face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الثلاثاء، 11 أكتوبر 2022

الصِدقية الذاتية والمعيار الفطري للحقيقة!

0 تعليق



 .. الصِدقية في اللغة، هي مطابقة القول للعمل! الصِدقية الذاتية، يمكن تعريفها، بأنها اعتناق الإنسان لعقيدة الحقيقة، وما يستوجبه ذلك من التزام شخصي ذاتي بسلوك الصِدق- بغض النظر عن المنفعة! والتزام الصِدق كسلوك، هو في الواقع أمر يتجاوز القول باللسان إلى الفعل..، فلا يكون الإنسان صادقًا وسارقًا – مثلاً، إذ لا بد للسارق من أن يُبيِّت نية الإنكار.. أي الكذب! نقول صِدقية ذاتية وليس صِدقًا ذاتيًا، ذلك ليشمل المعنى القول والعمل! الصِدقية إذن هي تقديم الحقيقة على المصلحة في ميدان التعامل والتواصل البشري! وبهذا المعنى يكون من باب أَولى حِرص الإنسان على طلب الحقيقة في علاقته المفترضة بالإله، ويكون الشعور بالاطمئنان هنا تحصيل حاصل؛ فإذا كانت الحقيقة لا تكفل المصلحة بالضرورة، فإنها لا تتعارض مع العدالة حتمًا؛ وهذا هو مصدر الالتزام وسِر الاطمئنان، في حال الصِدقية الذاتية! إنه لا يمكننا بأي حال، إلا اعتماد المنطق في تقييم علاقة الحقيقة بالعدالة، بما يعني وجوب تحقق العدالة بإنصاف الصادقين؛ ذلك لأن البديل هو افتراض الظُلم، وفي أحسن الأحوال افتراض المزاجية والعشوائية والعبث، والمحصلة في الحالتين هي انعدام الرؤية وحتمية التخبط، وهذا بدوره يلغي كل الثوابت ويجعل كل الاحتمالات قائمة، ويُفضي بالضرورة إلى نتيجة مفادها أن أي اعتقاد وأي سلوك يمكن أن يؤدي إلى أي نتيجة! قال أحدهم: الكذب يهدم الحُب، والصِدق يمنع الحرب! مما لا شك فيه أن كل مَن يتمتع بالصِدقية الذاتية، لا يمكن أدلجته أو خِداعه وتحويله من إنسان طبيعي واقعي باحث عن الحقيقة، إلى إنسان أجوف متعصب – يدَّعي أو يتوهم امتلاك الحقيقة! وبذلك يمكننا إثبات أن افتقارهم للصِدقية الذاتية، هو ما يجعل المتطرفين يحرصون على إلحاق الضرر بغيرهم، ولا يحرصون على التحقق من مدى صواب معتقداتهم وفتاواهم، التي تحضهم على ازدراء وقتل الآخرين! إن من عوامل انتشار الوهم على حساب الحقيقة، هو عدم إدراك الكثيرين لحقيقة أن الصِدق قرين الشك، وأن الكذب قرين اليقين! فالحقيقة الوحيدة المؤكدة والمشتركة بين البشر في هذا الكون، هي أنه لا أحد يُدرك الحقيقة المطلقة! ومن ذلك، أن فقهاء المعتقدات والمذاهب لا يجرؤون على القَسَم والجزم بصحة إيمانهم وقبول أعمالهم ودخولهم الجَنة! إن ترسيخ حقيقة الشك، وفضح أكذوبة اليقين، كفيل باجتثاث الوهم، وتحرير وعي البُسطاء من سيطرة أفكار الحُذاق..، حيث إن مجرد عدم الجزم بحقيقة ونتائج الأمور، هو قوة كافية لتفعيل العقل، ودافع للبحث والتفكير والتثبت وطلب الحقيقة، وبالتالي رفع مستوى الوعي والتحلي بالمسئولية لدى أضعف البشر قدرة على التفكير! وهنا تجدر الإشارة إلى حقيقة أن كل الحروب الكبيرة والصراعات الصغيرة، جميعها لا يمكن أن تقوم وتستمر إلا إذا تمت تغذيتها بالكذب وادعاء اليقين- من كل الأطراف أو من أحدها-، وذلك لاجتناب التحقق وللتغطية على السبب الحقيقي، والذي عادة ما يكون مصلحة لفئة محدودة من البشر – مصلحة عاجلة أو آجلة -، وقد تكون المصلحة وهمًا ناجمًا عن كذبة تاريخية متوارثة؛ وفي كل الأحوال لا بد من اللجوء إلى الكذب وادعاء اليقين لاختلاق سبب مباشر لإيقاد الحروب والصراعات واستمرارها..، عودة إلى أصل الموضوع قالوا: اجتنب الكاذب كما تجتنب المجنون، فكلاهما ليس منطقيًا! الصِدقية في الأصل، صفة بشرية أساسية، وينبغي أن تكون ذاتية، إذ لا يمكن فرضها من الخارج! ولذلك فإن كل إنسان طبيعي لا بد له من أن يَفترض تلقائيًا وجود الصِدقية الذاتية لدى غيره، كشرط مُسبق لكل حوار وكل تعامل جاد بين البشر الطبيعيين، إذ لو افترض أحد الأطراف الكذب في الطرف الآخر، أو لو أن أحدهم أَقرَّ مسبقًا بأنه ليس صادقًا، فإن الطبيعي والمتوقع هو أن يتوقف الحوار الجاد أو التعامل قبل أن يبدأ، حيث لا جدوى ولا قيمة لأي أمر يخلو من الصِدق! ولعل من البديهي القول إن الصِدق قرين الجِد، فلا حاجة لصِدقٍ في هزل، ولا وجود لجِدٍّ دون صِدق..، ولذلك فإن النفاق يستوجب المزج بين الجِد والهزل! ترتبط الصِدقية الذاتية بالحقيقة ارتباطًا بُنيويًا وشرطيًا، فكل مَنْ يتصف بالصِدقية الذاتية، هو بالضرورة باحث عن الحقيقة دون أدنى اعتبار للنتائج، والعكس صحيح! كل المتصفين بالصِدقية الذاتية – عادةً، تتغير قناعاتهم ومساراتهم وسلوكياتهم في مستقبل حياتهم، ذلك لأنهم سيكتشفون أن ما قيل لهم في بداية حياتهم وشكَّل قناعاتهم وميولهم، لم يكن دقيقًا أو لم يكن صادقًا، وبذلك تسقط عندهم كل الثوابت المستوردة، وذلك بمجرد اكتشافهم أن الأهل وأولياء الأمر كانوا يوجهونهم أو يلهمونهم المبادئ والثوابت والمُسلَّمات، لدوافع تربوية لا يُشترط فيها الحقيقة والمصداقية، لكنها قُدِّمت لهم على أساس الحقيقة والمصداقية، واكتشاف ذلك هو بمثابة اكتشاف خديعة بالنسبة لذوي الصِدقية الذاتية! لماذا لا توجد عقوبة للكذب في أي تشريع – تقريبًا؟ لعل السبب في ذلك، هو أن وضع عقوبة للكذب في مجتمع ما، هو إقرار بوجود وانتشار والكذب في ذلك المجتمع، بينما الكذب يُفترض ألا يكون موجودًا في أي مجتمع إنساني؛ لأن وجوده ينفي القيمة الإنسانية الأخلاقية عن ذلك المجتمع! جدير بالذكر أن كل ما يلحق بالإنسان من ضرر، بواسطة إنسان آخر (سرقة، قتل، اغتصاب، ..الخ)، يمكن معالجته لدى المتضرر، أو معالجته بإلحاق ضرر يُعادله بالطرف الآخر..، إلا الكذب! ولذلك يدفع ذوي الصِدقية الذاتية ضريبة باهظة مقابل صِدقهم، حيث يقعون فرائس سهلة للكاذبين المخادعين الذين يستغلون صِدقيتهم دون رادع! لكن، وبالمقابل يكون انتقامهم وردة فعلهم عنيفة عندما يكتشفون الكذب، فهم يعتبرون الكذب جريمة تمس الشرف والكرامة – خاصة إذا تم ارتكابها باستغلال علاقة أو إذا أدى الكذب إلى الطعن في صِدقيتهم! معلوم أنه لا توجد عقيدة ولا ثقافة ولا تشريع ولا عُرف، يأمر أتباعه بالكذب، أو يمتدح الكذب، أو يحط من قيمة الصِدق! لذلك كان من الطبيعي أن يظهر أناسٌ يتصفون بالصِدقية الذاتية في مختلف الأعراق والثقافات، حيث تلتقي طِباعهم الفطرية وصِفاتهم الوراثية مع التربية الاجتماعية- التربية تنبذ الكذب وتحض على الصِدق في كل الأعراف والثقافات والمعتقدات! قال أحدهم: أدرَكتُ كل شيء فخَسِرتُ كل شيء! لعل صاحبنا بهذه الجملة وبهذا المعنى، قد اختزل واختصر مستقبل ومآل كل مَنْ يتصف بالصِدقية الذاتية، وذلك عندما يقع في طفولته ضحية للثقافات الشعبوية والمُسَلَّمات الخرافية والشعارات القومية، ويصطدم لاحقًا بأنه ربما كان الوحيد الذي صدَّق كل ما كان يُقال له، وأن جُله كان كذبًا! ذوو الصِدقية الذاتية، يعتقدون فطريًا، بأنه لا يمكن لإنسان طبيعي أن يكذب تحت ظروف اعتيادية؛ ولا يتصورون إمكانية وجود علاقات إنسانية وروابط اجتماعية يتخللها الكذب! لذلك هم يُصدِّقون كل ما يُقال لهم في بداية حياتهم، ولا يسعون للتحقق من صِدقيته؛ لكنهم مع الخبرة العملية يدركون عدم صِدقية ما قيل لهم، فيُصدمون به، ولا يُدركون له تفسيرًا، ويعتبرونه من شواذ القاعدة! فإذا تعددت حالات الكذب معهم وتراكمت صدماتهم، فهم لا يُغيرون مبادئهم حيال الكذب والصدق، لكن يُغيرون معاييرهم في التعامل مع البشر، وغالبًا ما تكون ردة فعلهم هي الانزواء واعتزال المجتمع! سؤال: لماذا هُم كذلك؟ جوابهم: لماذا غيرهم ليسوا كذلك؟ والواقع أنهم كذلك لأنهم طبيعيون! لكن لماذا غيرهم ليسوا كذلك، ربما لأنهم ليسوا طبيعيين، وربما لا جواب الآن! إن الطبيعي والمتعارف عليه والسائد، هو أن كل ولي أمر ينصح ويأمر بالصدق، ويُحذِّر من الكذب؛ حتى الأب الكاذب والأم الكاذبة ينصحون ويحثون ويأمرون أبناءهم بالصدق، ويُعاقبونهم على الكذب! وبذلك، يكون إصرار ذوي الصِدقية الذاتية، على الربط بين الصِدق والفطرة والطبيعة.. أمرًا مفهومًا ومبررًا! ويكون نفورهم من الكذب، وتجريمهم له، واعتبارهم له شيئًا دخيلاً على الطبيعة..، أمرًا مفهومًا ومبررًا كذلك! قد يبدو للبعض منا، بأن ذي الصِدقية الذاتية، هو إنسان مثالي خيالي طوباوي! لكن في الواقع، هم ليسوا كذلك، بل هم واقعيون عمليون علميون! إنهم يعتقدون بأن كل المعاملات التي تستوجب الكذب، لا بد أن تكون معاملات ثانوية يمكن الحياة بدونها، وأن المعاملات الأساسية الضرورية لحياة الإنسان لا بد أن تكون ممكنة دون الحاجة للكذب..، وإلا فإن كل المبادئ ينبغي إسقاطها، حيث لا قيمة ولا أساس لمبدأ يخلو من الصدق! ذوو الصِدقية الذاتية، لا يقولون بأنه يجب على الإنسان ألا يكذب، بل يعتقدون بأن الإنسان الطبيعي غير قادر على الكذب في الظروف الاعتيادية! والظروف غير الاعتيادية، القادرة على دفع الإنسان إلى الكذب (إغراءً أو إكراهًا)، هي تلك المستويات التي لا يكون الإنسان طبيعيًا عندما يقع تحت تأثيرها، وهي أقصى حالات الفزع أو أقصى حالات الإغراء! الفزع: من الموت أو من العذاب.. مثلاً! الإغراء: يكون ماديًا، ويكون جنسيًا! مثلاً: من المتوقع أن يكذب الإنسان، إذا كان سيجني من وراء الكذب ما يغير حياته من متسول إلى مليونير! ولذلك فإن الأمانة أمام مثل هذا الإغراء، تُعدُّ خرقًا للعادة، ويُعدُّ فاعلها رمزًا للأخلاق! إذن من المفهوم ألا يكون الإنسان طبيعيًا إذا وقع تحت تأثير مثل هذه الظروف فوق الاعتيادية، وبالتالي يُتوقع منه الكذب؛ لكن ما دون ذلك من ظروف، فهي ظروف اعتيادية، وهي بالضرورة أقل من أن تُخرج الإنسان عن حالته الطبيعية؛ والمتوقع دائمًا هو أن تصمد قوة الصِدقية الذاتية الطبيعية لدى كل إنسان طبيعي أمام الظروف الاعتيادية..، هكذا يُفكر ويعتقد المتصفون بالصِدقية الذاتية! هم يعتقدون بتبرير ممارسة الكذب في الظروف الاعتيادية في حالة واحدة فقط، وهي أن يتفق الجميع على ممارسة الكذب في معاملاتهم، فحينها لا يتضرر أحد من الكذب، حيث تغيب الثقة وتصبح الحياة هزلية خالية من الجِد، لا مكان فيها للخداع والنصب والاحتيال..، وهذا ما لا يُلبي حاجة الكاذبين..، فيرفضونه بذريعة حرصهم على فضيلة الصِدق! إن الواقع ليس كما يعتقد ذوو الصدقية الذاتية، ولذلك يبدأ مشوار مأساتهم بمجرد بلوغهم مرحلة الحياة العملية، واضطرارهم لممارستها ومعاملة الآخرين مباشرة- دون مساعدة ودون وسيط-، حيث تتراكم صدماتهم، بتلاشي الشعارات وظهور زيف الحقائق المزيفة، وتتحطم المعايير وتتساقط المبادئ أمام أعينهم، وبأيدي دُعاتها! يمكن وصف ذوي الصِدقية الذاتية بأنهم متطرفون في مواقفهم، لكن تطرفهم مبرر! ويمكن فهم وتبرير تطرفهم بسهولة، حيث إنهم يُصدِّقون بالسجية كل ما يُقال لهم؛ وهم بطبيعتهم يبحثون عن الحقيقة دون أدنى اعتبار للنتائج؛ وحيث إن كل ما يُلقَّن لهم في طفولتهم، يُلقَّن لهم على أساس أنها حقائق مُبرهنة ومؤكدة، ومن بينها أن الصِدق فضيلة، وأن الكذب رذيلة! ثم إنهم يصطدمون باندثار الصِدق تقريبًا، وانتشار الكذب بين الناس في كل المعاملات وعلى كل المستويات، عندها يتسرب إليهم الشك في كل شيء، وينزعون صفة الحقيقة عن كل شيء، ويبدأون في طرح التساؤلات حول كل شيء، فإذا مُنعوا من طرح بعض الأسئلة، حينها تتحول شكوكهم إلى حقائق معاكسة لكل ما قيل لهم! ومن هنا يبدأ بحثهم في كل شيء ومن الصفر، حيث يفقدون الثقة في كل مَنْ عداهم، ويبدأون مشوار البحث عن الحقيقة بأنفسهم ولأنفسهم، وبذلك يبدأ صدامهم مع الوجود والحقائق والآخرين ومع الكذب والكاذبين! ولعل هذا ما جعل صاحبنا يقول: أدرَكتُ كل شيء فخَسِرتُ كل شيء! ولعله ذات السبب الذي أوحى إلى فيلسوف آخر بالقول: إن الحقيقة هي كل ما لا يمكن دحضه، لا كل ما يمكن إثباته! جدير بالقول هنا، إن كل الفلاسفة والمفكرين الأحرار، هم بالضرورة يتمتعون بالصِدقية الذاتية!