face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

السبت، 30 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(5).




الحُكم على أحدهم بأنه مجنون، هو مجرد تعبير عن حدوث جنون خاص يختلف عن الجنون العام..، حيث لا وجود لمرجعية أو معيار طبيعي محدد، يُقاس به مستوى عقلانية البشر وحدود الرُشد والصواب الفطري أو الحَدِّي أو المطلق – إن وُجد! فوجود مجموعة من المجانين في مكان واحد، يجعل من جنونهم معيارًا للعقلانية، ويجعل من سلوكهم وممارساتهم معيارًا للطبيعيات! وبالتالي يُصبح كل سلوك مخالف لسلوكهم، هو سلوك شاذ ومنحرف، ويُصبح صاحبه في نظرهم مجنونًا، حتى لو كان هو الصائب!

تكملة الموضوع… يوجد من البشر مَنْ يعتقدون بإمكانية تحقيق سعادة كاملة، وهؤلاء يرفضون الانطلاق من الواقع، لأن معطيات الواقع قد تم التحقق منها، وثبت أنها لا تحمل عناصر السعادة الكاملة! لكن، الضعف البشري أو العاطفة الإنسانية، تدفع الكثيرين من البشر، إلى رفض وضع أي احتمال يجعل من الواقع هو الحقيقة، أو أن الحقيقة هي الواقع! هؤلاء يعتقدون اعتقادًا جازمًا، أساسه الافتراض والضعف والأمل، وليس العِلم والجِدّ والأمانة..، يعتقدون بوجود شيء اسمه السعادة، ويُصرُّون على أن اختلاف الواقع عن الحقيقة المفترضة، هو سبب نقص أو غياب تلك السعادة! وعلى هذا الأساس نشأت الفلسفة، كباحث عن الحِكمة – الكفيلة بإزالة الاختلاف بين الواقع المعلوم والحقيقة المفترضة! هذا يعني أن الفلسفة عبارة عن معمل لتحضير الحِكمة، وأن الحِكمة هي السبيل لبلوغ الحقيقة! لكن هل من الصواب أو من الضرورة، الربط بين الحِكمة والحقيقة والسعادة؟ البشر يعرفون الواقع ويرفضون وصفه بالحقيقة، ويعرفون الحِكمة ويختلفون حولها، بينما لم يتمكنوا من تخيل الحقيقة المطلقة – فضلاً عن إدراكها أو إثبات وجودها! فأين الصواب وأين الحِكمة من السعي لبلوغ ما عجزوا عن تخيله، أو انتظار سعادة مرتبطة به؟ الفلسفة تُعنى بالبحث عن الحِكمة أساسًا – لا عن الحقيقة المطلقة! لكن، الفلاسفة مضطرون للاستعانة برمزية الحقيقة المطلقة، من أجل تمرير القصور في نظريات الفلسفة البشرية الابتدائية؛ حيث إن البشر يُمررون العيوب إذا نُسِبت إلى الحقيقة المطلقة، لكنهم لا يُمررون ذات العيوب إذا نُسِبت إلى الفلسفة أو الحكمة البشرية؛ ليس معنى ذلك أن البشر يعرفون الحقيقة المطلقة، ويعرفون أن بها عيوب ينبغي تمريرها، إنما يُمررون العيوب المنسوبة إلى الحقيقة لأن الحقيقة هي ملاذهم الأخير في رحلة هروبهم من الواقع، ولا خيار للمستجير غير القبول بعيوب الملاذ الأخير! والذي يحدث هو أنه، إذا نُسِبت عيوب إلى الحقيقة المطلقة، فإن ما يفعله البشر، هو أنهم يُنزِّهون الحقيقة من تلك العيوب، وينسبون العيوب لأنفسهم، وذلك حفاظًا على الأمل المفترض الذي يمنح وجودهم معنى واستمرارية – والمتمثل في ضرورة وجود حقيقة خالية من العيوب، وتحمل لهم السعادة! الإنسان العادي البسيط، يختصر الجُهد والوقت، فينسب غياب السعادة إلى غياب الحقيقة، وينسب غياب الحقيقة إلى قِصر الزمن، فهو يُحب أن يعتقد ويجتهد في الحفاظ على هذا الاعتقاد، الذي مفاده أن السعادة قرينة الحقيقة، وأن ظهور الحقيقة أمرٌ حتمي، لكنه يتطلب وقتًا أكبر من المتاح للبشر، وبذلك لا يتوقف البُسطاء عند الجانب النظري من الحياة، بل يحاولون عمليًا ممارسة قدر من السعادة بما لديهم من فتات زائل! يمكننا القول، بأن دخول مفهوم الحقيقة المطلقة، على خط البحث عن السعادة، قد قوَّض مشاريع الفلسفة، وأجهز على قيمة الحِكمة؛ حيث إن الاعتقاد بوجود حقيقة مطلقة، هو اعتقاد بوجود ما لا يستوعبه الزمان والمكان ولا يُدركه الإنسان! لكن، وتحت ضغط العاطفة والضعف والخوف، اضطر البشر إلى تحجيم وتصغير الحقيقة المطلقة، بحيث يمكنهم استيعابها! والذي حدث، هو أن الاعتقاد بوجود حقيقة تحتوي كل عناصر السعادة، قد أوحى إلى المغامرين والانتهازيين، بفكرة القفز مباشرة إلى تلك الحقيقة، متجاوزين الفلسفة والحكمة، مستغلين العشق البشري للحقيقة المفترضة، فتمكن الانتهازيون باسم الحقيقة من تمرير نظريات تحولت إلى أيديولوجيات، حاربت الفلسفة وتجاهلت الحكمة ولم تُحقق السعادة، لكنها استطاعت الاستمرار، بسبب ارتباطها المزعوم بمعشوقة البُسطاء– الحقيقة المطلقة التي تكفل السعادة التامة! في بدايات الوجود البشري، كان البشر مضطرين لوضع نظريات بدائية قاصرة، لتفسير كل ما هو مجهول! وعلى العكس من الفلسفة والحكمة النخبويتين، فإن تلك النظريات البدائية أو ما يمكن وصفها بنظريات الحقيقة المعلبة (المعتقدات)، قد خاطبت الأغلبية البسيطة التي تميل إلى القوالب الجاهزة! هذه النظريات، تُقر ضمنيَّا بأن إثبات وجود الحقيقة المطلقة هو أمر مستحيل، لكنها لا تقول ذلك بشكل مباشر يفهمه البُسطاء- خوفًا من نفورهم منها؛ وبدل ذلك تتحايل على البشر، بالقول بوجود حقيقة مطلقة، لكن إدراكها يتطلب من البشر فعل المستحيل! زعمت هذه النظريات بأن عيوب البشر هي الحائل دون ظهور الحقيقة وتحقق السعادة، فانشغل البشر بإصلاح عيوبهم وكأنهم مسئولون عنها، في حين أن البشر أضعف من أن يكونوا مسئولين عن ضعفهم الذي هو مصدر كل عيوبهم! لكن البشر أضعف كذلك من أن يُقرُّوا بعيوبهم، لأن الإقرار بأن العيوب جزء أساسي منهم، سيكون على حساب الأمل المفترض؛ وعلى هذا الوتر الحساس عزفت النظريات الجاهزة ألحانها! فوجود العيوب يمنع من إدراك الحقيقة، ولذلك افترضت تلك النظريات، أن تكون عيوب البشر مؤقتة ومرحلية، ومرتبطة بهذا الواقع الذي هو ليس الحقيقة! تقول هذه النظريات – ما معناه، إنه ولكي يتمكن الطبيب من معالجته، فإنه على المريض أن يَشفى من سَقَمِه قبل أن يذهب إلى الطبيب! حيث يقولون بأن الخلل في البشر وليس في المعتقدات، فلو أن البشر صالحون، لتمكنت المعتقدات من إصلاحهم، وبالتالي رفعهم إلى مستوى الحقيقة، ومن ثم إسعادهم! الواقع أن عدم صلاح البشر هو سبب وجود هذه النظريات وسر بقائها، وهي تعمل على تكريس عدم صلاح البشر – بنشر الدروشة وتشريع الخلافات بينهم-، ولا تعمل على إصلاحهم، لأن الإصلاح يستوجب تحرير العقل وحرية الفكر، وحرية الفكر تؤدي حتمًا إلى رفض كل ما هو غير معقول! إن الذي يدعي معرفة الحقيقة المطلقة، ثم لا يُجيب عن كل الأسئلة، هو إنسان غير سوي، أو تنقصه الأمانة والصدق – كي يكتفي بشرف المحاولة، ويكف عن المراوغة! نظريات الحقائق المعلبة، أوهمت البشر بأنهم مسئولون عن غياب الحقيقة، وأنهم مسئولون عن أفعالهم، فأوهمت الضعفاء بأنهم مسئولون عن ضعفهم، والفقراء عن فقرهم! وبظهور هذه النظريات، خسر البشر الفلسفة والحِكمة والحقيقة والسعادة معًا! نحن نعرف الحكمة على أنها السبيل لتحقيق السعادة لكل البشر، وأن السعادة تتحقق بتحقق الرضا والاطمئنان! ويمكن تعريف الفلسفة بأنها محاولة الإنسان لرؤية حقيقة يحجبها واقع؛ أي أن الفلسفة هي محاولة إزاحة الواقع من أجل رؤية الحقيقة! في جميع الأحوال لا يمكن تجاهل تأثير الواقع، إذ لا يمكن الانطلاق إلا من الواقع! وربما كان اعتقاد الإنسان بوجود حقيقة مطلقة، هو إشارة إلى أن تطور الإنسان قد تجاوز الحد الأقصى الذي تسمح به الطبيعة في هذا الواقع. فذكاء الإنسان قد مكَّنه من التمرد على بعض قوانين الطبيعية الأم؛ لكن حتمًا لن يكون بإمكان الإنسان التمرد على الطبيعة ذاتها! لأن حصول ذلك يعني تبادل الأدوار بين الإنسان والطبيعة، حيث يُصبح الإنسان هو أصل الطبيعة، ويتحول مفهوم الطبيعة إلى جزء من الإنسان..، وهذا غير ممكن! هذا غير ممكن باعتبار أن الإنسان يعتمد على الذكاء، والذكاء مصدر أساسي من مصادر ضعف الإنسان؛ فحسابات الإنسان تعتمد على المكسب والخسارة، بينما الطبيعة لا تعتد بالمكسب والخسارة، ولذلك يتردد الإنسان حيث لا تتردد الطبيعة! نخلص إلى القول، بأن الحقيقة المطلقة هي مفهوم لا يتجاوز قدرة الإنسان على التصور فحسب، بل يتجاوز قدرة الواقع على استيعابه، وليس الإنسان سوى جزء من الواقع! إن من البديهي القول، إن الوجود هو مفهوم يشمل كل ما يمكن أن يكون موجودًا! والحقيقة التي تحكم الوجود، لا يمكن أن تكون جزءًا منه! وأعتقد أنه لا يمكن كسر جدار هذه المفارقة، إلا بالنظر إلى الكون كحقيقة أزلية واحدة، تتفاعل مكوناتها ذاتيًا بحسب اختلاف خصائصها الأزلية! وليس الإنسان سوى جزء من الحقيقة المطلقة، لكنه الآن في حالة وجود، ولا يمكن للجزء أن يُدرك الكل طالما بقي موجودًا! إدراك الحقيقة يكون بالاتحاد بها، والاتحاد بالحقيقة المطلقة يعني التحول من حالة الوجودية إلى حالة الكونية..، أي العودة إلى ما قبل الوجود

0 تعليق:

إرسال تعليق

تذكّر : : كلُّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضَحُ