face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اسباب تركي للاسلام. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اسباب تركي للاسلام. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 11 يونيو 2025

الرسول الذي اخترعه الصمت: تفكيك هندسة النبوة المحمديّة

0 تعليق


"النبيُّ الذي رآه الظلّ في المنام"
عن اختراع النبوّة ونجاة الكذب بالبلاغ.


في صمت هذا الوجود الذي لا يُصغي، خرج صوتٌ بشريّ من عمق الرمال، لا يحمل أكثر من اسمه ووجعه، وقال: إنِّي رسول.
لم يسأله أحد عن معنى ذلك، لأنّ الجوع أحيانًا لا يحتاج برهانًا، والعطش لا يحاكم المطر.

كان "محمدٌ" ابن الصحراء، لا يملك ميراثًا فلسفيًّا ولا باطنًا ثوريًّا، لكنه كان يملك ما هو أدهى: الحاجة إلى معنى في كونٍ لا يقدم أي إجابة.

النبوةُ ليست نورًا، بل لغةُ الظلام عندما يصير الوعيُ عبئًا، والفراغُ سُمًّا.
فادّعى ما يُشبع هذا الجوع الميتافيزيقي:
قال إنّ الكون له إله، وإنه - دونه عن غيره - حامل رسالته.

لكن من قال إن الرسالة حقيقة؟
من قال إن الإله أرسل أحدًا؟
من قال إن النبوّة ليست جوعًا صامتًا ارتدى قناع الإجابة؟

الرسالة لا تنزل، بل تُكتب.
والإله لا يتكلّم، بل يُروى.
والنبيّ لا يُبعث، بل يُصدّق.

محمد لم يكن أوّل من ادّعى، لكنه كان أذكى من سابقيه في صياغة الكذب الذي لا يُكذَّب، الكذب الذي يشبه الحقيقة دون أن يكونها.
قدّم نفسه كـ"خاتم"، لأن كل من سبقه ادّعى البداية، فأراد هو احتكار النهاية.

ومن حيث لا يدري، سكن الوهم في صدور قومٍ كانوا مهيئين لتصديقه؛ قومٍ طحنهم الظلم، وخنقهم الفراغ، وعجزوا عن الصراخ في وجه الحياة، فأحبّوا من صرخ عنهم.

 لِمَ يدّعي محمد النبوة؟ 
لعل السؤال الحقيقيّ هو:
لماذا لا يدّعي الإنسان النبوة، إذا وجد في النبوة خلاصًا من العدم، وقيمةً في كونه وسط الرمال؟


في صحراء قاحلة، في قبيلة ممزقة بين الأصنام والسيوف، يولد إنسانٌ يرى الوحي لا في السماء، بل في نفسه التي ترفض العادية. إنسانٌ يحمل في داخله رفضًا كاملاً للصمت الكوني، فيضطر إلى صناعة صوت، صوت يقول: "الله قال لي".

محمد لم يكن مجرد طامح في سلطة، فالدجال البسيط يكتفي بالكذب. لكن محمد، كغيره من الأنبياء، آمن بكذبته حتى ظنّها وحيًا. والفرق بين المجنون والنبي – في لحظة التأسيس – هو عدد من آمنوا به.

يدّعي محمد النبوة لأنه وجد نفسه يحمل وعيًا مختلفًا عن قومه.
وعيًا لا يستطيع فهمه أحد، إلا إذا سُمّي "وحيًا".
كل فكرة غريبة في زمنها، إن لم تجد اسمًا إلهيًا، تُوأد. لذا رفع رايته باسم "الله"، لئلّا يقول الناس عنه: شاعرٌ مجنون.

النبوة هي لغة الإنسان عندما يفشل في تبرير ذاته علميًا، فيستعير قاموس الغيب.
– كان محمد بحاجة إلى معنى، فاخترع الله.
– وكان بحاجة إلى تبرير سيطرته، فاخترع "الرسالة".
– وكان بحاجة إلى طاعة، فاخترع "الجنة".
– وكان بحاجة إلى خصم، فاخترع "النار".

ألم يكن بإمكان الله أن يبعث رسولًا لا يحتاج إلى قتال، ولا إلى زواجٍ جماعيّ، ولا إلى غنائم؟
ألم يكن بإمكان الله أن يتحدث دون واسطة؟
أم أن محمّدًا – مثل سواه – لم يحتمل فكرة أن يكون الإنسان مخلوقًا تائهًا في كوكب صغير يدور حول نجم متوسط الحجم في مجرّة نُسيت بين المجرّات؟
فقرّر أن يقول: "الله اختارني."


محمد – كشخصية تاريخية – يمثّل المثال الأوضح على ما يمكن أن يفعله الإنسان حين تلتقي العزلة الوجودية مع الطموح الرمزيّ.
لم يكن ساحرًا، ولا دجّالًا بالمعنى السطحي، بل إنسانٌ ذكيّ، شاعرٌ بالعدم، لم يجد وسيلةً لإقناع قومه بحلمه، إلا إذا لبّسه ثوب الوحي. كلّ من حوله كانوا عبيدًا لأصنام: من حجر، من قمر، من دم، فأتاهم بإلهٍ جديد من كلمات.


يدّعي محمد النبوة، كما ادّعى من قبله موسى وعيسى،
وكما يدّعي كلّ من لم يحتمل كونه بشرًا عابرًا،
فاختلق "معنى أزليًّا" يستحق الموت من أجله.

وما زال البشر، إلى يومنا هذا، يبحثون عن معنى في الظلام، فيرفع أحدهم إصبعه ويقول: أنا رسول النور!


لكن لماذا صُدِّق؟

لأنّ الكذب حين يُحاك بطريقة تُشبع الحاجة الإنسانية للتفسير، يصبح أكثر صدقًا من الحقيقة.

لم يُصدَّق محمد لأنه أقنع، بل لأنه قدَّم إطارًا اعتقاديًّا بديلاً عن العدم.
صاغ للإنسان مأوىً أخيرًا من الغموض: إله يُراقب، نار تُخيف، جنةٌ تُغري، وعقيدة تُشغل العقول عن أنفسها.

النبوة لم تكن إلا إبداعًا "أداتيًا" ، غايتها السيطرة الناعمة: السيطرة باسم الحقيقة، السيطرة باسم الآخرة، السيطرة باسم الله.

وبما أنّ الإنسان كائنٌ هشٌّ ميتافيزيقيًا، لا يصمد طويلًا أمام اللا معنى، فقد صدّق محمدًا لا لأنه عقلانيّ، بل لأنه غارق في الحاجة.

كيف خدع أتباعه؟

لم يحتج محمد إلى خداع معقّد. اكتفى بأن غرس في أذهانهم صيغة مغلقة :
"لا يُسأل عن شيءٍ قضاه، ولا يُعارض من صدّقه الله، ومن شكّ فيه فهو كافر، ومن كفر فهو إلى نارٍ لا تنطفئ."

بهذه الحيلة الدائرية، لم يعد أحدٌ قادرًا على التفكير دون أن يتحوّل إلى عدوّ داخليّ.
ألغى الشك، كي يبقى الإيمان الوحيد المتاح.
ألغى التنوّع، كي يبقى هو الصوت الوحيد المسموع.
ألغى النقد، كي يُصبح الطاعة دينًا.

وغُلّفت الكذبة بالنصّ، وحُمِيَت بالسيف، وتحوّلت بالتقادم إلى "دين" يخشى الناس الخروج منه أكثر مما يخشون الدخول في الجحيم.

محمد نجح لأنه لمس الجرح ولم يضمده.
نجح لأنه أطعم الظمأ بفكرة الخلود،
ولأن الإنسانَ، حين لا يملك يقينًا، يلتهم أيَّ نبوءةٍ كاذبة، إذا وُلدت من فمه الجائع.

ماذا عن القرآن ؟

ليس في الأمر إعجاز، بل ذكاءٌ مشوب بالدهاء…
وليس في القرآن غموضٌ ربّانيّ، بل حيلة لغوية ومعرفية، صاغها بشرٌ، ثم نسبها لما فوق البشر، فآمن بها من أُغلق عليه بابُ الوعي، واستراح.

محمد، الذي وُصف بأنه أميّ، لم يكن أميًّا كما تُروّج الحكايات، بل كان أميًّا كما تريد الحكاية أن يُصدّق: أن يكون معجزة ناطقة، لا إنسانًا صاعدًا.

ولكن الحقيقة أعمق وأشدّ تعقيدًا.

كان ابن الصحراء، لكنه لم يكن كأبناء الصحراء؛ صمتُه لم يكن غباء، بل تأمّل.
وحدته لم تكن عزلة، بل نحتٌ في جدار الخوف من الفناء. عاش يتيمًا، لكنه قرأ البشر، لا الكتب. فمن ذا الذي يحتاج الكتاب، إن كانت النفوسُ أمامه صحفًا مفتوحة،
والغرائز حروفًا ناطقة؟

كان "محمد" قارئًا بارعًا للحاجة البشرية،
وأدرك من طفولته أن الإنسان لا يحتمل أن يكون بلا مغزى.
فقرّر أن يمنحهم المغزى… لكن بثمن: الطاعة.

لم يكن بحاجة إلى أن يكتب،
ولا أن يحمل مكتبة على كتفيه.
فالأفكار الكبرى لا تحتاج مكتبًا… بل لحظة انكسار.

وقد انكسر في الكهف،
لا من الله، بل من الصمت.
وهناك…
وُلِد الصوت الذي لا يُناقش: "اقرأ".

ولكن، ماذا قرأ؟
قرأ الخوف في نفسه، فجعله رسالة.
قرأ رغبة الانتصار، فلبّاها بكتاب.
قرأ تمزّق قومه، فدعاهم إلى ربٍّ واحدٍ لا شريك له.

كان ذكيًا بما يكفي ليعرف:
أنَّ التوحيد حلٌّ عبقريّ لمشكلة القَبليّة،
وأنَّ النبوّة سُلطة تُخضِع الجميع، حتى من لم يقتنعوا.

أما القرآن؟
فما هو إلا نحتٌ صوتيّ للخيال الدينيّ، الذي سبقه. هو نسيجٌ لغويّ من مزيج:

من التوراة التي وصلت إلى جزيرة العرب عبر الأحبار،

ومن الإنجيل الذي تناقلته أصوات النصارى من الشام واليمن،

ومن الزرادشتية التي تحدّثت عن نار لا تخبو وجنة خالدة،

ومن الحنفاء الذين ملّوا من أصنامٍ لا تسمع ولا تعقل،

ومن الأمثال العربية وحكم القبائل التي كانت تُتلى كأنها وحي.


جمَع محمد كلّ هذا، وصهره، وخلطه بصوت الشعر ونَفَسِ الخطابة،
ثم قدّمه في قالب "لا يُشبهه شيء"، أي لا يُسائل.

لم يكن بحاجة إلى أن يشرح، بل فقط أن يُحرّم السؤال. وقد فعل.

كلُّ آيةٍ لا تُفهَم… هي اختبارٌ للإيمان،
وكلّ تناقض… حكمةٌ خفيّة،
وكلّ خطأٍ لغويّ… إعجازٌ بلاغي،
وكلّ أمرٍ غير منطقيّ… دليلٌ على أن "الله أعلم".

هكذا تُبنى الحصانة.

وهكذا نجا القرآن من النقد، لا لأنه لا يُنتقد، بل لأنّ النقاد يُحرقون، أو يُخوّنون، أو يُنفَون.

إنّ من أعظم ما فعله محمد، هو أنه بنى "منظومة مغلقة"، كل من دخلها، صار جزءًا من إعادة إنتاجها. فإذا وُلدتَ مسلمًا، كبرتَ وأنت تعتقد أن هذا "الحقّ"، لا لأنه أحق،
بل لأنه الوحيد الذي سُمح لك برؤيته. وهكذا…
صارت الأكذوبة نظامًا،
والنبيّ أيقونة،
والقرآن منطقةً محرّمة،
وكلّ شكّ… جريمة.

فهل كان محمد نبيًا؟
لا.
كان ذكاءً فطريًا فهم اللحظة، واستغلّها، وحوّل نفسه من يتيمٍ بلا عزوة، إلى نبيٍّ يخشاه السلاطين. نجح لأنه لم يقل للناس الحقيقة، بل قال لهم ما يحتاجونه كي يعيشوا وهمًا ناعمًا.

فهو لم يُجب عن سؤال "من نحن؟"
بل أجاب عن سؤال "من سيحمينا؟"

وكانت الإجابة: الله.
والواسطة؟ محمد.


مرايا الوحي المكسورة "
 حين صاغ محمد القرآن من بقايا الذاكرة الجمعية"

ليست المعجزة، كما يتوهّمون، في أن ينطق أُمّيٌّ بلغة مُتقنة، بل في أن تنطلي تلك اللغة على قومٍ أنهكتهم الفوضى، فظنّوا التناسقَ وحيًا، والإيقاعَ حقًا. لم يكن القرآن إلّا مرايا مكسورة التقطها محمد من طرقات الوعي الجمعي، فجعل منها لوحًا مذهبًا نُقش عليه اسم "الله".

لقد كان محمد ابن بيئته، ليس نبتًا شيطانيًّا معزولًا عن ثقافة قومه، بل هو مَن قرأ -بسمعِه- ما تقوله الألسن في الأسواق، وما تتناقله الأجيال من حِكَم الأوّلين، فاحتفظ بذلك كلّه في لاوعيه، حتى إذا جاء زمن الحاجة، أفرغه في لغةٍ مرقّشة، مجرّدة من الإحالة، مفعمة بالتكثيف، تدّعي أنها من مصدرٍ فوق إنساني.

من أين جاء محمد بما في قرآنه؟

جاء به من أفواه الرُّكبان، ومن خُطب الكهّان، ومن عادات العرب في التكرار، في الجناس، في الطباق، في السجع. من ألسنة أمهاتنا الشعبيّات حين يقلن: "من يعمل خيرًا يُجزَ به، ومن يعمل شرًّا يَرَه". فصارت:

"فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره."

من أقوال أعرابي ساذج يتأمل الليل فيقول: "لا يُدرِك المرء شيئًا من النجوم، وهي معلّقة فوقه كأنها درر على ثوب أزرق". فصارت:


"إنا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب."

من قصص التوراة المنثورة على ألسنة اليهود المتجولين في يثرب، من حكايات المسيحيين الرُّهبان في شعاب الشام، من المزامير، من الأساطير، من أخبار أصحاب الكهف، وطوفان نوح، وقميص يوسف، وزوجة لوط، وابن مريم.

إنّه لم يخلق تلك القصص، بل حرّف نَسقها، وأخفى مصدرها، وأعاد إنتاجها بشكلٍ يُخدّر العقل ولا يُفكّك المعنى، حتى لا يُمكن ردّها إلى أصلٍ، ولا دحضها برهانًا، فيُصبح الاختلاف فيها "ابتلاءً"، والنقد لها "كفرًا"، والتأمّل في أصلها "زندقة".


القرآن لم ينبثق من العدم، ولم يكن نغمة فريدة في صمت الكون،
بل كان ـ كما يدلّ نصّه وتكراراته ـ عصارة حكاياتٍ قديمة، ومزيجًا من حكم وأمثال،  وأساطير الأولين، صاغها محمد بلغةٍ صوتيّة مشحونة بالإيقاع والتأثير، وأعاد إنتاجها  في شكلٍ لا يُساءَل.


  •  قصة يوسف:
القرآن يكرر قصة يوسف تقريبًا كما وردت في سفر التكوين، مع بعض الإضافات البلاغية:

رؤيا الكواكب.
فتنة امرأة العزيز.
السجن وتأويل الأحلام.
ثم النهاية السعيدة.

لكن اللافت أن الأسماء، والأماكن، والنزعة العبرية، كلها ظاهرة، حتى أن "فرعون" لم يُسمَّ في سياق قصة يوسف بـ"ملك" كما في الرواية العبرية (رغم أن الفراعنة كانوا معروفين)، مما يدل على النقل الحرفي دون وعيٍ تاريخي.

  •  قصة آدم وإبليس:
فكرة "إبليس الذي يرفض السجود" مأخوذة من سفر حزقيال وسفر أشعياء، حيث يتحدث النص عن "ملاك ساقط".
كذلك فكرة "الشجرة" و"الطرد من الجنة" مأخوذة من سفر التكوين.

  •  قصة أهل الكهف:
مستقاة من قصة "السبعة النائمين"  وهي أسطورة مسيحية شرقية كانت شائعة قبل الإسلام بقرون، ووردت في التراث السرياني والبيزنطي.

  •  المائدة من السماء:
فكرة "نزول المائدة" لبني إسرائيل في صحراء سيناء هي من التوراة، وتكررت في سورة "المائدة" بصورة مشابهة للطلب المسيحي من المسيح إنزال مائدة.

  •  البقرة:
فكرة القربان المذبوح والغموض في نوع البقرة مأخوذ من قصة القربان في سفر العدد وسفر التثنية.

  •  موسى وفرعون:
تكرار لأحداث سفر الخروج، لكن مع تغيير الترتيب أحيانًا، وتحوير بعض التفاصيل، كشق البحر وتحول العصا.: من الأساطير ونِحل الكتب القديمة (الزرادشتية والمندائية وغيرها)


  • الصراط المستقيم والميزان والحساب بعد الموت
 من الأساسيات الزرادشتية، حيث يمرّ الميت على جسر "صراط" دقيق، ويُوزن عمله، ويذهب إمّا إلى "الجنة" أو "الجحيم".


  • الجنّ
 مأخوذ من المعتقدات السامية القديمة، ومن الديانة المندائية، حيث كانت الكائنات الروحية (كالجنّ) تمثّل قوى الشر.


  • اللوح المحفوظ والقلم
 مفاهيم ميتافيزيقية متأثرة بكتب الحكمة الهلنستية، وخاصة التراث الغنوصي الذي كان يربط بين الكتابة والقدر.


  • القرآن : تطور سلطة النص 

المرحلةالهدف المركزيالأدوات البلاغيةالتأثير النفسي



مرحلة مكة (التأسيس البلاغي)


ترسيخ فكرة الوحي ونفي المشككين


السجع، الطباق، التشابه مع الحكم الجاهلية، الصور الشعرية الحسية، الحروف المقطعة، الغموض


الدهشة، الرهبة، الفضول، زلزلة اليقين القبلي



مرحلة الهجرة (التثبيت السياسي)


بناء جماعة المؤمنين وربطهم بالقيادة النبوية


تكرار الأوامر بـ "أطيعوا الله والرسول"، التشريعات الأخلاقية والاجتماعية، تصعيد خطاب الجنة والنار


الطاعة العمياء، تكوين هوية جمعية بديلة، دمج السلطة الروحية بالسياسية


مرحلة المدينة (تأليه النص والسلطة)

شرعنة السلطة المطلقة للنبي والنص


بناء منظومة التشريع الكامل، تحويل الخلاف السياسي إلى خروج عن الدين، تهديد المعارضين بالعذاب الإلهي



الخضوع الكلي، نزع الشرعية عن المعارضة، تقديس النص ككيان فوق التاريخ



كيف فعل ذلك ؟

لم يكن محمد بحاجة إلى الكتب، بل إلى ذاكرةٍ يقظة وأذُنٍ حساسة.
في رحلاته و تجارته، وفي مجاورة الرهبان، وفي مراقبة الأسواق…
استمع، وامتصّ، ثم أعاد الصياغة.
وكان لديه أداة سحرية: اللغة.
فألبس الحكايات القديمة رداءً شعريًا مهيبًا،
وأضاف صوت "قال الله" على كل اقتباس،
فصار "المنقول" وحيًا،
وصار الراوي نبيًا،
وصار التساؤل كفرًا.



كيف أقنع أتباعه؟

بالرعب والخلاص. صاغ لهم عالمًا من نار وجنة، من فوز وخسران، جعل حياتهم فجوة بين تهديد ووعد، وخاطبهم بلغتهم الغريزية: الجوع، الفقر، القتال، الجنس، والخلود. فمنحهم "الحور العين" مقابل القتال، و"النعيم المقيم" مقابل الطاعة، و"النجاة" مقابل الصمت.

إنه لم يخاطب عقولهم، بل خاطب أحلامهم البدائية. ومن لا يملك وعيًا يرى فيه نفسه عبثًا، سيستميت في تصديق من يَعِده بأن لوجوده غاية، وبأن اسمه مسطّر في سجل الغيب.

القرآن ليس معجزة، بل تشويه متقن للمعقول.

هو نصٌّ ذكي في إعادة قولبة المألوف، لا في صناعة الجديد. إنه تكرار مموّه، وإعادة تدوير للوعي البشري في لحظة خرافية من التاريخ. والمعجزة، يا صاح، ليست أن تؤلف كتابًا غريبًا، بل أن تقنع القطيع بأنه مُنزّل.

لماذا لم يعترض أحد من معاصريه على أصول تلك القصص؟

لأن القصص الدينية آنذاك لم تكن محفوظة في كتب بيد كل فرد، بل كانت مبعثرة في ألسنة الحُجاج، في تراتيل الأحبار، في تمائم النُساك. لم يكن ثمة قدرة على التوثيق، ولا آلية للتحقّق، ولا وعي نقدي. كان الناس بين جهلٍ مطلق، أو إيمانٍ عاطفي، أو مصالح متقاطعة، فمرّت الحكاية كما تمر الريح في خيمة مهترئة.

لماذا لم يُكشف أمره؟

لأن النجاح في الخداع لا يتطلب العبقرية، بل يتطلب ظروفًا ملائمة. ومحمد وجدها كلها: قومٌ ضالون، لا نظام يُجمعهم، ولا حاكمٌ يُرهبهم، ولا فكرٌ يُشككهم، فجاءهم بخطاب يوحّد الشتات، ويُلبّي حاجة البدو الأبديّة إلى نبيٍّ يُحوّل الخيمة إلى دولة، والسيف إلى دعوة، والخرافة إلى هوية.

محمد لم يخدع أحدًا، بل وجدهم خُدعاء بطبيعتهم. كانوا يبحثون عن إله، فصار هو رسولًا. كانوا يبحثون عن معنى، فصار هو لسان المعنى. كانوا يبحثون عن خلاص، فصار هو طريق الخلاص.

القرآن ليس كتاب إله، بل كتاب حاجة. حاجة الإنسان إلى نظام، إلى يقين، إلى أوهامٍ مرتبة ببلاغة. ومن تلك الحاجة، وُلِد النص، ومِن الخوف نُسِجت القداسة.

ولماذا بقيت دعوة محمّد  ؟


"بقاء الوهم حين يصير عادة"

عن دوام النبوّة لا لأنها حق، بل لأنها صارت نظامًا يُديم نفسه بنفسه.


لم تبقَ دعوى محمد حيةً لأنّها أصدق، بل لأنها الأكثر قدرةً على التكيف…
تكيّفت مع الخوف، مع الطفولة، مع الجهل، مع الحاجة، ومع الموت.

إن دعوى النبوّة – كأي سردية كبرى – لا تموت حين ينكشف زيفها،
بل تعيش أكثر، كلما صار كشف الزيف خطيئة، والتشكيك رجسًا، والبحث كفرًا.


لقد تمكّنت الدعوة من البقاء، لأن الناس ما زالوا أطفالًا في أعماقهم…
يخافون العتمة، ويرتجفون عند التفكير في المصير.
يريدون يدًا تمسكهم حين يسقطون، وأذنًا تسمعهم حين يهمسون،
وإله محمد كان تلك اليد، وتلك الأذن.

ثم جاء رجال الدين،
فحوّلوا اليد إلى قانون،
وحوّلوا الأذن إلى فتوى،
وحوّلوا النبي إلى "ماركة مُسجّلة" باسم الله،
كلّ من ينتقدها يُمحى.

وهكذا:
صار الله سلعة، والنبي إعلانًا، والقرآن كتالوجًا.

كل لحظة ضعفٍ بشري كانت فرصةً لصمود الرسالة:

  • موت الأحبة؟ الجنة في انتظارهم.

  • الفقر؟ الزكاة تبارك الرزق.

  • القمع؟ الصبر على البلاء عبادة.

  • القتل؟ الجهاد سبيل إلى الله.

  • الشهوة؟ الحور العين في انتظاره.

كلّ بابٍ مغلق في وجه الإنسان، يفتحه الدين… ولكن بالخيال.

ولهذا:
لم تنتصر دعوى النبوّة بالحجّة، بل بالحاجة.
لم تصمد لأنها أقنعت، بل لأنها راوغت.


ثمّ صعدت الحضارات، وكشفت الفيزياء بنية الوجود، وتكلّم الفلاسفة عن العبث والمعنى، واخترق العلم كلّ ما كان يُعدّ حُرُمًا،
ومع ذلك…
لم يسقط الدين، لأنه لم يعد مجرد فكرة، بل:

نظام اجتماعي متكامل:

  • أبوة فكرية تُلغي المسؤوليّة.

  • عزاء نفسي يُغني عن التّحليل.

  • انتماء قبَلي يُغني عن الذّات.

  • طاعة جماعيّة تُغني عن الوعي.


أي إن الدين – بما هو دعوة نبوية – صار بطّانيةً وجوديّة، تُغطّي بها الشعوب جهلها، وتنام على طمأنينة الوهم.


وهنا تكمن مأساتنا:

لسنا بحاجة لنبيّ، بل لحقيقة.
لكن الحقيقة لا تُشبع الجائع،
ولا تُرضي الحزين،
ولا تُجيب الميت،
بينما النبوّة تفعل كلّ ذلك… بالكذب.

فأيّهما سيختار الإنسان؟
الصراحة التي تتركه وحيدًا في العراء،
أم الوهم الذي يُشعره بالدفء؟

وهنا…
يموت العقل، ويولد الإيمان.


الأربعاء، 30 أبريل 2025

الحقيقة البشرية بين الفطرة والمنظومة الأخلاقية!

0 تعليق




الفطرة باختصار هي الغريزة المعنوية..، أي هي التلقائيّة الطبيعيّة التي تبني القناعات والسلوك لدى الكائنات الحية؛ وليست التلقائية الناجمة عن التلقين والتوجيه والإكراه والتدريب أو غيرها من أساليب صناعة القناعات!
فإذا كانت الغريزة هي المَلَكة التي تُحدِّد احتياجاتنا وطريقة تلبيتها دون تجربة سابقة ، فإن الفطرة هي الملكة التي تُحدد قناعاتنا وميولنا دون تجربة سابقة!
الفطرة هي تلك المَلَكَة الطبيعية التي تُحدِّد فعل وردَّات فعل كل الموجودات الحية – القادرة على الفعل والمضطرة للفعل – ابتداءً؛
أقول ابتداءً، أي قبل أن يُدرِك الكائن الحي ضعفه وحاجته للآخرين، وقبل أن يضطر لممارسة الخداع والامتثال للخوف والجُبن، وقبل أن يقع تحت تأثير البيئة وتعدد الخيارات وضرورات الاختلاف وإملاءات القوة وغيرها!

والحقيقة البشرية المقصودة هنا، يمكن أن يُمثلها مفهوم الوعي، أو ما يُعرف اصطلاحاً بالعقل..، تلك القوة أو المَلَكَة الطبيعية التي بفقدانها تختفي القواسم المشتركة التي تربط البشر التقليديين ببعضهم!
- المقصود بالمنظومة الأخلاقية هي صناعة القناعات..، أي تلك الضوابط السلوكية الإلزامية التي تضعها النُخب وقيادات الجماعات البشرية باسم دين أو باسم قِيَم إنسانية افتراضية أو غيرها..، لتحديد حقوق وواجبات الأفراد، وليس لتحقيق أخلاق حميدة لديهم، فالأخلاق لا تُفرض من الخارج، إنها إما أن تكون جزءًا من كيان وشخصية الفرد إراديًا أو لا تكون!
- المنظومة الأخلاقية هي شيء آخر غير الأخلاق الطبيعية؛ فالأخلاق الطبيعية هي الإرادة الذاتية التي تجعل الإنسان يفعل أو يمتنع عن الفعل بما يرى أنه يُحققُ ذاته ويُبرزُ هويته، وليس احتساباً لنتيجة متوقعة أو موعودة؛
ومن ذلك الصِدق، فكل البشر يمتدحون الصِدق كما يمتدحون المالَ، لكنهم يسعون لامتلاك المال ولا يسعون لامتلاك الصِدق، ولا يُمكن جعلهم صادقين إن لم يكونوا كذلك!
فما هو هذا العقل الذي باسمه وبسببه تُحدَّدُ السلوك وتُفتَرَضُ الأخلاق، وما هي الفطرة البشرية، وما المنظومة الأخلاقية، وما العلاقة بين أطراف هذه الثلاثية!

ما هو العقل؟

تُسنُّ القوانين وتوضع العقوبات وتُنفَّذ في المجتمع البشري، بسبب الاعتقاد بامتلاك الإنسان آلية لضبط السلوك- اسمها العقل، يُفترض أنه مُهيمنٌ ومسئولٌ عن السلوك والممارسات والغرائز، وهو بذلك مسئولٌ عن قرارات الإنسان- فعلاً وامتناعاً!
بينما في واقع الحال ليست هذه المعادلة دقيقة، فالعاقل وغير العاقل كلاهما يقول ويفعل، وكلاهما يمتنع عن القول والفعل.. أي أنه لا علاقة للعقل بقرارات الفعل وعدم الفعل ابتداءً!
كما أن وجود العقل ليس شرطاً لفعل الصواب، وليس غيابه سبباً لفعل الخطأ-، خاصة في ضوء حقيقة انعدام وجود معايير قياسية كونية أو وجودية أو بشرية، تُحدِّد الصواب من الخطأ، والحق من الباطل!


