face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الجمعة، 29 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(4).



كل ما يصدر عن الإنسان، هي مضاعفات ونتائج حتمية، لمعطيات هو غير مسئول عنها بالأساس! لا شك أن وصف الإنسان بأنه سجين، بأحد معسكرات الكون، وهو معسكر الأرض، هو وصف جاد ودقيق وصحيح، لواقع قائم وحقيقة ماثلة! فالاتفاق متحقق، على أن الإنسان ليس مُخيَّرًا ولا مسئولاً عن وجوده بالأساس، ووجوده الجغرافي والتاريخي بشكل خاص! لكن، إذا كان عدم المسئولية عن الوجود قاسمًا مشتركًا بين كل البشر، فهل يتحمل الإنسان المسئولية عما بعد عملية الوجود؟ في الواقع، ليس الإنسان سجينًا جغرافيًا وتاريخيًا فحسب، بل هو مجند إجباري، وخاضع إلزاميًا لتدريبات وتوجيهات معينة مستمرة، ومنذ اللحظة الأولى لالتحاقه بمعسكر الوجود أو مخيم الحياة على الأرض! وأكثر من ذلك، هو مزود بإعدادات نفسية متغيرة متجددة، وهي التي تُحدِّدُ سلوك الإنسان وردات فعله الآنية، وهو غير مسئول عنها ولا سيطرة له عليها..، على اعتبار أنها تتغير لاإراديًا (أوتوماتيكيًا)، استجابة للظروف الخارجية! وهو ليس مسئولاً عن تدريبه وظروفه الخارجية، وبالنتيجة هو ليس مسئولاً عن سلوكه! وما يعنينا هنا، هو الاتفاق على أنه لا توجد للإنسان نُسخة نهائية – قبل الموت، بحيث يمكن أن نُحيط بكل مواصفاتها، لنفهمها ونُقيِّمه ونحاسبه على أساسها! إن آخر نسخة لكل إنسان – بأحدث إعدادات وآخر تحديثات-، هي تلك التي نراها ونتعامل معها في آخر لحظة نراه أو نتعامل معه فيها! فإذا كُنا نعتقد ونتعامل على أساس أن ظاهر الإنسان وباطنه شيئًا واحدًا! حيث يُحاسب جسد الإنسان على سلوكه الناجم عن إعداداته النفسية! وإذا كُنا نجد العُذر لسلوك المُعاقين ظاهريًا- جسديًا، لأننا نرى أسباب سلوكهم! فإن عدم قدرتنا على رؤية الأسباب الداخلية لسلوك الأصحاء جسديًا، لا ينفي وجودها! إذن، قبل أن نُعطي لأنفسنا الحق بالحُكم على الإنسان من خلال سلوكه؛ ينبغي أن نعرف مواصفاته وإعداداته في تلك اللحظة، ونعرف كيف تعمل نسخته الأخيرة تلك، تحت ظروفه في تلك اللحظة! قد يتساءل بعضنا: وما علاقتنا بوجود الآخرين وإعداداتهم وظروفهم؟ هل علينا أن نقبل سلوكهم إذا أضرَّ بمصالحنا، بحُجَّة أنهم غير مسئولين عن وجودهم وظروفهم وإعداداتهم؟ بكل تأكيد ليس هذا هو القصد! إنما القصد هو كشف مدى جهلنا بحقيقة الآخر؛ وكم من الخلافات يمكننا اجتنابها، إذا أدركنا أن الكثير مما نرفضه من سلوك الآخرين، هو من وجهة نظرهم سلوكًا طبيعيًا وينبغي أن يكون مقبولًا لدينا، وربما لا يعرفون غيره؛ وقد يعتقدون أن سلوكهم في أسوأ الأحوال يستحق النقد أو الرفض، لكن لا يستدعي الغضب ولا يستوجب العقاب! وبالمحصلة، إذا فعل أحدهم ما استوجب معاقبته، فينبغي أن نتذكر، أن أساس العقاب هو وجوده وليس سلوكه! ……………………………….. انتهى الباب السابق (3) من هذا الموضوع، بالقول: إن الواقع يُخبرنا أن سلوك وممارسات البشر، تدل على أنهم يعتنقون ثقافة إحدى ثلاث نظريات افتراضية، من حيث علاقة الأنا بالآخر: - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، ومعلوم الهوية! - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، لكنه مجهول الهوية! - نظرية تعتبر الوجود المادي للآخر مجرد فرضية، وبالتالي فهو مجهول الهوية حُكمًا! ملاحظة للتذكير: غني عن القول، بأن الحديث هنا ليس عن الهوية الاسمية الخارجية الاصطناعية التوافقية الإجرائية – الاجتماعية والسياسية والدينية..، الخ! إنما هو عن الهوية الذاتية الطبيعية للإنسان الفرد، والتي لا تحمل اسم حاملها – ذلك الاسم البشري الثقافي الاجتماعي العشوائي المتغير! هي تلك الهوية التي هي ذات حاملها، والتي تُحدد سلوكه الطبيعي، وتعكسها ممارساته في الواقع! ………………………… النظرية الأولى: وهي التي يسير وفقها معظم البشر، ولذلك تحدث الخلافات والصدامات وتستمر الصراعات! فهي نظرية خاطئة، لأنها تتعامل مع الآخر على أساس أنه معلوم لدى الأنا، بينما الواقع أن الأنا ذاتها تجهل جزءًا كبيرًا من هويتها هي، وليس فقط هوية الآخر! فلا يمكن للإنسان أن يعرف غيره، إلا من خلال ما يسمح به ذاك الغير، وذلك يعتمد على مدى معرفة الغير لذاته، ومدى قدرته على التعبير عما يعرفه! إن فهم ورؤية الإنسان لهويته الذاتية، تختلف بين النظري والعملي، كما تختلف في الظروف الطبيعية الاعتيادية -عنها في الأزمات! فالإنسان ذاته، ولكي يعرف حقيقة ومواصفات هويته الذاتية، هو بحاجة للمرور بكل الظروف والأزمات عمليًا! أو هو بحاجة لمقدرة فكرية ذهنية استثنائية، تُغنيه عن خوض التجارب عمليًا، وتُمكِّنه من خوضها نظريًا، والخروج بنتائج وأحكام تتطابق مع النتائج العملية! فإذا كان فهم الإنسان لحقيقة هويته الذاتية، هو بهذه الصعوبة- شبه المستحيلة! فكيف للأنا أن تحكم على الآخر، وتفترض أنه معلومٌ لديها! فالطبيعي هو أن الأنا لا تعرف عن الآخر إلا ما يقوله هو عن ذاته! وتعريف الآخر لذاته، يخضع لمعادلة، بها العديد من المجاهيل: حقيقة فهم الآخر لذاته، وحريته، أمانته، ثقته بالأنا، مقدرته الذهنية، درجة الوعي، المزاج الآني، الظروف الخاصة، البيئة العامة..، الخ! ولهذا فإن الحُكم على الآخر وفق هذه النظرية، لا يمكن أن يكون صائبًا، إلا من قبيل الافتراض أو من قبيل الصدفة- التي لا يُعوَّل عليها! النظرية الثانية: وهي الأقرب إلى الصواب، والأولى بالاتِّباع في معظم المعاملات والاتصالات البشرية العامة! حيث لا خلاف على الوجود الظاهري المادي للآخر عند عموم البشر. وأما حقيقة الآخر ومواصفاته الذاتية، فهي مجهولة! والتعامل مع الآخر على هذا الأساس، يوفر قدرًا كافيًا من الحذر المتبادل، يكفل للآخر حقوقه لدى الأنا، ويكفي الأنا شر الآخر، فيتحقق الحد الأدنى المطلوب للحياة الإنسانية! النظرية الثالثة: وهي التي تعتبر الوجود الظاهري للآخر موضع تساؤل، وبالتالي يكون الحديث عن هويته أمر سابق لأوانه دائمًا! وهي ثقافة فلسفية، بُنيت على أفكار بعض الفلاسفة وعلى بعض (الحقائق) العلمية! مما تتصوره هذه الثقافة، أنه لا يمكننا الجزم، هل أن الذي يجري في اليقظة هو الواقع الحقيقي، أم أن الواقع الحقيقي هو الذي تجري أحداثه في الأحلام – ونحن نيام! عِلميًا – حتى الآن على الأقل – كل شيء مكون من ذرات، والذرات يمكن اعتبارها أشياء خيالية، وبالتالي يمكن اعتبار كل شيء – بما في ذلك الإنسان – أو يمكن أن يكون كل شيء خياليًا بالفعل – من الناحية المادية! كذلك يرى معتنقو هذه الثقافة، أنه طالما أن الحواس هي القاسم المشترك بين البشر للحُكم على الأشياء، وهي وسيلتهم الأساسية لإثبات وجود الأشياء من عدمه، وحيث إننا نعتمد عليها اعتمادًا كاملاً في إثبات وجود الآخر وفي تعاملنا معه، وحيث إنه قد ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أن حواسنا يمكن اعتبارها خادعة لنا، ويمكن اعتبارها مخدوعة بواسطة الأشياء (السراب، والنظر من خلال الماء أو من خلال زجاج مقوس، الحركة الظاهرية الشمس، الثبات والتسطح الظاهري للأرض، وجود الميكروبات بالأطعمة والمياه، الفرق بين الهواء والفراغ، عمى الألوان، إحساسنا الكاذب ببرودة عالية في الهواء والأشياء – عندما ترتفع درجة حرارة أجسامنا، ..الخ)! فحيث إن حواسنا يمكن أن تخدعنا، أو أن حواسنا يمكن أن تخدعها الأشياء، إذن لا يمكن الجزم بوجود الآخر بالاعتماد على الحواس! وحيث إن الإثبات التقليدي لوجود الآخر، يعتمد على الحواس، إذن وجود الآخر غير مؤكد! فإذا اتفقنا على أن الوجود المادي للآخر غير مؤكد، يُصبح جهلنا بهويته تحصيل حاصل!
