face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فلسفة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فلسفة. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 11 يونيو 2025

الرسول الذي اخترعه الصمت: تفكيك هندسة النبوة المحمديّة

0 تعليق


"النبيُّ الذي رآه الظلّ في المنام"
عن اختراع النبوّة ونجاة الكذب بالبلاغ.


في صمت هذا الوجود الذي لا يُصغي، خرج صوتٌ بشريّ من عمق الرمال، لا يحمل أكثر من اسمه ووجعه، وقال: إنِّي رسول.
لم يسأله أحد عن معنى ذلك، لأنّ الجوع أحيانًا لا يحتاج برهانًا، والعطش لا يحاكم المطر.

كان "محمدٌ" ابن الصحراء، لا يملك ميراثًا فلسفيًّا ولا باطنًا ثوريًّا، لكنه كان يملك ما هو أدهى: الحاجة إلى معنى في كونٍ لا يقدم أي إجابة.

النبوةُ ليست نورًا، بل لغةُ الظلام عندما يصير الوعيُ عبئًا، والفراغُ سُمًّا.
فادّعى ما يُشبع هذا الجوع الميتافيزيقي:
قال إنّ الكون له إله، وإنه - دونه عن غيره - حامل رسالته.

لكن من قال إن الرسالة حقيقة؟
من قال إن الإله أرسل أحدًا؟
من قال إن النبوّة ليست جوعًا صامتًا ارتدى قناع الإجابة؟

الرسالة لا تنزل، بل تُكتب.
والإله لا يتكلّم، بل يُروى.
والنبيّ لا يُبعث، بل يُصدّق.

محمد لم يكن أوّل من ادّعى، لكنه كان أذكى من سابقيه في صياغة الكذب الذي لا يُكذَّب، الكذب الذي يشبه الحقيقة دون أن يكونها.
قدّم نفسه كـ"خاتم"، لأن كل من سبقه ادّعى البداية، فأراد هو احتكار النهاية.

ومن حيث لا يدري، سكن الوهم في صدور قومٍ كانوا مهيئين لتصديقه؛ قومٍ طحنهم الظلم، وخنقهم الفراغ، وعجزوا عن الصراخ في وجه الحياة، فأحبّوا من صرخ عنهم.

 لِمَ يدّعي محمد النبوة؟ 
لعل السؤال الحقيقيّ هو:
لماذا لا يدّعي الإنسان النبوة، إذا وجد في النبوة خلاصًا من العدم، وقيمةً في كونه وسط الرمال؟


في صحراء قاحلة، في قبيلة ممزقة بين الأصنام والسيوف، يولد إنسانٌ يرى الوحي لا في السماء، بل في نفسه التي ترفض العادية. إنسانٌ يحمل في داخله رفضًا كاملاً للصمت الكوني، فيضطر إلى صناعة صوت، صوت يقول: "الله قال لي".

محمد لم يكن مجرد طامح في سلطة، فالدجال البسيط يكتفي بالكذب. لكن محمد، كغيره من الأنبياء، آمن بكذبته حتى ظنّها وحيًا. والفرق بين المجنون والنبي – في لحظة التأسيس – هو عدد من آمنوا به.

يدّعي محمد النبوة لأنه وجد نفسه يحمل وعيًا مختلفًا عن قومه.
وعيًا لا يستطيع فهمه أحد، إلا إذا سُمّي "وحيًا".
كل فكرة غريبة في زمنها، إن لم تجد اسمًا إلهيًا، تُوأد. لذا رفع رايته باسم "الله"، لئلّا يقول الناس عنه: شاعرٌ مجنون.

النبوة هي لغة الإنسان عندما يفشل في تبرير ذاته علميًا، فيستعير قاموس الغيب.
– كان محمد بحاجة إلى معنى، فاخترع الله.
– وكان بحاجة إلى تبرير سيطرته، فاخترع "الرسالة".
– وكان بحاجة إلى طاعة، فاخترع "الجنة".
– وكان بحاجة إلى خصم، فاخترع "النار".

ألم يكن بإمكان الله أن يبعث رسولًا لا يحتاج إلى قتال، ولا إلى زواجٍ جماعيّ، ولا إلى غنائم؟
ألم يكن بإمكان الله أن يتحدث دون واسطة؟
أم أن محمّدًا – مثل سواه – لم يحتمل فكرة أن يكون الإنسان مخلوقًا تائهًا في كوكب صغير يدور حول نجم متوسط الحجم في مجرّة نُسيت بين المجرّات؟
فقرّر أن يقول: "الله اختارني."


محمد – كشخصية تاريخية – يمثّل المثال الأوضح على ما يمكن أن يفعله الإنسان حين تلتقي العزلة الوجودية مع الطموح الرمزيّ.
لم يكن ساحرًا، ولا دجّالًا بالمعنى السطحي، بل إنسانٌ ذكيّ، شاعرٌ بالعدم، لم يجد وسيلةً لإقناع قومه بحلمه، إلا إذا لبّسه ثوب الوحي. كلّ من حوله كانوا عبيدًا لأصنام: من حجر، من قمر، من دم، فأتاهم بإلهٍ جديد من كلمات.


يدّعي محمد النبوة، كما ادّعى من قبله موسى وعيسى،
وكما يدّعي كلّ من لم يحتمل كونه بشرًا عابرًا،
فاختلق "معنى أزليًّا" يستحق الموت من أجله.

وما زال البشر، إلى يومنا هذا، يبحثون عن معنى في الظلام، فيرفع أحدهم إصبعه ويقول: أنا رسول النور!


لكن لماذا صُدِّق؟

لأنّ الكذب حين يُحاك بطريقة تُشبع الحاجة الإنسانية للتفسير، يصبح أكثر صدقًا من الحقيقة.

لم يُصدَّق محمد لأنه أقنع، بل لأنه قدَّم إطارًا اعتقاديًّا بديلاً عن العدم.
صاغ للإنسان مأوىً أخيرًا من الغموض: إله يُراقب، نار تُخيف، جنةٌ تُغري، وعقيدة تُشغل العقول عن أنفسها.

النبوة لم تكن إلا إبداعًا "أداتيًا" ، غايتها السيطرة الناعمة: السيطرة باسم الحقيقة، السيطرة باسم الآخرة، السيطرة باسم الله.

وبما أنّ الإنسان كائنٌ هشٌّ ميتافيزيقيًا، لا يصمد طويلًا أمام اللا معنى، فقد صدّق محمدًا لا لأنه عقلانيّ، بل لأنه غارق في الحاجة.

كيف خدع أتباعه؟

لم يحتج محمد إلى خداع معقّد. اكتفى بأن غرس في أذهانهم صيغة مغلقة :
"لا يُسأل عن شيءٍ قضاه، ولا يُعارض من صدّقه الله، ومن شكّ فيه فهو كافر، ومن كفر فهو إلى نارٍ لا تنطفئ."

بهذه الحيلة الدائرية، لم يعد أحدٌ قادرًا على التفكير دون أن يتحوّل إلى عدوّ داخليّ.
ألغى الشك، كي يبقى الإيمان الوحيد المتاح.
ألغى التنوّع، كي يبقى هو الصوت الوحيد المسموع.
ألغى النقد، كي يُصبح الطاعة دينًا.

وغُلّفت الكذبة بالنصّ، وحُمِيَت بالسيف، وتحوّلت بالتقادم إلى "دين" يخشى الناس الخروج منه أكثر مما يخشون الدخول في الجحيم.

محمد نجح لأنه لمس الجرح ولم يضمده.
نجح لأنه أطعم الظمأ بفكرة الخلود،
ولأن الإنسانَ، حين لا يملك يقينًا، يلتهم أيَّ نبوءةٍ كاذبة، إذا وُلدت من فمه الجائع.

ماذا عن القرآن ؟

ليس في الأمر إعجاز، بل ذكاءٌ مشوب بالدهاء…
وليس في القرآن غموضٌ ربّانيّ، بل حيلة لغوية ومعرفية، صاغها بشرٌ، ثم نسبها لما فوق البشر، فآمن بها من أُغلق عليه بابُ الوعي، واستراح.

محمد، الذي وُصف بأنه أميّ، لم يكن أميًّا كما تُروّج الحكايات، بل كان أميًّا كما تريد الحكاية أن يُصدّق: أن يكون معجزة ناطقة، لا إنسانًا صاعدًا.

ولكن الحقيقة أعمق وأشدّ تعقيدًا.

كان ابن الصحراء، لكنه لم يكن كأبناء الصحراء؛ صمتُه لم يكن غباء، بل تأمّل.
وحدته لم تكن عزلة، بل نحتٌ في جدار الخوف من الفناء. عاش يتيمًا، لكنه قرأ البشر، لا الكتب. فمن ذا الذي يحتاج الكتاب، إن كانت النفوسُ أمامه صحفًا مفتوحة،
والغرائز حروفًا ناطقة؟

كان "محمد" قارئًا بارعًا للحاجة البشرية،
وأدرك من طفولته أن الإنسان لا يحتمل أن يكون بلا مغزى.
فقرّر أن يمنحهم المغزى… لكن بثمن: الطاعة.

لم يكن بحاجة إلى أن يكتب،
ولا أن يحمل مكتبة على كتفيه.
فالأفكار الكبرى لا تحتاج مكتبًا… بل لحظة انكسار.

وقد انكسر في الكهف،
لا من الله، بل من الصمت.
وهناك…
وُلِد الصوت الذي لا يُناقش: "اقرأ".

ولكن، ماذا قرأ؟
قرأ الخوف في نفسه، فجعله رسالة.
قرأ رغبة الانتصار، فلبّاها بكتاب.
قرأ تمزّق قومه، فدعاهم إلى ربٍّ واحدٍ لا شريك له.

كان ذكيًا بما يكفي ليعرف:
أنَّ التوحيد حلٌّ عبقريّ لمشكلة القَبليّة،
وأنَّ النبوّة سُلطة تُخضِع الجميع، حتى من لم يقتنعوا.

أما القرآن؟
فما هو إلا نحتٌ صوتيّ للخيال الدينيّ، الذي سبقه. هو نسيجٌ لغويّ من مزيج:

من التوراة التي وصلت إلى جزيرة العرب عبر الأحبار،

ومن الإنجيل الذي تناقلته أصوات النصارى من الشام واليمن،

ومن الزرادشتية التي تحدّثت عن نار لا تخبو وجنة خالدة،

ومن الحنفاء الذين ملّوا من أصنامٍ لا تسمع ولا تعقل،

ومن الأمثال العربية وحكم القبائل التي كانت تُتلى كأنها وحي.


جمَع محمد كلّ هذا، وصهره، وخلطه بصوت الشعر ونَفَسِ الخطابة،
ثم قدّمه في قالب "لا يُشبهه شيء"، أي لا يُسائل.

لم يكن بحاجة إلى أن يشرح، بل فقط أن يُحرّم السؤال. وقد فعل.

كلُّ آيةٍ لا تُفهَم… هي اختبارٌ للإيمان،
وكلّ تناقض… حكمةٌ خفيّة،
وكلّ خطأٍ لغويّ… إعجازٌ بلاغي،
وكلّ أمرٍ غير منطقيّ… دليلٌ على أن "الله أعلم".

هكذا تُبنى الحصانة.

وهكذا نجا القرآن من النقد، لا لأنه لا يُنتقد، بل لأنّ النقاد يُحرقون، أو يُخوّنون، أو يُنفَون.

إنّ من أعظم ما فعله محمد، هو أنه بنى "منظومة مغلقة"، كل من دخلها، صار جزءًا من إعادة إنتاجها. فإذا وُلدتَ مسلمًا، كبرتَ وأنت تعتقد أن هذا "الحقّ"، لا لأنه أحق،
بل لأنه الوحيد الذي سُمح لك برؤيته. وهكذا…
صارت الأكذوبة نظامًا،
والنبيّ أيقونة،
والقرآن منطقةً محرّمة،
وكلّ شكّ… جريمة.

فهل كان محمد نبيًا؟
لا.
كان ذكاءً فطريًا فهم اللحظة، واستغلّها، وحوّل نفسه من يتيمٍ بلا عزوة، إلى نبيٍّ يخشاه السلاطين. نجح لأنه لم يقل للناس الحقيقة، بل قال لهم ما يحتاجونه كي يعيشوا وهمًا ناعمًا.

فهو لم يُجب عن سؤال "من نحن؟"
بل أجاب عن سؤال "من سيحمينا؟"

وكانت الإجابة: الله.
والواسطة؟ محمد.


مرايا الوحي المكسورة "
 حين صاغ محمد القرآن من بقايا الذاكرة الجمعية"

ليست المعجزة، كما يتوهّمون، في أن ينطق أُمّيٌّ بلغة مُتقنة، بل في أن تنطلي تلك اللغة على قومٍ أنهكتهم الفوضى، فظنّوا التناسقَ وحيًا، والإيقاعَ حقًا. لم يكن القرآن إلّا مرايا مكسورة التقطها محمد من طرقات الوعي الجمعي، فجعل منها لوحًا مذهبًا نُقش عليه اسم "الله".

لقد كان محمد ابن بيئته، ليس نبتًا شيطانيًّا معزولًا عن ثقافة قومه، بل هو مَن قرأ -بسمعِه- ما تقوله الألسن في الأسواق، وما تتناقله الأجيال من حِكَم الأوّلين، فاحتفظ بذلك كلّه في لاوعيه، حتى إذا جاء زمن الحاجة، أفرغه في لغةٍ مرقّشة، مجرّدة من الإحالة، مفعمة بالتكثيف، تدّعي أنها من مصدرٍ فوق إنساني.

من أين جاء محمد بما في قرآنه؟

جاء به من أفواه الرُّكبان، ومن خُطب الكهّان، ومن عادات العرب في التكرار، في الجناس، في الطباق، في السجع. من ألسنة أمهاتنا الشعبيّات حين يقلن: "من يعمل خيرًا يُجزَ به، ومن يعمل شرًّا يَرَه". فصارت:

"فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره."

من أقوال أعرابي ساذج يتأمل الليل فيقول: "لا يُدرِك المرء شيئًا من النجوم، وهي معلّقة فوقه كأنها درر على ثوب أزرق". فصارت:


"إنا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب."

من قصص التوراة المنثورة على ألسنة اليهود المتجولين في يثرب، من حكايات المسيحيين الرُّهبان في شعاب الشام، من المزامير، من الأساطير، من أخبار أصحاب الكهف، وطوفان نوح، وقميص يوسف، وزوجة لوط، وابن مريم.

إنّه لم يخلق تلك القصص، بل حرّف نَسقها، وأخفى مصدرها، وأعاد إنتاجها بشكلٍ يُخدّر العقل ولا يُفكّك المعنى، حتى لا يُمكن ردّها إلى أصلٍ، ولا دحضها برهانًا، فيُصبح الاختلاف فيها "ابتلاءً"، والنقد لها "كفرًا"، والتأمّل في أصلها "زندقة".


القرآن لم ينبثق من العدم، ولم يكن نغمة فريدة في صمت الكون،
بل كان ـ كما يدلّ نصّه وتكراراته ـ عصارة حكاياتٍ قديمة، ومزيجًا من حكم وأمثال،  وأساطير الأولين، صاغها محمد بلغةٍ صوتيّة مشحونة بالإيقاع والتأثير، وأعاد إنتاجها  في شكلٍ لا يُساءَل.


  •  قصة يوسف:
القرآن يكرر قصة يوسف تقريبًا كما وردت في سفر التكوين، مع بعض الإضافات البلاغية:

رؤيا الكواكب.
فتنة امرأة العزيز.
السجن وتأويل الأحلام.
ثم النهاية السعيدة.

لكن اللافت أن الأسماء، والأماكن، والنزعة العبرية، كلها ظاهرة، حتى أن "فرعون" لم يُسمَّ في سياق قصة يوسف بـ"ملك" كما في الرواية العبرية (رغم أن الفراعنة كانوا معروفين)، مما يدل على النقل الحرفي دون وعيٍ تاريخي.

  •  قصة آدم وإبليس:
فكرة "إبليس الذي يرفض السجود" مأخوذة من سفر حزقيال وسفر أشعياء، حيث يتحدث النص عن "ملاك ساقط".
كذلك فكرة "الشجرة" و"الطرد من الجنة" مأخوذة من سفر التكوين.

  •  قصة أهل الكهف:
مستقاة من قصة "السبعة النائمين"  وهي أسطورة مسيحية شرقية كانت شائعة قبل الإسلام بقرون، ووردت في التراث السرياني والبيزنطي.

  •  المائدة من السماء:
فكرة "نزول المائدة" لبني إسرائيل في صحراء سيناء هي من التوراة، وتكررت في سورة "المائدة" بصورة مشابهة للطلب المسيحي من المسيح إنزال مائدة.

  •  البقرة:
فكرة القربان المذبوح والغموض في نوع البقرة مأخوذ من قصة القربان في سفر العدد وسفر التثنية.

  •  موسى وفرعون:
تكرار لأحداث سفر الخروج، لكن مع تغيير الترتيب أحيانًا، وتحوير بعض التفاصيل، كشق البحر وتحول العصا.: من الأساطير ونِحل الكتب القديمة (الزرادشتية والمندائية وغيرها)


  • الصراط المستقيم والميزان والحساب بعد الموت
 من الأساسيات الزرادشتية، حيث يمرّ الميت على جسر "صراط" دقيق، ويُوزن عمله، ويذهب إمّا إلى "الجنة" أو "الجحيم".


  • الجنّ
 مأخوذ من المعتقدات السامية القديمة، ومن الديانة المندائية، حيث كانت الكائنات الروحية (كالجنّ) تمثّل قوى الشر.


  • اللوح المحفوظ والقلم
 مفاهيم ميتافيزيقية متأثرة بكتب الحكمة الهلنستية، وخاصة التراث الغنوصي الذي كان يربط بين الكتابة والقدر.


  • القرآن : تطور سلطة النص 

المرحلةالهدف المركزيالأدوات البلاغيةالتأثير النفسي



مرحلة مكة (التأسيس البلاغي)


ترسيخ فكرة الوحي ونفي المشككين


السجع، الطباق، التشابه مع الحكم الجاهلية، الصور الشعرية الحسية، الحروف المقطعة، الغموض


الدهشة، الرهبة، الفضول، زلزلة اليقين القبلي



مرحلة الهجرة (التثبيت السياسي)


بناء جماعة المؤمنين وربطهم بالقيادة النبوية


تكرار الأوامر بـ "أطيعوا الله والرسول"، التشريعات الأخلاقية والاجتماعية، تصعيد خطاب الجنة والنار


الطاعة العمياء، تكوين هوية جمعية بديلة، دمج السلطة الروحية بالسياسية


مرحلة المدينة (تأليه النص والسلطة)

شرعنة السلطة المطلقة للنبي والنص


بناء منظومة التشريع الكامل، تحويل الخلاف السياسي إلى خروج عن الدين، تهديد المعارضين بالعذاب الإلهي



الخضوع الكلي، نزع الشرعية عن المعارضة، تقديس النص ككيان فوق التاريخ



كيف فعل ذلك ؟

لم يكن محمد بحاجة إلى الكتب، بل إلى ذاكرةٍ يقظة وأذُنٍ حساسة.
في رحلاته و تجارته، وفي مجاورة الرهبان، وفي مراقبة الأسواق…
استمع، وامتصّ، ثم أعاد الصياغة.
وكان لديه أداة سحرية: اللغة.
فألبس الحكايات القديمة رداءً شعريًا مهيبًا،
وأضاف صوت "قال الله" على كل اقتباس،
فصار "المنقول" وحيًا،
وصار الراوي نبيًا،
وصار التساؤل كفرًا.



كيف أقنع أتباعه؟

بالرعب والخلاص. صاغ لهم عالمًا من نار وجنة، من فوز وخسران، جعل حياتهم فجوة بين تهديد ووعد، وخاطبهم بلغتهم الغريزية: الجوع، الفقر، القتال، الجنس، والخلود. فمنحهم "الحور العين" مقابل القتال، و"النعيم المقيم" مقابل الطاعة، و"النجاة" مقابل الصمت.

إنه لم يخاطب عقولهم، بل خاطب أحلامهم البدائية. ومن لا يملك وعيًا يرى فيه نفسه عبثًا، سيستميت في تصديق من يَعِده بأن لوجوده غاية، وبأن اسمه مسطّر في سجل الغيب.

القرآن ليس معجزة، بل تشويه متقن للمعقول.

هو نصٌّ ذكي في إعادة قولبة المألوف، لا في صناعة الجديد. إنه تكرار مموّه، وإعادة تدوير للوعي البشري في لحظة خرافية من التاريخ. والمعجزة، يا صاح، ليست أن تؤلف كتابًا غريبًا، بل أن تقنع القطيع بأنه مُنزّل.

لماذا لم يعترض أحد من معاصريه على أصول تلك القصص؟

لأن القصص الدينية آنذاك لم تكن محفوظة في كتب بيد كل فرد، بل كانت مبعثرة في ألسنة الحُجاج، في تراتيل الأحبار، في تمائم النُساك. لم يكن ثمة قدرة على التوثيق، ولا آلية للتحقّق، ولا وعي نقدي. كان الناس بين جهلٍ مطلق، أو إيمانٍ عاطفي، أو مصالح متقاطعة، فمرّت الحكاية كما تمر الريح في خيمة مهترئة.

لماذا لم يُكشف أمره؟

لأن النجاح في الخداع لا يتطلب العبقرية، بل يتطلب ظروفًا ملائمة. ومحمد وجدها كلها: قومٌ ضالون، لا نظام يُجمعهم، ولا حاكمٌ يُرهبهم، ولا فكرٌ يُشككهم، فجاءهم بخطاب يوحّد الشتات، ويُلبّي حاجة البدو الأبديّة إلى نبيٍّ يُحوّل الخيمة إلى دولة، والسيف إلى دعوة، والخرافة إلى هوية.

محمد لم يخدع أحدًا، بل وجدهم خُدعاء بطبيعتهم. كانوا يبحثون عن إله، فصار هو رسولًا. كانوا يبحثون عن معنى، فصار هو لسان المعنى. كانوا يبحثون عن خلاص، فصار هو طريق الخلاص.

القرآن ليس كتاب إله، بل كتاب حاجة. حاجة الإنسان إلى نظام، إلى يقين، إلى أوهامٍ مرتبة ببلاغة. ومن تلك الحاجة، وُلِد النص، ومِن الخوف نُسِجت القداسة.

ولماذا بقيت دعوة محمّد  ؟


"بقاء الوهم حين يصير عادة"

عن دوام النبوّة لا لأنها حق، بل لأنها صارت نظامًا يُديم نفسه بنفسه.


لم تبقَ دعوى محمد حيةً لأنّها أصدق، بل لأنها الأكثر قدرةً على التكيف…
تكيّفت مع الخوف، مع الطفولة، مع الجهل، مع الحاجة، ومع الموت.

إن دعوى النبوّة – كأي سردية كبرى – لا تموت حين ينكشف زيفها،
بل تعيش أكثر، كلما صار كشف الزيف خطيئة، والتشكيك رجسًا، والبحث كفرًا.


لقد تمكّنت الدعوة من البقاء، لأن الناس ما زالوا أطفالًا في أعماقهم…
يخافون العتمة، ويرتجفون عند التفكير في المصير.
يريدون يدًا تمسكهم حين يسقطون، وأذنًا تسمعهم حين يهمسون،
وإله محمد كان تلك اليد، وتلك الأذن.

ثم جاء رجال الدين،
فحوّلوا اليد إلى قانون،
وحوّلوا الأذن إلى فتوى،
وحوّلوا النبي إلى "ماركة مُسجّلة" باسم الله،
كلّ من ينتقدها يُمحى.

وهكذا:
صار الله سلعة، والنبي إعلانًا، والقرآن كتالوجًا.

كل لحظة ضعفٍ بشري كانت فرصةً لصمود الرسالة:

  • موت الأحبة؟ الجنة في انتظارهم.

  • الفقر؟ الزكاة تبارك الرزق.

  • القمع؟ الصبر على البلاء عبادة.

  • القتل؟ الجهاد سبيل إلى الله.

  • الشهوة؟ الحور العين في انتظاره.

كلّ بابٍ مغلق في وجه الإنسان، يفتحه الدين… ولكن بالخيال.

ولهذا:
لم تنتصر دعوى النبوّة بالحجّة، بل بالحاجة.
لم تصمد لأنها أقنعت، بل لأنها راوغت.


ثمّ صعدت الحضارات، وكشفت الفيزياء بنية الوجود، وتكلّم الفلاسفة عن العبث والمعنى، واخترق العلم كلّ ما كان يُعدّ حُرُمًا،
ومع ذلك…
لم يسقط الدين، لأنه لم يعد مجرد فكرة، بل:

نظام اجتماعي متكامل:

  • أبوة فكرية تُلغي المسؤوليّة.

  • عزاء نفسي يُغني عن التّحليل.

  • انتماء قبَلي يُغني عن الذّات.

  • طاعة جماعيّة تُغني عن الوعي.


أي إن الدين – بما هو دعوة نبوية – صار بطّانيةً وجوديّة، تُغطّي بها الشعوب جهلها، وتنام على طمأنينة الوهم.


وهنا تكمن مأساتنا:

لسنا بحاجة لنبيّ، بل لحقيقة.
لكن الحقيقة لا تُشبع الجائع،
ولا تُرضي الحزين،
ولا تُجيب الميت،
بينما النبوّة تفعل كلّ ذلك… بالكذب.

فأيّهما سيختار الإنسان؟
الصراحة التي تتركه وحيدًا في العراء،
أم الوهم الذي يُشعره بالدفء؟

وهنا…
يموت العقل، ويولد الإيمان.


الجمعة، 30 مايو 2025

المزاج الفاعل وآلية صُنع الوجود ! (٢) .

0 تعليق




المزاج الفاعل: تأملات في نواة الكينونة ونشأة الوجود


ليس الوجود كما نعرفه إلا قشرة رقيقة تغلف فراغًا سحيقًا، تتماسك مؤقتًا بفعل توترات خفية لا نراها، ولا نملك لها قياسًا. وإن نحن جردنا الأشياء من أسماءها، والظواهر من معانيها، والظن من يقيناته، بقي لنا شيء واحد فقط : أثر المزاج الفاعل

لا أعني به الانفعال الطارئ كما عند النفس، بل أقصد به جوهرًا أسبق من المادة، وأعمق من الطاقة، وأسبق في تجليه من الزمان.

المزاج الفاعل ليس حالة، بل كينونة. إنه لا يُولد، لأنه ليس شيئًا. إنه لا يُقاس، لأنه لا يخضع لمعيار. لا يتجزأ، لأنه لا يتكون. هو الأزل، لا من حيث هو زمن لا بداية له، بل من حيث هو وجود حرّ لم 
يدخل بعد في قيد التعيّن.

تعريف المزاج الفاعل

إن المزاج الفاعل هو الماهية المتقلبة التي تسبق كل تجسيد. إنه ليس شيئًا، لكنه أصل كل شيء. لا يتخذ هيئة، لكنه يُنجب كل هيئة. لا يسلك مسارًا، لكنه يفرض على الكينونات مساراتها. وهو في جوهره ليس سببًا، لأن السببية تفترض التعاقب، والمزاج الفاعل لا يتحرك زمنيًا، بل يُفصح عن نفسه وجوديًا.

لنتخيل الكون لا كما هو، بل كما كان قبل أن يكون. لا زمن، لا مكان، لا طاقة، لا قوانين. فقط احتمالات عارية من الفعل، تنتظر أن "يحدث" شيء. ما الذي يمكنه أن يفتتح الفعل في غياب كل محفز؟ ما الذي يمكنه أن يُطلق الشرارة الأولى دون أن يُشعلها أحد؟ هنا يتجلى المزاج الفاعل: نزوة أزلية بلا دافع، لكنها ليست عبثًا، لأنها تحمل في طياتها منطقًا غير مكتوب، منطقًا ينبثق لا كقانون، بل كنتيجة.

نشأة الوجود من المزاج

لا يولد الوجود من العدم، لأن العدم لا يمكنه أن يُنجب. لكن الوجود لا يولد أيضًا من وجود سابق له على شاكلته، لأن كل وجود مُتشكل يفترض سابقًا عليه غير متشكل. وهنا تكمن الحاجة إلى مفهوم ثالث: المزاج الفاعل.

الوجود، في صورته الأولى، ليس إلا توازنًا طارئًا بين توترات متقابلة. فالذرة، والموجة، والجسيم، والطاقة، جميعها ليست "أشياء"، بل استجابات لتوتر أولي حرّ. هذا التوتر هو المزاج. لكنه ليس توترًا ميكانيكيًا، بل "انفعال كينوني"، يصدر من ذاته، ويُعيد تشكيل ذاته في الآخر. والآخر هنا ليس إلا وجهًا آخر من أوجه المزاج ذاته.

من هذا الفيض، وُلدت الطاقة. ومن الطاقة، تولدت الاحتمالات. ومن بين هذه الاحتمالات، رسا البعض على استقرار. وهذا الاستقرار، عندما يتكرر، يُصبح منطقًا. وهكذا، فإن المنطق ليس سوى تكرار المزاج في صورة متماسكة.
الفرد، والمزاج، والكلّ

ما الإلكترون إلا ذرة من المزاج، تحرّكت في حقل غير مرئي، فأثارت حولها تموجات من السلوك. وما الإنسان إلا تعقيد متراكم لمزاجات متشابكة، بلغت من التركيب ما سمح لها أن تقول "أنا". لكن هذه الـ"أنا" ليست مستقلة، بل هي زفرة عميقة من زفرات المزاج الأول، تظن أنها تملك مصيرها، لكنها ليست إلا حلقة من حلقاته.

هكذا، يتحوّل الفرد إلى مفعول به في مشهد لم يكتبه، لكنه يعيشه كأنما هو بطله. لا حرية هنا، إلا بالقدر الذي يسمح به المزاج. ولا جبر، لأن المزاج لا يفرض، بل يُغوي. وما يبدو لنا خيارًا، ليس إلا تجليًا لرغبة أعمق لا نملك 
أصلها.

الكون بوصفه مزاجًا لا بوصفه 
آلة

لقد خدعتنا الفيزياء الكلاسيكية حين شبّهت الكون بساعة. فالساعة تتكرر، والكون لا يتكرر. الساعة تُدار من خارجها، والكون لا خارج له. الكون أقرب إلى قصيدة تُلقى مرة واحدة، بغير وزن ولا قافية، لكنها تترك فينا أثرًا لا ننساه. هذا الأثر هو صدى المزاج، لا صدى القانون.

فلا قوانين تحكم الكون بالمعنى الحقيقي، بل استجابات متكررة لسياقات مزاجية متقاربة. وعندما تتغير المزاجات، تتغير "القوانين". وما نعدّه خارقًا للطبيعة، ليس إلا خروجًا مؤقتًا عن النمط المزاجي السائد، لا خروجًا عن طبيعة ثابتة.

 البحث عن المزاج

نحن لا نبحث عن الحقيقة، بل عن الاستقرار. أما الحقيقة فهي أكثر المراوغات فتنةً، لأنها لا تتشكل إلا بعد أن يكون المزاج قد رحل. كل ما نراه هو ظلال لشيء لا يُرى، وكل ما نفهمه هو صدى لشيء لا يُفهم. لكن وسط هذا الظلام، يظل المزاج الفاعل هو الحضور الوحيد الذي لا يمكننا إنكاره، لا لأنه واضح، بل لأنه الوحيد الذي يفسّر كل ما سواه.

فلا تسأل: "ما الحقيقة؟"، بل اسأل: "ما المزاج الذي أنجبها؟"




فلسفة وكمّ: المزاج الفاعل ومنطق الوجود

لا شيء أكثر غرابةً من العالم الكمومي… ذلك العالم الذي لا يعرف منطقًا بالمعنى الذي نألفه. في هذا المستوى تحت الذري، يتصرف الإلكترون وكأنه "مزاج"، لا جسيم. المزاج لا يُتوقع، لا يُقاس بدقة، لا يخضع لقوانين محكمة… لكنه – وبعكس ما نظن – لا يسير بعشوائية، بل يخلق نظامًا أعمق من المنطق. هنا يبدأ الحديث عن "السلوك المزاجي" كمفهوم مغاير لما نعتاد عليه من تصورات عن القوانين الفيزيائية.

المستوى الكمومي ليس مجرد مساحة علمية، بل هو مجال فلسفي عميق يكشف لنا عن فرقٍ جوهري بين "الوجود" و"الكون"، بين ما هو مركّب يحمل صفات الزمن والمكان، وما هو أوليٌّ يحمل صفة الأزلية. الذرة هي أصغر وحدة وجودية، أما مكوناتها من إلكترونات وكواركات فهي وحدات كونية… أصول، لا مركّبات. فكيف لعقلٍ أن يطلب من الإلكترون أن يكون منطقيًّا؟! المنطق هو نتيجة، لا أصل. المنطق هو توازن يَنتُج عن اتحاد غير المتشابه. أما الإلكترون، فهو الأصل الذي يُنتج هذا التوازن… لا يخضع له.

هذا التفريق بين "الكوني" و"الوجودي" ليس مجرد تأمل بل مفتاح لفهم الوجود نفسه. الوجود مركّب… حدث. أما الكون، فهو البنية الحاضنة، الكينونة، الحريّة المطلقة، المزاج الفاعل. كل ما نرصده، كل ما ندعوه "طبيعة"، خاضع لقوانين، لكن هذه القوانين نفسها وُلِدَت من وحدة كونية أزلية – لا تُقاس، لا تُتجزأ، لا تخضع لمنطق محدود.

المزاج الفاعل ليس سلوكًا، بل هو أصل السلوك. هو القدرة الخالقة التي تُنتج المنطق من لا منطق. هو سبب ظهور الذرة، المادة، الحياة. وفي هذا المزاج الأصيل، تُولد الحرية… حرية الإلكترون أن يتواجد في مكانين في آنٍ، وحرية الإنسان أن يحمل التناقض داخله دون انفجار. الإنسان، تمامًا كالإلكترون، ليس وحدة منطقية. بل هو كيان يحمل في داخله طيفًا من الرفض والقبول، من الكذب والصدق، من الفعل والانفعال. الفرد لا يخضع

لقوانين الجماعة، تمامًا كما لا يخضع الإلكترون لقوانين الذرة.

الذرة خاضعة لمنطق، لكنها مكوّنة من لا منطقيات. المجتمع يخضع لقيم، لكن كل فرد داخله يحمل مزاجًا مستقلًا. لا استقرار في الكون إلا بنشوء توازن بين أمزجة، ولا وُجود إلا بتحقّق المنطق كنتيجة لهذا التوازن، لا كشرطٍ سابق عليه. المنطق، إذن، ليس قاعدة كونية بل طارئ وجودي.

لعلّ أخطر ما فعله الإنسان المعاصر أنه قرر أن يقيس كل شيء بمنطقه. أن يختزل الكون في معادلات، والحقيقة في مناهج. لكن هذا التصور يعجز أمام كموميّاتٍ تتصرف بلا مراعاة لهذا المنطق، وكأنها تسخر من محاولاتنا لتأطيرها. الإلكترون لا يمكن عزله في فراغٍ مثاليٍّ لنقيسه. الفراغ نفسه ليس حقيقيًّا. الوسط الذي يملأ الكون – الذي قد يعمل كمِرآة، أو كناقل – يجعل من سلوك الإلكترون والفوتون طيفًا من الانعكاسات، وليس من الحركات.

حين نعيد تعريف المنطق كنتاج لا كأصل، نعيد فهم الكون. المنطق = مزاج محدود. المزاج = منطق لا محدود. من هنا، تتولد الفلسفة الجديدة للوجود

: الوجودية ليست إلا تجميعًا قسريًّا لأمزجة مختلفة في حالة توازن مؤقت. ومع الوقت، تنهار هذه التوازنات، وتعود الوحدات الكونية إلى حالتها الأصيلة – حالة المزاج، حالة الكينونة.

لا حاجة إلى فرض بداية للكون من نوع "الانفجار العظيم" أو أصل غيبي غير قابل للفهم. كل هذه الافتراضات هي محاولات لإدخال المنطق في لحظة ما قبل المنطق. وما قبل المنطق، لا يُقاس بالمنطق. المزاج الفاعل، كينونة حرة، أزلية، تملأ الكون. بعضها يتجمع (مادة)، وبعضها يبقى على حالته الأصيلة (طاقة). الوجود، من هذا المنظور، ليس أكثر من "جهد" لتوحيد الأمزجة… جهد يستهلك الطاقة، ثم يعود بالتفكك إلى الكينونة.



وهكذا، فإن الطاقة ليست شيئًا واحدًا، بل كل شيء: الصوت طاقة، الضوء طاقة، الفكر طاقة، الفوتون طاقة… والمادة، في النهاية، هي طاقة متماسكة. لكن هذا التماسك ليس إلا هدنة بين مزاجات… هدنة نسمّيها "منطقًا"، وهي ليست سوى نتيجة لحالة استقرار موقّت بين أصول أزلية حرّة.