ما هي الفطرة البشرية؟

هل يوجد شيء اسمه الفطرة!
وهل توجد فطرة سليمة وأخرى غير سليمة!
وما الذي يمكن أن يؤدي إلى تلوث الفطرة- أو انحراف الإنسان عن الفطرة السوية!
هل سلامة الفطرة، تعني عدم اختلاف البشر؟
أم أنه يمكن أن تكون الفطرة سليمة، وفي ذات الوقت مختلفة من إنسان لآخر، وأنه بسبب ذلك تنتج الاختلافات والخلافات بين البشر!
أم إن سبب الاختلافات هو سلامة الفطرة لدى بعض الناس واعوجاجها لدى البعض الآخر..، وأن الخلافات تنجم وتنشب الصراعات، بسبب اعتقاد كل طرف بسلامة فطرته، وجزمه باعوجاج فطرة الآخر!
ثم ما هي المعايير القياسية للحكم على الفطرة وتحديد انحرافها من عدمه!
وهل توجد مرجعيات وآليات لضبط الفطرة وإعادتها إلى رُشدها!


ما هي المنظومة الأخلاقية (الأخلاق الحميدة)؟

هل المنظومة الأخلاقية حدث أم أزل – بالنسبة لوجود الإنسان-، وما علاقتها بالفطرة البشرية!
إذا كانت المنظومة الأخلاقية لا تتعارض مع العقل والفطرة السليمة، فلماذا يتم فرضها على البشر، ولماذا هذا الإجماع البشري – منقطع النظير -على خرق المنظومة الأخلاقية والعبث بها عند أول فرصة..، حيث تنتشر الفوضى منذ اللحظة الأولى لتعطيل القانون أو العجز عن تطبيقه.. في أي مجتمع بشري!

العقل..

كل مفاضلات البشر إنما هي بين باطلٍ وباطل..، حيث لا وجود للحق المطلق في حياتهم، وليس الحق النسبي سوى باطلٍ نسبي.
إننا نتحدث عن العقل، مع إدراكنا أنه لا يوجد شيء مُحدد بذاته، يمكن وصفه، يحمل اسم العقل..، إن كل ما هنالك هو افتراض حدٍّ أدنى من السلوك البشري المشترك، اصطُلِح ثقافياً وتاريخياً على استعماله لوصف الإنسان بالعاقل أو غير العاقل..، والحقيقة أن العقل في هذه الحال، يكون هو ذات الإنسان ووعيه..، أي هو إدراك الإنسان لما يقول ويفعل، وقدرته الطبيعية على استحضار تجاربه، وتصوره لنتائج أفعاله قبل حصولها..، وهو ما ينبغي أن يكون لإبراز هوية الفرد وتأكيد وتحقيق خصوصية الذات – لا لإرضاء الآخرين والتكيُّف مع المختلفين..، فاختلاف السلوك أمرٌ طبيعي بين إنسان وآخر – كما هو بين أي كائن وكائن آخر، وهذا الاختلاف هو مُحدِّد الهويات ومحقق الذوات..، وبذلك يُصبح من العبث القول بمساواة البشر، وتكون محاولة مساواة سلوكهم مساساً بكرامتهم الطبيعية المفترضة..، ويُصبح تشريع تصويب سلوك الإنسان إقراراً بتشوهه عقلياً، وإذا صحَّ ذلك فلا حرج على المشوَهين، ولا معنى لإصلاحٍ تعددت واختلفت وتعارضت واختُلِقت معاييره، فالإصلاح حينها يُصبح تحويلاً للإنسان من حالة مشوَّهة إلى أخرى مُختلفٌ عليها ومطعون فيها!
بالنتيجة.. العقل ليس عضواً أو جزءاً من الإنسان، يَفسدُ ويمكن إصلاحه دون المساس بالذات- كما يتم إصلاح أعضاء الجسد وحواسه..،
بل العقل هو جوهر الذات، والطعنُ فيه طعنٌ في خصوصية الذات وهوية الإنسان، والتأثير عليه تلويث لها..،
وإذا جاز لنا التشبيه، نقول إن تغيير عقل أو وعي الإنسان بواسطة الأيديولوجيات، هو كتغيير جنسه بواسطة الهرمونات..، فكلاهما تغيير لجوهر وصورة الذات!
والفرق بينهما يذهب لصالح التحول الجنسي، فهو محسوب النتائج، معدوم الخيارات، والأهم من ذلك أنه أمرٌ طبيعي نابعٌ من إحساس داخلي وشعورٍ فطري صادقٍ، مصدره الذات، ولا علاقة للآخرين به، ولا مسئولية لصاحبه عنه، ولا ضرر له على سواه!
بينما تغيير العقل- المتمثل في زرع المعتقدات وتغيير المبادئ والقناعات- فهو خارجي المصدر، عشوائي النتائج، ضبابي الأهداف والخيارات – حيث لا معيار للعقل والرُشدِ في ظل اختلافات كل البشر- أفراداً وجماعات!
وفي كل الأحوال، فإنه إذا جاز تشريع الطعن في مصداقية عقل إنسان- قياساً إلى عقل آخر، فإن ذلك تشريعٌ بجواز نفي خصوصية الذات، ورفعٌ للمسئولية عنها، وتكذيبٌ صريحٌ لمبدأ تكليفها!
إذ إن القول بوجوب طاعة- أو حتى بجواز إتِّباع- إنسان لإنسان بحجَّة فارق المعرفة، هو تشريعٌ لكل سلوكٍ يمكن أن ينجم عن فارق المعرفة..، فليس التابع مؤهلاً لتقييم واختيار المتبوع!

هل يمكن تعطيل الوعي (العقل)، أو إقناع العاقل بفعل ما لا يَعقِلُه؟
الإجابة المختصرة: نعم!
فحيث إنه لا علاقة للعقل أو الوعي باتخاذ قرار الفعل وعدم الفعل- كما قلنا سلفاً وكما نعلم جميعاً- فالعاقل وغير العاقل كلاهما يفعل وكلاهما يمتنع عن الفعل؛ وحيث إن وظيفة العقل أو الوعي، هي استعمال رصيد التجارب في حساب النتائج، وانعكاس ذلك أو تأثيره على اتخاذ القرار، لذلك فإنه من الممكن جداً- حين يحصل التواصل ويختلف حجم ومجال التجارب-، أن تتأثر حسابات البعض بتجارب غيرهم..، أو أن يستعمل البعض تجاربه للتأثير على حسابات غيره، فيُقنعه بنتائج محتملة يتخذ على أساسها قراراته..، ويُسمَّى حينها المؤثر مُلهِماً، ويُسمَّى المتأثر تابعاً أو مُريدا!
وقد قلنا سابقاً، إن الإنسان هو كائن قابل للإصابة بالوهم!
حيث يعتقد التابع -بسبب ذهوله الناجم عن بساطته وسذاجته وقلة معلوماته وضعف خبرته- قياساً إلى فصاحة وخبرة مُلهمه أو معلمه-، بأن الأخير يستمد قوته من قوة الكون، وأنه لا حرج من طاعته وامتثال أوامره؛ فتتوقف بذلك ذاكرة التابع عن تسجيل تجاربه الخاصة- التي كان ينبغي أن يستعملها وعيه لتحديد معاييره ومعالم هويته-، فيُكمل حياته تابعاً يتنقل بين المتبوعين، لا هوية أو لا ذات له، ولا يُدرِك حقيقة مَـنْ هو..، جسدٌ يعمل بعقلٍ خارجه، أو إنسانٌ مكلفٌ بعقل غيره!


الفطرة..

بقدر ما يختلف البشر حول تحديد ماهية الفطرة وتعريفها..، بقدر ما يحتكمون لها، ويُجمعون على أصالتها، ويتفقون على أنها المرجعية الطبيعية لتحديد الحقوق والواجبات، وفرز الصواب من الخطأ..، بمعنى أنه لا خلاف على صواب الفطرة، ولا اتفاق حول تعريفها!
وهذه المفارقة التي تُظلل مفهوم الفطرة، أوجدت منطقة فكرية مضطربة حولها، اختلط فيها الخطأ المبرر بالصواب غير المبرهن..، مما جعل الفطرة بمثابة المرجعية المجهولة للنظريات المرفوضة!
وتحت تأثير منطقة الاضطراب الفكري التي تحيط بمفهوم الفطرة، وصل الأمر ببعض أتباع الأديان إلى الادعاء بأن دينهم هو الفطرة ذاتها، أو أن دينهم هو دين الفطرة، أي أن اعتناق دينهم يُحقق الحياة وفق الفطرة؛ حتى إن الأمر ليبدو وكأن إخفاق البشر في الاتفاق حول مفهوم وماهية الفطرة، هو فقط ما يحول دون اتفاقهم الشامل!
فأصبحت لفظة الفطرة تُستعمل ويُفهم منها، ذلك القانون الطبيعي، ذاتي المرجعية، الموحد للبشر، مجهول النص، والذي لا يُعرف عنه سوى أن عيوبه مشروعة وصوابه مُطلق!


المنظومة الأخلاقية..

على النقيض من الفطرة..، فبقدر ما يتفق البشر حول تعريف ووصف المنظومة الأخلاقية..، بقدر ما يُشككون في أصالتها ويرفضون الالتزام بها عملياً- وإن تظاهروا بغير ذلك تحقيقاً لمصالح أو درءًا لعواقب.
وجدير بالذكر هنا، أن سلوكيات أساسية في حياة البشر كالصِدق والأمانة والشفافية…، تقع خارج المنظومة الأخلاقية، وذلك لافتقاد الأخيرة للآلية التي تُحقق أو تراقب هذه السلوكيات الحميدة..، ولذلك نجد أن الكاذبين والمراوغين مقبولون في المجتمعات التي تعتمد المنظومة الأخلاقية كأساس للحياة الجَمَاعية..، ويكاد يتم اختزالها في تقنين ممارسة الجنس، وتحديد ما ينبغي وما لا ينبغي للفرد ارتداؤه من ملابس!
والمنظومة الأخلاقية في ظاهرها، هي جملة من الضوابط والممنوعات، تعمل على توجيه الإنسان قسراً، وتقنين سلوكياته وتحديد حقوقه وواجباته، بهدف بناء مجتمع بشري يختلف عن المجتمع الحيواني- مع تجاهل حقيقة أن كل سلوكيات المجتمع الحيواني هي مباحة أو متاحة في المجتمع البشري، وأنَّ رَفضُها علناً لا يلغي وجودها وممارستها عمليًا..، فالمنظومة الأخلاقية بالمحصلة هي محاولة بشرية نخبوية تخيلية تصورية، ونظرية طوباوية، لإنشاء مجتمع فطري..،
وهذا ما يجعل المنظومة الأخلاقية عبارة عن فطرة مزيفة!
إذ مهما تكن سلامة النوايا ونُبل الأهداف، فإن افتقاد المنظومة الأخلاقية للسلاسة، واعتمادها على العقوبات، وتدخلها السافر في الخصوصيات الشخصية والحريات الفردية..، جعل منها حاجزاً جديداً وملوثاً إضافياً، يُساهم في تأخير ظهور مجتمع الفطرة المنشود!


ماهية الفطرة؟
هل يوجد شيء مُدرك ومُتفق عليه بين البشر، اسمه " الفطرة "، يؤثر على حياة الإنسان أو ينعكس على سلوكه وممارساته – كما هو الحال مع العقل والروح والحواس؟
وهل الفطرة شيء مذموم أم محمود- إن وُجِدت؟
وما مدى مسئولية الإنسان عن فطرته، أو خضوعه لها؟
هل تم تحريف دلالة لفظة "الفطرة"، لإنتاج مفهوم افتراضي، يُشير أو يرمز إلى الصواب المطلق، فأصبحت الفطرة كالحقيقة المطلقة.. شعار صادق يمكن أن يرفعه الكاذبون، وسلاح مشروع يرفعه الجاهل القوي في وجه الجاهل الضعيف؟

الفطرة لغوياً -مختار الصحاح ( قاموس إلكتروني)..
ف ط ر: أفْطرَ الصائم، والاسم الفِطْرُ ..الخ.
والفِطْرةُ بالكسر الخلقة، والفَطْرُ الشق، يُقال فَطَرَهُ فانْفُطُر وتُفُطُّر الشيء تشقق، والفَطْرُ أيضا الابتداء والاختراع ..الخ.
والفَطيرُ هو كل شيء عجلته أو تعجَّلت في أمره، ويُقال: إياك والرأي الفطير!

- الفطرة لغويًا: المعجم الوجيز..
الفطرة السليمة (في اصطلاح الفلاسفة): هي استعدادٌ لإصابة الحكم والتمييز بين الحق والباطل!
والفِطرِية، هي القول بأن الأفكار والمبادئ جِبِلِيِّةٌ.. أي موجودة في النفس قبل التجربة والتلقين!الفَطِيرُ: كل ما أُعجِلَ به قبل نُضجه. والفطيرة: خبزٌ من عجين لم يختمر…، الخ.
ويُقال: رأيٌ فَطيرٌ .. إذا خطر بالبال وأُبْدِيَ بلا تثبُّت..

الفطرة في نظر بعض المفكرين..
يعتقد البعض بأن الفطرة هي مجموع الصفات الإنسانية التي تُميِّز البشر عن سواهم، فيُعرِّفونها:
الفطرة هي الصفات الإنسانية الأساسية والخالصة، أي إنها كل ما هو أصيلٌ في الإنسان وليس مكتسب، وتشمل كل صفات الكائن الحي الطبيعي العاقل المُدرك، التي تُميِّزه عن سواه!
فما يُدركه أو يعرفه الإنسان بسبب إنسانيته، ويعجز الحيوان عن إدراكه بسبب حيوانيته .. هي الأمور الفطرية!
وبهذا تكون الفطرة هي جملة من معارف وغرائز وميول ابتدائية، خُلقت مع الإنسان، لتستمر معه طيلة حياته- فلا يندثر أثرها إلا بموت حاملها!

الفطرة في الثقافة العامة..
هي سلوكيات الإنسان الطبيعي الحر..، والتي تشمل ردود أفعاله تجاه البيئة وأحداثها، وميوله واختياراته، وأخلاقه ومعارفه وأفكاره الابتدائية..، والتي يُعبِّر عنها ويُمارسها ببساطة، ويشعر بمسئوليته عنها ويتقبل نتائجها..، وذلك عندما تتوفر له البيئة المناسبة الخالية من التلقين والتوجيه والتحذير والتهديد والإغراء!

نتيجة…
مما سبق يمكننا القول بأنه لا يوجد شيء بذاته اسمه الفطرة، ولكن توجد سلوكيات وممارسات وأفكار فطرية!
فليست الفطـرة سوى بدايات الأشياء وأصولها النقية!