مما يلفت أو يستحق الانتباه هنا، هو أنه وعلى الرغم من غرابة النظرية الثالثة – المذكورة أعلاه، ورفض جُل البشر لها نظريًا- فيما يخص وجود الآخر، إلا أن الواقع العملي في حياة ومعاملات البشر، يكاد يعكس اعتناق جُل البشر لها! فالوجود المادي الجسدي للإنسان، إنما هو شاشة تستعملها الذات للتعبير عن هويتها! فإذا رفضنا سلوك الآخر، فذلك يعني عدم إقرارنا بوجوده كذات مستقلة ومنفصلة عن تصوراتنا وتوقعاتنا! وهذا يعني أن الآخر الذي نعترف بوجوده، ليس هو هذا الموجود أمامنا، إنما هو ذاك الموجود في مخيلتنا! وهذا يعني أننا نعتبر الوجود المادي للآخر بمثابة وجود افتراضي، بينما نرى الوجود الحقيقي للآخر هو ذاك الموجود في مخيلتنا! إن إكراه الإنسان على فعل شيء أو ترك شيء، هو أوضح دليل على عدم الإقرار بوجوده ككيان مستقل عنا! إن إقرارنا بوجود الآخر واستقلال هويته، يتحقق بحصر أصناف البشر، وليس بدمج أنماطهم وتوحيد سلوكهم- كما هو حاصل! فكل فرد من البشر، هو الوحيد القادر على وصف ذاته، وذلك من خلال سلوكه وممارساته! فإذا اتفق البشر على رفض ممارسات أو سلوك بشري معين، وقرروا أن يكون الإعدام مصيرًا لفاعله، فإن الوصف الدقيق والصحيح لقرارهم هذا، هو أن صِنفًا من البشر، يرفضون وجود صنف آخر من البشر! إذ لا معنى للقول بأن صنفًا من البشر يرفضون سلوك صنف آخر من البشر، إلا باعتباره إنكارًا لوجودهم ككيانات مستقلة عنهم..، وهذا يتوافق مع تصورات هذه النظرية الفلسفية، حول معنى وحقيقة وجود الآخر لدى الأنا! إن الأنا لا تقول، لكنها تُمارس، رفض الواقع وعدم الإقرار بوجود الآخر، وذلك من خلال حُكمها على الآخر الموجود في الواقع – لا من خلال سلوكه وممارساته العملية – ولكن من خلال صورته الثقافية والتاريخية والعقائدية لديها! المسلمون يرفضون غير المسلم – لا بسبب سلوكه العملي في الواقع- إنما بسبب صورته الثقافية والتاريخية والعقائدية لديهم! إن التعصُّب العِرقي والمذهبي والطائفي، هو تجاهل أو إنكار للواقع العملي، وتعامل مع الآخر على أساس الصور الذهنية، وهو الأمر الذي يجعل الإنسان يرى صواب جماعته في ذهنه، ولا يرى أخطاءها في الواقع العملي! وفي هذا ما يدعم فرضية وطرح النظرية الثالثة – سالفة الذكر-، ويُشير إلى اعتناق الكثيرين من البشر لها! فصورة الآخر لدينا، هي التي تحكم علاقتنا به، وليس وجوده وسلوكه في الواقع!

0 تعليق:

إرسال تعليق

تذكّر : : كلُّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضَحُ