 6 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(2).

0 تعليق



نظرية لا تُفسِّر الوجود إلا بطمس بعض معالمه، لا يصح اعتبارها نظرية لكل الوجود! ودستور لا يستوعب البشر إلا بسحق بعضهم، لا يصح اعتباره دستورًا لكل البشر! فلو أن نظرية علمية، اشترطت استثناء الحديد من  معادلاتها، لكي تتعامل مع المعادن..، فإنها في أحسن الأحوال ستحصل على وصف: نظرية قاصرة أو ناقصة! أو أن نظرية اشترطت استثناء المشتري، لكي تضع معادلة لفهم ووصف الكواكب..، فهي نظرية قاصرة أو ناقصة! كذلك لو أن أحدهم جاء بدستور، وادَّعى أنه يصلح لكل البشر وأنه صالح لكل زمان ومكان، ثم اشترط قتل أو إكراه أو سلب إرادة كل من لا يقتنع بهذا هذا الدستور..، فإن مثل هذا الدستور لن يحصل حتى على صفة " دستور قاصر أو ناقص"، لأن وصفه الصحيح هو أنه: دستور وهمي عبثي لا إنساني استبدادي إجرامي بربري همجي كاذب مزور فاشل!
- المنتحرون دون تردد، والذين تسيل دموعهم دون تكلف، عند اصطدامهم الفردي المباشر بالمأساة العامة..، هؤلاء يفرضون احترامهم بدرجة كبيرة لا يبلغها سواهم! ذلك لأنهم يُجسِّدون الصورة النهائية للمشهد العام في مواقف فردية لحظية صادقة صادمة، متجاوزين مراحل العبث التي يتنافس حولها ويسعد بها الواهمون! - المنتحرون هم أناسٌ صادقون مع أنفسهم، لكنهم لا يستطيعون البُكاء عند الحاجة إلى البكاء، لذلك يُريقون دماءهم بدل الدموع!
 تكملة الموضوع.. إن حدوث القلق الطبيعي التلقائي، مرهون بنضوج الوعي بشكل طبيعي، فإذا لم ينضج الوعي، امتنع حدوث القلق التلقائي، وهذه حالة طبيعية لا ينبغي تلويثها بفرض القلق من الخارج! إن القلق يحدث عندما يشعر العاقل بأنه قادر على الفهم والفعل، ثم يصطدم بعجزه عن الفهم والفعل! إن إقرارنا بوجود الاختلاف بين البشر، وبعدم مسئوليتهم عنه، يُلزمنا بمبدأ: أنَّ ما يُحسب لإنسان لا يُحسب على غيره! فما يُبرر مدحنا لبعض البشر، لا يبرر لنا ذم غيرهم! إن ما استطاع جاليليو وكيبلر ودافنشي وآينشتاين وبوهر وستيفن هوكنج وأمثالهم، تصوره وفهمه وتحقيقه، هو مبرر لمدحهم، لكن من الطبيعي ألا يُعاب على غيرهم عدم قدرتهم على مجاراتهم، والأهم ألا يُكرَه بقية البشر على النفاق والرياء بالتظاهر بقدرتهم على تصور وفهم وتحقيق ما حققه أولئك العباقرة! هذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال في كل المجالات..، لكن مع الأسف ليس هذا هو الحال في مجال المعتقدات- مثلاً! فالإنسان في هذا المجال، يُذم ويُهان، فقط لأنه لم يستطع مجاراة غيره، أو لأنه لم يستوعب ولم يقتنع بما قالوه! ثم يُجبر ويُكره على الإقرار بأنه أقل قيمة منهم، أو يُكره على النفاق والتظاهر بأنه قد فهم واستوعب نظرياتهم واقتنع بها! لنا أن نتصور كيف تكون حياة وسلوك إنسان بسيط، وهو مُكره على الإقرار والتظاهر بأنه قد استوعب واقتنع بكل ما قاله واستوعبه ستيفن هوكنج في الفيزياء النظرية، وما قاله واستوعبه بوهر في فيزياء ما تحت الذرية! إن سلوك الإنسان المُكره على إظهار القلق، يكون كسلوك الحاسوب المُكره على تشغيل برنامج هو ليس معدًا لتشغيله، فيكون بحاجة لتدخل المشغل في كل خطوة، وفي النهاية يعجز الجهاز عن العمل تمامًا، ويُصبح أداة جامدة- تُستعمل ولا تعمل! إن التربية والتلقين باسم التوعية، هي في الواقع قتل وتحريف متعمد للوعي الطبيعي، من أجل خلق قلق مزيف لدى الإنسان، يجعله بحاجة دائمة لتدخل أولئك الذين خلقوا لديه القلق المزيف، وهذا ما يفعله الدُعاة مع البُسطاء! بينما القلق الطبيعي الناتج عن وعي طبيعي، يُحصِّن الإنسان ضد التزييف والتخويف، فلا يقبل إلا إجابة طبيعية مكتملة الأركان عن تساؤلاته، وهو يُفضِّل البقاء في دائرة الحيرة الصادقة على الخروج إلى فضاء الأحلام والاعتقاد! إن الحقيقة المطلقة التي يستقيم بها الوجود، ربما أمكن استنباطها من حياة الحيوانات، حيث إنها لا تعرف القلق! الحيوانات تعرف الخوف، والخوف غريزة مرتبطة بالحياة والوعي! الخوف قلق لحظي، والقلق خوف مستمر! القلقون ينظرون إلى بقية البشر- الذين يستمتعون بحياتهم- كأن ليس فيها ما يستوجب القلق- على أنهم سُذَّج بُسطاء، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن القلقين يحسدون البُسطاء على بساطتهم، والتي لا يمكن أن تكون إلا حقيقية، فالقلق إما أن يكون أو لا يكون، فهو ليس إراديًا وليس موضوعًا للمزاح! إن القلق يمكن تصديره رغم أنه مُكلِف، بينما البساطة لا يمكن استيرادها رغم أنها مجانية! القلق يأتي نتيجة طبيعية لنضوج الوعي، وقد ينشأ القلق بسبب موقف معين أو نتيجة انتباه مفاجئ! بينما البساطة هي وضع ابتدائي قابل للتغير، لكنه غير قابل للاستعادة بعد التغير! ولذلك فإن إصرار النخبة من البشر على تأصيل وعقلنة المبادئ، كان لا بد أن يُنتج لدى البُسطاء الكذب والنفاق؛ ذلك لأنه ولكي تسير الحياة لدى جُل البشر، فهي تستوجب البراغماتية واللا مبدئية – حيث إن الالتزام بالمبادئ يصطدم مع المصالح بالضرورة، وحيث إن النخبة من البشر قد افترضوا أن المبادئ عنصر أساسي من الإنسانية، فلم يكن أمام البُسطاء والضعفاء الغير قادرين على دفع فاتورة المبادئ، ومن أجل إثبات انتمائهم للإنسانية، سوى التظاهر بالمبدئية، فكان الكذب والنفاق! وكذلك فإن ترسيخ الاعتقاد بوجود حقيقة مطلقة مستقلة، كان لا بد أن يُفضي إلى الموت أو إلى الجنون لدى الصادقين! فإذا كان الإنسان على درجة كافية من الوعي، تؤهله لطرح السؤال، وتبنى مشروع البحث عن الحقيقة المطلقة، بذاته ولذاته، فإنه حتمًا سينتهي إلى الانتحار إذا لم يسبقه الجنون! وإذا كان الانتحار موتًا ماديًا، فإن الجنون موت معنوي، فالنتيجة واحدة في كل الأحوال! أما الذين ادَّعوا معرفة الحقيقة المطلقة كمشروع للآخرين، فهم مستثنون من قاعدة الانتحار والجنون، لأن حقيقتهم مصطنعة ومفصلة على مقاسهم؛ ومع ذلك فهم يُبررون ويُشرِّعون قتل الآخرين الذين يتعارض وجودهم مع حقيقتهم المزعومة ..، وبالنتيجة فإن الحقيقة التي لا يستوعبها الإنسان إلا بالانتحار أو بالجنون؛ والحقيقة التي لا تستوعب البشر إلا بقتل بعضهم، هي حقائق وهمية يرفضها الوجود الطبيعي! في المجتمعات البشرية الأكثر تمدنًا وتطورًا، بدأوا بإلغاء عقوبة الإعدام مهما يكن جُرم الإنسان؛ وهذا مؤشر على أنهم بلغوا من الوعي درجة، أدركوا معها أن الحقيقة تظل ناقصة ما لم تستوعب الجميع..، وهذه هي أقرب نقطة إلى الحقيقة المطلقة بلغها البشر حتى اليوم! بحسب القانون الطبيعي، لا يوجد فرق من حيث النتيجة، بين قتل "س" من الناس بحكم القانون، وقتل "ص" على يد إنسان آخر! الفرق الواقعي هو أن "س" قد قُتِل، لأن جماعة كبيرة قوية من البشر قد أجازوا قتله، بينما "ص" قد أجاز قتله واحد أو مجموعة صغيرة من البشر! في الحالتين، يكون مبرر القتل هو رؤية بشرية محدودة- قد تكون خاطئة وقد تكون صائبة! ما أردتُ قوله، هو أن قتل الإنسان للإنسان، ومهما كانت مبرراته وحيثياته، فهو في أحسن الأحوال إجراء تنظيمي للمحافظة على شكل معين للمجتمع البشري، وفق رؤية مجموعة من البشر، لكن لا علاقة له بالحقيقة المطلقة! فاتفاق المعتقدات والأعراف البشرية، على أن الإنسان هو العنصر المركزي في الوجود، لا يصح معه تشريع قتله بأي حال من الأحوال! إن الشريعة التي لا تقوم إلا على جثث بعض البشر، لا يصح اعتبارها شريعة لكل البشر! كما أن النظرية التي تشترط إلغاء بعض عناصر الوجود، لا يصح اعتبارها نظرية لكل الوجود! الوجود بشكل عام، والوجود البشري بشكل خاص، يبدو كمحاولة عملية فاشلة، لمحاكاة، حقيقة نظرية مفترضة! الوجود انقسم على نفسه مرتين بسبب الإنسان: الإنسان، هو أحد عناصر الوجود، تفوَّق بذكائه على بقية العناصر، فتمرَّد الجزء على الكل، حيث أصبح الإنسان يتعامل مع الوجود، كمراقب له لا كجزء منه ..، وبهذا يكون الوجود قد انقسم على نفسه – المرة الأولى! ثم انقسم الإنسان على نفسه، عندما نصَّب الأكثر ذكاءً من البشر، أنفسهم، أوصياء على بقية البشر- الأقل ذكاءً ..، وبهذا يكون الوجود قد انقسم على نفسه للمرة الثانية! إن بحث الإنسان الدائم عن الحقيقة، هو إقرار منه، بأنه جزء من مشهد مزيف، وفي أحسن الأحوال هو جزء شبه معلوم من مشهد غامض! أقول بأن الإنسان جزء شبه معلوم، لأن غيره جزء شبه مجهول، فالإنسان يمتلك اللغة، ويستطيع التعبير عن ذاته دون حاجة لإخضاعه لتجربة معملية، لكنه يظل تعبيرًا ناقصًا إما بسبب نقص المعرفة، أو عدم الرغبة، أو ضعف اللغة، أو غياب المصداقية التامة! أما غير الإنسان، فكلها أشياء لا نعرف عنها إلا ما استطعنا انتزاعه منها دون إرادتها، وبقدر معرفتنا بخصائصها، ولذلك فهي أقرب إلى المجهول منها إلى المعلوم! هذا كله، يُعتبر واقعًا ماثلًا بالنسبة للبعض منا، لا يمكن تجاهله أو نسيانه! والبعض الآخر من البشر- الذين لا يرون هذا الواقع الماثل-، لو أنهم تمكنوا من استحضار هذا الواقع على صورة حقيقة في أذهانهم، لما أصبح الاختلاف الطبيعي مصدرًا للخلاف المصطنع

الجمعة، 1 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(1).

0 تعليق


الطبيعي هو التعامل المنطقي مع الواقع، وذلك باستعمال المعلوم لاكتشاف المجهول! لكن ذلك لا يكفل السعادة ولا يعتد بالعواطف..، لذلك ظهرت نظريات الوهم! الوهم هو افتراض مجهول على مقاس العواطف والأحلام، واستعماله لتجاهل المعلوم! المعلوم هو الواقع، ولأن الإقرار بالواقع هو إقرار بوجود ما لا يُحقق أحلام الواهمين! لذلك يتعامى الواهمون عن سذاجة النظريات التي يؤمنون بها، لأنها تُمثِّل لهم تحقيق المستحيل، وهو تجاوز الواقع! نحن بحاجة إلى فقدان جزئي للوعي، لكي نتجاهل مأساة ونفتعل سعادة! خرج البشر بفضل هذه النظريات من عالم الواقع الكئيب إلى عالم الحُلم السعيد، فنظروا إلى صورة الواقع في مرآة الوهم، فبدا لهم الضعيف قويًا، والذليل عزيزًا، والفقير غنيًا، والميت حيًا، …الخ! ولذلك فإنه من الصعب- وربما من غير المعقول- محاولة إخراج الواهم من وهمه، لأنه يُعادل إخراج السعيد من سعادته! إن الواقع مرفوض لأنه معلوم، والحقيقة المفترضة مقبولة لأنها مجهولة! المعلوم.. لا مجال فيه للوهم والعاطفة والأماني، ومن هنا كان الواقع مرفوضًا! المجهول.. مجال يتسع لكل ما يمكن أن يأتي به الخيال، ومن هنا كان قبول الحقيقة! إن الحقيقة هي الواقع، في نظر الذين يصنعون الواقع! والحقيقة هي نقيض الواقع، في نظر ضحايا الواقع! والحقيقة هي النتيجة التي تُنصِف الجميع، في نظر الجميع! أما الحقيقة المطلقة، فهي مفهوم يعكس القلق، والقلق هو سِمة الحياة الذكية- التي يُمثل الإنسان الواقعي المنطقي قمتها على الأرض! يمكن اعتبار الوعي أو الذكاء نقمة على الإنسان، لأنه أنتج القلق، بطرحه لسؤال الحقيقة، وعجزه عن إيجاد الجواب! كذلك فإن الوعي أو الذكاء قد أصبح عائقًا يمنع الإنسان من قبول الجواب ما لم يكن في صالحه، وذلك لأن الوعي أو الذكاء هو مخترع السؤال، ولا يرضى بأقل من المشاركة في صنع الجواب! أمر آخر هام جدًا بشأن الذكاء، وهو أن البشر هم عبارة عن أوعية (جمع وعاء) مناسبة لعمل وتطور نوع من الذكاء الطبيعي، وبسبب تعدد هذه الأوعية، أصبح هذا الذكاء يُنافس ذاته، فبدا الذكاء وكأنه ينقلب على ذاته محاولاً وضع حد لتطوره، وذلك لأنه من طبيعة الذكاء رفضه الإقرار بالعجز، فأصبح الذكاء عند "س" من الناس، يرفض الإقرار بعجزه أمام الذكاء عند "ص" من الناس، فنشأت بذلك تشريعات قمع حرية التفكير والتعبير، ولعله من هنا بدأ الصراع على السلطة- من أجل تغليب فكر على فكر! الإنسان يتميز عن غيره من الموجودات بنوعية الوعي، والوعي هو إطار مناسب لتجميع وتنظيم وحفظ المعلومات والبيانات، بصورة تسمح للذكاء باستخدامها لإنتاج الأفكار! كل الموجودات الأخرى تمتلك نوعًا من الوعي، وقدرًا من الذكاء، لكنه نوع من الوعي عشوائي ومحدود، يُعيق ذكاءها من العمل والتطور! الحقيقة المطلقة التي يمكن أن يجتمع حولها البشر، هي عنصر افتراضي، إذا أُضيف إلى معادلة الوجود، يتحول الواقع إلى حقائق لا تحتمل التساؤل! صراع الإنسان مع البيئة وجهله بها ورفضه الإقرار بالعجز أمامها، هو الذي كان وراء طرحه للسؤال في الماضي، ولذلك جاء السؤال على مقاس جواب افتراضي يُحقق رغبات الإنسان ويُبعد مخاوفه، فأصبح هدفه من البحث هو الحصول على الجواب الذي يُريده، وليس الجواب الصحيح! ويتضح ارتباط سؤال الحقيقة وجوابها بالبيئة، من اختلاف معتقدات البشر اليوم بحسب اختلاف ثقافاتهم ومستوى معيشتهم ( اختلاف البيئة)! إن طلب الإنسان للحقيقة، هو تعبير عن قلق ناجم عن صراع بين الشعور بالقوة والإحساس بالعجز! كل النظريات (المعتقدات) المطروحة حول الحقيقة المطلقة، لم تُعالج القلق الحقيقي، هي عالجت القلق لدى أولئك الذين يتصنعون القلق درءًا لمسبة الغباء! الواقع يقول إن السواد الأعظم من البشر بُسطاء، لا يتجاوز اهتمامهم يوميات الحياة، لأن وعيهم محدود، لا يكفي لتطور الذكاء وطرح السؤال وإحداث القلق ذاتيًا! هؤلاء لم يتساءلوا ولم يقلقوا من تلقاء أنفسهم، ولو أنهم تُرِكوا وشأنهم لما تساءلوا ولما عرف القلق لهم سبيلا! لكن، جاءهم مَنْ أوعز لهم بأن عليهم أن يتساءلوا وأن يقلقوا، وبأن ذلك هو ما يُميز الإنسان عن سواه من الموجودات. ولأن البُسطاء أعجز من أن يُدافعوا عن بساطتهم، فلم يجدوا بُدًّا من تقليد التساؤل وتَصَنُّع القلق! ولأن التساؤل لم يكن من إنتاجهم، فكان من الطبيعي أن يكون جوابه كذلك مستوردًا! ولذلك سَهُل إقناع البُسطاء، حيث لا يتطلب إقناعهم سوى جواب غامض يُربك ذكاءهم الذي عجز أصلاً عن طرح السؤال وإنتاج القلق! توارث البُسطاء ثقافة استيراد القلق الجاهز والجواب المعلَّب، وتوارث الحُذاق وظيفة تصدير القلق والجواب، وبذلك وجد جُل البشر أنفسهم ملزمين بطاعة وتقديس كل من يدعي امتلاك سر الحقيقة، وهو في الواقع إما كاذب أو أنه ضحية وهم، لا يمتلك سوى مهارة المراوغة وفن التهرب من الجواب الصادق! لكن بساطة البُسطاء لها وجهان، فهي التي سهَّلت على الآخرين إقناعهم، وهي ذاتها التي تُسهِّل على البُسطاء تجاهل وتجاوز ما تعهدوا للآخرين بالالتزام به، ولذلك يضطر الدُعاة إلى الاستمرار في مخاطبة البُسطاء ترهيبًا وترغيبًا. إن البُسطاء لا يتصنعون البساطة، فهي طبيعتهم التي لا يتقنون سواها، لذلك وبمجرد غياب الداعية أو الخطيب، ما يلبث البُسطاء أن يعودوا إلى ممارسة حياتهم المَرِحة الخالية من التساؤل والقلق! إن الذي يدعي امتلاك الجواب، يستطيع إقناع مَنْ يتصنع القلق، لكنه يعجز عن إقناع مَنْ يتملكه القلق! ولأن من طبيعة الذكاء رفض الإقرار بالعجز ولو كان قائمًا، لذلك يرفض المُدعي الإقرار بضعف حُجَّته أمام المتسائل الحقيقي الباحث عن الحقيقة، فيلجأ إلى المراوغة بتخوينه أو اتهامه بالضلال، أو محاولة الإيهام بأن الإله لم يشأ هدايته – وكأنما يطلب منه مقاومة مشيئة الإله، .. إلى آخره من المراوغات التي لا تحجب عيوب المُدعي، بقدر ما تُثبت الصِدق والأمانة وقوة الحُجة لدى المتسائل- في بحثه عن الحقيقة! ويُمعن المُدعون بمعرفة الحقيقة، في خداع أنفسهم ومراوغة الآخرين، حتى أنهم يقلبون المعادلة، فيتخذون من تصديق البُسطاء لهم، دليلاً على صحة نظرياتهم! حيث يُفاخر المُدَّعي، بقوة حُجَّته التي أقنعت أعدادًا غفيرة من البُسطاء، اللاهثين خلف أي تفسير لهذا القلق المصطنع الذي وجدوه أمامهم كعادة متوارثة تستمد قداستها من تعصب الإنسان لأسلافه لا من علاقتها بالحقيقة! إن قلق الذين يتصنعون القلق، لا يتعدى قناعتهم الآنية بضرورة اتخاذ قرار يواكب تسارع الزمن- قبل فوات الأوان- فمحدودية الأعمار في نظرهم لا تسمح بالانتظار! ومن هنا نجد أن كل جماعة بشرية اعتنقت النظرية المتوفرة والمتوارثة لديها، وبسبب غياب البديل لا بسبب حضور البرهان! إن حاجة البشر لنظرية مُبرهَنة تُعطي لحياتهم معنى، وعدم وجود نظرية مطلقة، أوجدا فراغًا فكريًا، جعل كل جماعة بشرية تتمسك بنظريتها، وتسعى لإثبات صحتها وتغليبها على ما سواها، وبذلك انطلقت الصراعات العقائدية! من الطبيعي أن عدم وجود منافس لإنسان أو لنظرية ما في مجال ما، يجعلها تحتكر الحقيقة في ذلك المجال، مهما كانت عيوبها! لكن مجرد وجود المنافس- مهما كان ضعفه-، سينتقص من حقيقة الطرف الآخر! لذلك كانت الصراعات العقائدية نتيجة طبيعية وحتمية لوجود التنافس، وهدفها إلغاء المنافس! لكن اختلاف البشر كان وما يزال كفيلًا بإيجاد أتباع لكل نظرية، وبالتالي إعطاء إمكانية وليس شرعية الوجود لكل المتنافسين! ولأنه لا أحد يمتلك الحقيقة الخالية من العيوب، لذلك أصبح تركيز المتنافسين في مجال الحقيقة ينصب على تضخيم عيوب الآخر! قالوا في مدح نظرية الديمقراطية مثلاً، أنها أسوأ نظام باستثناء جميع الأنظمة! وذلك لأنها تتفرد بمزايا حسنة لا يستطيع منافسوها إنكارها، لكنها ليست خالية من العيوب! الصراعات العقائدية حولت النظريات إلى أيديولوجيات! النظرية عبارة عن وجهة نظر تفترض الصواب، مطروحة للنقاش، تقبل النقد والتصحيح، تهدف إلى حل مشكلة! بينما الأيديولوجية، هي وجهة نظر تعتقد الصواب، مطروحة للتنفيذ، لا تقبل النقد والتصحيح، تهدف إلى تغيير واقع!