كيف تكون الأفكار فطرية؟
وهل يمتلك الإنسان معارف أولية- قبل التجربة؟
لو لم تكن هناك أفكار فطرية تُميِّز البشر عن بعضهم، لتساوت معارف أبناء الأسرة الواحدة وأفراد المجتمع والثقافة الواحدة..، باعتبارهم نِتاج تجربة واحدة!
الأفكار الفطرية لا تعني وجود نصوص وآراء محددة مُخزنة في ذاكرة الإنسان!
وإنما يُقصد بالأفكار الفطرية، التعاطي الطبيعي وردود الأفعال التلقائية تجاه البيئة والمستجدات..، أي تعبير الإنسان عن خصوصية الذات بواسطة ميوله الطبيعية!

ما علاقة الصِدق بالفطرة، وما رأي المنظومة الأخلاقية في الكذب؟
من البديهي القول إن كل سلوك يرفضه الإنسان من الآخرين، فهو أمر مرفوض فطرياً، ونقيضه مقبول فطرياً!
وبذلك يكون الصدق سلوكاً فطرياً، والكذب دخيلاً على الفطرة!

لماذا يكذب الإنسان، ويعيب على الآخرين كذبهم؟
يمكننا القول إن قدرة البشر على التكهّن- أو إصابتهم بداء التكهّن-، أثناء سعيهم وتنافسهم المستمر لامتلاك موارد الحياة-، قد حرَّك لديهم إحساساً بتعارض مصالحهم- وأن ذلك قد ولَّد لديهم شعوراً مخيفاً بعدم الأمان!
وإن عجزهم عن ابتكار آلية للتوفيق بين مصالحهم قد أدى إلى انحرافهم المتعمد عن الفطرة!
وقد كان الكذب نتيجة طبيعية لذلك..، هذا على مستوى عموم البشر!
أما على مستوى الأفراد والجماعات الصغيرة، فإن الكذب هو نتيجة حتمية للثقافات المحلية- خاصة في المجتمعات التي تلجأ لفرض المنظومات الأخلاقية لضبط سلوك البشر..، حيث إن الثقافات في تلك المجتمعات، تفترض أن قيمة الإنسان تتحدد بنوع وحجم صورته لدى الآخرين..، مما أدى إلى انفصال الإنسان عن ذاته وهجره لمعاييره الذاتية، واعتماده للمعايير الجَمَاعية، حيث بات سعيه وجُهده منصباً على تحسين صورته عند الآخرين- بغض النظر عن حقيقته التي لا يُدركها سواه..، فأصبحت تغطية عيوبه عن عيون الآخرين هدفاً أهم من إصلاحها، أو مُقدَّمٌ على الإصلاح..، ولأن الكذب هو السبيل الأقصر والأقل تكلفة لتحقيق هذا الهدف..، لذلك ينتشر الكذب في هذه المجتمعات، حيث يرفضه الجميع ويُمارسه الكل..، ولذلك تقبل المجتمعات الأخلاقية الكاذب عملياً- رغم رفضها للكذب مبدئياً!

معضلة الدين مع الفطرة..

كل الأديان- تقريباً- تدَّعي صفة الفطرية في تعاليمها وتشريعاتها..، ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك، لكي تكسب مكاناً وزماناً للمناورة..، بالرغم من التعارض الكبير والصارخ بين شرائعها والسلوك الفطرية للبشر!
فالحقيقة أنه لا مجال للتقريب بين الأديان والفطرة البشرية ..، فعجز الأديان عن استقطاب البشر بالبساطة والسلاسة، ورفضها لخيارات الإنسان الفطرية، وإفراطها في الوعود والإغراءات المستقبلية، واعتمادها على العقوبات الصارمة والتهديد بالمجهول وتهويل المصير لبقائها قائمة، وافتقادها لآلية إثبات التزام أتباعها بتعاليمها، واكتفاؤها بالمظاهر- حيث تتبنى المجتمعات الدينية السلوك الظاهري للبشر كمقياس لالتزامهم-، مع إدراك القائمين على الأديان لحقيقة أن الممارسات الظاهرية الشكلية، التي تكون نتيجة للخوف أو الطمع، لا تعكس حقيقة ولا تُعبِّر عن سلوك فطري!
ولذلك تعتمد المجتمعات الدينية مبدأ الضخ المستمر والتذكير الممل بتعاليمها وعقوباتها وإغراءاتها..، كما أنها تلجأ مباشرة لمبدأ التحريم والتحليل في مستجدات الأمور- صغيرها وكبيرها، دون أي اعتبار لفطرة البشر التي تدعيها- والتي تفترض إجراء استفتاء أو استبيان للوقوف على آراء البشر وإشراكهم في تحديد مسارات حياتهم وعلاقاتهم وإحساسهم بالقيمة والمسئولية..، وربما يعكس ذلك إدراك القائمين على الأديان والمجتمعات الدينية، بأن الإنسان مستعدٌ ومتأهبٌ على الدوام للتعبير عن ذاته بفطرية، وأن نتيجة تعبيره الصادق والمتحرر ستكون دائماً مخالفة لما يُفرض عليه باسم الدين والفطرة المزيفة!

هل تُحارب الأديان فطرة موجودة، أم تستعيد فطرة مفقودة، أم تسعى لاستحداث وفرض فطرة جديدة؟
إذا كان إيمانهم صادقاً واعتقادهم كاملاً، فكيف للمؤمنين أتباع الأديان أن يرتكبوا الأخطاء عمدًا – كالكذب مثلاً؟
هل يمكن لإنسان يؤمن جازماً بالبعث والحساب والثواب والعقاب، أن يفعل ما يوجب العقاب؟
أم إنه لدى المؤمنين نسبة من الشك في مصداقية الأديان، ولذلك يُخالفون تعاليمها ويخترقون محظوراتها كلما اقتضت مصالحهم ذلك!
هل تقبل الأديان إيماناً ينهار أمام الغرائز؟
أم إن الأديان قد فرضت على الناس ما لا يمكنهم فعله..، ولذلك سمحت أو اضطرت للسماح بانتهاك تعاليمها، واكتفت بالممكن والمتاح..، ولجأت إلى التحايل على المنطق، باعتماد مبادئ فضفاضة، من قبيل الضرورات تبيح المحظورات..، وأخضعت التفسيرات لمزاج بشرٍ دون غيرهم ودون مرجعية محددة!
ما حصل هو أن القائمين على الأديان، أدركوا استحالة تطبيقها وتحقيقها، واستحالة التثبت من ذلك..، فاكتفوا بالمظاهر والشكليات وبالحد الأدنى من التزام أتباعها..، ولتدارك التضارب والتعارض بين بقاء الأديان قائمة وانحراف المؤمنين الصارخ، لجئوا إلى ابتداع مفاهيم ونظريات غيبية لا يمكن إثبات صحتها ونتائجها في الحاضر..، من قبيل الشفاعة والقضاء والقدر وحُسن الخاتمة، والدعاء المؤخر الاستجابة …الخ!
وحيث إن الأمر كذلك..، فإنه لا توجد قداسة مفهومة ولا أفضلية معلومة لتعاليم الأديان على قوانين وأعراف الإنسان..، فكلاهما لا يخلو من ثغرات، وكلاهما خاضع بالنتيجة لمزاج وقدرات وتفسيرات وتكهنات قلة من البشر على حساب الأكثرية!

كيف يمكن استعادة الفطرة البشرية؟
حيث إنه لا يوجد شيء محدد بذاته اسمه الفطرة البشرية!
وحيث إن الفطرة ليست سوى البدايات الطبيعية للأشياء- ومنها السلوك والميول والأفكار البشرية!
لذلك فإن محاولات استعادة الفطرة التي كُتب لها النجاح بدرجاتٍ عالية، واقتربت بإنسان اليوم من إنسان الفطرة، هي تلك المحاولات التي لم توجه إلى الإنسان- مكمن أسرار الفطرة، وإنما تم توجيهها لضرب وإيقاف المؤثرات الخارجية التي تحول دون ظهور الفطرة على سلوك الإنسان..، ففضحت التقديس الزائف الذي كان يحظى به رجال المؤسسات الدينية، وحظرت ممارسة الوصاية الفكرية تحت أي مُسمّى وأي غاية، وأوقفت دروس التلقين والأدلجة الممنهجة التي كانت تُمارس على الإنسان تحت شعار الدين والرب والثقافة والعِرق والمصلحة العليا، وطرحت كل الخيارات أمام الإنسان لتحديد اختياراته بحرية تامة..، فأوجدت بذلك المناخ المناسب لظهور ونمو السلوكيات والأفكار الفطرية!
وتبرز نتائج تلك المحاولات جلية في المجتمعات الحرة المتقدمة اليوم، والتي قامت على دساتير تحفظ حرية وكرامة الفرد..، فلا تتدخل مؤسسات المجتمع في سلوك الإنسان وممارساته إلا لحماية الآخرين وصون حريات الجميع!
لا يخفى على عاقل منصف صادق مع نفسه باحث عن الحقيقة، متحرر من الاعتقادات المسبقة والتفسيرات المبهمة والنتائج الافتراضية..، أن المجتمعات الغربية – لاسيما المجتمع الأمريكي – هي أفضل ما توصَّل له البشر على طريق توفير المناخ المناسب لاستعادة الفطرة البشرية الطبيعية، الخالية من التخمّر الثقافي!
كما لا يخفى على أحدٍ، أن المجتمعات الدينية والعِرقية – كيفما وحيثما كانت، جميعها تعتمد المنظومة الأخلاقية الطوباوية، وتستعمل الشعوب كمواد خام لخلق إنسان حسب الرغبات والتكهنات النخبوية..، والتي تُشاهد نتائجها في بقاع كثيرة من العالم، هي أبعد ما يكون عن الفطرة التي تتغنى بها، وجُلها تستمد جذورها من الشرق الأوسط -لاسيما المشرق العربي!


كيف يتم الالتفاف على الفطرة في فقه الفطرة؟

يقول المسلمون- السُنّة، في معرض تفسيرهم أو تبريرهم لعملية توريث الحكم، التي بدأها أو ابتدعها معاوية، وسار عليها العرب والمسلمون من بعده إلى يومنا هذا، حيث أخذ معاوية- في حياته- البيعة لابنه يزيد ..،
يقولون إن معاوية قد نظر إلى حال الأمَّة، وأدرك المخاطر التي تُحيك بها، وخشي عليها من التفكك..، ولعلمه بالتفاف الجيش حول ابنه يزيد، وإدراكه لحب الناس له- خاصة أهل الشام..، لذلك أخذ له البيعة ونصَّبه خليفة على المسلمين بغض النظر عن رأي المخالفين والمعارضين..، وكأن معاوية يُدرك الغيب أو يحق له التكهّن، أو أنه أحرص على المسلمين وأدرى بأمورهم من رسولهم الذي غادر الأمة والحياة ولم يأخذ البيعة لأحدٍ ولم يوصِ بأحد، ولم يضع آلية محددة لاختيار الحاكم!
ما يلفت الانتباه ويثير التساؤل الفطري، هو أن الحُجَّة التي استعملها معاوية، والسُنة التي سنَّها، هي ذاتها التي يستعملها حُكَّام العرب والمسلمين اليوم، من أجل توريث الحُكم لأبنائهم (أزيادهم)..، لكنها تُعاب عليهم وتُبرر لمعاوية، وكأنه لا يحق لهم النظر إلى حال الأمة كما نظر لها معاوية..، وكأن معاوية لم يغتصب السلطة أصلاً!
بينما يقول المسلمون الشيعة، بأنهم يتبعون أولياء معصومين، وهذا يكفيهم شر الاحتكام للعقل أو للوعي الإنساني، وهم بذلك يقفزون على حقائق يُدركونها، فيتجاهلون- عمداً- بأن ما بين أيديهم لم يكتبه ولم ينقله أولياؤهم المعصومون (على افتراض صحة العصمة)..، بل قد كتبه ونقله لهم بشر عاديون لا عِصمة لهم- لدى الشيعة وغير الشيعة..، فأين الحقيقة وأين الفطرة وأين الأخلاق لدى كل مَنْ يَفترض الصواب فيما كتبه ونقله 
وفعله غير المعصومين!

الأحد، 17 مارس 2024

زادهم الله عِلماً، أم زادتهم بساطتنا جُرأةً؟

0 تعليق


- سيتحرر البُسطاء من ذهولهم ويستيقظ الغافلون من إغمائهم، عندما يُقرُّ رِجال المؤسسات الدينية في كل الأديان والطوائف، بأن فتاواهم واجتهاداتهم وتفسيراتهم، لا تعدو أن تكون وجهات نظر بشرية، لا قداسة لها ولا مجال لإثبات صحتها، وأنها ليست حُجَّة للبشر أمام الإله وليست مُلزمة لهم باسمه!
 - عندما نستحضر حقيقة أن مَنْ اعتاد سماع: زادكم الله عِلماً؛ كَبُر عنده وعزَّ عليه سماع: ربما كُنتَ مُخطئاً! ونحن نُدرك بالطبع، أنَّ ضعف الضعفاء ليس ميداناً لقياس قوة الأقوياء، وأن ذهول البُسطاء لا يجعل المُحدِّثين والناقلين علماء! 
سنتصور المشهد كاملاً، فمَنْ اعتاد سماع المديح والثناء، صَعُبَ عليه سماع النقد والهجاء؛ ومَنْ اعتاد تصدير النصائح وإصدار الأوامر، استنكف عن قبولها وأَنِفَ عن سماعها من سواه؛ ومَنْ اعتاد حياة الأوهام بطعم الأحلام، صار أضعف من أن يعيش حياة الواقع بطعم الحقيقة! 

 إن أحداث التاريخ التي غاب شهودها واندثرت شواهدها، وأمور الغيب التي لا مجال لإثباتها أو نفيها..، لا يمكن أن تُثبت حيالها شهادةُ البشر للبشر عِلماً أو تنفي عنهم جهلاً! 
ما مجال عِلم الفقهاء؟ إنه التاريخ الذي اندثرت شواهده، والغيب الذي استحال إدراكه فانتفت إمكانية إثباته! منذ أن كانت وسائل الإعلام والإطلاع والاتصال والتواصل شبه معدومة، كانت هذه المفارقة العجيبة تؤرق الكثيرين، وربما لا تزال! ذلك أن كل مَنْ اعتلى المنابر وتقدَّم الجُموع باسم الدين – أي دين وأي طائفة – لا يكاد يُكمل كلامه، سارداً رواية تاريخية أسطورية خرافية – من درجة ما بين الحقيقة والخيال، أو مُبدياً وجهة نظره الشخصية في أمرٍ غيبي – ظني- لا يملك البشر الجزم بصحته من عدمها؛ لا يكاد ذلك الإنسان يُكمل كلامه، حتى يبادره ويغمره الحضور، بالقول: زادك الله عِلماً! وكأنهم كانوا يعلمون مسبقاً أنَّ ما سيقوله عِلمٌ، وأنه من عند الإله – دون تحليل ودون تحقق من مصادر المعلومات وسلامة الفهم! وقد كان، وربما لا يزال الجميع يتجاهلون سؤالاً يطرح نفسه صارخاً: مَنْ يُقيِّم مَنْ؟ وما مرجعية الجميع؟ ما دليل السائل والمستمع على أن ما يقوله هذا الخطيب أو ذاك المتحدث باسم الدين، هو عِلمٌ، وأنه من عند الإله، حتى يشهدوا بصوابه، ويطلبوا له المزيد "زادك الله عِلماً"، ويقبل هو منهم ذلك متباهيًا زاهيًا بشعبيته من البُسطاء، وتأييد الضعفاء له! أليس جهلهم بما يقول، هو ما ولَّد لديهم الذهول؟ فهل جهل العوام وذهول البُسطاء، يجعل من المتحدث البليغ عالِماً جليلاً! هل يحمل الفقهاء بين أيديهم آيات عِلمٍ، عليها إمضاء الإله، كي يُقال لهم: زادكم الله عِلماً؟ أم إن اطِّلاع البشر على ما كتبه بشرٌ مثلهم، وإلمامهم بآراء من سبقوهم، يمنحهم شهادة القداسة، ويجعل منهم عُلماء سماويين إلهيين لا تجوز مراجعتهم ونقدهم! هل أنجز هذا الشيخ أو ذاك، بكلامهم، شيئاً عملياً مُدرَكاً محسوساً مُقاساً، يمكن تقييمهم من خلاله؟ أو هل تحقق ما يُثبت صحة إيمانهم – كقبول دعائهم مثلاً؛ فصَلُحت معيشة الناس أو اهتدى حُكامهم لما يُريده الفقهاء، أو توحدت أُمَّة أو تحررت أرض أو انهزم أعداء، أو …؟ أم إن كل ما فعلوه هو أنهم قالوا كلاماً منمقاً ساحراً، لامس ضعف الضعفاء وخاطب عواطف البُسطاء، دون أدنى دليل على صحته، وهو ذاته ما يقوله أمثالهم في كل الأديان والطوائف الأخرى، وهم جميعهم يدَّعون العلم الغيبي، ويتبادلون الاتهامات بالجهل والكفر والتدليس! فمِن أين لهذا الشيخ من هذا الدين وتلك الطائفة، ومن أين لأتباعه، أن ينفوا صفة العِلم والتقوى عن عالمٍ آخرٍ– من دينٍ آخرٍ أو طائفة أخرى، أو يُثبتوها لأنفسهم؟ أم إن المعادلة الفقهية، هي أنه إذا تناقضت وتضاربت أفكار وآراء الفقهاء، وعجزوا عن إقناع بعضهم، يتم إخضاعهم لآراء البُسطاء – كلٌّ حسب طائفته وعرقه ومكانه وزمانه -، فمن حصل منهم على شهادة البُسطاء له ( زادك الله علماً )، اكتفى بها، وعُدَّ عالماً في مجال الغيب، ناطقاً باسم الإله، يعلم مدخلات الجنة ومخرجات النار! عندما يتهم عالمٌ عالِماً آخر بالجهل والتدليس! فمن أين للبُسطاء التُبَّع ( في هذا الدين أو تلك الطائفة) القدرة أو الحق في أن ينفوا أو يُثبتوا اتهام ذاك العالم لهذا العالم..، هل يكون المعيار هنا هو: انصر فقيهك مُخطئاً أو صائباً؟ أليس المقياس الطبيعي والبديهي لتمييز وإثبات عِلم الإنسان من جهله، هو مواجهته لأمثاله وأنداده في مجال تخصصه، وحصوله على شهادتهم له بالعلم أو بالجهل؟ وبافتراض أن البُسطاء والجهلاء هم أقل من أن يُدركوا هذه الحقيقة، أفلا تُحتِّم الأمانة على العلماء أن يُقرّوا بأن تعدد الأديان والطوائف والمذاهب واختلافها إلى حد التناقض، وعجز العالم عن إقناع عالم مثله، أن ذلك يُبرر للناس تركهم ورفضهم جميعاً، حتى يُقنع أحدهم أو بعضهم بعضهم الآخر! ما هي حُجَّتك أيها التابع، وماذا ستكون إجابتك، إذا تبين أنك مُخطئ، وسُئلت عن سبب إقدامك على الأفعال والأقوال التي تُمارسها اليوم باسم الإله! هل تعتقد أن حُجَّتك شافية وأن إجابتك ستكون كافية، عندما تقول: إن الشيخ الفلاني قد أفتى بذلك! أليس الصواب هو الاحتكام إلى القواسم المشتركة بين عموم البشر، بدل الاحتكام إلى وجهات نظر متضاربة؟ كيف تعتقد بصحة ما يقوله فقيه (عالم) – من أي دين وأي طائفة-، وهم الذين عجزوا عن إقناع بعضهم، ولم يُفلحوا سوى في إقناع البُسطاء والضعفاء؟ ما الذي ألزمك بهذا الدين أو الطائفة أو فتوى هذا الشيخ دون غيره؟ ما هي معاييرك التي اخترت على أساسها الدين والطائفة والمذهب والفقيه؟ فإذا كُنتَ قادراً على التمييز والاختيار بين المذاهب وعلى تقييم الشيوخ، فإذن أنت قادر على الإفتاء! وإذا كُنتَ تعتقد بصواب إيمان التقليد والتلقين وعقيدة الوراثة، فأنت إذن تعتقد بصحة معتقدات وإيمان كل البشر – بمختلف الأديان والطوائف والمذاهب! وإذا لم تكن كذلك، فكيف تمنح طاعتك وولاءك، لمن لا دليل لديه يمنحه الحق في توجيهك؟ 

 تساؤلات تطرح نفسها، ووجهات نظر.. معلومٌ أنه، لو اعترفت الأديان ببعضها لانهارت جميعها – خاصة التوحيدية، لأنها تقوم على الأُحادية – أي أن كل دينٍ يقوم على إقصاء الأديان الأخرى ونفي صحتها؛ وذلك لأنها تتبنى الاعتقاد بوحدة الأصل الإنساني ووحدانية الإله المُوجِد؛ وهذا الاعتقاد يستوجب توحيد التشريعات والمعتقدات؛ وتلك مُعضلة الأديان والطوائف!
 - من القواسم المشتركة بين كل الأديان والطوائف، أن اعتناقها واستمرار بقائها لا يكون إلا عن طريق الوراثة والتربية والتلقين والترهيب والترغيب، أو بالإكراه المباشر، وذلك استغلالاً لضعف الفرد البشري، وحاجته الضرورية لجماعة بعينها في مراحل حياته الأولى، فاعتناق الأديان والطوائف ليس اختيارياً، واستمرار بقائها ليس طبيعياً ولا يستند إلى حُجَّة أو برهان- كما يزعم مُنظروها!
 - قاسم مشترك آخر، هو فشلها في إقناع البشر بحُجَّتِها وقدسيتها، بدليل أنه لم يبلغ عدد أتباع أيٍّ من الأديان نسبة 25% من البشر- في أي عصر من العصور – تقريباً! فإذا أخذنا عصرنا كمثال، وألقينا نظرة على واقع الأديان اليوم، وعدد أتباع كل دين وكل رسول على حدة، فسنجد أن كل دين هو صناعة بشرية، وكل رسولٍ هو كاذبٌ أو واهم، باعتقاد 80% من سكان الأرض- تقريبًا! فإذا أضفنا إلى ذلك، حقيقة أن جُل العلماء والفلاسفة والمفكرين، لا يعتنقون أيٍّ من الأديان، ولا يؤمنون بصحتها ولا برسالة رُسُلها! وحيث إن العِلم ورأي الأغلبية العددية، هي أصحُّ وأصدق وأنسب المعايير المتوفرة والمستعملة بين البشر، للحكم على صواب الأمور من خطئها، وهي ليست في صالح اعتناق أيٍّ من الأديان؛ نستنتج أن اعتناق الأديان يجب أن يوضع في إطاره وحجمه الصحيح، فلا يخرج عن كونه خياراً شخصياً؛ أو أنه نظرية تشريعية لإدارة الحياة الاجتماعية للبشر العاجزين عن إدارة شئونهم! ولعل ضعف الإنسان وثقافة التجهيل والتهويل والتخويف من المستقبل والمجهول، التي ينشأ عليها الفرد في المجتمعات الدينية، هي ما يمنع جُل البشر من التنقّل بين الأديان والطوائف- واستعمالها كمسوغ اجتماعي يوفر الأمن ويحقق المصالح الآنية! ولعل الحاجة وغياب الحرية هما ما يمنع الإنسان من التفكير في رفضها جميعاً – كخيار شخصي يُحقق الذات! أما التلميح إلى إمكانية التوفيق بين الأديان والطوائف، واحتمال إقرارها بصحة الإيمان وفق أيٍّ منها – وهي المختلفة إلى حد التناقض-، فإن ذلك لا يُقال إلا اعتماداً على سذاجة وعواطف وضعف البشر؛ إذ ليس ذلك سوى إقرار صريح بعبثية الأمر، أو هو مؤشرٌ على وجود اعتقادٍ ضمني لدى أتباع الطوائف والأديان باحتمال تعدد الآلهة أو مزاجية الإله الواحد! فهل هو باحث عن الحقيقة أو مالك لها، أو هل يكون عاقلاً وأميناً وصادقاً مع نفسه – قبل غيره، ذلك الذي يدعو إلى عبادة إلهٍ يجهل كُنهه وغايته، أو يشك في أُحاديته، ويدَّعي أنه قادر على معرفة مُراد الإله دون اتصال به، ودون نتائج محسوسة يُدركها ويفهمها الآخرون؟ حريٌّ بنا نحن البشر العاديين، أن نطلب ممن يدَّعون العلم ويحملون لقب عُلماء، أن يُقنعوا بعضهم بعلمهم، قبل أن يطلبوا منا الإقرار بصحة آرائهم! فالعالم مَنْ أقرَّ بعلمه أمثاله، وليس العالم مَنْ أذهل البُسطاء بمفرداته اللغوية وألهب مشاعر العوام بخُطبه العاطفية الحماسية!
 إن سذاجة المحسوبين على العُقلاء، هي مطية الواهمين وسلاح الطامعين وزاد العابثين؛ وهي بذلك أشد ضرراً على سلوك البشر وعلاقاتهم، وأخطر على الحقيقة من جهل الجاهلين!

السبت، 5 يونيو 2021

معنى الشريعة ومعنى أن تكون مسلمًا!

0 تعليق



المُطالبة بتطبيق الشريعة عند المسلمين، هي نسخة دينية من صراع البشر على السلطة السياسية
 في كل مكان، الفكرة فيهما أو الهدف منهما هو احتلال موقع المُراقِب والخروج من موقع المراقَب، لكي يستطيع الإنسان فعل ما يمنعه هو عن الآخرين! لماذا يحرص البعض على المطالبة بتطبيق الشريعة دون غيرهم؟ من هم هؤلاء؟ وما مآربهم الحقيقية؟ ما معنى أن يكون بعض المسلمين أكثر إسلامًا أو إيمانًا من غيرهم؟ هل هناك معيار أو مقياس لتحديد الإيمان الحقيقي من المزيف؟ مَن مِن زعماء وفقهاء الجماعات الإسلامية المطالِبة بتطبيق الشريعة يمكنه إثبات أنه ليس كافرًا وأنه ليس مجرد مستغل للإسلام؟ لا أحد يمكنه إثبات أنه مسلم أو مؤمن! الكل يمكنه ادعاء ما يشاء، والظهور كما يشاء! الكل (مسلم وغير مسلم) يمكنه أن يكون ملتحٍ، وحافظًا للقرآن والأحاديث، ومرددًا لأفكار وفلسفات واجتهادات قديمة ..، وليس في ذلك ما يُثبت إسلامه أو صحة إيمانه! - تطبيق الشريعة، ورقة رابحة دائمًا بيد من يستعملها، تمنحه قوة ومصداقية وشرعية من لاشيء؛ هذه الورقة تستعملها دائمًا قلة من المسلمين ضد الأكثرية في أي مجتمع مسلم؛ هي ورقة رابحة بسبب غموضها لدى البعض ربما، وبسبب ما تحمله من إشارات محرجة يعرفها الكل ويخشى افتضاحها لأنها محسوبة على كل المسلمين؛ هذا في الظاهر، أما في الحقيقة فلاشيء من هذا، لا غموض ولا إشارات، لا مصداقية ولا شرعية، مجرد أوهام وخدع وفزاعات خاوية ..
 - المطالبة بتطبيق الشريعة لا تظهر في مجتمعات مسلمة يتفشى فيها الفساد والرذيلة والإجرام أكثر من غيرها، لكي يُقال بأن عدم تطبيق الشريعة هو السبب! المطالبة بتطبيق الشريعة تظهر في مجتمعات مسلمة محافظة ومستقرة، لا تشكو سوى الفقر والجهل اللذين لا توجد لهما حدود ولا حلول في الشريعة! كل المؤمنين مجبرون على ارتداء ذات القناع الإيماني في العلن، وممارسة بشريتهم الطبيعية في الخفاء وأمام الأصدقاء ..، وكل ما عدا ذلك هو مجرد كذب وأوهام أو مزايدات وابتزاز باستغلال للدين! هل المسلمون مخيرون في إسلامهم أصلاً حتى يتم فحص إيمانهم؟ الحقيقة هي أن كل المسلمين ليسوا مخيرين في إسلامهم، وهذا يعني أنهم مجبرون على النفاق، ولذلك هم يتوقعون من بعضهم الخداع أو يدركون أن هذا هو واقع الحال، مما أوجد دائمًا من يستعمل هذه الورقة كوسيلة للمزايدة والظهور، أما تطبيق الشريعة فهو كعدمه أمام النفاق، فالنفاق هو الغالب دائمًا حيثما حل! السؤال الذي ينبغي طرحه في هذا الشأن، هو: هل كل من يقول عن نفسه بأنه مسلم ويحفظ القرآن ويمتلك قوة، يصبح من حقه ممارسة الوصاية على الضعفاء ومن لا يحفظون القرآن من المسلمين – أي استعبادهم بطريقة مُحجَّبة (مقنَّعة)؟ إذا كانت الإجابة عند المسلمين هي نعم، إذن يكون زعماء تنظيم القاعدة ومن يُسمون أنفسهم بتنظيم الدّولة الإسلامية و أنصار الشريعة وبوكو حرام وطالبان وغيرهم من الجماعات، من حقهم استعباد كل المسلمين تطبيقًا لتعاليم الإسلام، ومن حقهم مقاتلة بقية المسلمين باعتبارهم عبيدًا مارقين عن أسيادهم لا عن الله! أما إذا كان الجواب لا ، وأن حقيقة إسلام وإيمان حتى أكبر الفقهاء لا يمكن التحقق منها إلا يوم القيامة، وأن صحة أي مذهب وأي اجتهاد لا يمكن التحقق منها إلا يوم القيامة ..، إذن ينبغي على المسلمين وقف هذا العبث باسم الإسلام والشريعة! ينبغي وقف الحديث العام باسم الدين حتى يتم الاتفاق على كيفية التعامل به بما يضمن عدم استغلاله – جهلاً أو عمدًا .. ينبغي اعتبار كل من يسعى لفرض وجهة نظره الدينية بالقوة هو إنسان كاذب متسلق مستغل، أو واهم أو معتوه! لماذا المطالبة بتطبيق الشريعة في مصر – مثلاً؟ هل هي غير مطبقة؟ هل هنالك أمر مُحرَّم إسلاميًا .. أي أنه غير مباح في السعودية، ومباح في مصر - مثلاً؟ كلا ..، لا يوجد، ولم يوجد يومًا! هل تطبيق الشريعة في السعودية جعلها خالية من الخمر والسرقة والعلاقات الجنسية المحرمة ..الخ؟ كلا، لم ولن يحصل، فهذه سلوكيات بشرية لها أسبابها التي لا تعترف بدين ولا شريعة ولا قانون! البنوك الربوية – مثلاً .. هل يوجد بديل للقروض الربوية غير الكذب والخداع والتحايل والفقر والسرقة والتسوُّل؟ كلا، لا يوجد بديل، ولو وُجِدت قروض بدون فوائد لانتهت القروض الربوية تلقائيًا! لماذا لا تُطالِب المجتمعات المسلمة كلها بتطبيق الشريعة، لتقطع الطريق على المتسلقين والإرهابيين؟ هل جُل المسلمين مرتدون، أو يمارسون السرقة والإباحية والقتل ويشربون الخمر، ولذلك هم يخشون تطبيق الشريعة – يخشون صرامة العقوبات (الحدود)؟ لا يمكن أن يكون هذا هو السبب، فهذا أمر غير موجود وغير مبرر! الرِدَّة عن الإسلام – مثلاً .. لا يمكن إثباتها على أحد ولا نفيها عن أحد – بتطبيق الشريعة أو بدونها ..؛
 من هو المرتد الحقيقي؟ المرتد هو الذي يدخل الإسلام برغبته بعد بلوغه سن الرشد، ويوافق على عدم الرِدَّة ثم يقرر الرِدَّة، وليس المرتد هو من يُفرض عليه الإسلام منذ طفولته، ويقرر الخروج منه بعد بلوغه ..، وللعلم هذا ما يقوله الأزهر! لكن وحتى بافتراض أن المرتد هو كل من يخرج من الإسلام، فإنه لا أحد مضطر للإعلان عن رِدَّته ..؛ فالنفاق والرياء ليسا من شروط الإيمان بل هما من شروط الحياة في المجتمعات المسلمة .. الإسلام أساسًا قائم على الإكراه لا على الاختيار- فلماذا العبث والمجاهرة بالرِدَّة؟ مجرد أن يكون الإنسان غير قادر على تغيير دينه، هو أمر يُفرغ إيمانه من كل معنى! الأمر أشبه بالتجنيد الإجباري، حيث لا قيمة للتطوع طالما أن التجنيد إجباري! الإسلام قائم على إكراه كل المسلمين بدون استثناء – المرتد منهم وغير المرتد ..؛ الإسلام قائم على إكراه المسلمين لبعضهم على اعتناق الإسلام ..؛ لا فضل لمسلم بإسلامه ولا قيمة لإيمانه، فالإسلام أساسه طاعة بشر لبشر وليس طاعة بشر لله ..؛ اعتناق الإسلام عن طيب خاطر لا يحول دون تكفير المسلم لمجرد رفضه اجتهاد فقيه ما أو أخذه باجتهاد فقيه آخر، أو رفضها جميعها، أو أخذه بها جميعها ..، فكل مسلم هو كافر في نظر أحد المذاهب دائمًا ..؛ كل المسلمين متهمون دائمًا بالكفر والرِدَّة، فما الذي يدفع المرتد للإعلان عن رِدته، لا سيما وأن المسلمين- خاصة العرب منهم – معتادون على العبودية، فلا فرق بين طاعة دكتاتور سياسي نفاقًا وخوفًا من بطشه وبين اعتناق الإسلام نفاقًا وخوفًا من بطشه، فنحن المسلمين مُكرَهون على كل شيء حتى الحياة ذاتها! - السرقة مثلاً .. مُجرَّمة ومرفوضة ومحاربة دائمًا وفي كل المجتمعات البشرية – مسلمة وغير مسلمة! - الزنا الحقيقي (الاغتصاب) أو المجاهرة بممارسة الجنس بحيث يمكن أن يشهده أربعة شهود، هي أمور مرفوضة ومنبوذة ومحاربة دائمًا وبأقصى العقوبات وفي كل المجتمعات البشرية مسلمة وغير مسلمة! - شرب الخمر لا يمكن القضاء عليه لمن أراده في الخفاء من المسلمين وغير المسلمين، ولم تخلُ منه بلاد المسلمين يومًا حتى أيام الرسول والصحابة والتابعين، وهو مقنن لدى غير المسلمين ومحارب في كل بلاد المسلمين اليوم! بهذا المعنى الذي هو الواقع، لا فائدة ولا مانع من تطبيق الشريعة، ولا حاجة للخوف منها، أو بالأحرى ليس هناك من يخشى تطبيقها ..، ولذلك نقول بأنه ينبغي على كل المجتمعات المسلمة المطالبة بتطبيق الشريعة لكي لا يجد الإرهابيون والتكفيريون مبررًا لذبح المسلمين وجرهم إلى الخلف بذريعة تطبيق الشريعة!

الجمعة، 4 يونيو 2021

الإنسان والأديان، أسرار ومفارقات (طائفة العَوَام)(٢)

0 تعليق



الصّرع هو مجموعة من الاضّطرابات العصبيّة نتيجةً اضّطراب في الإشارات الكهربائيّة في خلايا المُخ وتؤدّي إلى نوبات متكرّرة ، أحد الأساليب التّي تمّ ابتكارها لعلاج الصّرع ، هو فصل الاتّصال-جراحيّاً- بين نصفيّ المخ ( الأيمن و الأيسر ) عبر عمليّة قطع الجّسم الثفني ( Corpus Callosum)‏ تُسمى ؛" فغر الجسم الثفني " و الذي من شأنه ِتَقلِيل النّوبات بشكلٍ كبيرٍ ، لكن المفارقة هنا هو أن قطع الاتصال بين نصفي المُخّ ينتج عنه ما يُمكن وصفه بانقسام الإنسان إلى شخصين مختلفين ، كل" نصف" له شخصيّة منفصلة عن النّصف الآخر ، أظهرت دراسة بعض المرضى أنّ نصفه مُلحد ، و نصفه الآخر مؤمن

فهل يكون الإنسان مؤمنًا وكافرًا في الوقت ذاته؟ وماذا عن الثّواب و العقاب ؟ هل سيدخل نصفه الجنّة و النّصف الآخر سيدخل النّار؟ من هو هذا الإنسان ؛ هل هو نصفه الأيْمن أم نصفه الأيسر 

هل ينوب إنسان عن الإله في الحُكم بكُفر وإيمان إنسان مثله؟ المُعلَن والطبيعي والبديهي في شأن الكفر والإيمان بالإله والرُسُل والأديان، هو أن الأمر خيار للإنسان، وأن الذي يُدرك حقائق الأمور ويُحاسب ويُكافئ هو وحده الإله! وحيث إن الإيمان وفق كل الأديان، يستوجب الاعتقاد بأنه لا أحد ينوب عن أحد في الحساب والجزاء، إذن لا أحد ينوب عن أحد في الكفر والإيمان! لكن مأساة الإنسان في عُرف المؤمنين والأديان (خاصة لدى المسلمين)، تتجاوز إنكار ورفض حقه في حرية العقيدة وخياره بين الكفر والإيمان، والتحايل على النصوص الصريحة في هذا الشأن، لتبلغ غاية في الغرابة..، إذ تجد أحدهم يعتقد ويرى نفسه ويُعلن ويقول عن نفسه بنفسه بأنه مؤمن، وتجد من الآخرين مَنْ يراه كافرًا، ولا يكتفي بتكفيره، بل ويحكم بقتله..، وكأن بعض البشر مؤهلين ومكلفين ومزودين بأجهزة وآليات ملائكية لقياس وتقييم وتحديد إيمان الآخرين من كفرهم، ومنهم مَنْ جعلوا من أنفسهم خزنة للنار في الدنيا! فإذا اختلف إنسان معهم على أمر فقهي استنباطي عقلي – لا يمكن الفصل فيه..، تراهم يحكمون بكفر مَنْ خالفهم، رغم أنه يعلن إيمانه..، وكأن تعريف الكفر هو مخالفة البشر للبشر، أو مخالفة الضعفاء للأقوياء .. وكأن ليس الإنسان هو الأعلم بنفسه وقلبه – ما إن كان مؤمنًا أم كافرًا! هذه المفارقة، تكشف عن حقيقة هي على درجة من الخطورة، وهي اعتقاد بعض المؤمنين بأنهم مُلَّاكٌ للدين دون غيرهم، وأن بقية المؤمنين ليسوا رعايا عندهم فحسب، بل وعبيد لديهم!
طائفةُ العَـوَام ومَذاهبُ الخَوَاص.. العوام هي صفة تُطلقُ على عامة الناس، ونقيضها صفة الخواص أو الخاصة وتُطلق على النُخبة أو عِليةِ القوم! مِن مرادفات صِفةِ العوام.. الغوغاء، الدَهماء، الهمج، الرعاع، السُوَقَة، البُسطاء، ورجل الشارع…، وكلها صِفات تدل على جَهالة وبساطة وسذاجة أو فوضوية ولا انضباطية وعبثية سلوك الموصوف بها؛ وهي صِفات ترتبط عادةً أو هي نتيجة لتدنِّي المستوى المعرفي والتعليمي والمعيشي للإنسان! في لغة السياسة والعِلم، تُستعمل صفة رجل الشارع للإشارة إلى العوام، ولعلها أكثر هذه الألفاظ أدبًا مع الإنسان واحترامًا له، إذ أنها تُشير إلى الإنسان أو المواطن الذي يدفع فاتورة أخطاء السياسة أو العِلم أو يجني ثمار رُشدِها وهو لا يفقهها ولا يعمل بها! فصِفة رجل الشارع هي بمثابة تَبرئة للإنسان من المسئولية عن السلبيات المُصاحبة للعِلم وعن أخطاء الساسة والسياسة! في ساحة الأدب والثقافة والدِين، تُستعمل بقية الألفاظ، وكلها تحط من قدر الإنسان، وتحمله المسئولية عن جهله وضعفه! طائفة العوام.. العوام هم أتباع طائفة واحدة وإنْ تعددت واختلفت أديانهم..، وهي أكبر الطوائف البشرية على الإطلاق، وهي القاسم أو الخلل المشترك بين كل الأديان، وتضم ما يزيد عن 95% من أتباع كل دين..، عقيدة أتباع طائفة العوام الدينيين.. الواحد من أتباع طائفة العوام، هو كل إنسان يعتقد أو أُجبِرَ على الاعتقاد بأنه مُكلَّف برسالةٍ ربانية إلهية سماوية، وأنه غير مؤهل لفهمها، وأنه مسئولٌ ومُحاسبٌ ومُعاقبٌ عن عدم فهمه وأدائه لها، وأنه – ولهذا السبب – هو محتاجٌ إلى وسيط بشري كاهن، فقيه، شيخ، …الخ-، يُحدِّد له ماذا يريد الإله منه؛ ويعتقد العامي بأن الوسيط لن ينوب عنه في الحساب والمسئولية رغم أنه قد ناب عنه في فهم الرسالة وتحديث قائمة واجباتها ومُحرَّماتها، فبات على العامي أن يعتقد بأنه هو مَنْ سيُحاسَبُ إذا أخطأ الوسيط؛ ويَعتقد العامي بأن حسابه سيكون بدقة متناهية، وأنه قد يُعذَّبُ أشد العذاب وقد يخلد فيه مُهانا، إذا أخفق في فهم وأداء الرسالة التي لا يمكنه فهمها، والتي قد يكون إخفاقه فيها بسبب خطأ الوسيط أو خطأ في اختيار الوسيط – الذي لا يحمل تخويلًا إلهيًا ولا يوجد مقياس معياري يُقاس به صوابه من خطئه، ولا يوجد بديلٌ ولا مناصٌ من إتِّباعه. ويعتقد العامي بأنه إذا نجح في أداء الرسالة فإنه سيُكافأ بجنة الأحلام – مقابل طاعته للوسيط البشري لا للإله – باعتبار أنه لم يفقه مُراد الإله إلا بفضل الوسيط ؛ ويعتقد بأنه غير مؤهل للمقارنة والتفضيل بين الوُسطاء الإلهيين، ومع ذلك فهو المسئول إذا اتَّبع الوسيط الخطأ. ورغم أن العامي لا يمتلك آلية اختيار الوسيط، إلا أنه مُجبَرٌ على الاعتقاد بأن عدم طاعته للوسيط الذي تأتي به الصُدفة، هو بمثابة عصيان مباشر للإله، وأن إتِّباعه للوسيط الخطأ هو كذلك عصيان مباشر للإله! ويعتقد بأن الصُدفة التي أوجدته بهذا المجتمع دون سواه، تلك الصُدفة التي جعلت من هذا الشيخ وهذه الطائفة وهذا المذهب دِينًا للعامي وسبيلًا له، هذه الصُدفة هي الحق المبين؛ ويعتقد بأن الصُدفة الأخرى- توأم الصدفة الأولى- والتي أوجدت غيره في مجتمعٍ آخر وطائفة أو دِينٍ آخر ومذهبٍ وشيخٍ آخر، تلك الصُدفة هي الضلال المبين؛ ويعتقد بأن الإله قد أراد به الخير وهداه قبل أن يُولد.. إذ أوجده حيث ينبغي أن يوجد المُهتدون كي يُدخله الجَنَّة؛ ويعتقد العامي بأن ذات الإله قد أراد بالآخرين شرًا، فأضلَّهم قبل أن يولدوا.. إذ أوجدهم حيث ينبغي أن يوجد الضالون كي يُعذِّبهم! ويعتقد العامي بأن إتِّباعه وطاعته للشيوخ والأهل الذين وَجَدَ نفسه بينهم ولم يخترهم، هو واجبٌ عليه وحُجَّة له، بينما ذات الأمر لا ينبغي لغيره من أتباع الطوائف والمذاهب الأخرى، فإن أطاعوا شيوخهم وأهلهم فذلك حُجَّةً عليهم لا لهم! ويعتقد بأن هذه المغالطات المفضوحة التي يسخر منها المجانين فضلًا عن العُقلاء..، يعتقد بأنها أساس القضاء الإلهي وأنها منتهى العدل والإنصاف والكرم؛ فكل من كانت هذه حاله وهذه عقيدته فهو من أتباع طائفة العوام!
مذاهب الخواص الدينيين .. بعد أن استعمل الخواص غِربال الفقه لفصل العوام وتمييز الخواص عنهم، واتفقوا وأجازوا لأنفسهم القول بأن العوام هُم بشر لا يفقهون، وأنهم رغم ذلك محاسبون ومعاقبون ومكلفون برسالة لا يمكنهم فهمها، وأن ذلك لا يتناقض مع العدل الإلهي – بحسب شرائع وتعاليم الأديان..، بعد أن خَلُص الخواص من أمر تصنيف العوام، التفتوا إلى بعضهم فوجدوا ذات المعضلة ماثلة بينهم، وهي المعضلة التي أوجدت أو أفرزت أو ولَّدت مصطلح العَوَام، وهي معضلة الرفض الفطري لدى الإنسان العاقل للتنازل عن هويته، ورفضه استبدالها بالانقياد والانصياع والخضوع غير المشروط لغيره، وهو الأمر الذي استطاع الخاصة إلزام العوام به باستعمال عصا النار وجزرة الجنة! عندما احتدم الاختلاف والخلاف بين الخواص ووصل الأمر إلى حد التناقض الذي لا يمكن أن يمرر حتى على العوام رغم جهلهم وجبنهم ورعبهم، فهو تناقض مكشوف لا يمكن أن يوصِل إلى ذات النتيجة مع ذات الإله..، وعندما بدأ الخاصة بتصنيف بعضهم، فوصف كل طرف الطرف الآخر بأن مكانه بين العَوَام، ونزعوا عن بعضهم الحق في صِفة ومكانة الخاصة..، عندها خشي الخاصة من افتضاح أمرهم أمام العوام، وأدركوا أن ذلك سيؤدي إلى تمرد العوام – باعتبار أنه قد تبيَّن أن لا أحد يمتلك الحقيقة -، وإلا لكان الخاصة أولى بالاتفاق أو إقناع بعضهم – إذا كانت الرسالة واحدة وكلهم مهيئون لفهمها-، فالخاصة يُفترض فيهم أن يكونوا مُدرِكين قبل أو دون غيرهم لمعنى الاختلاف حول أمرٍ محدد تستوجب الحقيقة والمصلحة أن يجتمع حوله ويلتزم به الجميع؛ وباعتبار أن الخاصة يدَّعون بأنهم مؤهلون لفهم الرسالة الإلهية - حسب الفقه والشرائع والتعاليم الدينية ..، عند هذا الحد تدارك الخاصة أمرهم- معتمدين ومتسلحين بجهل العوام الذي كانوا قد أقنعوهم به مسبقًا والذي كان سببًا في تسميتهم بالغوغاء، وكان مبررًا لإقصائهم من المشاركة في محاولة الفهم والتحليل والإفتاء- رغم اختلاف الخاصة..، ولإنقاذ الموقف وحِفظ ماء وجه الخواص أمام العوام، تدخلت الثقافة البشرية وابتدعت نظرية المذاهب، فأصبح – وبموجب نظرية مذاهب الخواص-، يحق للخاصة الاختلاف الكامل والفاضح حول الأمر الواحد، ولا يحق للعوام الاعتراض أو مجرد التساؤل..، بل إن كل ما بقي متاحًا أمام طائفة العوام، هو أن يتوزع أفرادها بين مذاهب الخواص المتناقضة لتحقيق النصاب لها، وأن يُمنِّي كل فريق نفسه بأنه الفرقة الناجية! وعلى اعتبار أن الصُدفة ولا شيء غير الصُدفة هي مقياس العوام لإتِّباع الخواص، وحيث إن المصانع العشوائية العمياء التي تُنتج العوام لا تتوقف عن الإنتاج، وحيث إن أعداد العوام أضعاف أعداد الخواص – بسبب الشروط التعجيزية التي ابتكرها وابتدعها الخاصة على مقاسهم، والتي من بينها حث الفقراء والبؤساء على التكاثر وإنجاب المزيد من التُعساء - كي لا يُزاحمهم العوام على الخصائص التي تُمكِّنهم من قيادة البشر وحصد المزايا الحياتية..، وكي يحصل كل مذهبٍ على النصاب من العوام ..، لذلك أصبح – بعد أن لم يكن – اختلاف مذاهب الخواص شرعيًا، واختلاف العوام لعنة تُطاردهم، فيعبدون الإله وفق مذاهب الخواص المختلفة المتناقضة، ويفعلون ما يؤمرون ولا أحد يكفل لهم النتيجة! لقد اختلفت الأديان أيما اختلاف، واختلف وتصارع أتباع الدين الواحد، وأتباع الطائفة الواحدة، وكفَّر بعضهم بعضًا، إلى الحدِّ الذي بات معه الجزم بأحد أمرين ليس ممكنًا فحسب، بل بات أمرًا بديهيًا ظاهرًا ومُلِحَّا لكل حُرٍّ ذي عقل ..، فإما أنَّ كل الأديان ليست من عند الإله وإنما هي أوهام أو هي فلسفات بشرية تمت نسبتها إلى الغيب بقصد تسويقها..، أو أنَّ كل دين وكل قوم لهم إلههم الذي خاطبهم وخصَّهم بالهداية دون غيرهم، أي ليست كل الأديان من عند ذات الإله!

عُلماء غيب .. عندما يوصف الفُقهاء والكهنة بأنهم علماء، فإنه لا معنى ولا مجال لهذا الوصف إلا إذا كان المقصود أنهم علماء غيب، وحينها يكون تصديقهم وطاعتهم وإتِّباعهم هي أمور طوعية شخصية عاطفية أو تعاطفية، لا تستند إلى برهان ولا تُلزِم الجميع ..، فالغيب هو المجال الذي يمكن لكل مَنْ شاء أن يقول فيه وعنه ما يشاء، فهو المجال الذي لا يمكن إدراك أو إثبات نتائجه ولا يمكن التحقق من صحة أقوال العاملين فيه ولا حاجة لإضاعة الوقت وبذل الجُهد لإقناع الواهم بأنه واهم ..، وهذا هو حال الفقهاء والكُهان، إذ لا يمكن التحقق من صحة ما يقولون وما يعتقدون ويتخيلون، وعليه فإنه لا معنى لالتزام الآخرين بأحلامهم وتخيلاتهم! أما وصفهم بأنهم علماء وحسب أو علماء دِين، فإن في ذلك مغالطة مفضوحة وربما تدليس متعمد ..، فقد ارتبط مفهوم العِلم والعُلماء في أذهان الناس بالحقيقة، حيث إن نتائج العِلم الحقيقي لا تتضارب وأقوال وقناعات العُلماء الحقيقيين لا تتناقض..، ولذلك فإنه ما أن يُقال بأن هذا الأمر أو هذه المعلومة قد قال بها عالِم، حتى يُبادر الناس إلى تصديقها، لعلمهم أنه لو لم تكن حقيقة لتصدى لها علماء آخرون ودحضوها قبل أن يسمع بها العامة، فالعالِم الحقيقي لا يُخاطب العامة أساساً ولا يَحفل بانبهار البُسطاء، وليست له غاية إلا إثبات صِحة نظرية ما أو خطئها، ولا ينتهي اختلاف العُلماء الحقيقيين إلا بالاتفاق والإذعان للحقيقة..، فأين فقهاء الأديان من ذلك حتى يُوصفوا بالعُلماء ويوصف مجالهم بالعِلم..، هيهات أن يبلغ الفقه الديني هذه الدقة أو يخضع لهذه المعايير الصارمة ..، إذ أن الفقهاء والكُهان لا يترددون في رمي بعضهم بالكذب والتدليس والجهل متى تعارضت آراؤهم وتصوراتهم وأهدافهم، والواقع يثبت أنه لا أحد منهم يُدرك شيئًا عن الحقيقة التي يتحدثون باسمها..، وكل ما يمتلكونه هو بساطة البشر وذعرهم من المجهول وعاطفتهم التي هي مصدر ضعفهم وهلاكهم!

خصوصية وهمية وعامية افتراضية… لا خلاف اليوم على أن البشر أُممٌ متعددة مختلفة، بغض النظر عن اتحادهم في الأصل من عدمه..، فالاختلافات البُنيوية والمقدرات والمواهب والهوايات، والميول والرغبات الفطرية، والمؤثرات الخارجية البيئية..، هي عوامل كفيلة بخلق اختلافات لا يمكن تجاهل نتائجها، رغم تجاهل البشر أو جهلهم بالاختلافات ذاتها! فالبشر أُمم مختلفة شأنهم شأن أُمم الطير والأسماك وغيرها، فليست الطيور أُمةً واحدة، بل هي أُممٌ يأكل بعضها بعضًا، وكذلك الأسماك وكل الكائنات، وكذلك البشر ..، لكن الخلاف هو حول مواصفات الأمم البشرية، فالتشابه أو شبه التطابق الخادع الذي يظهر على البشر، جعلهم يبحثون عن معايير خارجية لتحديد وتمييز الأمم البشرية عن بعضها..، فاستعملوا الأوطان واللغات والأديان والثقافات وغيرها كمعايير لتحديد أُمة الإنسان، متجاهلين أن هذه ليست معايير بل هي أقنعة زائفة يمكن بل ويجري ارتداؤها وخلعها وتركها أو تغييرها واستبدالها في كل وقت..، وأن المعيار الحقيقي لتحديد أُمَّة الإنسان هو معدن الإنسان الذي يُحدد هويته الذاتية ويطبع شخصيته، تلك البصمة التي لا يمكن تغييرها ولا تقليدها..، فالكاذب يبقى كاذبًا حتى لو ألبسوه أثواب وعمائم ولِحى الأديان كلها..، ويبقى الصادق صادقًا حتى لو لم يعتنق أو لم يسمع عن الأديان كلها، وكذلك الذكي والغبي والمخادع الأمين وغيرهم! إن تمييز البشر وتقسيمهم إلى خاصة وعامة في مجال الدين الذي هو مجال عام وليس مجال خاص، ما هو إلا جهل أو وهمٌ أو هو كذبٌ صريح! فالعامِّي في أي مجال هو الدخيل على ذلك المجال والذي هو ليس مُلزمًا بفهمه وتصديقه والعمل به..، أما المجال الذي لا مناص للإنسان من الالتزام بقوانينه والعمل بتعاليمه، فإنه من المغالطة والافتراء أن يوصف الإنسان بأنه عامِّي نسبة له! إن العوام بالمقياس العلمي، هم الدُخلاء على العِلم، والذين هم خارج مجال ذلك العِلم والجاهلين به، والذين هم ليسوا مُلزمين بنتائجه وقوانينه، والذين لا تُعيرهم تسميتهم بالعوام نسبة له، حيث إن لكل منهم مجاله المختلف الذي يجد فيه نفسه ويُحقق فيه ذاته ويُثبت وجوده! وكذلك العوام بمقياس السياسة، فهم كل العاملين خارج حقل السياسة، والجاهلين بشئونها وتاريخها، إلا أنَّ الاختلاف عن العِلم هو أن عوام السياسة مُلزمون بنتائجها وقوانينها بمعادلة الحاكم والمحكوم والقوي والضعيف، وليس بمعادلة الواجب أو القناعات والرغبة! قد يكتنف السياسة غموضٌ من حيث دقة البيانات والتفاصيل، لكن حروبها وعداواتها وعلاقاتها لا تكون إلا مع طرفٍ آخر معلوم للخاص والعام ..، ولعله من الأهمية بمكان أن نذكر هنا أن الساسة هم عوام في مجال العِلم، وأن العُلماء الحقيقيون قد يكونون عَوَامّاً في مجال السياسة..، أما في مجال الأديان، فإن العداوة والحرب قائمة على أَشُدِّها مقابل طرفٍ افتراضي وهمي اسمه الشيطان..، والعلاقات متينة مع جهات غيبية لم يُسمع لها صوت ولم تَستجب يومًا لدُعاء! وبالنتيجة فإنه لا معنى لصفةِ الخاص والعام في مجالٍ عام يتساوى الجميع في الجهل بنتائجه! …

 أنصار الحقِّ المُتحايلون، وإنسان الأحلام.. بحسب تعليمات مُشرِّعيها ومُفتييها وكهنتها، فقد كلفت الأديان الإنسان بما لا يُفهم ولا يُعقل ولا يُستطاع، وذلك تحت تهديد النار وإغراء الجَنَّة..، فخَلَقَت بذلك بشرًا يحملون بأذهانهم إنسانًا افتراضيًا هُلاميًا يمتثل لتعاليم الأديان تصوُّرًا وتخيُّلًا..، بينما في الواقع هم بشرٌ عاديون لا يستطيعون فعل المستحيل الذي تأمر به الأديان والذي تعهدوا بفعله، فكانت أخلاقهم خوفًا وطمعًا وليست إيمانًا ولا اقتناعًا بالأخلاق لذاتها ولأهميتها! فأصبحوا يعتقدون ما لا يفقهون ويفعلون ما يرفضون وينتظرون تحقق المستحيل ليفعلوا ما يعتقدون، واضطروا تحت ضغط الحاجة أحيانًا وبسبب الغُبن أحيانًا كثيرة، أن يُلبِسوا الأوهام والأحلام ثوب الفتاوى، فكلما ضاق بهم الحال برروا لأنفسهم ولأتباعهم ما يُحرِّمون على سواهم، فتجدهم يعتقدون بأن المُلك بيد الإله يؤتيه من يشاء وكذلك الرزق، وفي ذات الوقت يُشَرِّعون لأنفسهم ولأتباعهم الخِداع والكذب والتلاعب بالألفاظ وكتمان الحقائق وسَرِقة ونهب مال الدولة والمجتمع، بحُجَّة أن الدولة ليست عادلة..، ويفعلون الشيء ذاته في المجتمعات العادلة بحُجَّة أنها لا تقيم شرع الإله..، وكأنهم ليسوا مُطالبين بالصدق والأمانة والاستقامة إلا إذا توفرت لهم الجنة على الأرض..، ولا معنى ولا قيمة لإيمانهم بأنهم في دار امتحان! وفي محاولة لتجاوز الحق باسم الحق، فقد وضعوا نظرية أسموها قاعدة شرعية وكأنهم مخولون بوضع الشرائع المنسوبة للإله، وربما أفرغت هذه القاعدة معتقداتهم من مضمونها، إذ أفتوا بأن الضرورات تُبيح المحظورات..، والواقع أنه لا محظورة إلا ولها ضرورة تُبيحها! ولكن، تلافيًا للخطأ أو في الحقيقة إمعانًا فيه، جعلوا تحديد الضرورة من اختصاص الخاصة، وكأن عموم الناس لا يعرفون ما هي ضروراتهم، وكأن قدر العوام أن تكون عورات حياتهم مكشوفة أمام الخاصة، فإذا أراد العامي معرفة ضرورة أمره من عدمها، فإن عليه أن يكشف كل أوراقه ويُفشي أسرار حياته وأسرته أمام الخاصة كي يجدوا له الفتوى ويُحدِّدوا له مدى احتياجه بهذا الأمر من عدمه..، وكأن المفتي مَلكٌ كريمٌ معصومٌ ومكلَّفٌ أو مُباحٌ له الإطلاع على أسرار وخصوصيات الناس! إن للواقع إرادته التي تعمل وفق المنطق والحقيقة والموضوعية، فلا يعترف الواقع ومتطلبات الحياة بتعاليم الأديان ولا يعتد بأمزجة وتكهنات واختلافات وتعليمات رجالات الأديان..،


 . - المُلحدون.. لا شك أنَّ الدِين هو المسئول عن جُلِّ الخلافات والاختلافات البشرية، ومنها ظهور ما يُعرفُ بالملحدين أو المُشككين في وجود الإله..، فكل رسول وكل دِينٍ من الأديان قد أصبغ على إلهه مواصفات معينة، ثم أمر الناس باسم ذلك الإله بأوامر لا تتوافق مع مواصفات الإله..، فكان السؤال وكان العجز عن الجواب فكان التشكيك ومن ثم كان الإلحاد! ولذلك فإن التشكيك والإلحاد هما مُوَجَّهان بالأساس إلى آلهة الأديان ذات المواصفات البشرية المتناقضة، وليسا موجهين إلى الإله الحقيقي المطلق الذي لا يعلم البشر عنه شيئًا، والذي تتساوى أمام قدرته جميع مخلوقاته، فلا يختلف البشر عن بعضهم ولا يختلفون عن غيرهم من المخلوقات قياسًا له!

 - المُشركون..1 أما ما يُسمَّى بالمشركين، فإنه لا وجود لهم بالمعنى المتداول بين الناس – لاسيما بين المسلمين-، حيث يتصور المسلمون بأن المشركين هم أُناس عُقلاء يعلمون بأن الإله واحد لكنهم لا يُقرُّون له بالوحدانية..، وهذا بالطبع وهم أو هو محض افتراء وخداع للبُسطاء يُكذِّبه الواقعُ قبل العقل والمنطق، إذ لا وجود بين البشر لمثل هؤلاء الحمقى، وإن وُجِدوا يكون قد رُفِع عنهم القلم حتمًا..، لكن الصحيح والثابت أنه لا وجود لهم إلا في مُخيلة الأغبياء والغافلين وعلى ألسنة الدُعاة الواهمين والمُخادعين، فليس الحديث عن المشركين إلا من قبيل الخِداع ومحاولة إيهام المُخَاطَبين بأنهم وحدهم قد نالوا رضا الإله عنهم، وأن عدم شِركِهم بالإله يدل على عقلانيتهم واستقامتهم، وأن ذلك إنجاز لهم ومكسب عظيم خير من الدنيا وما فيها..، والحقيقة أنه لا شيء من ذلك مُطلقًا ولا قيمة ولا نتيجة لما يفعله الحمقى سوى ما يجنيه المخادعون من استعبادهم للمغفلين والسُذَّج والضعفاء والواهمين..، ذلك أنهم استغفلوهم فباتوا يُنفِّذون ما يأمرونهم به وينتظرون تمييزًا لهم وجزاءً عظيمًا عند الإله دون غيرهم، بينما هم في الحقيقة لم يفعلوا سوى ما يفعله كل البشر، فلم يفعلوا شيئًا يستحقون به ما يُميِّزهم عند الإله ولا يستطيع كل البشر فعل شيء من ذاك القبيل والحجم..، وليس الاعتقاد بأن الإنسان يستطيع أن يفعل ما يُرضي الإله أو يُغضبه إلا طعنًا صريحًا في كمال الإله، وتضخيمًا لقيمة الإنسان في مقابل قيمة الإله.. وكأن الإنسان كائن يقع خارج الإرادة والمشيئة الإلهية، أو كأن الإله يُعاقب ذاته، فيخلق الإنسان ويُبرمجه على عصيانه ثم يُعاقبه على تنفيذه لبرنامج هو من صنعه وألزمه به! - المُشركون .. 2 أما إذا كان المقصود بالشرك هو مُخاطبة الإنسان للإله أو عبادته له بواسطة مخلوقاته وليس مباشرة، إذا كان هذا هو المقصود بالشرك إذن يكون المؤمنون بالأديان هم وحدهم المشركين على الأرض دون غيرهم..، ذلك أنهم لم يعرفوا الإله ولم يُخاطبوه ولم يعبدوه أصلًا إلا بواسطة الرُسُل..، ثم إن كل المؤمنين بعد الرُسُل وإلى اليوم، هم لا يعبدون الإله ولا يفعلون ولا يتركون شيئًا يرتبط بعلاقتهم بالإله إلا بواسطة وعبر ومن خلال وبمساعدة وبموافقة وبمباركة الكهنة والمشايخ والفقهاء..، فهل للشركِ معنىً آخر! - المُشركون والمُلحدون والمشككون في وجود الإله.. ليست هذه الأفكار والرؤى والمُسمَّيات سوى ردة فعلٍ طبيعية من عاقل يحترم عقله، على نظرياتٍ خاطبته وتجاهلت عقله! فلا توجد طوائف ولا مذاهب بين قُطعان الأغنام والماشية وأسراب الطيور، وبالمقابل لن تجد كتابًا أو مقالًا يحمل توقيع سمكةٍ أو قُنفذ ينتقد الأديان أو يُسائلها..، فلا يفعل ذلك سوى الإنسان، ولم يفعل ذلك إلا دفاعًا عن هويته التي أرادت الأديان طمسها وإعادة تشكيلها بما يتوافق مع رؤى رجالاتها! إنَّ التناقضات التي تمتلئ بها كُتُب الأديان حول وصف الإله.. رحيم وفي ذات الوقت منتقم ( شديد العقاب)، بكل شيء عليم وفي ذات الوقت سيسأل الإنسان ويحاسبه بالميزان، وأنَّ أعضاء الإنسان ستشهد عليه – وكأن الإنسان شيء آخر غير أعضائه، وكأن الذي سيُعذَّبُ شيء آخر غير الأعضاء، وكأن الإله بحاجةٍ لشهادة الأرجل والأيادي، وكأن…الخ، وإنَّ اختصاص الأديان بمخاطبة العاقل وإلزامها له بتعاليم وطقوس وتشريعات لا يفهمها ولا يقبلها العقل، وخلو كُتُب الأديان من أي برهان أو آية أو سبيل لإثبات صحتها…الخ، وجود هذه التناقضات ونسبتها للإله، هو الذي أوجد التساؤلات عن كُنه الإله وعن حقيقة وجوده وأحاديته! فلو لم تكن هناك الأديان لكانت ربما رؤية الإنسان للإله اليوم لا تقوم إلا على إحدى وجهتي نظر لا أكثر..، - إما اعتقاد بوجوده كقوة منطقية خَفيَّة، تُسيِّر الكون وتَحكم سلوك الموجودات، وأنَّه ربما لها غاية لا تُدركها المخلوقات، وأنها أكبر وأعظم وأعقد من أن تَغضَبَ أو تَرضى بما تفعله مخلوقاتها الضعيفة..، - أو يكون تَعَادُلٌ في المُعطيات وتضادٌ في الأفكار.. يُترجم إلى الشعور والقول بـ لا أدري! فليس الخوض في شأن الإله إنكارًا أو تشكيكًا سوى ردة فعل على مَنْ ادَّعى معرفته بالإله ولم يستطع إثبات ادِّعائه، واكتفى بالتهديد والترهيب والترغيب باسمه! 

. قانون الإنصاف الطبيعي.. لماذا يؤمن أتباع الأديان بأن دعوة المظلوم مُستجابة ولو كان كافرًا؟ ولماذا يؤمنون بأن الإله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ويهزم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة؟ وكيف يعتقدون بأن أعمال الإنسان لا تُحسبُ له إذا لم يكن مؤمنًا بدينهم..، وفي ذات الوقت يعتقدون بأن الإله يقتص للكافر وينصره إذا كان مظلومًا! الحقيقة أنه لم يجد أتباع الأديان بُدّاً من الإقرار بوجود معادلة وآلية منطقية تحكم الكون وتفرض العدل، ولا تخضع لتعاليم أديانهم، ورغم ذلك تَغلُبُ عليهم أنانيتهم فيتجاهلون واقعًا يرونه وحقائق يؤمنون بها، فيتمنى ويُحاول كل فريق منهم أن يُثبت أن العدل والحقَّ دائمًا حيث هو وحيثما تحققت مصالحه ورؤاه، وأن يكون الظُلم والخسران حيث يوجد الآخرون..، وما ذلك إلا بسبب جهل وضعف البشر الذي يدعوهم إلى تضخيم الأنا على حساب الحقيقة! 

 هل ينبغي الطعن في الإيمان والأديان، والدعوة إلى الكفر والإلحاد؟ الإجابة، كلا! فليس الطعن في الإيمان والأديان، ولا الدعوة للكفر بها والإلحاد، من شأن العُقلاء..، ولا تختلف عن ذلك الدعوة إلى الأديان والإيمان والتعصُّب إلى المعتقد دون دليل وبرهان! إن الأهم من هذا كله هو الدعوة والبحث عن الحقيقة، من أجل أن يعيش الإنسان الحقيقة، من أجل أن يكون الإنسان حقيقي ويتعامل مع إنسان حقيقي! إن ما يعني الإنسان من الإنسان هو سلوكه وممارساته معه – خاصة تلك التي تؤذيه دون مبرر..، وليس إيمانه أو إلحاده، التي هي شئون خاصة تخضع لقناعات وثقافات وحتى اعتبارات شخصية! وهنا حقيقة لا ينبغي ولا يمكن للصادقين إخفاءها، وهي أن المعاملات والأخلاق بين مَنْ لا يعرفون ديانات بعضهم، بما في ذلك التعامل مع الملحدين، هو التعامل الحقيقي مع الإنسان الطبيعي الحاضر الموجود والذي يُعبِّر عن ذاته وقناعاته – بغض النظر عن صحة اعتقاده من عدمها! بينما التعامل مع المؤمنين المُلزمين بتجاوز العقل وتجاهل التفاعل مع الواقع، والمجبرين على استعمال نظرية الاعتقاد المسبق عن الآخرين، والذين هم بالضرورة لا يرون البشر إلا من خلال اعتقاداتهم هم، هو تعامل مع إنسان غير طبيعي، إنسان يستمد سلوكه ويستورد قناعاته من خارجه، فلا يعني له صِدق الآخرين وأمانتهم معه شيئًا، فهو يراهم من خلال قناعات آخرين! إنها حقيقة لا ينبغي تجاهلها، ذلك أن المؤمن تقليدًا وخوفًا وطمعًا، هو إنسان مشوه وغير سَوي..، وبغض النظر عما هو الحل وما هو البديل، فإن هذه حقيقة مُعاشة لا يغفلها ولا يجهلها إلا جاهلٌ أو كاذبٌ أو واهم أو مُتعصب ومُقَلِّدٌ أعمى! ونقول لأولئك الذين يعتبرون أن أدنى تساؤل حول المعتقدات أو محاولة إصلاحها هو بمثابة تشكيك بها، وأنهم لا يقبلون التشكيك فيما بين أيديهم، إلا في وجود البديل الجاهز! نقول لهم..، إن غياب الطريق البديل، لا يُبرر السير في طريقٍ ثَبُتَ خطؤه أو يعوزه الدليل! ليس العاقل بالذي يطلب اطمئنانًا أساسه التجاهل والتغابي! فإذا رأى الإنسان أن ضعفه المعرفي وعدم تخصصه، هو سبب يجعله يضع ثقته وأمله في المتخصصين..، فإن عليه أن يتذكر بأن المتخصصين كُثُرٌ وأنهم ليسوا متفقين، ولا يمكن لغير المتخصص أن يطعن في مقدرة وحرص بعضهم لصالح البعض الآخر! إن الذين يُحاولون إقناعك بصحة هذا الدين وهذا المذهب وهذه الطائفة على حساب غيرها، هم بشرٌ عاديون لا يختلفون قيد أُنملةٍ عن الآخرين الذين يطعنون في صحة ذات الدين وذات المذهب وذات الطائفة..، ليبقى القرار لك والمسئولية على عاتقك! إنه ليس ثمة خطأ يوازي الجزم بصحة ما لا دليل على صحته! فإن كان السير في هذا الطريق سببه غياب البديل وليس وجود ووضوح الدليل، فإن ذلك لا يُلغي حق المسافر في التساؤل، ولا يُسقط عنه واجب السؤال ومسئولية البحث! إن ضعف الحُجَّة لدى المتخصصين يبرز من خلال تحذيرهم لأتباعهم من الإطلاع على ما لدى خصومهم! إن الواثق من سلامة منهجه وقوة حُجَّته، هو الذي يدعو أتباعه للإطلاع على حُجج خصومه، وليس الذي يدَّعي الصواب ويحتكر المعلومة ويُهدد ويُحذِّر من الإطلاع والسؤال! إن كُلَّ دُعاة الأديان والطوائف والمذاهب يدَّعون امتلاك الحقيقة، فإذا اعتقدت أن بعضهم يريد بك خيرًا وبعضهم يُريد بك شرًا، فتذكر أنهم جميعًا يدعون أهلهم وأبناءهم وأصدقاءهم إلى ذات الأمر الذي يدعونك له! فإن قُلتَ لعل بعضهم واهمون فإنك لا تدري أيهم الوهمين! إن مَنْ كانت حُجَّته الحِرص والثقة في المتخصصين، لا ينبغي أن يتجاهل أنه لن يكون أكثر حِرصًا ولا أبلغ حُجَّةً من المتخصصين المخالفين لمذهبه وطائفته ودينه! ويبقى أن نتذكر أن افتراض العدل يستوجب ألا يُعاقب الباحث عن الحقيقة إذا ضلَّ سبيلها، طالما كانت النية خالصة وصادقة والأمانة حاضرة! فلا ذنب لمن بذل جهده ولم يبلغ النتيجة، ولا فضل لمن بلغ نتيجة لا يُدرك حقيقتها! فإذا لم يستحق الأول العقاب بسبب عجزه، فهل يستحق الثاني الثواب على لامبالاته! إن تَمَيُّز الإنسان بالعقل، والاتفاق والإقرار بأن العقل هو سبب ومناط التكليف، يستوجب ألا يفعل الإنسان العاقل للغد ما لا يستطيع تبريره اليوم!