المنطق والمستوى الكمومي – تفكيك السلوك اللامنطقي

في أعماق المادة، على المستوى الذي تتوارى فيه الذرة خلف مكوناتها الأولية، يكشف الكون عن وجه مختلف تمامًا عما ألفناه من انتظام وسببية. هناك، حيث تتحرك الإلكترونات والكواركات والفوتونات، لا تسود القوانين التي نعرفها، بل تتبدى أنماط سلوك أشبه بالمزاج منها بالحساب. فكيف يمكن أن يوجد عالم تحت الذري لا يخضع للمنطق الذي نحتكم إليه في تفسير الأشياء؟ وهل اللا منطقية التي نشهدها في فيزياء الكم هي اضطراب معرفي، أم خاصية بنيوية في نسيج الواقع ذاته؟
1. المستوى الكمومي ليس جسيمًا بل كمّيّة:

ما يُطلق عليه "المستوى الكمومي" لا يمثل كيانًا صغيرًا فحسب، بل هو بنية من الأحداث الاحتمالية التي تتحدى التصنيف الكلاسيكي. فالإلكترون لا يُرصد كجسيم له موقع وسرعة محددان، بل كاحتمال، كـ"كمّية" من الوجود الممكن تنتشر وتتداخل وتتصرف كأنها مزاج.

عندما نتحدث عن الذرة، يمكن حساب سلوكها ككل: خصائصها، استقرارها، طريقة تفاعلها. لكن حين ننظر داخلها، إلى مكوناتها المفردة، ينهار هذا النظام. لا يمكن التنبؤ بموقع الإلكترون مثلاً، ولا حتى القول إن له موقعًا واحدًا في لحظة واحدة. هنا يبدأ الانفصال عن المنطق، ويبدأ الحضور الكثيف لما يمكن أن نسميه: السلوك المزاجي.
2. مفارقة المنطق والمركّب:

الفيزياء الكلاسيكية تفترض أن ما ينطبق على الكل يجب أن ينطبق على الجزء. لكن الواقع الكمومي ينسف هذه الفرضية. سلوك الذرة يخضع للمنطق لأنه سلوك مركب، أي ناتج عن تفاعل مكونات مختلفة، وكلما كان هناك تركيب، نشأ منطق لتنظيم العلاقة بين العناصر.

أما المكونات المنفردة (الإلكترون، الفوتون، إلخ)، فهي غير مركبة، وبالتالي لا تخضع لمنطق الكل، بل تتصرف بحرية مطلقة. هذه الحرية ليست فوضى، بل نمط من أنماط اللا حتمية المنتجة. اللا منطق في هذا السياق ليس نقصًا في الفهم، بل شرط فيزيائي لحدوث التكوين.
3. المزاج الفاعل كشرط لتكوّن المنطق:

المنطق لا يحكم الكينونة البدئية، بل هو ناتج عن توازن القوى واختلاف الخصائص. وجود الذرة يستلزم مسبقًا وجود مكونات مزاجية، سلوكها غير منتظم، وغير خاضع لقانون سابق. لو كانت هذه المكونات منطقية، متكررة، متطابقة في سلوكها، لما نشأت الذرة، ولا نشأت مادة.

إن كل انتظام لاحق في الكون – كل بنية وكل منظومة – هو نتيجة لحالة أولى غير منتظمة، حرة، مزاجية. بهذا الفهم، المنطق ليس أصلًا في الكون، بل نتيجة لعملية تركيب بين وحدات لا منطقية. وهو ما يجعلنا نعيد النظر في فكرة أن الكون "محكوم بقوانين"، ونطرح بدلًا منها أن الكون صانع للقوانين من خلال أمزجته الحرة.
4. نحو تصور جديد للمعرفة الكمومية:

إن فشل المنطق في توصيف سلوك الإلكترون لا يعني قصور العلم، بل يعني أن أدوات العلم الكلاسيكية بحاجة إلى إعادة تشكيل. ما كان يُعد في الماضي اضطرابًا، أو صدفة، أو شذوذًا في المعطيات، يتضح اليوم على أنه بنية من التعدد، تعكس نظامًا أعمق لا يقوم على التنبؤ، بل على الاحتمال الفاعل.



إن التنبؤ يصبح ممكنًا فقط حين تتخلى المكونات عن حريتها، وتدخل في علاقات مركبة، وهنا يظهر المنطق. أما ما دون ذلك، في المستوى الذي لا تزال فيه الأشياء غير مرتبطة، فإنها تتصرف بحرية، والمزاج هو التعبير الفلسفي الأكثر دقة عن هذه الحالة.



المزاج الفاعل – أصل السلوك الفيزيائي

حين ننظر إلى الجسيمات تحت الذرية بوصفها اللبنات الأولى للكون، فإن أول ما يلفت الانتباه ليس بنيتها، بل سلوكها. فهي لا تنقاد لقانون واضح، ولا تكرّر نفسها ضمن نسق حتمي. إنها تمارس حضورها كأنها تعبر عن "مزاج". لكن هذا المزاج ليس عشوائيًا، بل "فاعلاً"؛ فهو لا يَخضع للقوانين، بل يَصنعها. من هنا تتولد فرضية مركزية في هذا الفصل: أن المزاج الفاعل هو البنية الكونية الأولى، وهو الذي يفسر النشوء الفيزيائي لا كحتمية، بل كإبداع.
1. المزاج الفاعل كوحدة كونية لا وجودية:


في الفيزياء الكلاسيكية، يُفترض أن الجسيمات الأولية هي وحدات مادية ذات صفات محددة. لكن نظرة أعمق تكشف أن هذه الجسيمات (كالإلكترون، الفوتون، الكوارك) ليست أشياء "موجودة" بالمعنى المركّب للكلمة، بل هي وحدات كونية، لا تدخل في تركيب داخلي. إنها ليست "مركبات"، بل "أصول"، أي ليست وجودات تحققت من اندماج عناصر، بل كيانات أزلية حرة، تتصرف بذاتها.

بهذا المعنى، يمكن القول: إن الإلكترون ليس موجودًا، بل كائن؛ ليس مركبًا، بل وحدة. وهذه الوحدة ليست سلبية أو خاملة، بل نشطة، مبدعة، حرة، أي ذات "مزاج فاعل". وكل وحدة من هذه الوحدات الكونية هي "قصد" فيزيائي سابق على أي انتظام.
2. قوانين الطبيعة بوصفها نتاج المزاج:


ما يُعرف بـ"قوانين الطبيعة" ليس قالبًا مفروضًا من الخارج، بل هو ناتج داخلي عن تفاعل المزاجات الفاعلة. حين تتحد وحدتان أو أكثر من هذه المزاجات في تركيب ما (ذرة، جزيء، خلية)، تُخلق قوانين لضبط هذا الاتحاد. المنطق، في هذا السياق، ليس سائدًا على الوجود، بل تابع له.وذلك يعني أن:المزاج الفاعل لا يخضع للمنطق، بل يُنتج المنطق عند لحظة التركيب.


3. من الكينونة إلى الوجود:


الميزة الأساسية للمزاج الفاعل أنه لا "يوجد"، بل "يكون". هو كينونة لا وجود، وبهذا يكون هو الأساس الذي يُنتج الوجود. الوجود هو مرحلة انتقالية بين وحدات كونية حرة (كائنات) تتحد لفترة ضمن نظام، ثم تنفصل. هذا ما يجعل كل وجود، بالضرورة، حالة مؤقتة من التوازن.



هذا التصور يُنتج فهمًا عميقًا للمادة:


  • المادة ليست أصيلة، بل حادثة.

  • الذرة ليست أصلًا، بل تركيب.

  • الجسيم الأولي ليس مادة، بل طاقة ذات نزعة، أي مزاج.


4. المزاج الفاعل كشرط دينامي:


أي فعل في الطبيعة، أي تغير أو نشوء أو انهيار، لا يحصل إلا بوجود حرية داخلية في البنية. هذه الحرية لا تتوفر إلا في المزاجات الكونية التي لم تدخل بعد في تركيب. حين تتجمع، تنشأ البنية (وجود)، وحين تتفكك، ينحل الوجود وتتحرر الكينونات.

الدينامية – أي قابلية الأشياء للتغير – لا تحصل من قوانين، بل من توترات مزاجية. وكلما كانت البنية مركبة أكثر، ازداد منطقها، لكن نقصت حريتها. في حين أن المزاج الفاعل، بوصفه غير مركب، يحتفظ بحرية مطلقة، ولهذا فهو أصل الدينامية كلها.


المنطق كأثر لا كأصل – من المزاج إلى النظام
عند محاولة فهم المنطق الكوني، غالبًا ما نغفل عن أمر بالغ الأهمية: المنطق ليس هو البداية، بل هو نتيجة لوجود كينونات متعددة تتفاعل مع بعضها البعض. 

"المنطق ليس هو الحاكم الأول للأشياء، بل هو نتيجة لتفاعل المزاجات الفاعلة."
 لنفهم كيف تنشأ القوانين، وكيف يتجسد النظام في فوضى من التفاعلات، يجب أن نفكر في المنطق كأثر، لا كأصل.
1. المنطق: نتيجة لا بداية:

عند النظر إلى سلوك الجسيمات في المستوى الكمومي، نتعرض لتجربة تعاكس تصورنا التقليدي عن المنطق. الجسيمات مثل الإلكترونات والفوتونات لا تتبع سلوكًا منطقيًا واضحًا في حد ذاتها، بل تخرج عن الأنماط التي يُفترض أن يتبعها أي كائن منطقي في عالمنا العادي.

في هذا السياق، المنطق ليس سمةً متأصلة في الأشياء نفسها. على العكس، المنطق ينشأ حينما تتفاعل كينونات لا منطقية (أي المزاجات الفاعلة)، وعند اجتماعها تصبح هناك ضرورة لوجود قوانين تجعلها مترابطة، تحفظ النظام في لحظة التكوين. وبهذا، يمكن القول إن المنطق هو أثر لتحول فوضوي وتنوع في القوى داخل الكون، وليس مُحددًا مسبقًا.
2. الانتقال من الفوضى إلى النظام:

المنطق يظهر عند نقطة التفاعل بين قوى مختلفة؛ أي بين المزاجات الفاعلة. وعلى الرغم من أن هذه القوى تتصرف بحرية تامة، فإن الاندماج بينها ينتج نظمًا. لنأخذ مثالًا بسيطًا: في ذرة ما، تلتقي الإلكترونات، النيوترونات، والبروتونات بطرق قد تبدو غير منطقية عند النظر إليها بشكل فردي، لكن تكاملها يؤدي إلى نشوء استقرار نسبي داخل الذرة، مما يضمن وجودها.

المنطق، في هذا السياق، هو توازن بين الأمزجة المختلفة التي تساهم في تشكيل بنية معينة، وليس أمرًا مفروضًا خارجيًا على هذه البنية.
3. السلوك المنطقي كسمة وجودية:

الوجودية هنا تشير إلى الكائنات التي حققت وجودها من خلال التفاعل بين مزاجات فاعلة مختلفة، وهو ما يخلق ما نعرفه بالمنطق. المنطق، إذًا، ليس "موجودًا" في الطبيعة كقانون ثابت، بل يظهر عندما يحدث اتحاد بين كينونات ذات مزاجات فاعلة. عند اتحاد هذه القوى، تظهر ضرورة النظام، وتنشأ القيود المنطقية، لكن هذا النظام ليس جزءًا أصليًا من الطبيعة، بل هو نتاج تفاعل دينامي.
4. كيف ينشأ المنطق في المجتمعات البشرية:

هذه الفكرة يمكن تطبيقها على الأنظمة الاجتماعية والإنسانية. المجتمع، مثل الذرة، ليس كيانًا يتبع قوانين منطقية على المستوى الفردي، بل يتشكل المجتمع من تفاعلات الأفراد الذين يحمل كل منهم خصائص ومزاجات فاعلة مختلفة. حين يتداخل هؤلاء الأفراد، ينشأ نوع من النظام الاجتماعي الذي يضمن بقاء الجماعة. لكن كما في الكون، المنطق الذي يحكم المجتمع هو نتيجة لتفاعل الأفراد وليس أساسًا مفروضًا.

كما نرى، الفوضى الإنسانية هي شرط أساسي لبناء منطق اجتماعي. المنطق الاجتماعي لا يمكن فرضه إلا بعد أن يظهر التنوع البشري، ويبدأ الأفراد في التأثير على بعضهم البعض. في هذه الحالة، المنطق هو حصيلة تفاعل الأفراد، ليس أمرًا ثابتًا أو دائمًا.
5. المنطق في الكون: الحرية والقيود:

المنطق، بصفته أداة تنظيمية، لا يعني غياب الحرية. بل، على العكس، إن الحرية هي الشرط المبدئي الذي يسمح بتوليد المنطق. دون تنوع حر، لا يمكن للمنطق أن يظهر. وكلما زاد التنوع في العناصر التي تشكل النظام، كلما أصبحت القيود المنطقية أكثر تعقيدًا وأكثر تماسكًا.



في النهاية، المنطق ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لحفظ التوازن بين القوى المختلفة التي تتحكم في النظام الكوني. وهو لذلك ليس غريزة أولية، بل نتيجة لعملية ديناميكية ومعقدة تتداخل فيها قوى متعددة لا يمكن اختصارها في قالب منطقي واحد.



الوجود والكون: الزمان والمكان في إطار المزاج الفاعل


تناولنا سابقاً مفاهيم المنطق والمزاج الفاعل، وسعينا لفهم كيف تظهر الأنظمة المعقدة من تفاعل قوى غير منطقية. 

و سنتناول الآن الزمان والمكان، باعتبارهما بعدين أساسيين في تكوين الكينونات الكونية. لن نعتبر الزمان والمكان مجرد إطار ثابت، بل سنتعامل معهما كقوى فاعلة تُساهم في تشكيل المزاج الفاعل الذي يحدد تفاعلات الكون.
1. الزمان والمكان كقوى فاعلة:

منذ بداية الفلسفة الحديثة، كان الزمان والمكان يُنظر إليهما على أنهما محددات ثابتة للوجود. ومع تقدم الفكر العلمي، ظهرت النسبية التي أدت إلى فك ارتباط الزمان والمكان بالثوابت البسيطة. اليوم، نحن نفهم أن الزمان والمكان ليسا مجرد خلفية للوجود، بل هما قوى فاعلة في تكوين الواقع. الزمان لا يقتصر على كونه بعدًا أفقيًا، والمكان لا يُعتبر مجرد ساحة تحتوي على الكائنات.

إن الزمان والمكان، في الإطار الجديد، يجب أن يُفهما كعنصرين متغيرين يتفاعلان بشكل مستمر مع المادة والطاقة. تفاعلات هذه القوى تحدد شكل الكون ومسار وجوده. هذه النقطة تُظهر أن الزمان والمكان ليسا مجرد بيئة سلبية، بل يشتركان في بناء الواقع من خلال تأثيراتهم المتبادلة مع الكائنات.
2. الزمان والمكان في الفضاء الكمي:

لنأخذ مثالًا من الفيزياء الكمومية: هناك فكرة شهيرة في ميكانيكا الكم تقول بأن جسيمات دون الذرية، مثل الإلكترونات والفوتونات، لا توجد في نقاط معينة من الزمان والمكان بشكل محدد، بل إنها توجد في مجموعة من الاحتمالات التي تحدد موقعها وحالتها بناءً على التفاعل مع محيطها. هذا الفهم يغير الطريقة التي نرى بها الزمان والمكان، حيث لا يُنظر إليهما باعتبارهما محددات ثابتة، بل باعتبارهما مُتغيرين فاعلين في عملية التكوين الكوني.

هذا المفهوم يفتح الباب لفهم جديد: الزمان والمكان يمكن أن يُعتبران خاضعين للمزاج الفاعل، أي تفاعلات القوى التي تحدث داخل الكون، والتي قد تخلق آليات جديدة لتحديد العلاقات بين الأشياء.
3. الكون: تفاعل المزاجات الفاعلة عبر الزمن والمكان:

إذا كان الكون مُكونًا من كينونات متعددة، تتفاعل مع بعضها البعض في بيئات مختلفة، فإن الزمان والمكان يمثلان الإطار الذي يحدث فيه هذا التفاعل. وعليه، فإن العلاقة بين الزمان والمكان تُصبح ديناميكية تعتمد على تفاعلات قوى متعددة، بحيث يمكن أن تؤثر هذه التفاعلات على شكل الزمان والمكان أنفسهم.

نحن إذا نتحدث عن كون يتحرك في الزمان والمكان، ولكن في نفس الوقت يؤثر الزمان والمكان على شكل هذا الكون. يمكننا أن نقول إن الزمان والمكان في هذا السياق لا يعكسان فقط ما يحدث في الكون، بل يشتركان في خلق هذه الأحداث.
4. الوجود الكوني كحالة ديناميكية:

الوجود الكوني في إطار المزاج الفاعل ليس حالة ثابتة أو جامدة. هو حالة ديناميكية تخضع لتفاعلات متغيرة. الزمان والمكان ليسا مجرد ساحة يحدث فيها شيء، بل هما مكونان فاعلان يُساهمان في خلق الواقع. هذه الفكرة تتحدى التصورات التقليدية عن الزمان والمكان كعناصر ثابتة ومحددة، وتؤكد على ضرورة فهمهما كعنصرين يتفاعلان مع المادة والطاقة ليخلقا نظامًا متكاملًا.
5. الزمان والمكان كأبعاد وجودية:

في هذا الإطار، يمكن أن نفهم الزمان والمكان ليس فقط كأبعاد مكانية وزمانية، بل كدوافع وجودية. إذا كان المزاج الفاعل هو ما يحدد سلوك الكينونات، فإن الزمان والمكان يمكن أن يكونا محركات لهذا السلوك. في هذا السياق، نجد أن الزمان والمكان ليسا خارجيين عن الوجود، بل هما جزء من بنية الوجود نفسه، يعملان على تشكيل العلاقة بين الأشياء، وتعريف اللحظة الحالية، وتحديد مسار الأحداث.
6. الواقع كنسيج متشابك من الزمان والمكان:



الفهم الجديد للزمان والمكان كقوى فاعلة يشير إلى نسيج كوني متشابك، حيث يلتقي الزمان والمكان مع المادة والطاقة في تفاعلات لا تنتهي. الكون ليس مجرد مكان وزمان ثابتين يشملان الأشياء، بل هو مجموعة من التفاعلات المستمرة التي تُنتج واقعًا جديدًا في كل لحظة. ومن خلال هذه التفاعلات، يُشكل الزمان والمكان النمط الذي يحدد مسار تطور الكون.




الزمن كوعي كوني: من لحظة إلى لحظة
نغوص في أعماق الزمن لا بوصفه مجرد بعد فيزيائي، بل باعتباره حالة وعي كوني تتشكل من خلال تفاعلات المزاج الفاعل. فنحن لا نعيش في الزمن، بل نعيشه ونخلقه في الوقت ذاته. لا يوجد “الآن” مستقل عن التفاعل؛ اللحظة ليست نقطة ميتة، بل كينونة نشطة تتشكل في صميم كل فعل، في كل اصطدام بين عناصر الواقع. الزمن هنا ليس مجرد خط مستقيم بل نسيج من الإدراك والوجود.


1. الزمن كإنتاج لا كإطار:

الزمن في هذا التصور ليس موجودًا مستقلًا سابقًا للأشياء، بل هو نتاج تفاعلاتها. كل اصطدام بين كينونتين، كل قرار، كل تغير في طاقة أو موقع أو مزاج، ينتج لحظة زمنية جديدة. وهذا يعني أن الزمن لا يُقاس فحسب، بل يُصنع. فالزمن هنا ليس وعاءً نُسكب فيه الأحداث، بل هو العملية التي تُنتج الحدث ذاته.

حين نضع وعاءً من الماء على النار، لا نرى الزمن كخلفية لما يحدث، بل كـنتيجة لما يحدث: الماء يغلي لأن جزيئاته تتفاعل وتتحول، وهذه التحولات هي الزمن في حد ذاته.


2. الوعي كامتداد زمني:

الزمن، في جانبه المعرفي، هو إدراك التغير. نحن لا نعي الزمن بذاته، بل نعي الفارق بين حالتين: قبل وبعد، بدء وانتهاء، سكون ثم حركة. وهذا يجعل الوعي مرتبطًا بالزمن بطريقة وجودية. الوعي ليس مجرد مُلاحظ للزمن، بل هو تجسيد له. كل وعي هو مساحة زمنية، يتخللها الإدراك والتغير والانفعال. من هنا يصبح الزمن ليس خارجيًا عن الكائن الواعي، بل هو بنية داخلية فيه.

وإذا تأملنا في كيفية تذكرنا للماضي أو توقعنا للمستقبل، نجد أننا لا نتعامل مع الزمن كمجرد قياس رياضي، بل كنسيج من الانفعالات، والمواقف، والانكسارات، والتحولات. الزمن ليس ساعة... بل قصة.


3. لحظة “الآن” كأعلى درجات التعقيد:

اللحظة التي نسميها "الآن" ليست بسيطة أو فورية كما نظن، بل هي قمة في التعقيد الفيزيائي والشعوري. إنها تتطلب ملايين التفاعلات الذرية والدماغية، ملايين القرارات والاحتمالات التي تنهار إلى واقع واحد نعيشه. هذه اللحظة لا تُمنح لنا؛ نحن ننتجها ونبنيها.

وبالتالي، "الآن" ليست نقطة على خط، بل هي بنية مركبة من الزمن والمكان والمزاج، تشبه دوامة تلتهم كل ما قبلها، وتُعيد تشكيله في لحظة عيشٍ فريدة. لذلك، لا عجب أن الإنسان لا يستطيع الإمساك بـ "الآن"؛ لأننا نظريًا نُنتجها بنفس سرعة زوالها.



4. الزمن والموت: الانقطاع والعدم

الموت، في هذا السياق، ليس توقف الزمن، بل هو فقدان القدرة على إنتاجه. فطالما الكائن يتفاعل، يشعر، يتغير، فهو يصنع الزمن. الموت إذًا هو نهاية المزاج الفاعل في كينونة معينة، وتوقف الحركة التي كانت تولّد "لحظتها". لا زمن بعد الموت لأن لا فاعلية بعده. وهنا يظهر كيف أن الزمن ليس شيئًا يُورث أو يُترك خلفنا، بل هو صنيعتنا المتواصلة، ومتى ما تهاوى المزاج الفاعل، تهاوى الزمن نفسه.


5. الزمن كصيرورة كونية لا إنسانية فقط:

الزمن ليس وعيًا فرديًا فقط، بل هو أيضًا صيرورة كونية. المجرات، الكواكب، النجوم، كلها تشهد زمنها الخاص، لا بالضرورة مشابهًا لزمننا البيولوجي. فكما أن "اللحظة" عند الإنسان هي تعبير عن تفاعلات عضوية ونفسية، فإن لحظة النجم تُقاس بتفاعلات نووية، ولحظة المجرة تُقاس بانزياحات مكانية ومجالات جاذبية شاسعة.

هنا يُصبح الزمن مقياسًا لمقدار التعقيد في المزاج الفاعل. كلما زادت التفاعلات، زادت كثافة اللحظة، وازدادت إمكانية استحضارها كـ"زمن".


6. إعادة تعريف الزمن علميًا:

الطرح العلمي التقليدي يفصل الزمن عن الوعي والفاعلية، ويتعامل معه كوحدة قياس فقط. لكن النموذج الجديد الذي نقدمه يعيد الزمن إلى مصدره التفاعلي: كل لحظة زمنية هي نتيجة حتمية لفعل كوني، كل زمن هو منتج وليس سابقًا للأشياء. هذا يعيد الزمن إلى المجال الفيزيائي التجريبي، حيث يمكن قياس التغير، لا الزمن نفسه. فالزمن لا يُرصد بذاته، بل يُستدل عليه عبر التحولات.


الزمن، من كونه أداة قياس، أصبح في هذا التصور كائنًا مركبًا من المزاج الفاعل، وعيًا كان أم مادة. اللحظة ليست شيئًا نعيشه بل نخلقه، والموت ليس غيابًا عن الزمن بل توقف إنتاجه. الزمن لم يعد مجرد بعد فيزيائي، بل أصبح تجليًا للوجود حين يتفاعل. وعليه، فإن الزمن هو اسم آخر لحقيقة عيشنا المستمر، وسردنا الداخلي للعالم.




الكون بوصفه آلة مزاجية: من الفوضى إلى التآلف
لم يعد الكون مجرد تجمّع عشوائي لجسيمات خاضعة لقوانين فيزيائية جامدة، بل بات بإمكاننا النظر إليه بوصفه آلة مزاجية كبرى، تتوالد داخلها الحركات، وتنشأ منها النوايا، ويتجسد فيها الوعي كأثر ثانوي لتعقيدات التفاعل. ليس الوعي حدثًا طارئًا، بل تجسيد لمزاج فاعل بدأ قبل الإنسان بقرون، وتراكم عبر الاصطفاء الطبيعي والصدمات الكونية ليصير ما نسميه اليوم بـ"الإدراك".


1. المزاج الفاعل كديناميكا كونية:

تتكون المادة من جسيمات، لكن هذه الجسيمات لا تُنتج إلا المعادلات. ما ينتج "الحياة" هو الحركة المُموسقة، التوتر بين القوى، التفاوت في الطاقة، الإيقاع. هذه ليست مجرد "حالات" فيزيائية، بل انفعالات كونية. الكوكب الذي يدور يخلق توازنًا، والنجم المنفجر يخلق إمكانية جديدة، وهكذا يكون المزاج الفاعل ديناميكا تتجلى في كل مستويات الوجود، من الإلكترون إلى المجرات.

المزاج الفاعل ليس مجرد شعور، بل هو التوتر الذي يصنع اللحظة، هو "النية الفيزيائية" إن صح التعبير.


2. من التنافر إلى النغم: ولادة النظام

عبر هذا المزاج الكوني، تنتقل الأشياء من الفوضى إلى التآلف. الفوضى ليست انعدامًا للنظام، بل حالة ما قبل ظهور النمط. وعندما تبلغ الفوضى حدًّا معينًا من التفاعل، تبدأ البُنى في التشكل: تظهر الذرّة، ثم الخلية، ثم الدماغ، ثم القصيدة. هذه ليست مجرد تطورات، بل هي إيقاعات تنشأ في آلة مزاجية شاسعة. كل نمط هو لحظة تآلف ظهرت في خضمّ التنافر.

النظام لا يُفرض على الواقع، بل ينتج من داخله، مثلما تنشأ الأغنية من تراكم الذبذبات، لا من خارطة مسبقة.


3. الكائن الحي كآلة مزاجية مصغّرة:

إذا كان الكون كله آلة مزاجية، فإن الكائن الحي هو نسخة مصغرة منها. الإنسان مثلاً لا يُفكر لأنه يريد، بل لأنّ تفاعلاته الداخلية بلغت مستوى من التوتر أنتج ما نسميه تفكيرًا. الجوع، الحب، الخوف، كلها ليست مشاعر بالمعنى التقليدي، بل أنماط من المزاج الفاعل الذي يُعيد تشكيل البنية الحية في كل لحظة.

الخلية الواعية، الدماغ، الحلم، كلّها حلقات في سلسلة واحدة: تحول الطاقة إلى مزاج، ثم إلى وعي، ثم إلى قرار.


4. من الحياة إلى المعنى:

المعنى لا ينبع من خارج المزاج، بل منه. كل معنى ننتجه هو أثر لاحق لحالة مزاجية. عندما نقول إن شيئًا ما "مهم"، فإنما نصف الانفعال الذي يحدثه فينا. وعندما نقول إن الكون بلا معنى، فإننا نصف فقداننا المزاجي للارتباط به. لذلك، فالمعنى ليس جوهرًا موضوعيًا، بل نتاج تفاعل المزاج مع الكينونة.

كلما تعقّد المزاج، تعقّد المعنى. كلما اشتدت الحساسية، زادت الحاجة للترميز، وظهرت الفنون والفلسفات والعلوم.


5. إعادة تعريف القانون الطبيعي:

في ضوء هذا النموذج، يصبح القانون الطبيعي ليس مجرد معادلة ثابتة، بل ميل مزاجي كوني نحو نمط معين. قانون الجاذبية هو أثر لاستعداد المزاج الكوني إلى الحفاظ على التآلف. قوانين الديناميكا الحرارية ليست مجرد حسابات، بل إملاءات من طبيعة التفاعل الكوني ذاته. كل قانون هو لغة المزاج الكوني حين يحاول أن يعبّر عن نفسه رياضيًّا.

القانون الطبيعي ليس مفروضًا من خارج، بل صادر من داخل الحقل المزاجي للكون، ولهذا يتغير، يتطور، وربما يموت.


الكون في هذا الفصل لم يعد مسرحًا لأحداث صماء، بل آلة مزاجية كبرى تنبعث منها الحياة والمعنى والنظام. إن المزاج الفاعل ليس خاصية للإنسان وحده، بل طبيعة جوهرية للوجود ذاته. وعليه، فإن فهمنا للواقع لن يكتمل إلا إذا أعدنا الاعتبار للمزاج، لا كحالة ذاتية، بل كقوة كونية، تُبدع اللحظة، وتُصوغ الوعي، وتدفع التاريخ.




في المصير والاختتام المزاجي للوجود

ليس للوجود خاتمة بالمعنى الزمني، لأن الزمن نفسه ليس إلا موجة من مزاج سابق. إن ما نراه نهاية، ليس إلا طيًّا لمزاج، وانبثاقًا لآخر. هكذا يتكرر العالم، لا في صورته، بل في حالته. إذ لا عود أبدي للهيئة، بل للميل. لا رجعة للتفاصيل، بل للنبض.

وإذا تأملنا في مصير الكون، كما ترسمه الفيزياء الحديثة: تمدد بارد، موت حراري، اختفاء للتمايز… نرى لا موتًا، بل استنفادًا لمزاج فاعل بلغ ذروته، ثم همد. فالكون حين ينطفئ، لا يزول، بل "يُطفئ رغبته في أن يكون". وهو بذلك يشبه الشاعر الذي يُلقي قصيدته الأخيرة، لا لأنه لم يعد قادرًا على الشعر، بل لأنه لم يعد راغبًا فيه.

وهكذا، فإن النهاية ليست تدميرًا، بل عزوف. والزوال ليس انهيارًا، بل تخلٍّ راقٍ عن الرغبة في التكرار.

الوعي البشري، في أعماقه، يدرك هذه الحقيقة. لذلك فهو لا يخاف الموت، بل يخاف من أن يكون موتُه بلا معنى. ومنشأ هذا الخوف، هو أن الكائن يتمنى أن يكون خروجه من الوجود، مثل دخوله إليه، نابعًا من مزاج فاعل، لا من حادث عارض. فكلّ ما يولد من مزاج، يكتسب معنىً. وكل ما يحدث خارج المزاج، يبقى ناقصًا، مُعلّقًا، مجهول السبب والغاية.

من هنا كان أعمق أشكال النجاة، لا في الخلود، بل في العودة إلى المصدر، إلى الحالة التي لا رغبة فيها، ولا انفعال. إنها السكينة العليا، حين يصبح الوجود غير محتاج لأن يكون، وحين يتساوى الحضور والغياب في القيمة.

وهكذا، فإن النهاية الحقّة ليست موتًا، بل بلوغ المزاج الفاعل إلى تمامه. أي الوصول إلى لحظة لا يُريد فيها أن يفعل شيئًا آخر. لحظة الارتواء الكوني.




الأربعاء، 30 أبريل 2025

الحقيقة البشرية بين الفطرة والمنظومة الأخلاقية!

0 تعليق




الفطرة باختصار هي الغريزة المعنوية..، أي هي التلقائيّة الطبيعيّة التي تبني القناعات والسلوك لدى الكائنات الحية؛ وليست التلقائية الناجمة عن التلقين والتوجيه والإكراه والتدريب أو غيرها من أساليب صناعة القناعات!
فإذا كانت الغريزة هي المَلَكة التي تُحدِّد احتياجاتنا وطريقة تلبيتها دون تجربة سابقة ، فإن الفطرة هي الملكة التي تُحدد قناعاتنا وميولنا دون تجربة سابقة!
الفطرة هي تلك المَلَكَة الطبيعية التي تُحدِّد فعل وردَّات فعل كل الموجودات الحية – القادرة على الفعل والمضطرة للفعل – ابتداءً؛
أقول ابتداءً، أي قبل أن يُدرِك الكائن الحي ضعفه وحاجته للآخرين، وقبل أن يضطر لممارسة الخداع والامتثال للخوف والجُبن، وقبل أن يقع تحت تأثير البيئة وتعدد الخيارات وضرورات الاختلاف وإملاءات القوة وغيرها!

والحقيقة البشرية المقصودة هنا، يمكن أن يُمثلها مفهوم الوعي، أو ما يُعرف اصطلاحاً بالعقل..، تلك القوة أو المَلَكَة الطبيعية التي بفقدانها تختفي القواسم المشتركة التي تربط البشر التقليديين ببعضهم!
- المقصود بالمنظومة الأخلاقية هي صناعة القناعات..، أي تلك الضوابط السلوكية الإلزامية التي تضعها النُخب وقيادات الجماعات البشرية باسم دين أو باسم قِيَم إنسانية افتراضية أو غيرها..، لتحديد حقوق وواجبات الأفراد، وليس لتحقيق أخلاق حميدة لديهم، فالأخلاق لا تُفرض من الخارج، إنها إما أن تكون جزءًا من كيان وشخصية الفرد إراديًا أو لا تكون!
- المنظومة الأخلاقية هي شيء آخر غير الأخلاق الطبيعية؛ فالأخلاق الطبيعية هي الإرادة الذاتية التي تجعل الإنسان يفعل أو يمتنع عن الفعل بما يرى أنه يُحققُ ذاته ويُبرزُ هويته، وليس احتساباً لنتيجة متوقعة أو موعودة؛
ومن ذلك الصِدق، فكل البشر يمتدحون الصِدق كما يمتدحون المالَ، لكنهم يسعون لامتلاك المال ولا يسعون لامتلاك الصِدق، ولا يُمكن جعلهم صادقين إن لم يكونوا كذلك!
فما هو هذا العقل الذي باسمه وبسببه تُحدَّدُ السلوك وتُفتَرَضُ الأخلاق، وما هي الفطرة البشرية، وما المنظومة الأخلاقية، وما العلاقة بين أطراف هذه الثلاثية!

ما هو العقل؟

تُسنُّ القوانين وتوضع العقوبات وتُنفَّذ في المجتمع البشري، بسبب الاعتقاد بامتلاك الإنسان آلية لضبط السلوك- اسمها العقل، يُفترض أنه مُهيمنٌ ومسئولٌ عن السلوك والممارسات والغرائز، وهو بذلك مسئولٌ عن قرارات الإنسان- فعلاً وامتناعاً!
بينما في واقع الحال ليست هذه المعادلة دقيقة، فالعاقل وغير العاقل كلاهما يقول ويفعل، وكلاهما يمتنع عن القول والفعل.. أي أنه لا علاقة للعقل بقرارات الفعل وعدم الفعل ابتداءً!
كما أن وجود العقل ليس شرطاً لفعل الصواب، وليس غيابه سبباً لفعل الخطأ-، خاصة في ضوء حقيقة انعدام وجود معايير قياسية كونية أو وجودية أو بشرية، تُحدِّد الصواب من الخطأ، والحق من الباطل!


ما هي الفطرة البشرية؟

هل يوجد شيء اسمه الفطرة!
وهل توجد فطرة سليمة وأخرى غير سليمة!
وما الذي يمكن أن يؤدي إلى تلوث الفطرة- أو انحراف الإنسان عن الفطرة السوية!
هل سلامة الفطرة، تعني عدم اختلاف البشر؟
أم أنه يمكن أن تكون الفطرة سليمة، وفي ذات الوقت مختلفة من إنسان لآخر، وأنه بسبب ذلك تنتج الاختلافات والخلافات بين البشر!
أم إن سبب الاختلافات هو سلامة الفطرة لدى بعض الناس واعوجاجها لدى البعض الآخر..، وأن الخلافات تنجم وتنشب الصراعات، بسبب اعتقاد كل طرف بسلامة فطرته، وجزمه باعوجاج فطرة الآخر!
ثم ما هي المعايير القياسية للحكم على الفطرة وتحديد انحرافها من عدمه!
وهل توجد مرجعيات وآليات لضبط الفطرة وإعادتها إلى رُشدها!


ما هي المنظومة الأخلاقية (الأخلاق الحميدة)؟

هل المنظومة الأخلاقية حدث أم أزل – بالنسبة لوجود الإنسان-، وما علاقتها بالفطرة البشرية!
إذا كانت المنظومة الأخلاقية لا تتعارض مع العقل والفطرة السليمة، فلماذا يتم فرضها على البشر، ولماذا هذا الإجماع البشري – منقطع النظير -على خرق المنظومة الأخلاقية والعبث بها عند أول فرصة..، حيث تنتشر الفوضى منذ اللحظة الأولى لتعطيل القانون أو العجز عن تطبيقه.. في أي مجتمع بشري!

العقل..

كل مفاضلات البشر إنما هي بين باطلٍ وباطل..، حيث لا وجود للحق المطلق في حياتهم، وليس الحق النسبي سوى باطلٍ نسبي.
إننا نتحدث عن العقل، مع إدراكنا أنه لا يوجد شيء مُحدد بذاته، يمكن وصفه، يحمل اسم العقل..، إن كل ما هنالك هو افتراض حدٍّ أدنى من السلوك البشري المشترك، اصطُلِح ثقافياً وتاريخياً على استعماله لوصف الإنسان بالعاقل أو غير العاقل..، والحقيقة أن العقل في هذه الحال، يكون هو ذات الإنسان ووعيه..، أي هو إدراك الإنسان لما يقول ويفعل، وقدرته الطبيعية على استحضار تجاربه، وتصوره لنتائج أفعاله قبل حصولها..، وهو ما ينبغي أن يكون لإبراز هوية الفرد وتأكيد وتحقيق خصوصية الذات – لا لإرضاء الآخرين والتكيُّف مع المختلفين..، فاختلاف السلوك أمرٌ طبيعي بين إنسان وآخر – كما هو بين أي كائن وكائن آخر، وهذا الاختلاف هو مُحدِّد الهويات ومحقق الذوات..، وبذلك يُصبح من العبث القول بمساواة البشر، وتكون محاولة مساواة سلوكهم مساساً بكرامتهم الطبيعية المفترضة..، ويُصبح تشريع تصويب سلوك الإنسان إقراراً بتشوهه عقلياً، وإذا صحَّ ذلك فلا حرج على المشوَهين، ولا معنى لإصلاحٍ تعددت واختلفت وتعارضت واختُلِقت معاييره، فالإصلاح حينها يُصبح تحويلاً للإنسان من حالة مشوَّهة إلى أخرى مُختلفٌ عليها ومطعون فيها!
بالنتيجة.. العقل ليس عضواً أو جزءاً من الإنسان، يَفسدُ ويمكن إصلاحه دون المساس بالذات- كما يتم إصلاح أعضاء الجسد وحواسه..،
بل العقل هو جوهر الذات، والطعنُ فيه طعنٌ في خصوصية الذات وهوية الإنسان، والتأثير عليه تلويث لها..،
وإذا جاز لنا التشبيه، نقول إن تغيير عقل أو وعي الإنسان بواسطة الأيديولوجيات، هو كتغيير جنسه بواسطة الهرمونات..، فكلاهما تغيير لجوهر وصورة الذات!
والفرق بينهما يذهب لصالح التحول الجنسي، فهو محسوب النتائج، معدوم الخيارات، والأهم من ذلك أنه أمرٌ طبيعي نابعٌ من إحساس داخلي وشعورٍ فطري صادقٍ، مصدره الذات، ولا علاقة للآخرين به، ولا مسئولية لصاحبه عنه، ولا ضرر له على سواه!
بينما تغيير العقل- المتمثل في زرع المعتقدات وتغيير المبادئ والقناعات- فهو خارجي المصدر، عشوائي النتائج، ضبابي الأهداف والخيارات – حيث لا معيار للعقل والرُشدِ في ظل اختلافات كل البشر- أفراداً وجماعات!
وفي كل الأحوال، فإنه إذا جاز تشريع الطعن في مصداقية عقل إنسان- قياساً إلى عقل آخر، فإن ذلك تشريعٌ بجواز نفي خصوصية الذات، ورفعٌ للمسئولية عنها، وتكذيبٌ صريحٌ لمبدأ تكليفها!
إذ إن القول بوجوب طاعة- أو حتى بجواز إتِّباع- إنسان لإنسان بحجَّة فارق المعرفة، هو تشريعٌ لكل سلوكٍ يمكن أن ينجم عن فارق المعرفة..، فليس التابع مؤهلاً لتقييم واختيار المتبوع!

هل يمكن تعطيل الوعي (العقل)، أو إقناع العاقل بفعل ما لا يَعقِلُه؟
الإجابة المختصرة: نعم!
فحيث إنه لا علاقة للعقل أو الوعي باتخاذ قرار الفعل وعدم الفعل- كما قلنا سلفاً وكما نعلم جميعاً- فالعاقل وغير العاقل كلاهما يفعل وكلاهما يمتنع عن الفعل؛ وحيث إن وظيفة العقل أو الوعي، هي استعمال رصيد التجارب في حساب النتائج، وانعكاس ذلك أو تأثيره على اتخاذ القرار، لذلك فإنه من الممكن جداً- حين يحصل التواصل ويختلف حجم ومجال التجارب-، أن تتأثر حسابات البعض بتجارب غيرهم..، أو أن يستعمل البعض تجاربه للتأثير على حسابات غيره، فيُقنعه بنتائج محتملة يتخذ على أساسها قراراته..، ويُسمَّى حينها المؤثر مُلهِماً، ويُسمَّى المتأثر تابعاً أو مُريدا!
وقد قلنا سابقاً، إن الإنسان هو كائن قابل للإصابة بالوهم!
حيث يعتقد التابع -بسبب ذهوله الناجم عن بساطته وسذاجته وقلة معلوماته وضعف خبرته- قياساً إلى فصاحة وخبرة مُلهمه أو معلمه-، بأن الأخير يستمد قوته من قوة الكون، وأنه لا حرج من طاعته وامتثال أوامره؛ فتتوقف بذلك ذاكرة التابع عن تسجيل تجاربه الخاصة- التي كان ينبغي أن يستعملها وعيه لتحديد معاييره ومعالم هويته-، فيُكمل حياته تابعاً يتنقل بين المتبوعين، لا هوية أو لا ذات له، ولا يُدرِك حقيقة مَـنْ هو..، جسدٌ يعمل بعقلٍ خارجه، أو إنسانٌ مكلفٌ بعقل غيره!


الفطرة..

بقدر ما يختلف البشر حول تحديد ماهية الفطرة وتعريفها..، بقدر ما يحتكمون لها، ويُجمعون على أصالتها، ويتفقون على أنها المرجعية الطبيعية لتحديد الحقوق والواجبات، وفرز الصواب من الخطأ..، بمعنى أنه لا خلاف على صواب الفطرة، ولا اتفاق حول تعريفها!
وهذه المفارقة التي تُظلل مفهوم الفطرة، أوجدت منطقة فكرية مضطربة حولها، اختلط فيها الخطأ المبرر بالصواب غير المبرهن..، مما جعل الفطرة بمثابة المرجعية المجهولة للنظريات المرفوضة!
وتحت تأثير منطقة الاضطراب الفكري التي تحيط بمفهوم الفطرة، وصل الأمر ببعض أتباع الأديان إلى الادعاء بأن دينهم هو الفطرة ذاتها، أو أن دينهم هو دين الفطرة، أي أن اعتناق دينهم يُحقق الحياة وفق الفطرة؛ حتى إن الأمر ليبدو وكأن إخفاق البشر في الاتفاق حول مفهوم وماهية الفطرة، هو فقط ما يحول دون اتفاقهم الشامل!
فأصبحت لفظة الفطرة تُستعمل ويُفهم منها، ذلك القانون الطبيعي، ذاتي المرجعية، الموحد للبشر، مجهول النص، والذي لا يُعرف عنه سوى أن عيوبه مشروعة وصوابه مُطلق!


المنظومة الأخلاقية..

على النقيض من الفطرة..، فبقدر ما يتفق البشر حول تعريف ووصف المنظومة الأخلاقية..، بقدر ما يُشككون في أصالتها ويرفضون الالتزام بها عملياً- وإن تظاهروا بغير ذلك تحقيقاً لمصالح أو درءًا لعواقب.
وجدير بالذكر هنا، أن سلوكيات أساسية في حياة البشر كالصِدق والأمانة والشفافية…، تقع خارج المنظومة الأخلاقية، وذلك لافتقاد الأخيرة للآلية التي تُحقق أو تراقب هذه السلوكيات الحميدة..، ولذلك نجد أن الكاذبين والمراوغين مقبولون في المجتمعات التي تعتمد المنظومة الأخلاقية كأساس للحياة الجَمَاعية..، ويكاد يتم اختزالها في تقنين ممارسة الجنس، وتحديد ما ينبغي وما لا ينبغي للفرد ارتداؤه من ملابس!
والمنظومة الأخلاقية في ظاهرها، هي جملة من الضوابط والممنوعات، تعمل على توجيه الإنسان قسراً، وتقنين سلوكياته وتحديد حقوقه وواجباته، بهدف بناء مجتمع بشري يختلف عن المجتمع الحيواني- مع تجاهل حقيقة أن كل سلوكيات المجتمع الحيواني هي مباحة أو متاحة في المجتمع البشري، وأنَّ رَفضُها علناً لا يلغي وجودها وممارستها عمليًا..، فالمنظومة الأخلاقية بالمحصلة هي محاولة بشرية نخبوية تخيلية تصورية، ونظرية طوباوية، لإنشاء مجتمع فطري..،
وهذا ما يجعل المنظومة الأخلاقية عبارة عن فطرة مزيفة!
إذ مهما تكن سلامة النوايا ونُبل الأهداف، فإن افتقاد المنظومة الأخلاقية للسلاسة، واعتمادها على العقوبات، وتدخلها السافر في الخصوصيات الشخصية والحريات الفردية..، جعل منها حاجزاً جديداً وملوثاً إضافياً، يُساهم في تأخير ظهور مجتمع الفطرة المنشود!


ماهية الفطرة؟
هل يوجد شيء مُدرك ومُتفق عليه بين البشر، اسمه " الفطرة "، يؤثر على حياة الإنسان أو ينعكس على سلوكه وممارساته – كما هو الحال مع العقل والروح والحواس؟
وهل الفطرة شيء مذموم أم محمود- إن وُجِدت؟
وما مدى مسئولية الإنسان عن فطرته، أو خضوعه لها؟
هل تم تحريف دلالة لفظة "الفطرة"، لإنتاج مفهوم افتراضي، يُشير أو يرمز إلى الصواب المطلق، فأصبحت الفطرة كالحقيقة المطلقة.. شعار صادق يمكن أن يرفعه الكاذبون، وسلاح مشروع يرفعه الجاهل القوي في وجه الجاهل الضعيف؟

الفطرة لغوياً -مختار الصحاح ( قاموس إلكتروني)..
ف ط ر: أفْطرَ الصائم، والاسم الفِطْرُ ..الخ.
والفِطْرةُ بالكسر الخلقة، والفَطْرُ الشق، يُقال فَطَرَهُ فانْفُطُر وتُفُطُّر الشيء تشقق، والفَطْرُ أيضا الابتداء والاختراع ..الخ.
والفَطيرُ هو كل شيء عجلته أو تعجَّلت في أمره، ويُقال: إياك والرأي الفطير!

- الفطرة لغويًا: المعجم الوجيز..
الفطرة السليمة (في اصطلاح الفلاسفة): هي استعدادٌ لإصابة الحكم والتمييز بين الحق والباطل!
والفِطرِية، هي القول بأن الأفكار والمبادئ جِبِلِيِّةٌ.. أي موجودة في النفس قبل التجربة والتلقين!الفَطِيرُ: كل ما أُعجِلَ به قبل نُضجه. والفطيرة: خبزٌ من عجين لم يختمر…، الخ.
ويُقال: رأيٌ فَطيرٌ .. إذا خطر بالبال وأُبْدِيَ بلا تثبُّت..

الفطرة في نظر بعض المفكرين..
يعتقد البعض بأن الفطرة هي مجموع الصفات الإنسانية التي تُميِّز البشر عن سواهم، فيُعرِّفونها:
الفطرة هي الصفات الإنسانية الأساسية والخالصة، أي إنها كل ما هو أصيلٌ في الإنسان وليس مكتسب، وتشمل كل صفات الكائن الحي الطبيعي العاقل المُدرك، التي تُميِّزه عن سواه!
فما يُدركه أو يعرفه الإنسان بسبب إنسانيته، ويعجز الحيوان عن إدراكه بسبب حيوانيته .. هي الأمور الفطرية!
وبهذا تكون الفطرة هي جملة من معارف وغرائز وميول ابتدائية، خُلقت مع الإنسان، لتستمر معه طيلة حياته- فلا يندثر أثرها إلا بموت حاملها!

الفطرة في الثقافة العامة..
هي سلوكيات الإنسان الطبيعي الحر..، والتي تشمل ردود أفعاله تجاه البيئة وأحداثها، وميوله واختياراته، وأخلاقه ومعارفه وأفكاره الابتدائية..، والتي يُعبِّر عنها ويُمارسها ببساطة، ويشعر بمسئوليته عنها ويتقبل نتائجها..، وذلك عندما تتوفر له البيئة المناسبة الخالية من التلقين والتوجيه والتحذير والتهديد والإغراء!

نتيجة…
مما سبق يمكننا القول بأنه لا يوجد شيء بذاته اسمه الفطرة، ولكن توجد سلوكيات وممارسات وأفكار فطرية!
فليست الفطـرة سوى بدايات الأشياء وأصولها النقية!

كيف تكون الأفكار فطرية؟
وهل يمتلك الإنسان معارف أولية- قبل التجربة؟
لو لم تكن هناك أفكار فطرية تُميِّز البشر عن بعضهم، لتساوت معارف أبناء الأسرة الواحدة وأفراد المجتمع والثقافة الواحدة..، باعتبارهم نِتاج تجربة واحدة!
الأفكار الفطرية لا تعني وجود نصوص وآراء محددة مُخزنة في ذاكرة الإنسان!
وإنما يُقصد بالأفكار الفطرية، التعاطي الطبيعي وردود الأفعال التلقائية تجاه البيئة والمستجدات..، أي تعبير الإنسان عن خصوصية الذات بواسطة ميوله الطبيعية!

ما علاقة الصِدق بالفطرة، وما رأي المنظومة الأخلاقية في الكذب؟
من البديهي القول إن كل سلوك يرفضه الإنسان من الآخرين، فهو أمر مرفوض فطرياً، ونقيضه مقبول فطرياً!
وبذلك يكون الصدق سلوكاً فطرياً، والكذب دخيلاً على الفطرة!

لماذا يكذب الإنسان، ويعيب على الآخرين كذبهم؟
يمكننا القول إن قدرة البشر على التكهّن- أو إصابتهم بداء التكهّن-، أثناء سعيهم وتنافسهم المستمر لامتلاك موارد الحياة-، قد حرَّك لديهم إحساساً بتعارض مصالحهم- وأن ذلك قد ولَّد لديهم شعوراً مخيفاً بعدم الأمان!
وإن عجزهم عن ابتكار آلية للتوفيق بين مصالحهم قد أدى إلى انحرافهم المتعمد عن الفطرة!
وقد كان الكذب نتيجة طبيعية لذلك..، هذا على مستوى عموم البشر!
أما على مستوى الأفراد والجماعات الصغيرة، فإن الكذب هو نتيجة حتمية للثقافات المحلية- خاصة في المجتمعات التي تلجأ لفرض المنظومات الأخلاقية لضبط سلوك البشر..، حيث إن الثقافات في تلك المجتمعات، تفترض أن قيمة الإنسان تتحدد بنوع وحجم صورته لدى الآخرين..، مما أدى إلى انفصال الإنسان عن ذاته وهجره لمعاييره الذاتية، واعتماده للمعايير الجَمَاعية، حيث بات سعيه وجُهده منصباً على تحسين صورته عند الآخرين- بغض النظر عن حقيقته التي لا يُدركها سواه..، فأصبحت تغطية عيوبه عن عيون الآخرين هدفاً أهم من إصلاحها، أو مُقدَّمٌ على الإصلاح..، ولأن الكذب هو السبيل الأقصر والأقل تكلفة لتحقيق هذا الهدف..، لذلك ينتشر الكذب في هذه المجتمعات، حيث يرفضه الجميع ويُمارسه الكل..، ولذلك تقبل المجتمعات الأخلاقية الكاذب عملياً- رغم رفضها للكذب مبدئياً!

معضلة الدين مع الفطرة..

كل الأديان- تقريباً- تدَّعي صفة الفطرية في تعاليمها وتشريعاتها..، ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك، لكي تكسب مكاناً وزماناً للمناورة..، بالرغم من التعارض الكبير والصارخ بين شرائعها والسلوك الفطرية للبشر!
فالحقيقة أنه لا مجال للتقريب بين الأديان والفطرة البشرية ..، فعجز الأديان عن استقطاب البشر بالبساطة والسلاسة، ورفضها لخيارات الإنسان الفطرية، وإفراطها في الوعود والإغراءات المستقبلية، واعتمادها على العقوبات الصارمة والتهديد بالمجهول وتهويل المصير لبقائها قائمة، وافتقادها لآلية إثبات التزام أتباعها بتعاليمها، واكتفاؤها بالمظاهر- حيث تتبنى المجتمعات الدينية السلوك الظاهري للبشر كمقياس لالتزامهم-، مع إدراك القائمين على الأديان لحقيقة أن الممارسات الظاهرية الشكلية، التي تكون نتيجة للخوف أو الطمع، لا تعكس حقيقة ولا تُعبِّر عن سلوك فطري!
ولذلك تعتمد المجتمعات الدينية مبدأ الضخ المستمر والتذكير الممل بتعاليمها وعقوباتها وإغراءاتها..، كما أنها تلجأ مباشرة لمبدأ التحريم والتحليل في مستجدات الأمور- صغيرها وكبيرها، دون أي اعتبار لفطرة البشر التي تدعيها- والتي تفترض إجراء استفتاء أو استبيان للوقوف على آراء البشر وإشراكهم في تحديد مسارات حياتهم وعلاقاتهم وإحساسهم بالقيمة والمسئولية..، وربما يعكس ذلك إدراك القائمين على الأديان والمجتمعات الدينية، بأن الإنسان مستعدٌ ومتأهبٌ على الدوام للتعبير عن ذاته بفطرية، وأن نتيجة تعبيره الصادق والمتحرر ستكون دائماً مخالفة لما يُفرض عليه باسم الدين والفطرة المزيفة!

هل تُحارب الأديان فطرة موجودة، أم تستعيد فطرة مفقودة، أم تسعى لاستحداث وفرض فطرة جديدة؟
إذا كان إيمانهم صادقاً واعتقادهم كاملاً، فكيف للمؤمنين أتباع الأديان أن يرتكبوا الأخطاء عمدًا – كالكذب مثلاً؟
هل يمكن لإنسان يؤمن جازماً بالبعث والحساب والثواب والعقاب، أن يفعل ما يوجب العقاب؟
أم إنه لدى المؤمنين نسبة من الشك في مصداقية الأديان، ولذلك يُخالفون تعاليمها ويخترقون محظوراتها كلما اقتضت مصالحهم ذلك!
هل تقبل الأديان إيماناً ينهار أمام الغرائز؟
أم إن الأديان قد فرضت على الناس ما لا يمكنهم فعله..، ولذلك سمحت أو اضطرت للسماح بانتهاك تعاليمها، واكتفت بالممكن والمتاح..، ولجأت إلى التحايل على المنطق، باعتماد مبادئ فضفاضة، من قبيل الضرورات تبيح المحظورات..، وأخضعت التفسيرات لمزاج بشرٍ دون غيرهم ودون مرجعية محددة!
ما حصل هو أن القائمين على الأديان، أدركوا استحالة تطبيقها وتحقيقها، واستحالة التثبت من ذلك..، فاكتفوا بالمظاهر والشكليات وبالحد الأدنى من التزام أتباعها..، ولتدارك التضارب والتعارض بين بقاء الأديان قائمة وانحراف المؤمنين الصارخ، لجئوا إلى ابتداع مفاهيم ونظريات غيبية لا يمكن إثبات صحتها ونتائجها في الحاضر..، من قبيل الشفاعة والقضاء والقدر وحُسن الخاتمة، والدعاء المؤخر الاستجابة …الخ!
وحيث إن الأمر كذلك..، فإنه لا توجد قداسة مفهومة ولا أفضلية معلومة لتعاليم الأديان على قوانين وأعراف الإنسان..، فكلاهما لا يخلو من ثغرات، وكلاهما خاضع بالنتيجة لمزاج وقدرات وتفسيرات وتكهنات قلة من البشر على حساب الأكثرية!

كيف يمكن استعادة الفطرة البشرية؟
حيث إنه لا يوجد شيء محدد بذاته اسمه الفطرة البشرية!
وحيث إن الفطرة ليست سوى البدايات الطبيعية للأشياء- ومنها السلوك والميول والأفكار البشرية!
لذلك فإن محاولات استعادة الفطرة التي كُتب لها النجاح بدرجاتٍ عالية، واقتربت بإنسان اليوم من إنسان الفطرة، هي تلك المحاولات التي لم توجه إلى الإنسان- مكمن أسرار الفطرة، وإنما تم توجيهها لضرب وإيقاف المؤثرات الخارجية التي تحول دون ظهور الفطرة على سلوك الإنسان..، ففضحت التقديس الزائف الذي كان يحظى به رجال المؤسسات الدينية، وحظرت ممارسة الوصاية الفكرية تحت أي مُسمّى وأي غاية، وأوقفت دروس التلقين والأدلجة الممنهجة التي كانت تُمارس على الإنسان تحت شعار الدين والرب والثقافة والعِرق والمصلحة العليا، وطرحت كل الخيارات أمام الإنسان لتحديد اختياراته بحرية تامة..، فأوجدت بذلك المناخ المناسب لظهور ونمو السلوكيات والأفكار الفطرية!
وتبرز نتائج تلك المحاولات جلية في المجتمعات الحرة المتقدمة اليوم، والتي قامت على دساتير تحفظ حرية وكرامة الفرد..، فلا تتدخل مؤسسات المجتمع في سلوك الإنسان وممارساته إلا لحماية الآخرين وصون حريات الجميع!
لا يخفى على عاقل منصف صادق مع نفسه باحث عن الحقيقة، متحرر من الاعتقادات المسبقة والتفسيرات المبهمة والنتائج الافتراضية..، أن المجتمعات الغربية – لاسيما المجتمع الأمريكي – هي أفضل ما توصَّل له البشر على طريق توفير المناخ المناسب لاستعادة الفطرة البشرية الطبيعية، الخالية من التخمّر الثقافي!
كما لا يخفى على أحدٍ، أن المجتمعات الدينية والعِرقية – كيفما وحيثما كانت، جميعها تعتمد المنظومة الأخلاقية الطوباوية، وتستعمل الشعوب كمواد خام لخلق إنسان حسب الرغبات والتكهنات النخبوية..، والتي تُشاهد نتائجها في بقاع كثيرة من العالم، هي أبعد ما يكون عن الفطرة التي تتغنى بها، وجُلها تستمد جذورها من الشرق الأوسط -لاسيما المشرق العربي!


كيف يتم الالتفاف على الفطرة في فقه الفطرة؟

يقول المسلمون- السُنّة، في معرض تفسيرهم أو تبريرهم لعملية توريث الحكم، التي بدأها أو ابتدعها معاوية، وسار عليها العرب والمسلمون من بعده إلى يومنا هذا، حيث أخذ معاوية- في حياته- البيعة لابنه يزيد ..،
يقولون إن معاوية قد نظر إلى حال الأمَّة، وأدرك المخاطر التي تُحيك بها، وخشي عليها من التفكك..، ولعلمه بالتفاف الجيش حول ابنه يزيد، وإدراكه لحب الناس له- خاصة أهل الشام..، لذلك أخذ له البيعة ونصَّبه خليفة على المسلمين بغض النظر عن رأي المخالفين والمعارضين..، وكأن معاوية يُدرك الغيب أو يحق له التكهّن، أو أنه أحرص على المسلمين وأدرى بأمورهم من رسولهم الذي غادر الأمة والحياة ولم يأخذ البيعة لأحدٍ ولم يوصِ بأحد، ولم يضع آلية محددة لاختيار الحاكم!
ما يلفت الانتباه ويثير التساؤل الفطري، هو أن الحُجَّة التي استعملها معاوية، والسُنة التي سنَّها، هي ذاتها التي يستعملها حُكَّام العرب والمسلمين اليوم، من أجل توريث الحُكم لأبنائهم (أزيادهم)..، لكنها تُعاب عليهم وتُبرر لمعاوية، وكأنه لا يحق لهم النظر إلى حال الأمة كما نظر لها معاوية..، وكأن معاوية لم يغتصب السلطة أصلاً!
بينما يقول المسلمون الشيعة، بأنهم يتبعون أولياء معصومين، وهذا يكفيهم شر الاحتكام للعقل أو للوعي الإنساني، وهم بذلك يقفزون على حقائق يُدركونها، فيتجاهلون- عمداً- بأن ما بين أيديهم لم يكتبه ولم ينقله أولياؤهم المعصومون (على افتراض صحة العصمة)..، بل قد كتبه ونقله لهم بشر عاديون لا عِصمة لهم- لدى الشيعة وغير الشيعة..، فأين الحقيقة وأين الفطرة وأين الأخلاق لدى كل مَنْ يَفترض الصواب فيما كتبه ونقله 
وفعله غير المعصومين!