face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الأربعاء، 11 مارس 2020

الرسالات (السماوية) والعقل ومعضلة سؤال الأزل! (3)

0 تعليق


تساؤلات: - خالق ومخلوق=  سيّد وعبد، أم مالك ومملوك؟ وما الفرق؟ - ما خصوصية البشر! ولماذا هم هنا! وماذا بعد الموت؟ - هل صحيح أن الرسالات(السماوية)، قد أوجدت معتقدات، أفرغت الحياة من مضمونها؟ - المُعتَقَدُ شأنٌ شخصي، فلماذا يتم التعرُّض لمعتقدات الآخرين بالتحليل، وبالنقد أحيانًا؟ في الحقيقة المعتقدات الدينية مثل الأعراق والأنساب البشرية، ليس التعرض لها وانتقادها غاية ولا هواية بشرية .. لذلك ليس كل المعتقدات يتم التوقف عندها والتعرض لها بالتحليل أو بالنقد ..، إنما فقط تلك المعتقدات التي لم تَعُد شأنًا شخصيًا لمعتنقيها، بل أضحت وسيلة لتجنيد العابثين منهم للنيل من الآخرين ..، وحدها التي تُصبح وينبغي أن تكون وتظل دائمًا عُرضةً للتشريح والتحليل والنقد – بل والمهاجمة، حتى يتراجع أتباعها عن غِيهم ويفيقوا من غفلتهم، وتُصبح معتقداتهم شأنهم الخاص الذي لا ينظرون إلى غيرهم من خلاله! والحقيقة الأخرى، هي أن الإنسان مُكرهٌ على الإيمان والاعتقاد وفق الرسالات (السماوية)، سواء كان إكراهًا جسديًا مباشرًا بحكم الشرائع والأحكام الجزائية والرضوخ لثقافة الجماعة، أو كان إكراهًا ضمنيًا بسبب الرُعب النفسي الذي زُرِعَ داخله عبر التهديد والتلقين بالتربية والتعليم ..، فهو مُكرهٌ في جميع الأحوال، ولا فضل للمكره فيما يفعل مهما كان حجم ونوع ما يفعله ومهما كانت درجة إخلاصه فيه! إنه عندما يسود الاعتقاد بصحة نظرية القضاء والقدر، والتي مفادها أن كل ما يُقال وما يُفعل وما يترتب عليها من نتائج، ما هو إلا تحصيل حاصل! وعندما يتم إقناع العاقل – وبالأصح إكراهه- على الاعتقاد بأنه عبدٌ يؤدي وظيفة لا يحتاجها سيِّده! حينها لا تكون للحياة قيمة ولا يكون للوجود معنىً ..، ويكون من الحُمق والسذاجة انتظار جزاء بحجم الجَنَّةِ الموصوفة، مقابل أفعالٍ ونتائج ما كان يمكن أن يحصل سواها، وهي التي لا قيمة لها ولا لنقيضها قياسًا لمقام الإله – بحسب الرسالات (السماوية)!

 - التشريعات المنبثقة عن الرسالات (السماوية)، هي قيود تاريخية صَنَعت إطارًا شكليًا وتماسكًا افتراضيًا للمجتمع البشري، لتُخفي اختلافات حقيقية بين الأفراد، وصنعت صراعات فكرية لتقمع تساؤلات عفوية صادقة داخل كل فرد! لكي يؤمن الإنسان ويعتقد بوجود ما لا يُدركه، اعتقاداً يستوجب منه فعل ما يُغاير ميوله ويُناقض فطرته ويرفضه عقله وما قد يفوق طاقته، فإن الأمر يتطلب سيطرة تامة للعاطفة على العقل – من أجل تهيئة المناخ لحصول قَدَرٍ كافٍ مِن التوهُّم لدى الإنسان، وذلك ما لا يتأتى إلا بوجود قدر كافٍ من الضعف والسذاجة، وهي أمور لا يستطيع العاقل افتعالها إذا لم يجدها متوفرة وفاعلة لديه بالطبيعة، في حين أنَّ بإمكانه التخلُّص منها إن وجدها! فالواقع أنه لا يكون الإيمان إلا ضعفاً وتوهُّماً، ولا يكون الإلحاد إلا اتهاماً! إذ لو استعمل كل مؤمن عقله لإثبات صحة وصواب وواقعية اعتقاده، لما بقي على الأرض عاقلٌ واحدٌ مؤمنًا! ولو ثبت وجود الإله ومُراده من البشر، كما ثبت دوران الكواكب وحدوث الخسوف والكسوف، لما وُجِدَ على الأرض عاقلٌ واحدٌ مُلحدًا! فلو كانت الحقيقة ظاهرة ومُبرهنة لما اختلف حولها عاقلان! وإذا كان الأمر بحثٌ عن الحقيقة فليبحث كُلٌ بطريقته وقدراته! أمَّا أن يُكذِّبَكَ إنسانٌ مثلك بسبب ضعف حُجَّتك، فتَحسِبُ عليه تكذيبُه لك بمثابة تكذيبٍ مباشرٍ لإلهٍ أنت تؤمن به دونه، فذاك هو الجهل والوهم والتجهيل والإيهام! إن القول بوجود قوة خفية ذكية – وليُسَمِّها كلٌّ بحسب اعتقاده -، تقف خلف الوجود، وأن لها غاية من إيجاده، هو افتراضٌ لا معنى ولا حاجة لإنكاره، كما أنه لا مجال لإثباته! ليظل الاختلاف المؤكد والدائم والمنطقي، هو حول وجود الإله الشخصي أو الشخصاني، ذي المواصفات البشرية- الذي تدعو الأديان لعبادته وفق طقوس شكلية لا تفسير لها! وبنظرة متريثة محايدة للمشهد البشري في الساحة الكونية، يُمكننا ملاحظة أن: 1- الأديان تُمثِّل إجابة بدائية عن السؤال الأزلي..، فلا يمكن إثباتها وبذات القدر لا يمكن دحضها -، لأنها لا تعتمد المنطق بل تعتمد على ثقة بشر ببشر، ولا تحمل آيةً يمكن فحصها من قِبل الخصوم أو المتسائلين..، أما الآيات الكونية المُشَاهَدَة والتي يسوقها المؤمنون للتدليل على وجود الإله، فهي إن دلَّلت بصورة أو بأخرى على وجوده، فهي لا تُدلِّل على مُرادِه من البشر- وهو الأهم بالنسبة للبشر! 2- العِلمُ الباحث في وجود الإله، يُمثِّل إجابة غبية عبثية عن ذات السؤال، ذلك أن الباحث يَفترض قدرة المصنوع على إدراك صانعه، وهي ما أثبت العلم والعقل عبثيتها – كما في حال الإنسان مع ما يصنعه..، حيث لا يمكن للمصنوع إدراك صانعه إلا إذا شاء الصانع ذلك، وحينها لا يكون للمصنوع فضلٌ ولا يُنتظر منه جُهدٌ لاكتشاف صانعه..، فإذا افترضنا وجوب أن يبذل المخلوق جُهداً لاكتشاف خالقه، إذن فقد افترضنا وجود نوع من التنافس بينهما وهو ما لا يمكن أن يكون، وإن كان فيجب أن تكون النتيجة فشل المخلوق، أو بلوغه نتيجة مُبرمجة مُسبقاً مما يُفقد الموضوع جديته وأهميته! 3- الفكر الحُر يُمثِّل الآلية المتاحة والمُتبقية للبشر، والتي يُمكِن أن تكون مؤهلة للبحث في هذا المجال أو لبلوغ الإجابة، وليس معنى ذلك أن الفكر الحر قد يصل إلى إجابة مُحددة يتفق حولها الجميع، بل لأنه لا يبحث عن نتيجة موحَّدة تُلزِمُ الجميع..، ذلك لأن الفكر الحر يؤمن بالاختلافات الطبيعية بين البشر، ويحترم تلك الاختلافات! إن وجود الإله من عدمه ليس من أولويات الفكر الحر، فهذا الأمر وبرغم عظمته وأهميته إلا أنه يُمكن اعتباره تَرَفِياً قياساً إلى مدى وجود مسئولية للإنسان مُترتبة على وجوده هو وحياته..، إذ لو ثبت عدم وجود مسئولية للإنسان تجاه كائنٍ لا يعرفه، لأصبحت معرفته لذلك الكائن أمراً ثانوياً ترفياً! ومن هنا فإن السؤال الأساسي من وجهة نظر الفكر الحر هو ليس عن وجود الإله أو عن كيفية نشوء الوجود، بل السؤال عن المسئولية التي يُمكن أن تكون مُلقاة على عاتق الإنسان بسبب وعيه وإدراكه لسلوكه وممارساته..، وإذا أردنا أن نختصر رؤية الفكر الحر لعلاقة المخلوق بالخالق، فإنه يكفينا أن نُذكِّر فقط بحقيقةٍ منطقيةٍ بارزةٍ، مفادها أن الاعتقاد بوجود الإله ينفي إمكانية إدراكه، وعدم وجوده ينفي إمكانية إثبات عدميته! وبالمحصلة سواء اتفق أتباع الأديان والأكاديميون مع الفكر الحر أو اختلفوا معه، فإن عاقلاً لا يمكنه أن يقبل بتشبيه القوة الكونية المطلقة بطُغاةِ البشر الأسطوريين الهمجيين العابثين بالمنطق والقِيم، الذين يستعبدون الناس، ويتلذذون بضعفهم وخضوعهم وكذبهم..، حيث يُعذّبونهم ويُرغمونهم على وصف عذابهم بأنه حقٌّ من حقوق ذلك المَلِك أو ذلك الفرعون، ليستمتعوا بمشاهدة العاقل وهو في حضيض الانحطاط الأخلاقي، حين يصف عوَّزه وضعفه وذُلَّه والظلم الواقع عليه، بأنها قمة العدل والإنصاف – تزلفاً وخوفاً من أولئك الجبابرة الطُغاة-، مُقابل سماحهم له بمواصلة حياة الخِزي والخنوع والمهانة! 

 - كيف نشأ الأقوياء والضعفاء في المجتمع البشري- باختصار .. إن الفروق المعنوية الخفية بين البشر، يمكن اختصارها في فارق مادي واحد ظاهر بين الحيوانات، وهو فارق القوة! حيث إن النتيجة ذاتها، فسواء قوة بدنية مادية وما يُقابلها من ضعف، أو قوة معنوية كالذكاء وما يُقابلها من ضعف من جنسها كالسذاجة والغباء! تَنبّه الحُذاق والخبثاء من البشر مبكراً إلى العجز الطبيعي لديهم، وأدركوا خطورة الحرية الفردية على أطماعهم – لا على وجودهم! فابتدعوا خدعة الروح الجماعية، وروجوا لوجود قوة روحية خارقة ومكانة سامية تنشأ ويحصل عليها الفرد بقدر تضحيته من أجل الجماعة..؛ وشحذوا بذلك هِمم السُـذّج، وانطلت الحيلة عليهم، فأصبح الساذج-الذي ليس لديه ما يخسره .. يموت متطوعاً ويتألم راضياً، من أجل أفرادٍ لا يُضحون لأن لديهم ما يخسرون، وهم الأجدر بالتضحية والأحوج لها، وهم الذين لا يحبون من الساذج إلا سذاجته، ولا يعرفون عنه سوى تضحيته الجميلة من أجلهم..، حيث يحصل أن يموت الساذج جوعاً ويشبع ألماً وسط جماعته عندما تنتفي الحاجة لسذاجته! وتطور الأمر، بإضافة الحُذاق لعنصر الدين والقانون التنظيمي الاجتماعي، إلى معادلة الروح الجماعية، وذلك لسد العجز المتنامي في أعداد السُذج، وتعويض النقص بالأغبياء، فصار الأغبياء يُضحون لتحقيق أوهام الأذكياء، فنشأت القبيلة والطائفة، وأضحى الفرد فيهما يبغض ويُحب أفراداً لا يعرفهم – تلبية لرغبة ومشيئة أفرادٍ آخرين سلبوه فرديته، وأضحى يُبرر خضوعه وعبوديته وضعفه بقدسية الجماعة!

 . - الطبيعة توازن بين مكوناتها – باختصار .. أوجدت الطبيعة لدى الإنسان نقاط ضعف لم تضعها في سواه من المخلوقات، أهمها القابلية للوهم والرضوخ للتهديد، والشعور بالألم والرهبة منه قبل حدوثه، وإدراك الخوف..، مما أوجد لديه حاجة ماسة دائمة للشعور بالأمان! لكن الطبيعة وبحكم قانون التوازن ومعادلة الاستقرار التي تحكم العلاقة بين مكوناتها، فإنها بالمقابل قد منحت الإنسان نافذة لتصريف الخوف والألم لم تمنحها لسواه! حيث منحته الوعي بحتمية الموت مما يُقلل من قيمة الحياة في نظره، ومنحته القدرة على مغادرة الحياة! فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي بإمكانه الانتحار متى شاء، وذلك لدرء الألم الذي ليس بوسعه احتماله أو حتى انتظار وقوعه!

 - خالقٌ ومخلوق = سيِّدٌ وعبد، أَمْ مالكٌ ومملوك؟ لا شك أنَّ الفرق شاسعٌ بما لا يدع مجالاً للمقارنة بين أن نستعبد أحداً وبين أن نمتلك شيئاً! فهل يُعتبر الفرد البشري أحداً أم شيئاً – بالنسبة لإله؟ هل البشر إلى الإله هُم كأحدهم إلى الآخر، أم هُم بالنسبة له كالأشياء بالنسبة لهم؟ هل توقفنا ولو قليلاً عند الفرق الهائل بين الاستعباد والامتلاك..، لندرك الممكن من غير الممكن في علاقة البشر بآلهتهم المُفترضة، ولنتصور هل حقاً أن البشر يمكن أن يكونوا عبيداً لإلهٍ حقيقي وليسوا مُلكاً له؟ إنه لا يُوصف بالعبدِ إلا مَنْ كان بنو جنسه أحراراً، فكان هو بالأصل حُراً، ولا تزال إمكانية تحرره قائمة، وإلا صار مُلكاً وليس عبداً- صار شيئًا وليس وعيًا..، فهل تتوفر في البشر مواصفات العبيد؟ وقياساً إلى مَنْ أو إلى ماذا، يكون البشر عبيداً؟ هل يوجد في الوجود أحرار، كي يكون البشر عبيداً قياساً لهم؟ - الحرية قياساً إلى العلاقة بالإله! أم إنَّ كل الوجود هو مُلكٌ للإله الذي تتحدث عنه الأديان – على افتراض أنها تتحدث عن ذات الإله وليس عن أكثر من إله! والاستعباد لا يكون إلا بين أبناء الجنس الواحد، وإلا لقُلنا عن الإنسانِ بأنه سيدٌ مُستعبِدٌ لما يمتلكه من حيوانات ونباتات وأدوات! وإذن لقُلنا عن تلك الممتلكات بأنها عبيدٌ لمالكها الإنسان..، وهذا ما لا يكون! ليست الحرية نقيض المُلكية، إذ لا يسعى ولا يطمح المملوك إلى الاستقلال عن مالكه – الأمر الذي يفعله العبد! فالمملوك إن لم يكن مُلكاً لهذا المالك، أصبح مُلكاً لمالكٍ غيره، ولا قيمة للملوك دون مالك! لا قيمة للذهب إلا وهو مُلكٌ لبشر! يحق للمالك التفاخر بما يملك، ولا يُدركُ المملوك كُنه مالكه! يستطيع العبدُ أن يؤذي سيده، ولذلك يُسرُّ السيدُ بالعبد المطيع الأمين! بينما لا يكون للمملوك أن يؤذي مالكه، إلا بجهلٍ أو عن عمدٍ من المالك! لا فضل للمالك على ممتلكاته، وفضل الممتلكات على مالكها لا يُحسب لها رغم أنه حقيقة، ذلك لأن الممتلكات لا تعمل بمعزلٍ عن مالكها، ولا تُدرِكُ سلبيات ولا إيجابيات نتائج أفعالها على المالك! العبودية نقيض الحُرية، والحرية أصلٌ والعبودية عَارِض! فهل الصواب أن نعتقد بوقوع البشر في دائرة المُلكية، أم في دائرة العبودية.. قياساً إلى القوة الإلهية؟ بصورة أو بأخرى يعتقد جُلُّ البشر بأنهم عبيدٌ لإلهٍ اختلفوا في وصفه، واتفقوا على وصف كل ما عداهم في الوجود بأنها مُلكٌ لذلك الإله أو لتلك الآلهة! إنه وبغض النظر عن المرجعية التي يستند لها كل قوم في اعتقادهم- وهي مرجعيات متعددة مختلفة..، إلا أن ما يمكن ملاحظته بسهولة، وربما ينبغي للبشر الوقوف عنده وربما إلى الأبد، هو الأتي: 1- افتقار وخلو كل المرجعيات تماماً من أي برهان حي أو آية صريحة، تؤكد صحة تلك المرجعيات وتُكسِبها المصداقية! 2- القاسم المشترك بين كل المرجعيات هو ذاته السبب الأساسي في اختلاف البشر..، وهو اعتماد كل الأقوام على صدقِ ما قاله وما نُقِل عن رجلٍ واحدٍ منهم لا شهودَ له، وليس اعتمادًا على آية صريحة يحملها لهم..، وحيث إن نسبة معينة من قابلية البشر للوهم والخطأ، لا بد وأن تكون موجودة لدى كل إنسان– مهما صغُرت تلك النسبة واختلفت من إنسان لآخر – إلا أنها تبقى موجودة، وهو ما يُعرف بامتناع العصمة عن البشر..، ولأن كل البشر يمتلكون ما يُمكِّنهم من طلب الدليل من بشرٍ مثلهم، لذلك وجب على البشر التحقُّق مما ينقله بعضهم بعضاً..، فلو أراد باعث الرسالة أن يُصدِّق البشر المُرسلين دونما فهم أو تحقق مما يحملون، لبعث رسالته للبشر مع غير البشر، ولكان البشر حينها معذورين بتصديق ما لا يفهمون – رُبما! أما أن يُزوِّدُهم بجهازٍ كاشفٍ للوهم والخطأ، قادرٍ على طلب الدليل..، فيُطفئون أجهزتهم عمداً لكي يتوهموا، فذلك ما يستحقون عليه العِقاب حقَّا! وربما كان السؤال والامتحان ها هنا! 3- القول بأن الإله يختبر البشر بمدى تصديقهم لبعضهم، ثم إنه بعد ذلك سيُحاسبهم بنفسه على أنهم قد كذَّبوه هو! هو قولٌ يحمل كمًّا عظيمًا من المغالطات، بل ويصل حد الطعن في عدل الإله! 

 هنالك شروط أساسية مبدئية بديهية لا بُدَّ أن تتحقق في صُلب العلاقة بين البشر والإله، لكي يتوفر حد أدنى للمقارنة بينهم – لكي يُصبح استعباد الإله للبشر أمراً ممكن التحقق عملياً! نحن نعلم أن السيادة قوامها القوة أو القدرة، وأن العبودية سببها الضعف..، ونعلم أن السيادة والعبودية إنما تكون وتُقاس بحسب الفارق بين قوة القوي وضعف الضعيف..، فإذا بلغت قوة القوي حد الإطلاق، فذلك يعني أن ضعف الضعيف قد بلغ حد الإطلاق في الاتجاه الآخر..، وعندها تنتفي شروط السيادة والعبودية وتتحول العلاقة إلى مالكٍ ومملوك! في معادلة الإله والبشر، نحن نعلم حقيقة قوة وضعف أحد أطرافها.. وهو البشر، ولا نعلم قوة الطرف الآخر .. أي الإله! لكننا وبافتراضنا لنوع ومستوى العلاقة بين الإله والبشر، نكون قد وضعنا تصوراً لقوة الإله قياساً إلى قوة البشر..، ولأن أعلى مرتبة يمكن أن يبلغها البشر هي سيادة أحدهم أو بعضهم على بعضٍ آخر– بالرُغم من أنها مرتبة مذمومة)، ولأن أدنى ما يمكن أن يبلغه البشر وأكثر ما يخافونه هو الاستعباد والاسترقاق..، لذلك تصوروا أن يكون الإله سيداً وأن يكونوا له عبيداً..، متجاهلين أن الاستعباد صفة مذمومة من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يكون السيد والعبدُ إلا وكان الحد الأدنى من المقارنة بينهما متوفراً! إن في اعتقاد البشر بأنهم عبيدٌ للإله تضخيم لقيمِ ذواتهم، أو تقليلٌ من قدرِ الإله..، ذلك أنهم إنما يفترضون وجود وجهٍ للمقارنة بينهم وبينه، وهو الوجه أو المقارنة التي يتفق المؤمنون والملحدون جميعاً على انعدامها؟ إن الوجود بأسره – كما نعلمه – لا يحوي مُبررًا واحداً يجعلُ كائنًا حيَّاً يرضى بأن يكون عبداً- ناهيك عن أن يُفاخر بعبوديته..، إلا أن تكونَ روحه الذُلُّ وجسده الهوان، فيكون قوامه الخزي ولا مكان للكرامة في كيانه..، وهذه المواصفات إن وُجِدتْ، فإن السيد الكريم يأبى أن تربطه بحاملها علاقة بأي درجة أو معنى من المعاني! نتيجة.. نخلص إلى القول بأننا إذا سلمنا بأن البشر عبيد للإله، فإن ذلك يعني أننا قد افترضنا وجود وجه للشبه، وحَدٍّ أدنى من المقارنة بين قدرة الإله وقدرة الإنسان..، وهو الأمر الذي يُفرغ كل المفاهيم الدينية من مضامينها- حول القدرة المطلقة للإله!.. وهذا أمر يرفضه المؤمنون، وتنفيه أديانهم، كما يرفضه العقل والمنطق! وبالمقابل إذا سلمنا بأن البشر شيء من مُلك الإله- وتلك حقيقة ملازمة لوجود الإله-، فإنه يترتب عليها الاعتقاد بأن أفعال البشر جزءٌ لا يتجزأ من إرادة الإله ومشيئته، وجزء من وجودهم الذي لا يمكن أن يكونوا مسئولين عنه..، وبذلك يُصبح احتمال معاقبة الإله للبشر، هو كاحتمال معاقبة صانع الحاسوب لحاسوبه! ونقول.. لعل الحاجة كانت أباً للذُلِّ قبل أن تكون أُمّاً للاختراع

الخميس، 6 فبراير 2020

الرسالات (السماوية) والعقل ومعضلة سؤال الأزل !(2)

0 تعليق



ما خصوصية البشر، ولماذا هم هنا، وماذا بعد الموت؟ ثلاثٌ من وسائل المعرفة: الرسالات (السماوية)، والنظريات الفكرية الأكاديمية، والأفكار الفردية " المحايدة" التي تنطلق من الصفر! هذه الوسائل التقت وحاولت وتوقفت عند السؤال الكبير..، ونقطة الالتقاء، هي التساؤل حول: المسبب والسبب المنطقي، الذي يقف خلف هذا الوجود الثانوي ذي المشهد العبثي للإنسان! الرسالات (السماوية) انفردت بعملية إلزام البشر بنتائجها! وعملية الإلزام هنا موضع تساؤل! وبقاء الجزء الأدق من الجواب غامضاً، والجزء الأهم من السؤال قائماً،.. يمثل نقطة ضعف مشتركة بين المحاولات الثلاث حتى اليوم! .. انتهى ملخص الجزء (1)!

الجزء الثاني .. هل نفهم ونقبل معنى أن يُخاطب الخالق ويهدي بعض البشر دون غيرهم! الحواس والعقل والفطرة، والاحتياجات والرغبات والمخاوف المشتركة بين البشر، هي معطيات طبيعية تجتمع لتُشكّل في مجملها المنطق البشري العام، الذي تنطلق منه وتحتكم له كل النظريات العلمية والفكرية الفلسفية، ونتائجها! وكل نظرية يرفضها هذا المنطق فإن الإيمان بها يُعدُّ شذوذاً وحالات خاصة لا يُقاس عليها! ومن بين وسائل المعرفة الثلاث التي نتناولها هنا، نجد أن الرسالات (السماوية) وحدها التي لا تقبل بتمرير نظريتها على المنطق البشري العام، رغم أن العقل هو الأساس فيها، فهي لا تُخاطب غير العقلاء! كما نجد أنها لا تقبل تصديقها بنسبة ( 99%) ، كأن الشك بنسبة (1%) يمكن أن يهدم بنيان الإيمان وأسس الرسالات! وبالمقابل فهي لا تُقدم من البرهان ما قيمته (1%) لإثبات منطقية وعقلانية نظريتها! فكل ما تطلبه وما تقبله الرسالات (السماوية) هو درجة نجاح نهائية دون دخول الامتحان! قلنا إن الرسالات (السماوية) تنفرد بإكراه البشر على اعتناقها- ترغيبًا أو ترهيبًا-، وكذلك فهي تنفرد بالقول بأن الخالق قد يُخاطب بعض البشر دون غيرهم، وقد يهدي البعض دون الآخرين ..، وتتجاهل علامة الاستفهام الكبيرة البارزة! فهذا التخصيص يتنافى مع مبادئ العدل والإنصاف والحق- من غير أدنى شك- فليس من سمع كمن رأى، وليس مَن سمع من المصدر مباشرة كمن سمع بالخبر بعد آلاف السنين! ولا يمكن لأصحاب هذا المنطق تبريره إلا إذا كانت الرسالات (السماوية) ليست مُلزمة إلا لمن أرسلت لهم ومن هداهم الإله لها! أما القول بأن رسالة تُبعث إلى قوم، فتصبح حُجة على غيرهم، وحُجّة على من لم يستطع فهمها منهم وعلى من لم يهده الله لفهمها واعتناقها، فهذا قول مدحوض من غير شك، ولا يحتاج حتى لكلمة واحدة لإثبات انحرافه عن الصواب! ولعل من أهم التساؤلات التي لا يستطيع العاقل إلا أن يقف عندها، هو: كيف يمكننا أن نفهم رسالة سماوية معززة بمعجزات خارقة- من قبيل مولود بدون أب، وإنسان يُحيي الموتى، وغيرها-، .. كيف لمعجزات بهذا الحجم، أن تكون قد حدثت لأجل إثبات أمر لقوم معدودين ولفترة زمنية محدودة، ثم ما يلبث الأمر بعدها أن يتحول إلى خبر بين الحقيقة والخيال، حيث تحدث الفتن والتزوير والاختلافات بشأنه وبعده مباشرة- في وقت كان فيه عدد البشر قليل، وإثبات الأمر ونشره بينهم يسير-، إلا أن أثر المعجزة وتأثيرها يختفي بهذه السرعة..، مما يستدعي بعث رسالة أخرى بعدها بـ 500 سنة، وهي فترة زمنية قصيرة قياسًا لحجم المعجزة السابقة! 

 - أخلاق الإنسان وكرامته، ربما كانت مفاهيم مبتدعة لأغراض بشرية آنية! الكرامة منتهكة بالفقر والضعف والاستعباد إلى أبعد حدٍّ في حياة الأغلبية العظمى من البشر؛ حتى أنه لا يوجد ما يمنع من القول بأن الأخلاق والكرامة البشرية المشتركة هي أسطورة من تأليف الحُكّام والأغنياء من أجل إخضاع وتجنيد الأغبياء وتحفيز البُسطاء لمقاتلة أعداء السادة والأغنياء! فالمنطق يقول إنه ليس لدى الفقراء والبُسطاء والضعفاء ما يخلق لهم أعداء؛ وليس لديهم ما يخسرونه ليُدافعوا عنه، فليس لديهم أي حافز أو دافع للقتال؛ وربما من هنا اضطر الذين لديهم ما يخسرون، إلى ابتكار أسطورة الأخلاق والكرامة الإنسانية المشتركة، والحقيقة أنه لا روح ولا جسد للكرامة في حياة المجندين باسمها والمدافعين عنها! إن مفهوم المجتمع الأخلاقي المسئول، هو مفهوم يُشير إلى حياة نظرية مثالية، لا واقعية، لا فطرية، ولا أساس لها في نفوس المخلوقات جميعاً .. بما في ذلك البشر! ولكن انتفاء مفهوم الأخلاق في مجتمعات الحيوان، واعتقاد البشر بتميّزهم بالوعي والفكر، جعلهم يتصورون إمكانية أو ضرورة تحقيق مجتمع الأخلاق! والواقع أن القوانين الطبيعية التي تحكم علاقة الأفراد داخل كل أمة أو كل صنف من أصناف الحيوان أو الطير، هي أقرب إلى الأخلاق الحقيقية التي يدعيها البشر وهم عنها بعيدين كل البعد! فبالنظر إلى علاقة الأفراد داخل خلية النحل أو جماعة من النمل، أو عائلة من الأفيال أو غيرها، .. فإننا سنلاحظ الالتزام بالعرف والتعاون والمودة متوفرة بينها، وسنلاحظ أن عدوها الذي تحذره وتقاتله هو الآخر الذي ليس من صنفها! تجدر الإشارة هنا إلى أن الإنسان يُصنّف بين المخلوقات كصنفٍ واحدٍ .. وليس أنا وآخر..، ومع ذلك نجد سوء الظن والعداء والبغض، والأنانية وغياب المودة وانعدام الصدق، حتى بين أفراد المجتمع الواحد، بل حتى بين الأشقاء في المجتمع البشري، ولا نجد ذلك بين أفراد أمة الضباع أو أمة الذئاب! ولعل قول البشر : إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب؛ هو إشارة صادقة – عن غير قصد – مفادها أن الذئاب تأكل غيرها ولا تأكل بعضها، بينما البشر يفعلون! لذلك نجد أن النتائج المرجوة والمفترض تحققها بالأخلاق – من أمن وأمان وأمانة – ، هذه النتائج نجدها تتحقق في المجتمع البشري جزئياً وتحت الحراب والحراسة والسلاح والتهديد والأبواب والأقفال والعقوبات – بما فيها القتل؛ ولم تتحقق يوماً بدافع أخلاقي ذاتي على مر العصور،.. أي أن البشر مهيئون ومستعدون وجاهزون دائماً للفوضى والعبث والظلم ونهب واغتصاب حقوق الآخر وبناء الأنا على حسابه؛ فحتى الذين يُساعدون الضعفاء والفقراء فهم في الحقيقة يفعلون ذلك بدافع الشعور بالتفوق! أما الأخلاق والنظام واحترام حقوق الآخرين والاكتفاء بتلبية الاحتياجات .. فهي دخيلة على النفس البشرية ومفروضة عليها ومرفوضة عندها بالفطرة! والأمانة هنا تُحتّم على البشر الاعتراف بأن أخلاقاً تفرضها القلة القليلة لتستمتع بحياة جميلة هادئة، وتفرضها بمعادلة القوة والضعف والحاجة، بينما يرفضها ويخترقها السواد الأعظم من البشر بمعادلة الخداع والنفاق واستغلال غياب الحراسة..، أخلاق كهذه لا تؤهل الإنسان لادعاء الفضيلة والكرامة والرُقي عن مجتمع الغاب، ولا تؤهله لأن يكون الكائن المكرّم والمتصل مباشرة بمنشئ الكون ومصدر الأخلاق! أعتقد أن الذين يدعون إلى الأخلاق من البشر، هم شريحتان: شريحة بيدها القوة، فيفرضون الأخلاق على غيرهم، ليهيئوا لأنفسهم بيئة تناسب أذواقهم وتُحقق رغباتهم ..، بينما لا يلتزمون هم بهذه الأخلاق إلا بالقدر الذي تستوجبه مصالحهم الخاصة! ولا مجال ولا قدرة للشرائح الأخرى على مراقبتهم أو إلزامهم بالأخلاق! الشريحة الثانية هم أولئك الذين وجدوا أنفسهم في بيئة متحضرة ومنعمة ومستقرة وآمنة، فتوافقت الأخلاق مع أوضاعهم المادية والاجتماعية، فاعتقدوا أن الأخلاق عنصر طبيعي أساسي في حياة البشر وسعادتهم..، فأصبح بالنسبة لهم نقيض الأخلاق أمراً شاذاً. بالنتيجة نجد أن أبناء وأنصار هاتين الشريحتين هم فقط المسيطرون والمنعمون من البشر، وهم في الواقع استثناء، لا يمثلون نسبة يُقاس بها المجتمع البشري! فالسواد الأعظم من البشر هم الفقراء والمغلوبون على أمرهم والعابثون والمتمردون على القانون كلما سنحت الفرصة! - الإنسان ليس استثناءً بين المخلوقات، إنما لكلٍ وظيفته في الطبيعة.. هنالك قاسم مشترك يظهر جلياً في كل أو في جُل المحاولات التي سعت وتسعى للإجابة عن السؤال الكبير: ما خصوصية البشر، ولماذا هم هنا، وماذا بعد الموت! هذا القاسم المشترك هو النظر من الزاوية التي تعتبر الإنسان بمثابة العنصر المركزي في الوجود، والكائن الأخلاقي المُكرّم دون غيره! حيث ترتب على هذا الاعتبار غير المبرر، ظهور فرضية غير مُبرهَنة، تحولت مع الزمن إلى مُسلّمة غير محققة..، مفادها ضرورة وجود رسالة مقدّسة لأحد المخلوقات وهو الإنسان، مما يعني ضرورة وجود علاقة خاصة ومباشرة بين مُنشئ الوجود وبين الإنسان – باعتباره العنصر الأهم بين المخلوقات على الأرض. فأصبحت العلاقة ثابتة لا شك فيها، وتركز البحث على برهان يُثبتها، ونظرية تُحدد آلية الاتصال ونتائجه بين الإنسان والخالق! ولا شك أن هذه الفرضية قد بنيت على اعتقاد الإنسان القديم بأن الأرض هي مركز الكون، وأن الكون ليس سوى ما يراه ويعلمه كل الناس في ذلك الزمان! - الأبناء يُقدّسون أوهام الآباء.. العلاقة بين الخالق والإنسان، بُنيت أساساً – كما أسلفنا – على فرضية غير مبرهنة، نابعة ربما من مقارنة الإنسان لنفسه بما حوله من مخلوقات، وترتب على هذه الفرضية اعتقاد الإنسان بأنه مسئول ومحاسب أمام الله .. دون غيره من المخلوقات! ونتج عن هذا الاعتقاد شعور لدى الإنسان بأنه يحمل قيمة في ذاته، وأن أقواله وأفعاله مراقبة بشكل مباشر من قِبل الخالق، وأن له من المكانة والتأثير والوزن الوجودي – الذي يجهله حتى اليوم- ما يقترب من النديّة مع الخالق، حتى أن الإنسان بات يعتقد أن بإمكانه أن يُغضب الخالق ويرضيه، وأن يجحد بوجوده وقدرته، وأن الخالق يفرح ويكافئ بالجنة من يعترف له بالوجود من البشر..، مما يعني تفرد الإنسان بمكانة لا تنبغي لسواه من المخلوقات من حوله..، تصل إلى قدرته على مواجهة الخالق ورفض طاعته، وهو الأمر غير المقبول وغير الممكن منطقياً وفطرياً وموضوعياً! فالحقيقة أننا سواء رجعنا إلى التاريخ أو تقدمنا بالخيال أو نظرنا من حولنا، بحثاً عن أرضية لتلك العلاقة الخاصة والمباشرة بين الإنسان الضعيف المريض الفقير التائه العابث، وبين خالق الكون، فإننا لن نجد لها أساساً تُبنى عليه، إذ لا وجه للمقارنة بين خالق ومخلوق .. بداهة.. وإذا بحثنا عن القيمة والحُرمة والقداسة والكرامة – المُقاسة إلى المطلق، والتي يدعيها البشر لأنفسهم، فإننا كذلك لا نجد لها مستنداً واحداً يدعمها! وكل ما يمكن أن نجده في هذا الصدد، هو أن البشر ليسوا متساوين من حيث طاقة الوعي و سِعة الخيال والقدرة على التفكير، وهي الفروق التي تُختصر في فروق الأحجام المادية والقوة البدنية والضعف .. في حال مقارنة الكائنات عموماً! والحقيقة التي لا تقبل الجدل على طاولة المنطق والعقل، هي أن قانون القوة والضعف هو الذي يحكم العلاقة بين كل المخلوقات في نهاية مطاف كل علاقة! وتعدد وجوه القوة والضعف بين مادي ومعنوي لا ينفي هذه الحقيقة! فالفروق البينية الخاصة بين البشر، مكّنت بعضهم من السيطرة والتحكم في البعض الآخر، مما أذهل الأخير، وجعله يعتقد بوجود قوة خارقة خفية يستمد منها هذا البعض المسيطر قوته وقدرته على السيطرة! ومن هنا ظهر الاعتقاد بوجود علاقة واتصال مباشر بين الإنسان والخالق. وساد الاعتقاد بأن البشر المتميزون لابد وأنهم مهيئون ومكلفون بتنفيذ أوامر السماء على الأرض! ولكن الحقيقة ربما كانت عكس ذلك تماماً، فبالرغم من أن جُل البشر لا يقبلون بفكرة نشوء الوجود دون مغزى ودون منشئ ذي إرادة، إلا أن قوة البشر المسيطر كانت ولا تزال نتيجة حتمية لضعف البعض الآخر.. ليس إلا! فالضعفاء هم الذين اخترعوا وطوروا فكرة الاتصال المباشر بين الخالق والإنسان بسبب وقوعهم تحت تأثير الغبن. فلكي يحطوا من قدر الأقوياء، أوهموا أنفسهم بأن ضعفهم وقوة الأقوياء ليست ذاتية، بل هي نابعة من ذات المصدر الذي هو القوة الخفية الخارقة..، وأن كلاً منهما مكلف برسالة لا يمكن أن يؤديها الآخر! وذلك ليُبرروا لأنفسهم وجودهم الضعيف المهين- قياساً إلى بشر مثلهم-، فيُقللوا بذلك من الأثر السلبي للفارق الكبير الذي نشأ بين الضعفاء والأقوياء! أما الحقيقة فإنه لا توجد رسالة معلومة للإنسان يؤديها تجاه الخالق..، بل إنه أساساً لا يمكن أن توجد رسالة يستطيع مخلوق أن يؤديها، فيستفيد أو يتضرر منها الخالق .. حتى يُعاقب الله الإنسان أو يُثيبه مباشرة! وحاضر الحياة وتاريخها يشهدان ويشرحان بالتفصيل الممل، كيف أن كل المخلوقات وعلى رأسها الإنسان، إنما تكافح وتجِدُّ لأجل مصالحها الآنية، ولأجل أن تبقى على قيد الحياة أطول مدة ممكنة لكي تستمتع بها وفق ما يُشبع غرائزها، لا من أجل أداء رسالة تعلمها! أما القول بأن الله خلق الإنسان ومكّنه من الطاعة والعصيان، فهو قولٌ ميتٌ تعوزه الروح أساساً. إذ أنه حتى الذين يُسمّون بالكفار والملحدين، فهم لم يكفروا بإله خالق يعلمون أمره لهم، ويُدركون واجبهم تجاهه، بل هم كذّبوا بشراً مثلهم، بسبب ضعف الحُجّة لدى المبلغِين! فالكافر والملحد أو السائل، لا يقول إنه يعلم وجود الله، ويعلم ماذا يريد الله منه ولكنه يرفض الطاعة..، بل هو يتساءل عن مصداقية وحقيقة أمر يقول به بشر! .. فأين معصية السائل لله هنا! أما المؤمنون الذين يُجرّمون الكفار ويبغضونهم ويقاتلونهم بسبب عدم إيمانهم، فإنهم إنما يُعظّمون أنفسهم، ويضعون ذواتهم مكان الإله! وهم مخطئون بذلك حتى لو كان إيمانهم ورسالاتهم صحيحة! فإذا كان الله قد مكّن الإنسان من الطاعة والعصيان، فلنفترض – وعلى مقياس المؤمنين – أن بعض الناس اختاروا الإيمان وبعضهم اختار العصيان.. وكلٌ منهما يرى نفسه على صواب.. فما شأن الإنسان باختيارٍ إنسان مكّنه الله منه..، مع التذكير بأنها فرضية خاطئة ومجحفة. فالذي لم يؤمن بالأديان، إنما يطعن في مصداقية البشر الذين يقولون بها، ولم يقل إنه يكفر بالله..، والذي يغضب منه إنما يغضب لنفسه وكبريائه هو، ويحسب ذلك على الله. ووفقاً لإيمان المسلمين فإن آدم قد عصى ربه، وأن الملائكة كانت حاضرة عندما عصى إبليس ربه، ولكنها لم تتدخل لنصرة ربها، ولم يطلب الله منها ذلك، مع أن المعصية كانت علنية وصريحة! فهل يُنظِر الله آدم وإبليس اللذين لا حُجّة لهما في المعصية، ويطلب من البشر نصرته بقتل بعضهم للبعض الآخر، الذين كل ذنبهم أنهم لم يُصدّقوا كلام بشر لا دليل على صحته!

الأربعاء، 1 يناير 2020

الرسالات (السماوية) والعقل ومعضلة سؤال الأزل!(1)

0 تعليق



ما خصوصية البشر، ولماذا هم هنا، وماذا بعد الموت؟ هل سيُعذب الخالق مخلوقاته؟ لماذا وكيف؟ - مؤمن طائفي، يتساءل، مستعرضًا ومتباهيًا بإيمانه: هل تعلم بأن الله سيجعل عذاب الحريق مصيراً أبدياً لبعض البشر- وهم الكافرين، وأنه سيجعل الجنة مقاماً خالداً لبعضهم الآخر- وهم المؤمنين حَقّاً؟ - مؤمن متحرر من قيود الفقه الطائفي، يُجيبه: أولاً: لاحظ أنك مُضطرٌ لاستعمال كلمة "حَقّاً"، وذلك اعتراف منك بأنه لا يوجد شيء واحد محدد متفق عليه اسمه الإيمان، إنما توجد معتقدات متعددة مختلفة، من الصعب نسبتها إلى إله واحد، وكل معتقد يعتبره أتباعه السبيل الصحيح للإيمان الحق..؛ فلو كان ما تقوله صحيحًا، أو لو كنت تُدرك ما تقول، لكان الإيمان أمرًا واضحًا في متناول كل البشر، ولكان المؤمنون أُمَّةً واحدة..، لكي تقوم الحُجَّة على غير المؤمنين، ولكي يكون وضوح العقاب متناسبًا مع وضوح الإيمان..، فليس من المعقول أن يتفق المؤمنون على نوع وحجم العقاب والثواب بهذا الوضوح، ويختلفون على نوع وحجم الإيمان الصحيح! لكن، وعلى افتراض أنَّ ما تقوله وتؤمن به، هو صحيح وبهذه الصورة..، فهل من العدل أن يُعذِّب الله مؤمنًا بسبب خطأ غير مقصود في إيمانه – لأنه انتمى إلى الدين أو الطائفة الخطأ عن غير قصد! وما الفرق إذن بين المؤمنين المخطئين في إيمانهم، وبين غير المؤمنين..، أليسوا جميعًا سيُعذَّبون – بحسب اعتقادك؟ وأين العدل في ذلك، أليسوا جميعًا يعتقدون أنهم يفعلون الصواب؟ فهل النار التي تتحدث عنها هي عقاب للناس بسبب جهلهم وعجزهم عن إدراك الحقيقة؟ وهل الجنة هي مكافأة لمن حالفهم الحظ بالصدفة؟ أنا أعلم أنه يوجد بين البشر جُهلاء، لكن لا أتصور أن يبلغ الجهل بالبشر مبلغًا يجعلهم يعتقدون أن بعضهم يرفضون الجنة ويطلبون النار – بحيث يكفرون وهم يعرفون أن الكفر سيُدخلهم النار، وأن الإيمان سيُدخلهم الجنة! ثانيًا :ولأنك تؤمن بالطائفية، فإنك لن تستوعب ولن تُحسن الحديث عن الإيمان العام للبشر وعلاقة المخلوقات بالخالق، لأنك مُبرمج فقهياً ولست حراً فكرياً! فأنت لا تعرف الدين إلا كما يصفه لك آخرون – كما حددوا لك طائفتك التي لا يمكنك تغييرها! فإيمانك هو صناعة بشرية وصدفة ثقافية تربوية جغرافية تاريخية..، فهو إيمان بالفقه الذي هو فكر بشري لا عصمة ولا قداسة له! فأنت تعبد إلهًا لا تعرفه، ولا تعرف حقه عليك إلا بواسطة آخرين، وهذا نوع من الشرك؛ كما أن إيمانك يحوي تطاولاً على الخالق، واتهام له بأنه سيُحاسب الناس على أمورٍ لا يفقهونها، وأنه هو الذي قدّر ألا يفقهها سوى البعض منهم! وبحسب إيمانك، فإن الله ينبغي أن يُكافئ الفقهاء والأهل والحكومات، فهم الذين لقنوك الإيمان وألزموك به، ولا فضل لك إذا صح إيمانك! وأما إذا ما كُنت مخطئاً في إيمانك وما ترتب عليه من سلوك وممارسات..، فلا أدري كيف تتصور أنت الأمر! هل سيُحاسبك الله لأنك لم تستعمل عقلك الذي يُميّزك عن غيرك من المخلوقات؟ أم أنه سيُحاسب أولياء أمرك؟ ثالثًا: إنه من الغباء والحمق والجهل أن يُصدِّق الإنسان بأن الخالق سيُعذّب إنساناً بسبب عدم معرفته به، أو بسبب تكذيبه لبشرٍ لا يحملون آية مقنعة، وهو لا يعرف أنهم رُسُل من الإله! أو أن الله سيُكافئ إنساناً على فعلٍ هو الذي مكّنه من فعله! - فتساءل الطائفي: كيف تطعن في حقيقة يؤمن بها حوالي أربعة مليارات إنسان عاقل ..، يقصد المؤمنين من جُل أو كل الأديان المعروفة بالسماوية! - أجابه المتحرر: وكيف آمنت أنت بحقيقة يؤمن بها مليار من البشر فقط (يقصد المسلمين)، بينما يطعن فيها خمسة أضعافهم من البشر العقلاء – أيضاً؟ إنه لا يُمكننا وليس من حقنا أن نتخذ من إيماننا ذريعة لوصف كل من كفر بما نؤمن به بالغباء! فهو إنسان عاقل مفكر، ولكنه واقع تحت تأثير حب المعرفة وصدمة العجز المعرفي – ذلك الذي أعلن اعتقاده بعدم وجود خالق مُنشئ للكون أو للوجود المنظور! ولكننا نستطيع، بل وينبغي أن نصف بالغباء كل من يعتقد بأن الخالق بذاته، هو من سيُعذب مخلوقاته العاجزة بسبب جهلها به! لا يُمكن لعاقل طبيعي (غير مؤدلج) أن يُصدِّق أو يتصور بأن الخالق سيقف أمام مخلوقاته متفاخراً ومتحدياً، فيُكافئ قسماً منها، ويُعاقب القسم الآخر ..، إنه لا بد أجلُّ من ذلك وأسمى وأعلى وأكبر وأعظم! فسأل الطائفي: وكيف تتصور العقاب والثواب إذن؟ فأجابه المتحرر: أما الجواب الصريح والكامل، فهو يحتاج إلى منبرٍ حرٍ بالكامل، وفي مكان خالٍ من الوهم والواهمين، ويسمعه كل البشر في وقت واحد، وهذا ليس متوفراً على الأرض، وربما توفر مستقبلاً من على سطح كوكب آخر! ولا شك أنه سيوجد من يُجيب عن سؤالك حينها، أو أن كل البشر سيكونون يمتلكون الجواب آنذاك! أما ما يمكنني قوله لك الآن، فهو أن كل البشر الذين أراهم أمامي وأنا أولهم، ليس بينهم من هو أهل للجنة ولا للنار، وأرى أنهم ليسوا أهلاً سوى للشفقة! ولكن، وفي ضوء المعتقدات الدينية السائدة، وتماشياً معها واحتراماً لمشاعر المؤمنين، فإنه ربما يُمكننا أن نتصور العقاب والثواب على أنه تبادل للأدوار بين المخلوقات وفق معادلة كونية منطقية، لا يخرق ناموسها إلا من وضع قانونها وخلق عناصرها! فإذا كان الظلم والسيطرة اليوم من نصيب بعض البشر، على حساب بقية البشر وعلى حساب النار والحجر! فإن السيطرة غداً ستكون للنار، على حساب بعض البشر، فتحرقهم كما أحرقوا هم غيرهم اليوم!
: النفس العارفة، وتساؤلات الأزل!
 المؤمنون بإله الأديان يعتقدون دون أدنى ريب، بأن أمر الله هو كن فيكون؛ ومع ذلك فهم يستعظمون مخلوقاته، ويرون في خلقها آية معجزة كأنهم يقيسون بمعايير البشر، إذ يختزلون إيمانهم بقدرته اللا متناهية، في خلقه لسمكة عجيبة الشكل، أو في دورة حياة بعوضة، أو جبل شاهق، الخ! فما أن يكتشف العلماء -غير المؤمنين عادة- سراً من أسرار الطبيعة، حتى يُبادر المؤمنون مهللين "سبحان الله"، وكأنهم بهذا الاكتشاف أو ذاك- فقط، تأكدوا من صحة إيمانهم وعظمة إلههم! فالمفارقة هنا واضحة وكبيرة، وتؤشر إلى تردد أو ضعف في الإيمان لدى أولئك المؤمنين..، لأنه لا مكان ولا معنى لأنْ يُعظّم الإنسان صانعاً بإحدى مصنوعاته، إذا كان مؤمناً متيقناً بأن ذلك الصانع قادر على صنع كل شيء، وأن ذلك المخلوق وسواه ما هو إلا نتيجة لأمر كن فيكون! ولعلنا لا نذيع سراً ولم نأتِ بجديد، إذا قلنا إن أي معادلةٍ يكون عناصرها خالق ومخلوق، أو الله والإنسان، فإنها لا يمكن بأي حال وبأي معنى أن تمنح الإنسان أو تقرّبه من قيمة الندّية في مقابل الله! فالإنسان في مقابل الله، هو أقل من أن يكون شيئاً، لكي يُغضب الله أو يُرضيه، ليستحق ناره أو جنته - كعقاب أو ثواب؛ وهو بالتالي ليس مؤهلاً سوى للشفقة وفق هذه المعادلة! المعادلة وعناصرها صحيحة، بحسب كل الأديان والطوائف والمذاهب..؛ والحديث هنا – عن ومع – البشر الطبيعيين الذين يستعملون العقل لفهم الأمور، حيث العقل هو سبيل التواصل وضمان التفاهم بين العقلاء! أما الذي يرفض العقل، ويستعمل بدلاً منه نظرية (عنزة ولو طارت)، فليس من العقل محاورته! العقلاء يعلمون أن المعادلة السابقة صحيحة، وإذا كان لدى البعض منهم اعتراض على النتيجة، فإننا ندعوهم لإلقاء نظرة متأنية على المشاهد البشرية من حولهم، ثم يحكموا بأنفسهم ..؛ فمن ذا الذي لا يعلم أن جُل المجتمعات بملايين ومليارات البشر، يُسيّرها ويُحدد مصائرها أفراد من البشر، تحت ضغط الحاجة وقلة الحيلة وانعدام البدائل – خاصة وأن الإنسان ليس مهيأً لأن يعيش منفرداً مستقلاً عن الجماعة، لكي يكون العدل قائماً في تحميله المسئولية عن سلوكه وممارساته-، فالإنسان يجد نفسه سجيناً لأمرٍ واقعٍ، لا دخل له في تكوينه ولا طاقة له على تغييره! وقد عاشت أجيال وأجيال من البشر واندثرت، وهي ترزح تحت حكم فرد أو أسرة واحدة! فهل هذه المليارات من الغثاء البشري الممتد على ضفاف العصور..، هل هم مؤهلون لمواجهة الله لمحاسبتهم، وحرقهم بالنار أو مكافئتهم بالجنة..، إن تلك الجموع البشرية السطحية التي تؤمن أو تكفر بحسب المعجزات الخارقة لسطحيتها، سواء كانت المعجزات قد جرت على يد رسول أو على يد ساحر- لا فرق؛ فالبسطاء الذين كانوا يؤمنون بما يقوله السحرة في عصر فرعون قبل ظهور موسى، ثم آمنوا بموسى عندما هزم السحرة، هم في الحقيقة كانوا مع الأقوى بسبب ضعفهم وسطحيتهم، ولم يكونوا مع الأصح، لأنه لا مرجعية لديهم يقيسون بها الصواب من الخطأ، سوى القوة والضعف! فهذه أو تلك الجموع البشرية التي اتبعت الرُسُل واعتنقت أديانهم كرهاً أو طوعاً، أو التي وصلتها أديان محرّفة فلم تدرِ أين الصواب من الخطأ، أو التي أُجبرت على اعتناق أديان حُكامها! هذه الزوائد البشرية العالقة طوال حياتها بأوامر الأقوياء من حولها، والتي لا تقوى على رفض أوامر أفراد من البشر- حُكام أو فقهاء..، هل هي في مستوى ثواب أو عقاب إلهي، وهل تستحق الجنة لضعفها، أم تستحق النار لجهلها! وهذه الجموع تشكّل كل البشرية، وعاشت وتعيش تحت قيادة ورحمة وشفقة أفراد من البشر ..، فكيف يكون الحال، عندما يكون الحديث عن فرد من هؤلاء الرعاع في مقابل خالق الكون! أي وجه للمقارنة، وأي فلسفة وثقافة، وأي غباء ذلك الذي يضع هذا المخلوق الضعيف الجاهل اللاهث خلف لقمة العيش في كفة، وخالق الكون الذي أمره كن فيكون في الكفة المقابلة! هل يتصور العاقل، أن يُحاسب الضعيف من أي ملة كانت، على النزعات الغريزية والثقافات البشرية التي وجد نفسه أسيراً لها، والتي حددت سلوكه وممارساته رغماً عنه! هل يُحاسب على الفقر وعدم اتفاق البشر ومنافساتهم التي اضطرته للتحايل والخداع والكذب والنفاق والغش والرياء.. درءاً للألم، وتمسكاً بالحياة التي يقول الفقهاء إنه لا يحق للإنسان التخلص منها 
 .
النفس العارفة … هو مصطلح فلسفي قديم استعمله الفلاسفة والمفكرون، واستعملوا نقيضاً له مصطلح النفس الجاهلة! وهم بذلك قد حصروا كل أنماط الإنسان في ثنائية العارف والجاهل، من حيث وعي الإنسان وقدرته على فهم ذاته وتحديد موقعها ورسالتها في الوجود! وهي محاولة ضمن محاولات الإنسان المتكررة للإجابة على تساؤلات الأزل، التي أرّقت الحكماء منذ الأزل، وحافظت على حداثتها في كل عصر،" ما خصوصية البشر، ولماذا هم هنا، وماذا بعد الموت"؟ وأعتقد أن هذه المحاولة لم تختلف عن غيرها من حيث النتيجة! إذ لا تزال التساؤلات قائمة صامدة ترفض اعتبار مثل هذه المحاولات إجابة لها! وأعتقد أن تساؤلاتنا الأزلية هذه، قد عصفت بنظرية النفس العارفة، وأجبرت الجميع على حمل هوية النفس الجاهلة، بسبب إصرارهم على إغلاق الأبواب أمام أنفسهم، وعدم إفساح المجال أمام الفكر للبحث عن بدائل! لقد عجزت النفس العارفة عن الإتيان بإجابة يقينية لهذه التساؤلات؛ واكتفت بالسفر في ربوع الخيال، لتعود محملة بصورٍ بديعة لأحلامٍ جميلة، كدليل على خصوبة الخيال ليس إلا؛ إذ لا برهان على صحة رؤاهم ولا مجال لتحققها! وكمحاولة للتملّص من لعنة الفشل وصدمة الواقع، أوهم الحالمون أنفسهم بأنهم عارفون، ونعتوا غيرهم بالجاهلين، ونسجوا على مقاسهم مصطلح النفس العارفة! ومن وجهة نظري المتواضعة، فإن التثنية التي ترتكز عليها هذه النظرية، لتصنيف النفس البشرية، هي ليست الخلل الوحيد الذي يعتريها، ولكنها -أي التثنية – تشكل الخلل الأكبر والأبرز في هذه النظرية! فالثنائية، هي تصنيف مصطنع قاصر وغير طبيعي، لا تعوزه مسحة البدائية، ولا لمحة الهروب إلى الأمام! إذ حتى لو سلمنا بوجود النفس العارفة، فإننا لم نضع بذلك تعليلاً لوجود النفس الجاهلة، ومدى مسئوليتها عن جهلها، وما فضل النفس العارفة في معرفتها ووعيها..، خاصة وأن مجال النظرية هو البحث في أعظم الأمور وأدق الأسرار، وهو سر الوجود ومصير المخلوق وعلاقته بالخالق! أما القول بوجود جهلاء بين البشر، فإنه لا يحتاج إلى نظرية، فالجهلاء موجودون، ويتكلمون لغة الجهل بطلاقة وفصاحة وحسب العصر الذي هم فيه، بحيث يفهمهم الجميع ويُدركون أنهم جهلاء! فاليوم مثلاً، الذي يرمي علبة سجاير أو علبة عصير فارغة، من نافذة سيارته، على طريق عام، هل يحتاج إلى نظرية لإثبات أنه جاهل! ومن كانت درجة جهله فائقة الوضوح إلى هذا الحد- وكثير ما هم-، فهل ننتظر منه أن يتفكر أو أن يعرف رسالته من تلقاء نفسه! ليس الإشكال هنا! ولكن من الواضح، أن واضع فكرة النفس العارفة والنفس الجاهلة، لم يكن حراً في تفكيره، بل كان يخدم إيماناً مسبقاً لديه! وهو بهذه الفكرة إنما يحاول تطويع الواقع لإثبات صحة إيمانه! فهو كمن وضع افتراضاً، وأثبته بـ(لو أن) ! كذلك تفتقر نظرية التصنيف الثنائي للأنفس، إلى الدقة والنضوج، من حيث إنها لم تتسع لأنماط البشر باختلاف وتعدد مستوياتهم، بل اختزلت تشعب وتنوع وتفاوت السلم المعرفي العريض، في ثنائية: نفس عارفة وأخرى جاهلة! كما أن الأمانة غائبة في هذه النظرية، والغبن حاضر فيها بقوة، فهي تتجاهل حاجة الوجود البشري إلى التفاوت والتنوع المعرفي، وتجمع المتناقضات واختلاف الاهتمامات في بوتقة واحدة، تُسميها النفس الجاهلة! ولا تعير اهتماماً للضعف الإجباري والضرورات!

 النفس العارفة.. وجهة نظر.. مصطلح النفس العارفة كان يمكن أن يكون ذا دلالة أعمق وأدق، لو كان يرمز إلى ذلك الإنسان العاقل الذي أدرك أنّ مجهولاً خارجه يُخاطب مجهولاً داخله، دون إذنه ودون أن يفهم هو فحوى الخطاب! بمعنى أن يُشير المصطلح إلى إنسان يتساءل، لا إلى إنسان عارف؛ فالمعرفة تتطلب برهاناً من العارفين، ولا يكون برهانها بتجهيل الآخرين .

تساؤلات الأزل: " ما خصوصية البشر، ولماذا هم هنا، وماذا بعد الموت!"؟ إن مجرد تكرار هذه التساؤلات على لسان الإنسان أو مسامعه، لا يلفت انتباهه فحسب بل يصعقه، ليجد نفسه أمام تساؤلاتٍ مصيرية بحجم الكون، ترتعد لسماعها فرائص الصناديد والعتاة رعباً، وتنفضُّ لهيبتها مجالس الحكماء جهلاً، ولا تترك كلماتها معنىً لثنائية علماء وجهلاء، ويُعاد بها النظر في معتقدات ومسلّمات مضت عليها دهور وأزمان، واندثرت على طريقها أجيال من البشر.. من بُسطاء حالمين، وأشرار عابثين، وأخيار واهمين، ومنافقين وصادقين، وغيرهم! تساؤلات تستوطن وجدان الإنسان؛ لتصطدم بها كل وسائل ومحاولات المعرفة فتتشتت من حولها، وتبقى التساؤلات متباهية بمسحتها الحزينة الصادقة التي لم يُفلح تجاهل الإنسان لها في إخفاء أثرها الملازم لسعادته اللحظية السطحية العبثية! تلتقي عند هذا السؤال الكبير، ثلاث من وسائل المعرفة، حيث تتقابل كل الرسالات (السماوية)، مع جل النظريات الفكرية الأكاديمية، مع طاقات العقول الفردية الحرة الطليقة " المحايدة "! نقطة الالتقاء، هي التساؤل حول: " المسبب الأساسي والسبب المنطقي "، لهذا الوجود الثانوي ذي المشهد العبثي .. للإنسان! تختلف وسائل المعرفة الثلاث منهجياً، رغم اتفاقها في الهدف! - فطريقة الرُسُل والرسالات (السماوية)، هي الإعلان المباشر والتبليغ الشخصي الملزم، بضرورة الإيمان الغيبي بوجود خالق في السماء، تجب على الإنسان عبادته وفق طقوس شكلية معينة! - أما منهجية النظريات الفكرية الأكاديمية، فهي محاولة تجزئة الوجود إلى مكوناته الأساسية، بالعودة إلى الوراء، واستعمال الصور لمحاكاة الحقائق، والاستناد والبناء على أفكار ومحاولات ونظريات بشرية سابقة! - في حين أن سبيل العقول الفردية المحايدة، هو البحث عن الحقيقة في زمنها الحاضر، اعتماداً بالأساس على التجارب والملاحظات الفردية الخاصة ومعطيات الواقع، وانطلاقاً من نقطة الصفر، مع اصطحاب الحرية التامة التي تسمح بالنظر في جميع الاتجاهات، دون تقيد بمحظورات ومُسلمات نسبية، ومع استعداد مطلق لقبول الجواب الحائز على موافقة المنطق المشترك للبشر! من السهولة ملاحظة نقاط التقاطع والتوازي بين الوسائل المعرفية الثلاث، ..، حيث: - تتقاطع المعارف الثلاث في الهدف، وهو استنطاق الجواب الصامت لإسكات السؤال الصاخب، واجتثاث الغموض والعبث والخوف والألم والحزن والبغض من حياة المجتمع العاقل! - بينما تتقاطع (الرسالات السماوية) مع النظريات الفلسفية الأكاديمية، في تحديد النتيجة مسبقاً، ثم برهنتها لاحقاً! وتشذ العقول المحايدة عن ذلك، حيث إن النتيجة عندها تعقب البرهان، لا تسبقه! - كذلك تتقاطع العقول المحايدة مع النظريات الأكاديمية، في عدم فرض النتيجة على الآخرين! الأمر الذي تشذ عنه الرسالات (السماوية)، التي تتبنى مبدأ الإلزام المقدّس.. بقناعة أو بدونها! (الرسالات السماوية) إذن، تتفرد بعملية إلزام الإنسان عامة، بضرورة اعتناقها واعتماد مناهجها ونتائجها كإجابة نهائية مقدّسة للسؤال حول" مسبب الوجود وغايته"، وهي تدعو أتباعها صراحة إلى تسفيه وبُغض وكراهية غيرهم! وهي تتبنى مبدأ الإلزام رغم إقرارها بأنها لا تُحدد سبيلاً واضح المعالم يوصل إلى مصير محسوب النتائج! ومع إقرار أتباعها – بمن فيهم الرُسُل- بأن فهمها ليس في متناول الجميع، ولم يحظ بالاتفاق والإجماع حتى بين المخلصين من أنصارها! والرسالات (السماوية) تعتمد اللغة الأمنية (استعارة من قاموس السياسة)، فهي تستعمل لغة الترهيب والترغيب بما في الغيب، بدل لغة الإقناع بما في الواقع! وهذه إحدى أهم نقاط ضعفها! وعملية الإلزام كبديل عن الإقناع، هي عملية من الخطورة بمكان، حتى أنها تكاد تُعيد السؤال الأساسي إلى نقطة البداية، وتُجرّد الرسالات (السماوية) من مصداقيتها؛ بل إنها تُعيد طرح السؤال بصورة أقوى وأكثر تعقيداً من ذي قبل! فعملية الإلزام ترفع عن العاقل صفة المسئولية، ولا تترك قيمة ولا معنى لميزة العقل! هذه النتائج التي تطرحها أو تُفضي لها وتفرضها الرسالات (السماوية)، والتي تُخفي جزءاً كبيراً من الجواب الذي ينتظره الإنسان، وتُبقي على جزء كبير من السؤال الذي يؤرقه، وعملية الإلزام بها، كل ذلك يجعل الرسالات (السماوية)، عرضة للتساؤلات حتى بين أتباعا والمؤمنين بها – كلما سنحت الفرصة للتساؤل! ولكن الأمر المؤكد الذي يجهله البعض، ويتجاهله الكثيرون بشأن (الرسالات السماوية)، هو أن عملية الإيمان الإلزامي والتصديق الإجباري بها والاعتناق الآلي والتطبيق البروتوكولي لها، هي في الواقع أفكار طارئة وثقافات دخيلة على أصول الرسالات؛ فهي ليست من صلب ولا من أهداف ولا يمكن أن تكون من أخلاق رسالات (سماوية)؛ ويمكن أن تكون حلولاً تلفيقية مستعجلة، وملحقات متأخرة، وردود أفعال عشوائية، أتت كمضاعفات لأحداث وتطورات زمنية تاريخية! وكل ذلك يمكن اعتباره أثر جانبي، ونتيجة متوقعة لتلك البقية الباقية التي لم تغطها الرسالات (السماوية) من السؤال الأساسي؛ وذلك الجزء الجوهري الذي ظل محجوباً من الجواب، والذي بقي متعذراً على الإنسان بلوغه بعد الرسالات كما قبلها.. سواء بسواء! بهذا المعنى، وبهذا الواقع، نلاحظ أن الجزء الممتنع من السؤال، والذي لم تجب عنه النظريات الفلسفية الأكاديمية والعقول الفردية المحايدة – بعد! نلاحظ أنه قد بقي ممتنعاً وعصياً وقائماً حتى في ساحة الرسالات (السماوية

الثلاثاء، 24 ديسمبر 2019

التوأم والسفر بسرعة الضوء.. خِدعة عِلمية!

0 تعليق


- هل صحيح أن كل إنسان له زمن خاص به؛ وأن السفر بسرعة تقارب 
سرعة الضوء يؤدي إلى تباطؤ ذلك الزمن؟ - هل تعمل ساعة اليد العادية، في الفضاء وعلى القمر والمريخ وغيره، كما تعمل على الأرض؟

 فرضية التوأم والسفر بسرعة الضوء! فرضية التوأم والمنبثقة عن نظرية النسبية، تقول ما معناه: إنه لو سافر أحد أخوين توأم، إلى مجرة أو إلى كوكب يبعد عن الأرض مسافة سنوات ضوئية، بسرعة تقارب سرعة الضوء، وبقي الأخ الآخر على الأرض، فإنه إذا عاد الأخ المسافر إلى الأرض بعد خمس سنوات من سفره – مثلاً- بحسب ساعته، فسيجد أنه قد مضى على وفاة أخيه التوأم على الأرض 500 سنة – مثلاً-، بينما سيكون الأخ المسافر قد تقدم في العمر خمس سنوات فقط..، وذلك بافتراض أن الزمن قد تباطأ عند الأخ المسافر بسبب السرعة التي كان يسير بها، بينما مضى عمر أخيه بحسب تسارع الزمن على الأرض، ولذلك حصل هذا الفارق الكبير (المفترض) بينهما، ويستنتجون من ذلك أن السير أو السفر بسرعة تقارب سرعة الضوء يؤدي إلى تباطؤ الزمن! ما مدى صحة أو منطقية هذه الفرضية؟ وهل يحصل التباطؤ في الزمن أم في العمليات الحيوية؟ هذه محاولة لمحاكاة الفرضية واستجلاء الحقيقة: ما يُفترض أن يحصل مع الأخوين التوأم، في حال سافر أحدهما بسرعة الضوء، وبقي الآخر على الأرض، يمكن محاكاته أو تشبيهه بما يحصل في الواقع مع قطعتين من اللحم، يتم وضع إحداهما في ثلاجة – مُجمِّد، وتوضع الأخرى في الهواء الطلق..، حيث لا شك أن القطعة الموضوعة في الهواء ستتحلل بعد فترة وجيزة بحسب الظروف المحيطة، بينما تظل القطعة الأخرى سليمة – نسبيًا – إلى فترة طويلة بفضل المجمد..، في هذه الحال هل من المنطق أو من العِلم في شيء، أن نقول بأنه يوجد زمن مستقل لكل قطعة من قطع اللحم، وأن زمن قطعة اللحم الموجودة بالمجمد قد توقف أو تباطأ بسبب المجمد؟ وأن زمن القطعة الأخرى قد مر بسرعة طبيعية؟ ليس الأمر كذلك بكل تأكيد! فكل الذي حصل هو أن مادة اللحم لها قدرة على البقاء على قائمة الموجودات، بصورتين مختلفتين، وهما: - صورة طبيعية، وهذه مدتها أقصر، بحكم قوانين الطبيعة! - صورة غير طبيعية، وهذه مدتها أطول، بحكم قوانين الطبيعة كذلك! في الصورة الثانية، تتواجد قطعة اللحم على هيئة كتلة من الثلج، وليس على هيئة قطعة لحم، وفي هذه الحال ستبقى مدة أطول لأنها لم تعد طبيعية، ولا يصح تجاهل التغير الذي حصل عليها، والتركيز فقط على المدة التي تمكثها على قائمة الوجود، حتى يُقال بأن زمنها قد تباطأ، وكأنها كانت طبيعية أثناء وجودها الاستثنائي، وأن عنصر الزمن فقط قد تم التحكم فيه أو التأثير عليه بداخلها! إنها ببساطة لم تعد قطعة لحم، بل تم تحويلها إلى قطعة ثلج، فأخذت خصائص الماء ولم تعد تحمل خصائص اللحم خلال تلك المرحلة! بهذه المحاكاة البسيطة، يتبين لنا أن ما يُفترض أن يحصل مع المسافر بسرعة تقارب سرعة الضوء – فيما لو حصل – فهو تباطؤ عملياتي مادي طبيعي يحدث داخل الخلايا، ولا علاقة لمفهوم الزمن الافتراضي بالأمر..، فالإنسان في تلك المرحلة أو خلال تلك المدة الزمنية يكون غائبًا عن الوعي والإدراك، ولا يُمارس الحياة! قلب الإنسان – مثلاً، يعمل بمعدل ما بين 60 إلى 150 نبضة في الدقيقة، بحسب عمر الإنسان (عند كبار السن 60 ، وعند الأجنة 150 نبضة في الدقيقة- تقريبًا – تبعًا لمتطلبات النمو)، وبحسب الحالة الصحية والنفسية والإثارة والإجهاد، وغيرها من العوامل المؤثرة، والتي تستوجب تسارعًا أو تباطؤًا في عمل الخلايا استجابةً للظروف. والتسارع في عمل الخلايا يتطلب مزيدًا من الدم المؤكسد، وهذا ما يجعل القلب يعمل بسرعة أكبر أو أقل – حسب المطلوب، وفي حال أجبرت الظروف القلب والخلايا على العمل بسرعة أو طاقة أكبر، فإن ذلك سيؤدي إلى إجهادها، واستنفاد طاقتها ومخزونها الحيوي، وبالتالي تقصير مدة بقائها أو وجودها في حالة حية! وبهذا المعنى فإن السير أو السفر بسرعة تقارب سرعة الضوء، لا يجعل الثانية الزمنية أثناء السفر تعادل ساعة زمنية على الأرض – مثلاً، بل إن القلب هو الذي ربما سينبض نبضة واحدة كل ساعة – بحسب حاجة أو طلب الخلايا للدم، والتي من الطبيعي أن تتباطأ عملياتها الحيوية بسبب عدم ممارسة الجسم لأي نشاط وعدم حاجته للنمو – تحت تلك الظروف! فلكي يكون التباطؤ مرتبطًا بالزمن، أو أن العنصر الذي تأثر بالسرعة هو عنصر الزمن، فإنه ينبغي تثبيت قيم بقية عناصر المعادلة، وإثبات أن العنصر الذي تأثر بالسرعة وتغيرت قيمته هو عنصر الزمن – لا سواه..، فمثلاً لو تم إثبات أن معدل نبضات قلب المسافر لا يتغير عند السير بسرعة تقارب سرعة الضوء، ومع ذلك يحدث اختلاف في العمر بين المسافر وغير المسافر، حينها يصح القول بأن التباطؤ يحدث في الزمن، وأن السرعة تؤثر على الزمن، وأن الثانية في السفر تُعادل ساعة على الأرض – مثلاً! أما أن يكون التباطؤ أو التسارع يحدث في عمليات وأشياء مادية، فيُقاس ذلك بالزمن، ثم يُفترض أو يُتصور بأن التباطؤ قد حدث للزمن، فهذا لا يكمن وصفه إلا بأنه خِدعة عِلمية! إن الأمر كان سيبدو منطقيًا وواقعيًا، لو أن النظرية قالت: إن سفر الكائن الحي بسرعة تقارب سرعة الضوء، يُعادل وضع مادة غذائية في مجمد..، وهذا يعني – بالنسبة للمسافر- إيقاف العلمليات الحيوية أو تجميد الحياة لفترة من الزمن، ثم إطلاقها من جديد، وليس التحكم في عنصر الزمن الخاص به! ومن هنا يمكننا الخروج بنتيجة، وهي أن التباطؤ والتسارع فيما يتعلق بالحياة، هي عمليات حيوية طبيعية، تعكس استجابة الخلايا الحية للظروف المادية والنفسية المحيطة والمسيطرة على الكائن الحي..، وأن ذلك يمكن تجربته على الأرض بأكثر من طريقة، دون الحاجة لتلك الفرضية المستحيلة المتمثلة في السفر بسرعة الضوء..، وبالنتيجة فإنه لا علاقة لمفهوم الزمن بموضوع التباطؤ والتسارع في الحياة!

 تساؤل قديم حول واقعية مفهوم الزمن: هل تعمل ساعة اليد العادية، في الفضاء وعلى القمر والمريخ وغيره، كما تعمل على الأرض؟ فإذا كانت الإجابة " نعم" ، فما معنى أن يُقال بأن الزمن يختلف من كوكب إلى آخر أو من مكان إلى آخر في الكون؟ وإذا كانت الإجابة " لا "، فما هو السبب؟ الجواب ( وجهة نظر ): على افتراض أن الساعة التي نستعملها على الأرض، تعمل في الفضاء وتعمل على أي كوكب في الكون، تمامًا كما تعمل على الأرض؛ وعلى افتراض أنها لا تعمل في الفضاء وعلى الكواكب الأخرى كما تعمل على الأرض! النتيجة واحدة، وهي أن الساعة في الواقع لا تحسب زمنًا خارجها– لا على الأرض ولا في أي مكان آخر؛ الساعة في أي مكان هي عبارة عن آلة مادية، صُمِّمت لتَفتعل أحداثًا متتالية مخططة محسوبة مُسبقًا، تحت ظروف معينة؛ وعن طريق المقارنة تُقاس بها أحداث أخرى غير مخططة وغير محسوبة! فإذا تغيَّرت أو انعدمت الظروف المطلوبة كي تعمل الساعة كما صُمِّمت، فمن المنطقي والطبيعي أن تستجيب الساعة للظروف الجديدة وتتغير بحسبها، كما تستجيب أي مادة في الطبيعة لتغير الظروف– حرارة عالية، برودة عالية، ضغط عال، اهتزاز عال، جاذبية كبيرة أو انعدام جاذبية، …الخ! وفي هذه الحال، لا فرق بين القول إن الساعة قد تباطأت أو تسارعت، وبين القول بأن زمن قدرة الساعة على البقاء قد تغير، وذلك بفعل طبيعة مكوناتها وظروف تواجدها، وهو ما يحسبه عداد زمن الوجود الخاص داخل الساعة كمادة لها عمر افتراضي، وليس كساعة تحسب زمنًا خارجها! بصورة أخرى يمكننا القول: إنه لا فرق من حيث الفكرة، بين ما تحسبه لك الساعة في أي مكان، وبين ما تحسبه بنفسك، بواسطة الطَّرق المتتالي والمتواصل على منضدة بطرف مسطرة- مثلاً؛ أو ما تحسبه بواسطة العد الشفهي من 1 إلى 3600 ، وتعتبرها ساعة من الزمن..، وكما أنك لا تستطيع عمل ذلك بنفس الكيفية تحت ظروف مختلفة، كذلك الساعة، لا يمكنها العمل بنفس النسق تحت ظروف مختلفة! بالمحصلة، سواء استعمل الإنسان ساعة، أو عدَّ بنفسه، أو تجاهل الأمر..، فهل يعني ذلك أن شيئًا حقيقيًا اسمه الزمن، يكون قد مر في الأثناء من حوله؟ الجواب المنطقي والواقعي، كلا، لا يوجد شيء يمر من حوله اسمه زمن! كل الذي يحدث هي تغيرات مادية تطرأ على أشياء مادية، بحسب ظروف وجودها وبحسب طبيعة مكوناتها! إن كل شيء متشكل، لا بد له من حد أقصى وحد أدنى لمدة بقائه متشكلاً متماسكًا؛ هذه المدة تُحددها طبيعة مكوناته وظروف تواجده، وهذا ما تطرقنا له في موضوع (حقيقة التباطؤ والتسارع في الزمن)، والذي أشرت له باسم: زمن البقاء أو زمن الوجود الذاتي أو الخاص

الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

الكون الازلي والوجود و حقيقة فرضيّة واجب الوجود !

0 تعليق



هل الصياغة الصحيحة للسؤال حول مفهوم الكون والوجود، هي: 1- كيف ظهر الكون إلى الوجود؟ أم 2- كيف ظهر الوجود في الكون؟
 مقدمة.. معلوم أن وجود مكونات الشيء، لا يعني وجود الشيء ذاته! وأن غياب الشيء ذاته، لا يعني عدم وجود مكوناته! حيث يختفي الشيء من الوجود، لكن مكوناته لا تفنى! لعل هذه الحقيقة البديهية، تختصر العلاقة بين مفهوم الوجود ومفهوم الكون – كما أتصورهما! والمعنى، أن هنالك مكونات وجود، وهنالك عوامل وجود، لا يُغني أحدها عن الآخر، ولا بد من التقائها ليَحدث الوجود! نقول: ظهرت أمريكا إلى الوجود كأمة وكقوة عظمى – على الرغم من أن كل مكوناتها كانت موجودة أصلاً قبل ظهورها، لكنها لم تكن كافية لوجود أميركا كحدث-؛ وهنا: الحدث= الوجود = التقاء عوامل بمكونات! فالوجود لا يعني نشوء المكونات ولا يسبقها، إنما يأتي في مرحلة تالية لها، ليعكس كيفية وطبيعة وصورة اتحادها وتشكلها! نقول: اختفى الاتحاد السوفيتي من الوجود – على الرغم من أن كل مكوناته ما تزال موجودة! ونقول: لا يوجد سلام في العالم، على الرُغم من أن كل مكوناته ودوافعه موجودة!

 السؤال حول مفهوم الكون والوجود بالصيغة الأولى: كيف ظهر الكون إلى الوجود؟ يقوم هذا السؤال على إحدى فرضيتين بالضرورة: وفي الحالتين يكون مفهوم الوجود بمعنى نقيض الغياب وليس نقيض العدم! فمفهوم الوجود هنا، لا يُشير إلى شيء قائم بذاته اسمه الوجود يختلف عن الكون، إنما المقصود بالوجود هنا هو مجرد منح صفة الحضور لشيء اسمه الكون! الفرضيتان اللتان يقوم عليهما السؤال: أ- أن الكون لم يكن معدومًا، إنما كان غير موجود، أي أن مكوناته كانت موجودة لكنها لم تكن متحدة مع عوامل وجوده، ثم " اتحدت" ، فبرز وتشكل وظهر الكون إلى حيز الوجود! وفي هذه الحال، يكون القصد من السؤال، هو كيفية اتحاد عوامل ومكونات الكون! والسؤال بهذا المعنى، يُعتبر ما تطرحه نظرية الانفجار الكبير جوابًا له.
ب- أن الكون قد انبثق عن العدم، فكان بعد أن لم يكن! وبحسب هذه الفرضية، تكون الصياغة الصريحة للسؤال، هي: كيف انبثق الكون من العدم؟ والحديث هنا عن العدم المطلق، وليس عن اللاشيء! ومعلوم أن المقصود بالشيء، هو كل ما يمكن رصده أو قياسه أو إدراكه بالحواس- مباشرة أو غير مباشر! وبذلك يكون الشيء الذي نعجز عن رصده يعادل اللاشيء ويساوي انعدام الوجود الحِسِّي، لكنه لا يعادل ولا يساوي الانعدام المطلق! فالانعدام المطلق، هو الانعدام التام للكينونة والوجودية! ولكي يتم البناء على فرضية العدم هذه، ينبغي أولاً القبول باحتمال الانبثاق عن العدم المطلق، والحال أن هذا الاحتمال غير وارد وغير مقبول منطقيًا ولا واقعيًا، ولا يمكن تصوره، والأهم أنه لا معنى لافتراضه بعد أن ظهر الكون إلى الوجود! فالقول بأن ما قبل ظهور الكون كان عَدَمًا، يعني بالضرورة استحالة نشوء الكون؛ وظهور وتواجد الكون يعني بُطلان فرضية العدمية المسبقة! والقول بوجود قوة أو إرادة، هي التي أوجدت الكون من العدم، هو بحد ذاته إلغاء لفرضية العدم! فمجرد وجود شيء غير العدم، سابق للكون، وله علاقة بظهور الكون، يجعل فرضية العدم غير قائمة! لأن ذلك يعني ببساطة أن الكون قد انبثق عن شيء وليس عن عدم، بغض النظر عن الكيفية والآلية والمادة المستعملة! إن الإقرار بأنه لا مناص من افتراض وجود شيء أزلي، ينبثق عنه الكون، هو إقرار بأزلية الكون – بصورة أو أخرى! والكون ليس مخلوقًا من عدم حتى بالمفهوم الديني للخلق! فالقول بأن الله قد خلق الكون من عدم، هو قول غير صحيح منطقيًا وواقعيًا، وأظنه غير جائز عقائديًا! فإذا كان الكون قد ظهر إلى الوجود بأمر إلهي – صوت وكلام بصيغة (كُنْ)، إذن لا يصح ولا يجوز القول بأنه خُلِق من عدم، لأنه هنا يكون قد خُلِق من كلام وصوت إلهي، ولا يصح اعتبار الكلام والصوت الإلهي عدمًا! وحتى لو قال أحدهم لعل الإله قد خلق الكون بأمر باطني (نِيَّة أو إرادة) بدون كلام ولا صوت مسموع، فالأمر سيان، إذ لا يصح اعتبار نِيَّة أو أمر أو إرادة الإله عدمًا! والمؤمنون بالإله لا يعرفون مواصفاته، لذلك هم يقولون بأن الإله ليس كمثله شيء، وهذا يعني أنه لا يحق لهم منطقيًا أن يعتبروا كلامه أو صوته أو أمره أو نيته أو إرادته، كمثيلاتها عند البشر، ليقولوا بأنه خلق الكون من عدم! فلا أحد من البشر يعرف ماهية وطبيعة ومادة الكلام أو الصوت أو الأمر أو النية أو الإرادة لدى الإله، والتي خُلِق منها أو بواسطتها الكون! وبالتالي لا يحق لأحد القول بأن الكون قد خُلِق من عدم- استنادًا إلى معتقد ديني! مفهوم الوجود - بحسب الفرضيتين "أ ، ب" – يُشير إلى صفة التمظهر التي صار عليها الكون كله..، وهذا الفهم لمعنى الوجود (أن الوجود = الكون كله) يتطلب الإلمام بشكل وحدود الكون- لكي يكون السؤال واقعيًا-، وهذا الإلمام غير متحقق لنا، مما يعني وجود خلل في بُنية السؤال من الأساس! فلا معنى لسؤالنا عن كيفية تشكل شيء نحن لا نرى شكله ولا نحيط بحدوده! وبهذا المعنى أعتقد أنه يتوجب الفصل بين دلالتي مفهوم الكون ومفهوم الوجود، وأن يتم الفصل بين السؤال عن الوجود المرصود، وبين السؤال عن الكون الكلي اللا متخيل والواجب الوجود! وفي هذه الحال يكون تعريفنا للوجود، بأنه إفراز كوني! الوجود هو فقط هذا الجزء المضطرب المتحول من الكون، والذي يمكننا رصده، وإدراك حدوده وماهية وكمية محتوياته! ويكون تعريفنا للكون بأنه هو هذا الوجود المرصود لدينا، مضافًا إليه كل ما يمكن أن يكون موجودًا وغير مرصود لدينا! ونفترض أن الكون الطبيعي، هو الكون الخالي من الوجود، وهو عبارة عن محيط لا نهائي من الوحدات البنائية للمادة، محصورة في حيز هو أكبر من أن تحده حدود مادية من تلك التي نعرفها أو التي يمكننا تخيلها! وعلى هذا الأساس، تكون الصياغة الصحيحة للسؤال حول علاقة الكون بالوجود، هي الصياغة الثانية: 2- كيف ظهر الوجود في الكون؟ وهنا نقول إن الفلسفة التي تعتبر مفهوم الكون مرادفًا لمفهوم الوجود، أو التي تعتبر الوجود صِفة للكون، قد اضطرت إلى استحداث مفهوم الفضاء الكوني، للتعبير عن حيِّز يحتوي الكون! والمنطق يقول، إنه لا حاجة لاختلاق مفهوم الفضاء الكوني المفصول عن مفهوم الكون، فالكون هو كل شيء وكل لاشيء وحسب! إنه لا يستقيم أن نقول: نحن موجودون في الوجود..، ذلك لأننا جزء من الوجود! لكن يستقيم أن نقول: نحن موجودون في الكون، فالوجود هو كل ما هو موجود ومرصود في الكون! وباعتبار أزلية الكون ولا نهائيته، يكون المقصود بالوجود ليس الكون كله، إنما فقط هو هذا التشوه الطارئ الظاهر الطافي من الكون الكلي! بهذا المعنى يكون كل ما هو موجود اليوم بالنسبة لنا، هو ربما عبارة عن وجود واحد من أكثر من وجود، قد تكون انبثقت عن الكون، ونحن جزء من الوجود الآني – المعلوم نسبيًا لنا، وقد نكون جزءًا من وجود قادم، وقد لا نكون..، لكننا دائمًا جزء من الكون! وفق هذه الفلسفة يمكن وصف الكون بأنه مزرعة أزلية أبدية لإنتاج احتمالات متعددة من أنواع الوجود المؤقت – مثل وجودنا! فالوجود لا يكون إلا إفرازًا ناتجًا عن شيء سابق له!

لعله يمكننا الآن، أو يتوجب علينا، إعادة صياغة سؤال الكون والوجود، كالتالي: ما المقصود بالوجود؟ وما هو الكون؟ وما العلاقة بينهما؟ وحينها تكون الإجابة – من وجهة نظري: أن الكون هو ما يتراءى للوعي، بعين المنطق، فيما بعد أُفق الخيال! وأن الوجود هو مجموع ما يتبدى للوعي والإحساس، فيما دون أُفق الخيال! وبالمقارنة يمكننا القول: إن الوجود بالنسبة للكون، هو كالواقع بالنسبة للوجود! وإن الكون بالنسبة للوجود، هو كالمكان بالنسبة للواقع! ما هو الواقع؟ كل نظرية أو رؤية أو تصور أو فرضية، هي مجرد خيال، إلى أن تتحقق عمليًا، ويتم إثباتها في المكان الذي يوجد فيه الإنسان (الأرض مثلاً)، وحينها تُصبح واقعًا! وحيث إن الواقع لا يتحقق إلا في مكان (في الأرض مثلاً)، وحيث إن الوجود واقع متحقق في الكون، لذلك قلنا إن الكون بالنسبة للوجود، هو كالمكان (كالأرض) بالنسبة للواقع! الوجود هو بعضٌ من الكون، والفرضية تُصبح بعضًا من الوجود عندما تُصبح واقعًا! كل موجود هو حدث بالنسبة للوجود، والوجود بجملته حدث بالنسبة للكون! عندما نقول الكون فنحن نتحدث عن المطلق واقعيًا، المحدود منطقيًا! وعندما نقول الوجود فنحن نتحدث عن النسبي منطقيًا، اللا محدود واقعيًا! الوجود هو شيء قابل للرصد، لكنه مرصود جزئيًا، بسبب محدودية قدرة الإنسان على الرصد! رصد الوجود، يعني الإدراك والإلمام الواعي بكل ما هو موجود! الكون المحصور حجمًا والمحدود كَمّاً، هو شيء غير ممكن الوجود – عِلميًا، لكنه واجب الوجود- نظريًا وفلسفيًا – ولو على أطراف الخيال، وذلك إثباتًا وتثبيتًا للوعي، الذي لا يمكنه التسليم بوجود شيء (هو الكون) إلى جانب الإقرار ببقائه خارج نطاق الفهم والتصور، لذلك ظل وسيظل مفهوم الكون مادة خصبة ومفضلة للخيال – تعويضًا عن عجز الوعي وقصور الإدراك! لا يمكننا تصور الكون إلا بأنه الحاضن للوجود – ليس الحاضن المكاني فقط بل الحاضن الحامل والمُنتج للوجود! إن الذات لذاتها كون، ولغيرها وجود! لا تُدرِك الذات وجودها إلا بوجود غيرها – ماديًا وقيميًا! عندما تتصور الذات الواعية، وجودها بمعزل عما حولها، فهي إنما تتصور ذاتها كجزء من الكون لا من الوجود، وهذا أمر ممكن نظريًا وفلسفيًا، لكنه غير واقعي بالنسبة لمفهوم الوجود! تحتاج الذات إلى وجود غيرها، لتنتزع منه الإقرار بوجودها، فتقييم الوجود والإقرار بوجود الموجود، يكون من خارجه لا من داخله، إذ لا يكون وجود الشيء قائمًا إلا وهو منسوب لوجود شيء آخر مُدرِك له، ولا شيء موجود لذاته إلا الكون – كوحدة واحدة أزلية أبدية لا محدودة! الموجودات هي مكونات الوجود، والوجود هو ذلك البعض الظاهر المتغير المتحول من الكون! في حدود ساحة الوجود تعتبر الأشياء والذوات الواعية، مستقلة عن بعضها البعض، لكنها ليست كذلك في ساحة الكون! بمفهوم الكون، كل شيء هو جزء من كل شيء! مفهوم الوجود بشكل عام، يُشير إلى الأشياء الموجودة خارج الذوات، والممكن إدراكها ماديًا أو إدراك تأثيرها! ليس فقط الكائنات الحية، بل كل الموجودات، لا بد لها من امتلاك هوية تُمكِّنها من التعبير عن وجودها، وتُثبت إدراكها لوجود غيرها– لكي تكون موجودة! الشكل الظاهر والأثر المحسوس للمادة والطاقة، هي عناصر الهوية العامة للموجودات! ردة الفعل الطبيعية المختلفة من معدن لآخر ومن مادة لأخرى، تجاه الحرارة والكهرباء والتصادم، هي بعض وسائل التعبير عن الهوية وإثبات الوجود لدى تلك الموجودات! الوجود بالنسبة للإنسان، ليس هو ذات الوجود بالنسبة لغيره من الكائنات الحية والأشياء! سمك القرش والنحل ورحيق الأزهار البرية، كلها أشياء موجودة على قائمة الوجود بالنسبة للإنسان! والرحيق شيء موجود على قائمة الوجود بالنسبة للنحل! لكن النحل والرحيق، أشياء غير موجودة على قائمة الوجود بالنسبة لسمك القرش! بافتراض أن سمك القرش والنحل لا يعلمان بوجود بعضهما، ولن يُدركا بعضهما حتى ينعدم وجودهما من الوجود القائم الآن، في هذه الحال يكون كل منهما جزء من الكون بالنسبة للآخر، ومعنى ذلك أنهما جزآن من ذات واحدة! تحت سقف الكون كل شيء محتمل، وتحت سقف الوجود لا شيء إلا المُدرَك المرصود! الوجود بالنسبة للإنسان، هو الجزء المعلوم له من الكون! والكون بالنسبة للإنسان ولغير الإنسان، هو الوجود مضافًا إليه المجهول! كل شيء باقٍ على حاله الآن، لا يتغير، فهو جزء من الكون وليس جزءًا من هذا الوجود الآني المرحلي! فالتغيُّر والتحول والحضور والغياب، صفات أساسية في الوجود! كل شيء حادث، وخاضع لقوانين الطبيعة، هو جزء من الوجود! والتفاعل مع المحيط، تأثيرًا أو تأثرًا، هي من أهم معالم الوجود وصفات الموجود! ولذلك يمكن نزع صفة الوجود عن الموجود- نظريًا، لكن لا يمكن نزع صفة الكينونة عن أي شيء – موجود أو غير موجود! نقول: كأنه غير موجود، أو وجوده كعدمه! ما نقوله هنا، هو تعبير عن معنى نجده متحققًا في كل ما ومَنْ لا يتأثر ولا يتفاعل مع أحداث تجري من حوله! الكون سابق للوجود بالضرورة، فالكون هو أرضية الوجود! يمكن تشبيه الكون بالمكان بالنسبة للوجود، لكن طبيعة الكون ووظيفته وعلاقته بالوجود، تجعله أكبر من أن يكون مجرد مكان! أعشاب طبيعية، تنمو على أرض مزرعة، هي جزء من الوجود طيلة بقائها قائمة، وهنا يمكن اعتبار أرض المزرعة بمثابة الكون والمكان بالنسبة للأعشاب! لكن أرض المزرعة ليست كون، بل هي مجرد مكان بالنسبة لمبنى يقام عليها! يمكن للكون أن يقوم دون وجود، لكن لا يمكن للوجود أن يقوم إلا على الكون! الكون هو نقيض العدم المطلق؛ والوجود هو نقيض العدم الزمني! الكون الخالي من الوجود، هو وجود خالي من الفناء! الكون هو مجموع الأشياء في صورها الأولية – وحداتها البنائية! الكون يتألف من دقائق مختلفة مستقلة منفصلة؛ فإذا اتحدت أو تفاعلت دقائق معينة، تحت ظروف معينة، فإنها تُنتج وجودًا أو ينتج عنها وجود حتمًا! لكن الطبيعة الأزلية للدقائق البنائية – أي طبيعة البقاء والديمومة لدى الوحدات البنائية للتكوين، تستوجب بقاءها حُرة، واتحادها الذي به تبلور الوجود يُفقدها تلك الحرية، أي أنه يُفقدها القدرة على الكينونة الدائمة..، ولذلك هي تعمل باستمرار وبشكل تلقائي على استعادة تحررها، أي أنها تعمل باستمرار على العودة إلى حالتها الأولية، أي إلى صيغتها الكونية؛ ويتحقق ذلك بانفصالها عن بعضها، وذلك يعني بالضرورة الغياب الظاهري للشيء الذي وُجِد باتحادها! وهذا يجعل من معنى الموت والفناء مرادفًا لمعنى الديمومة والبقاء..، بمعنى أن الموت والفناء ينحصر في الوجود الظاهري لا في البقاء الكوني! أي أن موت الإنسان لا يعني موت مكوناته، إنما يعني تحولها من صورة إلى أخرى، أو من حالة إلى أخرى! فغياب الإنسان عن الحياة، يعني عودته من الوجود إلى الكون..، وبهذا المعنى يكون موت الإنسان هو غياب نظري لكيان افتراضي! إن غياب كيان الإنسان عن الوجود، هو أشبه بغياب كيان سياسي فيدرالي، بعد أن تنفصل أقاليمه عن بعضها..، حيث إن الكيان التاريخي المرحلي المألوف لتلك الدولة يختفي من الوجود، لكن مكونات الدولة تظل قائمة! وهذا الانفصال أو التفكك الظاهري لكيان الدولة، يكون سببه شعور الأقاليم بعدم القدرة على الاستمرار الاتحادي..، فيأتي حِرص المكونات على البقاء الذاتي – على حساب بقاء الكيان الاتحادي! وفي هذه الحال، نقول إن الوجود التقليدي المعروف لدينا لتلك الدولة لم يعد قائمًا، لكننا لا نقول ولا نستطيع أن نقول بأن شيئًا من تلك الدولة قد اندثر! إن كل موجود، لا بد له من أن يحتوي على قارئ طبيعي (حاسب آلي)، يحسب له الحد الأقصى الممكن لوجوده.. أي الحد الأقصى لقدرة مكوناته على البقاء متحدة- أي البقاء على غير صيغتها الكونية! الحد الأقصى لوجود الأشياء نسبي، يعتمد على العلاقة بين مكوناتها، والعلاقة تعتمد على طبيعة المكونات وظروف الوجود، ومدى قدرتها على البقاء في حالة استثنائية، وهي حالة الوجود! يمكننا تعريف الوجود، بأنه بروز أو تبلور الأشياء في الكون، بأحجام وصور محددة، وبقاءها إلى أن تفقد قدرتها على الوجود الاستثنائي، فتعود إلى حالتها الكونية – البنائية! ويمكن تعريف الكون بأنه ذلك النسيج الكلي، الذي يتألف من مجموع مكونات الأشياء في صورها الأولية! الكون باختصار هو الوجود المطلق لمكونات الوجود المرحلي

حقيقة التباطؤ والتسارع في الزمن!

0 تعليق


حقيقة التباطؤ والتسارع، وعلاقتهما بمفهوم الزمن: إذا قلنا إن عُمْر الإنسان يُقاس بوحدة اسمها الزمن، أو أن عمر الإنسان الفرد، هو نصيبه أو حصته الخاصة، من شيء عام اسمه الزمن، إذن تكون عملية تباطؤ وتسارع الزمن ظاهرة معروفة قبل ظهور نظرية النسبية، لكنها كانت تُفهم أو تفسَّر أو تُحلَّل بصور ومفاهيم مادية! فاليوم نحن نعرف مثلاً، أن متوسط عُمر الإنسان في بعض المجتمعات الأفريقية، هو 50 سنة، بينما سن التقاعد في مجتمعات أخرى هو أكثر من 60 سنة! وهنا نتحدث عن ذات المادة (إنسان) وذات المقاييس الزمنية وذات المكان (الأرض) وذات السرعة، ومع ذلك اختلفت قيمة عنصر الزمن بين مادة وأخرى – منعكسة في الوجود.. أي مدة البقاء على قيد الحياة! ولو نقلنا طفلًا أفريقيًا إلى أوروبا، وطفلًا أوروبيًا إلى أفريقيا، فسيتغير مُعامل الوجود لديهما تبعًا لظروف الحياة الجديدة! وهنا يمكننا الملاحظة وبوضوح كبير بأنه إذا اتفقنا على وجود شيء اسمه الزمن، فنحن الذين نصنع هذا الشيء، وذلك بأن نطيل عمر إنسان ونُقصِّر عمر آخر، أو نُطيل زمن سيارة بالمحافظة عليها، ونقصِّر زمن سيارة أخرى بإهمالها..، لكن لا يوجد خزان ولا يوجد حساب للزمن ننهل أو نسحب منه يمكن أن ينضب، أو يمكن أن نُعيد ملئه! إن مفهوم الزمن المرتبط بالمادة (إنسان أو سيارة) هو زمن خيالي وعنصر حسابي نحن الذين نصنعه ونتلاعب به، تمامًا كما تتلاعب به الظروف والمعطيات المادية! ولذلك ينبغي أن نلاحظ بأن العناصر التي تعمل وتتغير قيمتها في معادلة التباطؤ والتسارع، هي عناصر مادية خالصة (مادة وظروف)، وأن خصائص هذه العناصر المادية، هي التي تُحدِّد قوة التماسك بين مكونات المادة، ولا يوجد عنصر اسمه الزمن يمكننا تغيير قيمته والتأثير به على النتيجة، بل إن عنصر الزمن كان عبارة عن وصف نظري مجازي نُشير به إلى تأثير الظروف واختلاف الأحداث! وهذا يعني أنه ربما توجد ظروف على الأرض، تُمكِّننا من جعل سن التقاعد 1000 سنة، فيما لو توفرت تلك الظروف أو اكتشف البشر مسبباتها- دون الحاجة إلى السفر بسرعة الضوء! وهنا نحن نتحدث عن معامل تماسك مكونات الإنسان، وهو معامل مادي بحت، يتمثل في توفير بيئة صحية مناسبة لعمل خلايا وأجهزة الجسم المادية! جاءت نظرية النسبية لتُبلور وتُبرز حقيقة التباطؤ والتسارع في العمليات التي تؤثر على المادة، وتصوغها بلغة علمية ومعادلات رياضية، لكنها افترضت أن التباطؤ والتسارع كعمليات وكنتائج، إنما تحدث في شيء اسمه الزمن، واعتبرت الزمن عنصرًا ومكونًا أساسيًا من مكونات الإنسان! أعتقد أن وصف مفهوم الزمن – حسب نظرية النسبية، كعنصر أساسي يدخل في تركيبة الإنسان، وفي تركيبة المكان (زمكان)، هو وصف يمكن تصوره وفهمه في سياق التشويق وتنشيط الوعي، لكن لا يمكن أخذه على محمل الجِد والواقعية! التسارع والتباطؤ في الواقع، هي نتائج مادية عملية، تعكس عمليات حقيقية في صورة تفاعلات وتغيرات تحدث واقعيًا في المادة والطاقة داخل الخلايا والذرات، وتتأثر بظروف التواجد، وبذلك تتحول المادة – عاجلاً أو آجلاً – من حالة التشكل والاتحاد الظاهر المحسوس (حالة الوجود)، إلى حالة التفكك إلى وحداتها البنائية (حالة الكون – حسب تصوري لمفهوم الكون)! واختلاف المواد من حيث استجابتها وممانعتها أو صمودها وسرعة انهيارها تحت تأثير العوامل الخارجية المتصلة بها، هو ما نُعبِّر عنه اصطلاحًا بمفهوم المدة الزمنية! والقول بأن السير بسرعة تقارب سرعة الضوء (على افتراض أنها السرعة القياسية العُظمى) يؤدي إلى تباطؤ الزمن لدى الإنسان، هو قول لا يُخالف المنطق- إذا تحققت نتائجه المفترضة-، شرط أن يكون المقصود هو تباطؤ نمو الإنسان، بمعنى تباطؤ العمليات الحيوية الخلوية داخله، وليس تباطؤ عداد خيالي يَحسب الزمن خارجه! فلو أرسلنا بدل الإنسان قطعة من عنصر مشع (يورانيوم مثلاً)، بسرعة الضوء، فالمتوقع أن تتوقف عن الإشعاع، وبالتالي تزداد فترة نصف العمر لديها! لكنها ستظل متوقفة عن الإشعاع إلى الأبد- فيما لو استمر سيرها بسرعة الضوء إلى الأبد! وهنا لا يصح أن نقول بأن فترة نصف العمر لدى هذه القطعة من اليورانيوم قد أصبحت لا نهائية، إنما الصحيح أن نقول بأن زمن الوجود الذاتي لها قد أصبح صفرًا، أي أنها لم تعد جزءًا من الوجود المتغير بل أصبحت جزءًا من الكون الثابت! وهذا يعني أن السرعة الفائقة، قد وضعت العنصر المشع تحت تأثير ظروف لا يمكنه الصمود تحتها والعمل بشكل تقليدي، فانهار وخرج من الوجود بأسرع من مثيلاته تحت ظروف أخرى! وكذلك الإنسان، فإنه سيظل مستقرًا متوقفًا عن النمو إلى الأبد، إذا ما استمر مسافرًا بسرعة الضوء إلى الأبد! وهنا لا يصح أن نقول عن الإنسان إنه قد تَخلَّدَ، إنما الصحيح أن نقول إن ذلك الإنسان لم يعد جزءًا من الكون بصورته الوجودية المألوفة لدينا، بل أصبح جزءًا من الكون بصورة أخرى! هنا يمكننا أن نتصور وجود خصائص للكون، تفرض على المادة الاستقرار آجلاً أو عاجلاً، ونتصور قوانين للوجود، تفرض على المادة التغير المستمر بطيئًا أو سريعًا باتجاه الاستقرار، وهذا يعني أن قوانين الوجود تعمل بموجب خصائص الكون! كما أسلفت فقد اصطلحنا على تسمية الاختلاف بين المواد من حيث صمودها أو انهيارها أمام الظروف بـالزمن، وهو ما أدعوه هنا بـ" عداد زمن الوجود الذاتي أو زمن البقاء"، داخل كل واحد منا، وداخل كل مادة وفي كل شيء، وهو ما يمكن تسميته بعداد وجودي يحسب ما يتبقى لنا من مدة البقاء على قيد الحياة (فترة زمن الوجود الذاتي)، ويحسب للمادة مدة بقائها متماسكة متشكلة (فترة زمن الوجود الذاتي)، وهو ما يمكن تشبيهه بما يُعرف بفترة نصف العمر في العناصر المشعة..، ولا ننسى أن الذي يحدث في الواقع هي عمليات حقيقية ونتائج مادية تجري وتتحقق داخل المادة، تتسارع أو تتباطأ عمليًا في أداء وظائفها- بما يعكس ظروف تواجدها! إن النظرية العلمية لا تصطدم بالمنطق حول النتيجة المترتبة على فرضية السفر بسرعة الضوء، لكن التصادم والاختلاف يحدث حول التفسير! المنطق يقول بأن الذي يتوقف بسبب السير بسرعة الضوء، هو القدرة على الإشعاع لدى العنصر المشع، وهو القدرة على النمو لدى الإنسان، وبالتالي يكون الذي توقف هي العمليات الموجِبة للبقاء أو الممثلة للوجود الشكلي – داخل هذه الأشياء وحسب..، سواء عاد المسافر بعد السفر إلى حالته السابقة واستأنف حياته من حيث توقفت، أو لم يعد! ما أدعوه هنا بعداد زمن الوجود الذاتي، يمكن وصفه بعداد طبيعي – اصطلاحًا لا واقعًا، وهو لا يحسب ما ينقضي من زمن الوجود الذاتي، إنما يحسب فقط ما تبقى للمادة من قدرة على الصمود والبقاء في حيز الوجود- تلك القدرة التي تتغير بحسب تغير الظروف! هذا العداد الطبيعي الافتراضي الذي يحسب لنا ما تبقى ولا يعتد بما انقضى من زمن، يمكن تشبيهه بعداد الحاسوب الذي يُظهر لنا ما تبقى من زمن خلال نقل بيانات أو إجراء عمليات، حيث يحسب لنا ما تبقى من زمن بحسب ظروف كل لحظة، ولذلك فإن تقديراته تتغير من لحظة إلى أخرى- بحسب طبيعة البيانات التي ينقلها في تلك اللحظة، والتي يتخذ منها مقياسًا لحظيًا افتراضيًا لما تبقَّى من بيانات – دون اعتبار لما تم حسابه سابقًا..، ولذلك نلاحظ أن تجانس البيانات يجعل الحاسوب يعطي زمنًا ثابتًا منذ البداية للزمن الكلي اللازم للنقل..، وهذا يُعادل تغير الظروف أو ثباتها في حال الإنسان، حيث يمكن تحديد عُمْر الإنسان – ولو تقريبيًا – منذ يوم ولادته – شرط ثبات الظروف وإدراك المعطيات؛ لكن هذا العمر يمكن أن ينقص أو يزيد بحسب ظروف اللحظة وما بعدها- دون اعتبار لما قبلها! يتوقع الطبيب مثلاً، للمريض ذي الأربعين سنة، أن يعيش لمدة سنة أخرى فقط، ليس لأن ما فات من عمره هو 40 سنة، إنما لأن المعطيات في تلك اللحظة تقول هكذا، وقد تتغير المعطيات فيتجاوز المريض المدة التقديرية، وقد يسبقها بالرحيل! إن الحديث هو دائمًا عن تسارع أو تباطؤ فعلي في عمليات مادية تتم داخل الذرات والخلايا، وليس عن زمن عام يتدفق خارج أو داخل المادة!

 إن العنصر المشع، لو سار بسرعة الضوء، فإنه سيتوقف عن الإشعاع، لكنه حتى لو سار بسرعة تفوق سرعة الضوء، فإنه لن يستعيد ما قد فقده من إلكترونات، وهذا يعني أنه لا معنى ولا مجال لفرضية السفر عبر الزمن! وعلى هذا الأساس يكون تجاوز سرعة الضوء، إما أنه أمر غير ممكن، أو أنه سيُحيل المادة مباشرة إلى وحداتها البنائية التي تتألف منها..، ولا شيء غير ذلك..، هذا على افتراض أن سرعة الضوء هي أقصى سرعة يمكن بلوغها في الكون

الثلاثاء، 17 ديسمبر 2019

ماهية الزمن كعنصر في الطبيعة والوجود!

0 تعليق


هل يوجد شيء خارج مخيلة الإنسان، اسمه الزمن؟ ما طبيعة الزمن حسب نظرية النسبية؟ في  العام (2012) أنعقد أوّل مؤتمر دولي، حول دلالة مفهوم الزمن في العِلم والفلسفة والفكر الديني، وكان ذلك في دولة الإمارات العربية المتحدة. ومجرد الدعوة لعقد مؤتمر دولي في هذا العصر، حول مفهوم الزمن، يُثبت أن الذين يعتقدون أو يدَّعون معرفة وإدراك دلالة مفهوم الزمن، إنما هم في الواقع يقبعون خارج الزمن الذي يعتقدون معرفته! مفهوم الزمن يتم تداوله عادةً من خارجه، من حيث اختلاف الرؤى حول تصوره وأثره، وربما حول بدايته ونهايته! - هذه محاولة لتناول مفهوم الزمن من داخله، ومن الناحية الموضوعية والعملية، من حيث ماهيته ومدى واقعية وجوده كعنصر حقيقي في الطبيعة، وموقعه من الذات البشرية، وعلاقته بالأشياء المادية! الزمن المقصود هنا، ليس الزمن بمعنى الوقت أو التوقيت، فهذان المفهومان يمكن تصورهما بمعزل عن مفهوم الزمن، حيث إن التوقيت والوقت هما عبارة عن قياس معنوي بواسطة مقارنة أحداث مادية، بقصد ترتيب التعاملات وشئون الحياة – كقياس موعد استيقاظ الإنسان مقارنة بشروق الشمس، أو قياس موعد نومه مقارنة بغروبها، ثم تتم تسمية هذا القياس وهذه المقارنة: وقتًا أو توقيتًا..، وهي في الواقع عبارة عن أحداث مادية طبيعية يتكرر حدوثها في كون مطلق لانهائي..، وإطلاق مُسمَّى الوقت أو التوقيت على "مقارنة" بين أحداث مادية مختلفة، لا يعني وجود شيء أو عنصر اسمه الوقت أو التوقيت في الوجود أو في الطبيعة! الفروق بين مفهوم الوقت والتوقيت والزمن والزمان، تناولناها في موضع آخر بشيء من التفصيل! أما المقصود بالزمن هنا، فهو فقط ذلك السهم الخيالي المتجه من الماضي إلى المستقبل، والمشتق من مفهوم الزمان المرتبط بالمكان، والمنحوت أسطوريًا في ذاكرة الإنسان، والذي تتغير به وعبره وبسببه الأشياء – افتراضًا!
 ماهية الزمن.. يبدو التلازم واضحًا بين مفهوم الزمن، ومفهوم الوجود! فالذين يتصورون وجود شيء اسمه الزمن، هم أولئك الذين لا يُفرِّقون بين مفهوم الكون ومفهوم الوجود، إنما يرون أن لهما ذات الدلالة وذات الحقيقة! فهؤلاء لا يؤمنون بأزلية الكون واختلافه عن مفهوم الوجود، إنما يعتقدون بأنهما شيء واحد، وأن هذا الشيء له بداية ليس قبلها بداية..، ويعتبرونها البداية لكل شيء موجود الآن..، وبذلك يتصورون انطلاق ما يُشبه السهم الزمني، من تلك البداية باتجاه نهاية مفترضة. ومكمن الخلل في هذا التصور، هو أنهم يفترضون انطلاق بداية للوجود من العدم، متجاهلين استحالة نشوء وجود من عدم. والذين يُفرِّقون بين مفهوم الوجود ومفهوم الكون، ينبغي أن يكون تصورهم للأمر، كالتالي: إذا كان نشوء الوجود من العدم أمرًا ممكنًا، إذن فالوجود أزلي – باعتبار أن العدم أزلي، وفي هذه الحال يكون الزمن أزليًا! أو أنه ينبغي البحث عن شيء آخر سابق للعدم، يكون قد انبثق عنه العدم، وهكذا رجوعًا إلى ما لانهاية..، وهنا كذلك يكون الزمن قد انطلق منذ ما لانهاية! والأهم من كل ذلك، هو أنه لا معنى لمفهوم العدم الذي يمكن أن ينبثق عنه وجود! فإذا كان العدم يحتوي على إرادة تُقرِّر وتستطيع تحويله إلى وجود..، إذن هو ليس عدمًا، إنما هو وجود أزلي من نوع آخر، انبثق عنه هذا الوجود العابر..، وذاك الوجود الأزلي هو الذي ندعوه نحن بالكون ( نحن = المُفرِّقون بين مفهوم الكون ومفهوم الوجود)، والكون هنا يكون شيئًا آخرَ غير هذا الوجود المؤقت المحسوس المرصود! ولذلك نحن لسنا بحاجة لافتراض وجود شيء اسمه الزمن..، حيث إن الوجود عبارة عن جزء من الكون، والكون شيء أزلي أبدي مطلق، لا مكان لمفهوم الزمن فيه! فالوجود الحالي، يمكن تصويره وتصوره بأنه مجرد نبتة كونية، نمت وبرزت على مساحة معينة من سطح الكون، وستختفي – ليس بالفناء، إنما بعودة مكوناتها من حيث أتت، واندماجها مجددًا مع أديم الكون الأزلي الأبدي – دون أي أثر أو اعتبار لوجودها الاستثنائي الذي ظهر واختفى! وهنا نقول، إنه حتى لو افترضنا زمنًا محدودًا مستقطعًا من زمن أزلي أبدي مطلق-، فسيكون زمنًا افتراضيًا لا قيمة ولا اتجاه له..، لا شك أنه لو كان عُمر كل إنسان يساوي وقت شروق واحد فقط، لأصبحنا نقول توقيت الإنسان وليس عُمر الإنسان، وحينها لا معنى لمفهوم الزمن! ومصطلح عُمْر الإنسان الآن، هو عبارة عن مجموع توقيتات افتراضية مصاحبة لـ 36500 عملية شروق حقيقية! وكما أن اللحظة أقل من أن تُحتسب في عمر الإنسان، وعُمر الإنسان الفرد أقل من أن يُحتسب في عُمر الوجود..، فإنه وبذات المعنى، يكون عُمر الوجود أقل من لحظة في عُمر الكون المطلق الأزلي الأبدي، وهو بذلك أقل من أن يُحتسب في عمر الكون، إذن يكون الزمن الحقيقي والعُمْر الحقيقي هو زمن أو عُمْر الكون، وهو أزلي أبدي مطلق – لا بداية ولا نهاية له، وبذلك فإنه لا قيمة ولا معنى لمفهوم الزمن ولا وجود لسهم الزمن في حياة البشر، وغير البشر – بالمفهوم الديني والثقافي التقليدي للزمن! أما مفهوم الزمن في الساحة العِلمية، فلعل أهم تصور له، هو ما جاء في النظرية النسبية!
 نظرية النسبية تقول بأن الزمن شيء موجود، وأنه عنصر أساسي متحد مع عنصر المادة، وأن هذا الخليط هو قوام الوسط الفضائي الذي يحوينا والذي تجري به وفيه وعليه كل عملياتنا الحياتية، والذي أسمته النظرية بالزمكان! وتقول نظرية النسبية إن لكل إنسان زمنه الخاص الذي يمكن أن يتباطأ ويتسارع متفاعلاً مع المادة وخاضعًا لقوانين الطبيعة! وبحسب هذه النظرية العلمية الفيزيائية، يكون الزمن عنصرًا له وجود فعلي في الطبيعة! وبحسب هذا التصور لمفهوم الزمن: يحق لنا التفكير في الحصول على كمية من عنصر الزمن الخالص، فتحضيره أو استخلاصه من الإنسان أو من مركب الزمكان يبدو ممكنًا – بحسب هذه النظرية! وهذا يعني أن الزمن عنصر قابل للتلوث والتنظيف، كما هو الحال مع المكان والمادة! ومعنى ذلك أن الحُفر التي نقع فيها أحيانًا، بعضها حُفر زمنية وليست كلها حُفر مكانية مادية، وذلك على اعتبار أن الموجود حولنا عبارة عن زمكان، وهو مركب من عنصري الزمن والمكان، وكما أن خلو الزمكان من المادة يترك حُفرة، كذلك يكون خلوه من الزمن ينبغي أن يترك حُفرة! ومعنى ذلك أن بعضًا من زمن الإنسان يمكن أن يتبقى بعد موته، تمامًا كما يتبقى بعضًا من ممتلكاته المادية، وبالتالي يمكن توريث الزمن! ويترتب على ذلك أنه يمكن للإنسان أن يقتطع جزءًا من زمنه – كذا سنة، فيتبرع بها أو يبيعها أو يرميها إذا كانت فاسدة- خاصة إذا كان المتبرع فقيرًا أو مجندًا إلزاميًا أو سجينًا- وذلك كما يفعل بأعضائه المادية عند الضرورة! ومعنى ذلك أيضًا، أن أحدهم قد يموت بسبب نقص في الزمن.. على غرار نقص في الأوكسجين! وعلينا أن نتوقع حصول نزاعات وحروب على الزمن، كما هو حاصل على المكان ومصادر الطاقة! ولا ينبغي أن نستغرب حصول ازدحام وتدافع بين أفراد معدودين من البشر، في صحراء الربع الخالي أو في الصحراء الكبرى، وذلك بسبب نقص حاد في الزمن – رغم غزارة المكان! وينبغي أن نستعد لاحتمال حصول جفاف زمني، يؤدي إلى شح في عنصر الزمن الصالح للاستهلاك البشري على الأرض – مع التزايد السكاني، كما هو الحال مع تناقص الغذاء البشري على الأرض! وربما يتوجب على المختبرات البدء في إجراء التجارب لإنتاج زمن صناعي- تمامًا كما أنتج البشر المكان اصطناعيًا في البحر، وكما أنشأوا مكانًا في الفضاء – المحطة الفضائية الدولية! وعلى البشر أن يدرسوا مدى صلاحية الزمن الحيواني والزمن النباتي للاستهلاك الآدمي، وربما وجدنا طريقة لتخزين أزمنة النباتات والحيوانات التي نُقرر إيقاف أزمنتها، أو نتغذى على أزمنتها كما نتغذى على مادتها! وليتوقع كل منا أن يظهر عليه تورم زمني، أو أن يُصاب بجفاف أو ضمور زمني، أو أن يحصل لديه تقلص زمني! وبالمحصلة، فإنه ولكي يكون هذا التصور العِلمي للزمن صحيحًا، فإن عملية فصل عنصر الزمن عن المكان ينبغي أن تكون ممكنة، وهذا ما لا يقبله العقل والمنطق، ولم يقل به العِلم – رغم قبول بعض العلماء لفكرة وجود مُركَّب الزمكان الناتج عن اتحاد الزمن بالمكان!

السبت، 30 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(5).

0 تعليق



الحُكم على أحدهم بأنه مجنون، هو مجرد تعبير عن حدوث جنون خاص يختلف عن الجنون العام..، حيث لا وجود لمرجعية أو معيار طبيعي محدد، يُقاس به مستوى عقلانية البشر وحدود الرُشد والصواب الفطري أو الحَدِّي أو المطلق – إن وُجد! فوجود مجموعة من المجانين في مكان واحد، يجعل من جنونهم معيارًا للعقلانية، ويجعل من سلوكهم وممارساتهم معيارًا للطبيعيات! وبالتالي يُصبح كل سلوك مخالف لسلوكهم، هو سلوك شاذ ومنحرف، ويُصبح صاحبه في نظرهم مجنونًا، حتى لو كان هو الصائب!

تكملة الموضوع… يوجد من البشر مَنْ يعتقدون بإمكانية تحقيق سعادة كاملة، وهؤلاء يرفضون الانطلاق من الواقع، لأن معطيات الواقع قد تم التحقق منها، وثبت أنها لا تحمل عناصر السعادة الكاملة! لكن، الضعف البشري أو العاطفة الإنسانية، تدفع الكثيرين من البشر، إلى رفض وضع أي احتمال يجعل من الواقع هو الحقيقة، أو أن الحقيقة هي الواقع! هؤلاء يعتقدون اعتقادًا جازمًا، أساسه الافتراض والضعف والأمل، وليس العِلم والجِدّ والأمانة..، يعتقدون بوجود شيء اسمه السعادة، ويُصرُّون على أن اختلاف الواقع عن الحقيقة المفترضة، هو سبب نقص أو غياب تلك السعادة! وعلى هذا الأساس نشأت الفلسفة، كباحث عن الحِكمة – الكفيلة بإزالة الاختلاف بين الواقع المعلوم والحقيقة المفترضة! هذا يعني أن الفلسفة عبارة عن معمل لتحضير الحِكمة، وأن الحِكمة هي السبيل لبلوغ الحقيقة! لكن هل من الصواب أو من الضرورة، الربط بين الحِكمة والحقيقة والسعادة؟ البشر يعرفون الواقع ويرفضون وصفه بالحقيقة، ويعرفون الحِكمة ويختلفون حولها، بينما لم يتمكنوا من تخيل الحقيقة المطلقة – فضلاً عن إدراكها أو إثبات وجودها! فأين الصواب وأين الحِكمة من السعي لبلوغ ما عجزوا عن تخيله، أو انتظار سعادة مرتبطة به؟ الفلسفة تُعنى بالبحث عن الحِكمة أساسًا – لا عن الحقيقة المطلقة! لكن، الفلاسفة مضطرون للاستعانة برمزية الحقيقة المطلقة، من أجل تمرير القصور في نظريات الفلسفة البشرية الابتدائية؛ حيث إن البشر يُمررون العيوب إذا نُسِبت إلى الحقيقة المطلقة، لكنهم لا يُمررون ذات العيوب إذا نُسِبت إلى الفلسفة أو الحكمة البشرية؛ ليس معنى ذلك أن البشر يعرفون الحقيقة المطلقة، ويعرفون أن بها عيوب ينبغي تمريرها، إنما يُمررون العيوب المنسوبة إلى الحقيقة لأن الحقيقة هي ملاذهم الأخير في رحلة هروبهم من الواقع، ولا خيار للمستجير غير القبول بعيوب الملاذ الأخير! والذي يحدث هو أنه، إذا نُسِبت عيوب إلى الحقيقة المطلقة، فإن ما يفعله البشر، هو أنهم يُنزِّهون الحقيقة من تلك العيوب، وينسبون العيوب لأنفسهم، وذلك حفاظًا على الأمل المفترض الذي يمنح وجودهم معنى واستمرارية – والمتمثل في ضرورة وجود حقيقة خالية من العيوب، وتحمل لهم السعادة! الإنسان العادي البسيط، يختصر الجُهد والوقت، فينسب غياب السعادة إلى غياب الحقيقة، وينسب غياب الحقيقة إلى قِصر الزمن، فهو يُحب أن يعتقد ويجتهد في الحفاظ على هذا الاعتقاد، الذي مفاده أن السعادة قرينة الحقيقة، وأن ظهور الحقيقة أمرٌ حتمي، لكنه يتطلب وقتًا أكبر من المتاح للبشر، وبذلك لا يتوقف البُسطاء عند الجانب النظري من الحياة، بل يحاولون عمليًا ممارسة قدر من السعادة بما لديهم من فتات زائل! يمكننا القول، بأن دخول مفهوم الحقيقة المطلقة، على خط البحث عن السعادة، قد قوَّض مشاريع الفلسفة، وأجهز على قيمة الحِكمة؛ حيث إن الاعتقاد بوجود حقيقة مطلقة، هو اعتقاد بوجود ما لا يستوعبه الزمان والمكان ولا يُدركه الإنسان! لكن، وتحت ضغط العاطفة والضعف والخوف، اضطر البشر إلى تحجيم وتصغير الحقيقة المطلقة، بحيث يمكنهم استيعابها! والذي حدث، هو أن الاعتقاد بوجود حقيقة تحتوي كل عناصر السعادة، قد أوحى إلى المغامرين والانتهازيين، بفكرة القفز مباشرة إلى تلك الحقيقة، متجاوزين الفلسفة والحكمة، مستغلين العشق البشري للحقيقة المفترضة، فتمكن الانتهازيون باسم الحقيقة من تمرير نظريات تحولت إلى أيديولوجيات، حاربت الفلسفة وتجاهلت الحكمة ولم تُحقق السعادة، لكنها استطاعت الاستمرار، بسبب ارتباطها المزعوم بمعشوقة البُسطاء– الحقيقة المطلقة التي تكفل السعادة التامة! في بدايات الوجود البشري، كان البشر مضطرين لوضع نظريات بدائية قاصرة، لتفسير كل ما هو مجهول! وعلى العكس من الفلسفة والحكمة النخبويتين، فإن تلك النظريات البدائية أو ما يمكن وصفها بنظريات الحقيقة المعلبة (المعتقدات)، قد خاطبت الأغلبية البسيطة التي تميل إلى القوالب الجاهزة! هذه النظريات، تُقر ضمنيَّا بأن إثبات وجود الحقيقة المطلقة هو أمر مستحيل، لكنها لا تقول ذلك بشكل مباشر يفهمه البُسطاء- خوفًا من نفورهم منها؛ وبدل ذلك تتحايل على البشر، بالقول بوجود حقيقة مطلقة، لكن إدراكها يتطلب من البشر فعل المستحيل! زعمت هذه النظريات بأن عيوب البشر هي الحائل دون ظهور الحقيقة وتحقق السعادة، فانشغل البشر بإصلاح عيوبهم وكأنهم مسئولون عنها، في حين أن البشر أضعف من أن يكونوا مسئولين عن ضعفهم الذي هو مصدر كل عيوبهم! لكن البشر أضعف كذلك من أن يُقرُّوا بعيوبهم، لأن الإقرار بأن العيوب جزء أساسي منهم، سيكون على حساب الأمل المفترض؛ وعلى هذا الوتر الحساس عزفت النظريات الجاهزة ألحانها! فوجود العيوب يمنع من إدراك الحقيقة، ولذلك افترضت تلك النظريات، أن تكون عيوب البشر مؤقتة ومرحلية، ومرتبطة بهذا الواقع الذي هو ليس الحقيقة! تقول هذه النظريات – ما معناه، إنه ولكي يتمكن الطبيب من معالجته، فإنه على المريض أن يَشفى من سَقَمِه قبل أن يذهب إلى الطبيب! حيث يقولون بأن الخلل في البشر وليس في المعتقدات، فلو أن البشر صالحون، لتمكنت المعتقدات من إصلاحهم، وبالتالي رفعهم إلى مستوى الحقيقة، ومن ثم إسعادهم! الواقع أن عدم صلاح البشر هو سبب وجود هذه النظريات وسر بقائها، وهي تعمل على تكريس عدم صلاح البشر – بنشر الدروشة وتشريع الخلافات بينهم-، ولا تعمل على إصلاحهم، لأن الإصلاح يستوجب تحرير العقل وحرية الفكر، وحرية الفكر تؤدي حتمًا إلى رفض كل ما هو غير معقول! إن الذي يدعي معرفة الحقيقة المطلقة، ثم لا يُجيب عن كل الأسئلة، هو إنسان غير سوي، أو تنقصه الأمانة والصدق – كي يكتفي بشرف المحاولة، ويكف عن المراوغة! نظريات الحقائق المعلبة، أوهمت البشر بأنهم مسئولون عن غياب الحقيقة، وأنهم مسئولون عن أفعالهم، فأوهمت الضعفاء بأنهم مسئولون عن ضعفهم، والفقراء عن فقرهم! وبظهور هذه النظريات، خسر البشر الفلسفة والحِكمة والحقيقة والسعادة معًا! نحن نعرف الحكمة على أنها السبيل لتحقيق السعادة لكل البشر، وأن السعادة تتحقق بتحقق الرضا والاطمئنان! ويمكن تعريف الفلسفة بأنها محاولة الإنسان لرؤية حقيقة يحجبها واقع؛ أي أن الفلسفة هي محاولة إزاحة الواقع من أجل رؤية الحقيقة! في جميع الأحوال لا يمكن تجاهل تأثير الواقع، إذ لا يمكن الانطلاق إلا من الواقع! وربما كان اعتقاد الإنسان بوجود حقيقة مطلقة، هو إشارة إلى أن تطور الإنسان قد تجاوز الحد الأقصى الذي تسمح به الطبيعة في هذا الواقع. فذكاء الإنسان قد مكَّنه من التمرد على بعض قوانين الطبيعية الأم؛ لكن حتمًا لن يكون بإمكان الإنسان التمرد على الطبيعة ذاتها! لأن حصول ذلك يعني تبادل الأدوار بين الإنسان والطبيعة، حيث يُصبح الإنسان هو أصل الطبيعة، ويتحول مفهوم الطبيعة إلى جزء من الإنسان..، وهذا غير ممكن! هذا غير ممكن باعتبار أن الإنسان يعتمد على الذكاء، والذكاء مصدر أساسي من مصادر ضعف الإنسان؛ فحسابات الإنسان تعتمد على المكسب والخسارة، بينما الطبيعة لا تعتد بالمكسب والخسارة، ولذلك يتردد الإنسان حيث لا تتردد الطبيعة! نخلص إلى القول، بأن الحقيقة المطلقة هي مفهوم لا يتجاوز قدرة الإنسان على التصور فحسب، بل يتجاوز قدرة الواقع على استيعابه، وليس الإنسان سوى جزء من الواقع! إن من البديهي القول، إن الوجود هو مفهوم يشمل كل ما يمكن أن يكون موجودًا! والحقيقة التي تحكم الوجود، لا يمكن أن تكون جزءًا منه! وأعتقد أنه لا يمكن كسر جدار هذه المفارقة، إلا بالنظر إلى الكون كحقيقة أزلية واحدة، تتفاعل مكوناتها ذاتيًا بحسب اختلاف خصائصها الأزلية! وليس الإنسان سوى جزء من الحقيقة المطلقة، لكنه الآن في حالة وجود، ولا يمكن للجزء أن يُدرك الكل طالما بقي موجودًا! إدراك الحقيقة يكون بالاتحاد بها، والاتحاد بالحقيقة المطلقة يعني التحول من حالة الوجودية إلى حالة الكونية..، أي العودة إلى ما قبل الوجود

الجمعة، 29 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(4).

0 تعليق


كل ما يصدر عن الإنسان، هي مضاعفات ونتائج حتمية، لمعطيات هو غير مسئول عنها بالأساس! لا شك أن وصف الإنسان بأنه سجين، بأحد معسكرات الكون، وهو معسكر الأرض، هو وصف جاد ودقيق وصحيح، لواقع قائم وحقيقة ماثلة! فالاتفاق متحقق، على أن الإنسان ليس مُخيَّرًا ولا مسئولاً عن وجوده بالأساس، ووجوده الجغرافي والتاريخي بشكل خاص! لكن، إذا كان عدم المسئولية عن الوجود قاسمًا مشتركًا بين كل البشر، فهل يتحمل الإنسان المسئولية عما بعد عملية الوجود؟ في الواقع، ليس الإنسان سجينًا جغرافيًا وتاريخيًا فحسب، بل هو مجند إجباري، وخاضع إلزاميًا لتدريبات وتوجيهات معينة مستمرة، ومنذ اللحظة الأولى لالتحاقه بمعسكر الوجود أو مخيم الحياة على الأرض! وأكثر من ذلك، هو مزود بإعدادات نفسية متغيرة متجددة، وهي التي تُحدِّدُ سلوك الإنسان وردات فعله الآنية، وهو غير مسئول عنها ولا سيطرة له عليها..، على اعتبار أنها تتغير لاإراديًا (أوتوماتيكيًا)، استجابة للظروف الخارجية! وهو ليس مسئولاً عن تدريبه وظروفه الخارجية، وبالنتيجة هو ليس مسئولاً عن سلوكه! وما يعنينا هنا، هو الاتفاق على أنه لا توجد للإنسان نُسخة نهائية – قبل الموت، بحيث يمكن أن نُحيط بكل مواصفاتها، لنفهمها ونُقيِّمه ونحاسبه على أساسها! إن آخر نسخة لكل إنسان – بأحدث إعدادات وآخر تحديثات-، هي تلك التي نراها ونتعامل معها في آخر لحظة نراه أو نتعامل معه فيها! فإذا كُنا نعتقد ونتعامل على أساس أن ظاهر الإنسان وباطنه شيئًا واحدًا! حيث يُحاسب جسد الإنسان على سلوكه الناجم عن إعداداته النفسية! وإذا كُنا نجد العُذر لسلوك المُعاقين ظاهريًا- جسديًا، لأننا نرى أسباب سلوكهم! فإن عدم قدرتنا على رؤية الأسباب الداخلية لسلوك الأصحاء جسديًا، لا ينفي وجودها! إذن، قبل أن نُعطي لأنفسنا الحق بالحُكم على الإنسان من خلال سلوكه؛ ينبغي أن نعرف مواصفاته وإعداداته في تلك اللحظة، ونعرف كيف تعمل نسخته الأخيرة تلك، تحت ظروفه في تلك اللحظة! قد يتساءل بعضنا: وما علاقتنا بوجود الآخرين وإعداداتهم وظروفهم؟ هل علينا أن نقبل سلوكهم إذا أضرَّ بمصالحنا، بحُجَّة أنهم غير مسئولين عن وجودهم وظروفهم وإعداداتهم؟ بكل تأكيد ليس هذا هو القصد! إنما القصد هو كشف مدى جهلنا بحقيقة الآخر؛ وكم من الخلافات يمكننا اجتنابها، إذا أدركنا أن الكثير مما نرفضه من سلوك الآخرين، هو من وجهة نظرهم سلوكًا طبيعيًا وينبغي أن يكون مقبولًا لدينا، وربما لا يعرفون غيره؛ وقد يعتقدون أن سلوكهم في أسوأ الأحوال يستحق النقد أو الرفض، لكن لا يستدعي الغضب ولا يستوجب العقاب! وبالمحصلة، إذا فعل أحدهم ما استوجب معاقبته، فينبغي أن نتذكر، أن أساس العقاب هو وجوده وليس سلوكه! ……………………………….. انتهى الباب السابق (3) من هذا الموضوع، بالقول: إن الواقع يُخبرنا أن سلوك وممارسات البشر، تدل على أنهم يعتنقون ثقافة إحدى ثلاث نظريات افتراضية، من حيث علاقة الأنا بالآخر: - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، ومعلوم الهوية! - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، لكنه مجهول الهوية! - نظرية تعتبر الوجود المادي للآخر مجرد فرضية، وبالتالي فهو مجهول الهوية حُكمًا! ملاحظة للتذكير: غني عن القول، بأن الحديث هنا ليس عن الهوية الاسمية الخارجية الاصطناعية التوافقية الإجرائية – الاجتماعية والسياسية والدينية..، الخ! إنما هو عن الهوية الذاتية الطبيعية للإنسان الفرد، والتي لا تحمل اسم حاملها – ذلك الاسم البشري الثقافي الاجتماعي العشوائي المتغير! هي تلك الهوية التي هي ذات حاملها، والتي تُحدد سلوكه الطبيعي، وتعكسها ممارساته في الواقع! ………………………… النظرية الأولى: وهي التي يسير وفقها معظم البشر، ولذلك تحدث الخلافات والصدامات وتستمر الصراعات! فهي نظرية خاطئة، لأنها تتعامل مع الآخر على أساس أنه معلوم لدى الأنا، بينما الواقع أن الأنا ذاتها تجهل جزءًا كبيرًا من هويتها هي، وليس فقط هوية الآخر! فلا يمكن للإنسان أن يعرف غيره، إلا من خلال ما يسمح به ذاك الغير، وذلك يعتمد على مدى معرفة الغير لذاته، ومدى قدرته على التعبير عما يعرفه! إن فهم ورؤية الإنسان لهويته الذاتية، تختلف بين النظري والعملي، كما تختلف في الظروف الطبيعية الاعتيادية -عنها في الأزمات! فالإنسان ذاته، ولكي يعرف حقيقة ومواصفات هويته الذاتية، هو بحاجة للمرور بكل الظروف والأزمات عمليًا! أو هو بحاجة لمقدرة فكرية ذهنية استثنائية، تُغنيه عن خوض التجارب عمليًا، وتُمكِّنه من خوضها نظريًا، والخروج بنتائج وأحكام تتطابق مع النتائج العملية! فإذا كان فهم الإنسان لحقيقة هويته الذاتية، هو بهذه الصعوبة- شبه المستحيلة! فكيف للأنا أن تحكم على الآخر، وتفترض أنه معلومٌ لديها! فالطبيعي هو أن الأنا لا تعرف عن الآخر إلا ما يقوله هو عن ذاته! وتعريف الآخر لذاته، يخضع لمعادلة، بها العديد من المجاهيل: حقيقة فهم الآخر لذاته، وحريته، أمانته، ثقته بالأنا، مقدرته الذهنية، درجة الوعي، المزاج الآني، الظروف الخاصة، البيئة العامة..، الخ! ولهذا فإن الحُكم على الآخر وفق هذه النظرية، لا يمكن أن يكون صائبًا، إلا من قبيل الافتراض أو من قبيل الصدفة- التي لا يُعوَّل عليها! النظرية الثانية: وهي الأقرب إلى الصواب، والأولى بالاتِّباع في معظم المعاملات والاتصالات البشرية العامة! حيث لا خلاف على الوجود الظاهري المادي للآخر عند عموم البشر. وأما حقيقة الآخر ومواصفاته الذاتية، فهي مجهولة! والتعامل مع الآخر على هذا الأساس، يوفر قدرًا كافيًا من الحذر المتبادل، يكفل للآخر حقوقه لدى الأنا، ويكفي الأنا شر الآخر، فيتحقق الحد الأدنى المطلوب للحياة الإنسانية! النظرية الثالثة: وهي التي تعتبر الوجود الظاهري للآخر موضع تساؤل، وبالتالي يكون الحديث عن هويته أمر سابق لأوانه دائمًا! وهي ثقافة فلسفية، بُنيت على أفكار بعض الفلاسفة وعلى بعض (الحقائق) العلمية! مما تتصوره هذه الثقافة، أنه لا يمكننا الجزم، هل أن الذي يجري في اليقظة هو الواقع الحقيقي، أم أن الواقع الحقيقي هو الذي تجري أحداثه في الأحلام – ونحن نيام! عِلميًا – حتى الآن على الأقل – كل شيء مكون من ذرات، والذرات يمكن اعتبارها أشياء خيالية، وبالتالي يمكن اعتبار كل شيء – بما في ذلك الإنسان – أو يمكن أن يكون كل شيء خياليًا بالفعل – من الناحية المادية! كذلك يرى معتنقو هذه الثقافة، أنه طالما أن الحواس هي القاسم المشترك بين البشر للحُكم على الأشياء، وهي وسيلتهم الأساسية لإثبات وجود الأشياء من عدمه، وحيث إننا نعتمد عليها اعتمادًا كاملاً في إثبات وجود الآخر وفي تعاملنا معه، وحيث إنه قد ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أن حواسنا يمكن اعتبارها خادعة لنا، ويمكن اعتبارها مخدوعة بواسطة الأشياء (السراب، والنظر من خلال الماء أو من خلال زجاج مقوس، الحركة الظاهرية الشمس، الثبات والتسطح الظاهري للأرض، وجود الميكروبات بالأطعمة والمياه، الفرق بين الهواء والفراغ، عمى الألوان، إحساسنا الكاذب ببرودة عالية في الهواء والأشياء – عندما ترتفع درجة حرارة أجسامنا، ..الخ)! فحيث إن حواسنا يمكن أن تخدعنا، أو أن حواسنا يمكن أن تخدعها الأشياء، إذن لا يمكن الجزم بوجود الآخر بالاعتماد على الحواس! وحيث إن الإثبات التقليدي لوجود الآخر، يعتمد على الحواس، إذن وجود الآخر غير مؤكد! فإذا اتفقنا على أن الوجود المادي للآخر غير مؤكد، يُصبح جهلنا بهويته تحصيل حاصل!
مما يلفت أو يستحق الانتباه هنا، هو أنه وعلى الرغم من غرابة النظرية الثالثة – المذكورة أعلاه، ورفض جُل البشر لها نظريًا- فيما يخص وجود الآخر، إلا أن الواقع العملي في حياة ومعاملات البشر، يكاد يعكس اعتناق جُل البشر لها! فالوجود المادي الجسدي للإنسان، إنما هو شاشة تستعملها الذات للتعبير عن هويتها! فإذا رفضنا سلوك الآخر، فذلك يعني عدم إقرارنا بوجوده كذات مستقلة ومنفصلة عن تصوراتنا وتوقعاتنا! وهذا يعني أن الآخر الذي نعترف بوجوده، ليس هو هذا الموجود أمامنا، إنما هو ذاك الموجود في مخيلتنا! وهذا يعني أننا نعتبر الوجود المادي للآخر بمثابة وجود افتراضي، بينما نرى الوجود الحقيقي للآخر هو ذاك الموجود في مخيلتنا! إن إكراه الإنسان على فعل شيء أو ترك شيء، هو أوضح دليل على عدم الإقرار بوجوده ككيان مستقل عنا! إن إقرارنا بوجود الآخر واستقلال هويته، يتحقق بحصر أصناف البشر، وليس بدمج أنماطهم وتوحيد سلوكهم- كما هو حاصل! فكل فرد من البشر، هو الوحيد القادر على وصف ذاته، وذلك من خلال سلوكه وممارساته! فإذا اتفق البشر على رفض ممارسات أو سلوك بشري معين، وقرروا أن يكون الإعدام مصيرًا لفاعله، فإن الوصف الدقيق والصحيح لقرارهم هذا، هو أن صِنفًا من البشر، يرفضون وجود صنف آخر من البشر! إذ لا معنى للقول بأن صنفًا من البشر يرفضون سلوك صنف آخر من البشر، إلا باعتباره إنكارًا لوجودهم ككيانات مستقلة عنهم..، وهذا يتوافق مع تصورات هذه النظرية الفلسفية، حول معنى وحقيقة وجود الآخر لدى الأنا! إن الأنا لا تقول، لكنها تُمارس، رفض الواقع وعدم الإقرار بوجود الآخر، وذلك من خلال حُكمها على الآخر الموجود في الواقع – لا من خلال سلوكه وممارساته العملية – ولكن من خلال صورته الثقافية والتاريخية والعقائدية لديها! المسلمون يرفضون غير المسلم – لا بسبب سلوكه العملي في الواقع- إنما بسبب صورته الثقافية والتاريخية والعقائدية لديهم! إن التعصُّب العِرقي والمذهبي والطائفي، هو تجاهل أو إنكار للواقع العملي، وتعامل مع الآخر على أساس الصور الذهنية، وهو الأمر الذي يجعل الإنسان يرى صواب جماعته في ذهنه، ولا يرى أخطاءها في الواقع العملي! وفي هذا ما يدعم فرضية وطرح النظرية الثالثة – سالفة الذكر-، ويُشير إلى اعتناق الكثيرين من البشر لها! فصورة الآخر لدينا، هي التي تحكم علاقتنا به، وليس وجوده وسلوكه في الواقع!

الخميس، 28 نوفمبر 2019

الذات الفاعلة والآخر المختلف!(3).

0 تعليق



لماذا تنتشر مظاهر الفوضى والعبث، بمجرد غياب
 السلطة السياسية في أي مجتمع بشري..، على الرُغم من وجود مفترض للوازع الديني والأخلاقي الذاتي- المستقل عن السلطة السياسية! الجواب: لأن غياب السلطة السياسية، يعني انتفاء الحاجة للتمثيل والتزييف عند البُسطاء والضعفاء- وهم الغالبية دائمًا! فسلوكهم الظاهري الموحد، الذي تفرضه عليهم القوانين والتشريعات والأعراف بواسطة السلطة..، لا يعكس طبيعتهم الحقيقية إنما يطمس اختلافاتهم الطبيعية! وأما مظاهر الالتزام الديني والأخلاقي، فهي في جُلها عبارة عن مُسكِّن وبديل احتياطي، يلجأ إليه الإنسان عادة، عند الضعف وغياب الحرية! بالطبع، ليس المقصود هنا، القول بأن الفوضى هي السلوك الطبيعي للبشر! فالإنسان مضطر للحياة الاجتماعية – ليس حُبًا فيها بالضرورة- إنما لأنه غير مُهيأ للحياة الفردية! والحياة الاجتماعية تتطلب مراعاة مصالح الآخرين، وهو ما يعني ضرورة الاتفاق على حد أدنى من الانضباط العام! لماذا إذن، ممارسة الفوضى بمجرد انهيار السلطة؟ إن الانفجار الفوضوي البشري الشرس، الذي يعقب انهيار كل سلطة عادة، هو ردة فعل عنيفة لكنها طبيعية وحتمية، فهي تعكس إعلان الآخر المقهور عن تحرره، وإعلان الذوات المغمورة عن وجودها! هو تصريف مفاجئ لمخزون كبير ومتراكم من الكبت والتزييف الإجباري! ولذلك نلاحظ تسارعًا وتنافسًا في ممارسة الفوضى لحظة سقوط السلطة، وذلك يعكس الخوف من رجوعها قبل تفريغ الشحنة! وليس بالضرورة أن تكون السلطة – أشخاص الرئيس والحكومة – هي المقصودة مباشرة بردة فعل البُسطاء والضعفاء الفوضوية، إنما المقصود كل ما هو مرفوض لديهم من تشريعات وعوائق خلقت الفوارق بينهم وبين الأقوياء والحُذاق – في وجود السلطة! وربما كان السبب لكل ذلك هو تلك القوانين والتشريعات والأعراف التي تتعامل مع البشر في المستويات الدنيا، كقطعان متساوية – لا كأفراد مختلفين!

البشر يُقرُّون باختلاف الحيوانات عن بعضها، ويتجاهلون اختلافاتهم! حقوق الحيوان، تعني توفير البيئة الطبيعية لكل صنف من أصناف الحيوان! والواقع أن الإنسان يُعاني من غياب البيئة الطبيعية أكثر من معاناة الحيوان! فالبشر بحاجة لإعلان عالمي لطبيعة الإنسان، وليس لحقوق الإنسان! الاختلافات الطبيعية بين الحيوانات خارجية، ولذلك كان أساس حقوق الحيوانات هو توفير بيئة طبيعية خارجية، تعكس اختلافاتها الخارجية! ولأن الاختلافات الطبيعية بين البشر داخلية، فإنه لا قيمة للحديث عن حقوق الإنسان ما لم يكن أساسها توفير بيئة طبيعية تعكس اختلافات البشر الداخلية! 
 تساهل أو إذعان القادرين على عدم الإذعان، للثقافات والأعراف والمعتقدات، التي تتجاهل اختلافات البشر الطبيعية، وتختزل سلوكهم في نمطٍ واحد، تفرضه على الكل، وتمنحه صفة السلوك السَوِي، لتُحرِّم أو تمنع أو تُسفِّه كل سلوك يُخالفه..، هذا التساهل أو الإذعان لا يمكن فهمه كقناعة لدى العارفين، ولا ضعف لدى القادرين! إنه إنما يعكس جهلاً أو رغبة، في دفع الضعفاء والبُسطاء لممارسة الكذب والخداع والنفاق..، فهؤلاء مضطرون لمحاكاة السلوك المفروض،.. أي تزوير المستند المطلوب لنيل الحد الأدنى من الاحترام- فيتظاهرون بتبني السلوك الذي يتجاهل اختلافاتهم ويصطدم بفطرتهم! وتكون النتيجة أو كانت، ظهور مجتمعات من الكاذبين والمنافقين والمخادعين، المجبرين على رفع شعار: السلوك البشري السَوِي المُوحَّد- طالما وُجِدت قوة تفرضه! فقد صار لزامًا على الإنسان أن يكون استثنائيًا لكي يعترف له الآخرون بأنه مختلف عنهم، وبأنهم يجهلونه..، وهو ما من شأنه حصوله على قيمة ذاتية وخصوصية يحترمها الآخرون، وتفرض عليه هو احترام ذاته..، وهو الأمر الذي لو تحقق بشكل طبيعي لكل إنسان، لما كان استقرار المجتمعات رهنًا بوجود سلطة سياسية! إنه ومن حيث المبدأ، لا فرق بين شجار الأطفال وملاكمة الكبار ومصارعة الثيران والتنافس على السلطة؛ فكل ما يجري في ميادين التنافس البشري بشري، هو بالأساس وبالنتيجة محاولات من كل الأطراف لانتزاع اعتراف بوجود اختلاف يجهله الآخرون..، وذلك في مقابل وضع قائم يرفض الإقرار بوجود الاختلاف أو يُسفِّه المختلف! كان التنافس سيكون طبيعيًا، لو أنه استمر كما كان بين الإنسان والجوع؛ بين الإنسان والطبيعة؛ بين الإنسان والمرض؛ بين الإنسان والجفاف، بين الإنسان والجهل..، الخ..، أي أنه تنافس في مجالات مختلفة ولغاية واحدة.. هي مصلحة وراحة الإنسان! وكان التطرف عندها سيكون مطلبًا إنسانيًا، لأنه يعني بلوغ أقصى ما يمكن بلوغه مما ينفع الإنسان! وكانت الوسطية- التي يطلبها البشر اليوم وقد استحال حدوثها- ستكون مرفوضة- باعتبارها كسلاً وتخاذلاً! بيد أن الأمر لا يستحق التجاهل، ولا يتطلب كل هذا الجُهد وكل هذه السلوكيات التنافسية البدائية، إنه يتطلب فقط سن تشريعات، تؤسس لإقرار الجميع بأن المجتمع البشري هو مجموع أفراد مختلفين لا إراديًا، وأنه لكل فرد منهم ما يميزه ويجعله مختلفًا عن سواه ومجهولاً لهم- بما يوجب احترام خصوصيته! أما عندما يتطلب الأمر من كل إنسان أن يكون قادرًا على تجاوز الواقع واستحضار الحقيقة (صُنع معجزة)، لكي ينتزع من الآخرين الإقرار بالواقع- لا بالحقيقة! فالحقيقة هنا لا تُدرك، إنما تُستحضر ليُدرك من خلالها الواقع! الواقع هو وجود الاختلاف بين البشر، أما الحقيقة فهي ما وراء هذا الاختلاف..، وهو ما لا يمكن إدراكه، أو ربما لا حاجة بالبشر لإدراكه- قياسًا إلى التكلفة! عندما يكون الأمر على هذه الحال، وهو كذلك، فهذا يعني أن الإقرار بالاختلافات الطبيعية بين البشر، أصبح ميزة لا يتمتع بها غير القادرين على انتزاعها! بينما يتم التعامل مع الغالبية العظمى من البشر كمستنسخين- لا يمكن أو لا يحق لهم أن يكونوا مختلفين، وبذلك تُسنُّ القوانين والتشريعات- التي تحكم عامة الناس- على مقاس فرد افتراضي، له مواصفات محددة! هذا الأمر يترتب عليه بالضرورة خرق تلك القوانين والتشريعات بواسطة المختلفين عن ذلك الفرد الافتراضي! والمختلفون هنا، يمكن أن يكونوا كل البشر! هذا الأساس الخاطئ، جعل من القوانين والتشريعات وسيلة لصنع إنسان وليس سبيلاً للتعامل مع الإنسان! إن الصواب والطبيعي هو أن لا نكون بحاجة لإثبات الواقع..؛ لكن إصرار المتنفذين من البشر على تجاهل وتجاوز الواقع، جعل من إثبات المثبت ضرورة! إن الواقع عبارة عن مرآة تعكس حقيقة – أي أنه مرآة تُثبت وجود حقيقة- لكن لا تُحقق إدراكها! البشر يتوارثون اعتقادًا خاطئًا، مفاده أن الآخر لا يمكن أن يكون إلا أحد احتمالات بشرية معدودة ومحصورة ومعروفة! 
. لماذا نستغرب سلوك الآخر عندما يخالف توقعاتنا؟ لأننا نعتقد أننا نعلم كل المعطيات والخلفيات التي تصنع سلوك الآخر، ولذلك نعتقد أن سلوك الآخر لا بد وأن يكون في متناول تخيلاتنا وحساباتنا..، وإذا خالف توقعاتنا وجب انتقاده أو عقابه..، فلكي تكون توقعاتنا صحيحة، كان لا بد أن نفترض أن سلوك الآخر المخالف لتوقعاتنا هو انحراف متعمد! نحن كذلك، لأن وعينا – سواء عن قصد أو عن جهل- قد تم توجيهه وتصنيعه ليكون أقل من أن يستوعب وجود ذات أخرى مستقلة ومختلفة عن ذاتنا! فنحن نقر للآخر بالوجود المادي المنفصل عنا-فحسب! نحن لا نعترف باستقلال الآخرين عنا كذوات نجهلها، بل ككائنات نعرفها ويمكننا أو يحق لنا أو من واجبنا احتواؤها! نحن نعرف الآخر من خلال صورة نرسمها له في أذهاننا، وليس من خلال وجوده وسلوكه الفعلي في الواقع! نحن نرسم للآخر صورة في أذهاننا بمجرد أن يدخل مجال الإدراك لدينا- عن طريق المجتمع، التعليم، الإعلام، الثقافة، التاريخ، ..الخ؛ ثم نقوم بتضمين تلك الصورة كل المواصفات التي نعتقد مسبقًا أنه ينبغي أن يحملها الآخر ولا يمكن له الخروج عنها؛ ثم نتخذ من تلك الصورة مقياسًا للأصل! وبالتالي فإن رفضنا لسلوك الآخر، هو تعبير عن رفضنا للواقع، وعن خيبة أملنا في الحقيقة التي ظهرت بغير ما كُنا نتوقع ونرغب! هذا السلوك من الأنا تجاه الآخر، يمكن اعتباره حالة مَرَضية بشرية متوارثة؛ حيث يتوارث البشر اعتقادًا خاطئًا، مفاده أن الآخر عبارة عن واحد من احتمالات بشرية معدودة ومحصورة ومعروفة! لذلك توجب على الآخر أن يكون استثنائيًا، لكي نُقر له بوجود مستقل ومختلف عنا! فصار لزامًا على الآخر أن يكون سيدًا، رئيسًا، مَلِكًا، عالِمًا، غنيًا، مشهورًا، ..الخ، لكي تعترف له الأنا بأنه مختلف عنها وأنها تجهله! إثبات الذات للآخرين يكون بإثبات الاختلاف عنهم! والواقع أن الأنا تشعر بأن أي قيمة تُعطيها لأي آخر، إنما تكون على حسابها ومن رصيدها؛ لذلك كان سعي الأنا دائمًا باتجاه التقليل من شأن وقيمة الآخر؛ وكان سعي الآخر دائمًا باتجاه فرض التنافس لانتزاع نصيبه من القيمة المفترضة والمتنازع عليها عمليًا! ولذات السبب، نحن نمنُّ على الأحباب والأصدقاء بما نُقرُّ به لهم من قيمة- ممثلة في مكانتهم لدينا؛ ونفخر بمكانتنا لديهم- لأنها تُمثِّل لنا إقرارًا منهم بجزء من قيمتنا المُجزَّأة- التي نبحث عن أشلائها في كل مكان وبأي وسيلة! ولذات الأسباب، نحن ندَّعي معرفتنا بالآخر، ونرفض الإقرار بأنه مجهول لنا، ذلك لأن الإقرار بجهلنا به هو إقرار ضمني بأن له قيمة ووجود مستقل عنا، وفي ذلك إقرار بنقص فينا، ولذلك نرفضه! لو أن إدراكنا للوجود البشري، توقف عند اتفاقنا على وجود ظاهري يتكون من: أنا وآخرين؛ لكانت علاقة الأنا بالآخر طبيعية، وليست اصطناعية كما هي الآن! وذلك باعتبار أن الإدراك الظاهري للوجود هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة حتى الآن! لكن الأمر تجاوز إدراك الأنا لوجود الآخر، إلى اعتقاد الأنا بمعرفة ماهية الآخر..، وبسبب هذا الاعتقاد الخاطئ..، شهدت العلاقات البشرية إخفاقات وصدامات ومظالم- ما تزال قائمة! ومن أهم النتائج المترتبة على هذا الاعتقاد الخاطئ، والتي نلمسها في الواقع: 1- ظهور ثقافة الوصاية الفكرية..، وكان ذلك نتيجة حتمية لاعتقاد الأنا بمعرفة الآخر؛ حيث إنه قد نتج عن هذا الاعتقاد، حق الأنا في التكهن بسلوك الآخر، فأصبح كل سلوك من الآخر مخالفًا لتكهنات الأنا، هو بمثابة انحراف متعمد ومرفوض- في نظر الأنا! 2- تشريع الصدام بين الأنا والآخر..، الصدام في حدود تضارب المصالح المعلومة، هو أمر طبيعي وجزء من القانون العام للوجود، لكن ومع اكتشاف عناصر القوة وامتلاكها، لم تعد الأنا القوية تكتف بانتقاد سلوك الآخر الضعيف- المخالف لتكهناتها، ولم تعد تكتف بصدام المصالح الطبيعي..؛ فإحساس الأنا بالقدرة على توجيه الآخر وتحديد سلوكه، أشعرها بأن لها الحق في تصويب الآخر، واتخذت من ذاتها ومصالحها معيارًا لما ينبغي أن يكون، فأصبح التصويب يُعادل الإخضاع، فكان تشريع الصدام وتبريره! 3- ظهور مفهوم الـ ( نحن ) إلى حيِّز الوجود الثقافي والاجتماعي- على الرغم من استحالة وجوده في الواقع! حيث إن مفهوم الـ(نحن) يُشير إلى مجموع (الأنا)، وتلك مغالطة، إذ لا يمكن جمع الأنا، ولا يمكن أن يوجد أكثر من أنا واحدة، فكل ما هو موجود عبارة عن أنا واحدة- وكل ما عداها هم آخرون بالنسبة لها! من الواقع، يمكننا القول بأن البشر يتوزعون ثقافيًا بين ثلاث نظريات افتراضية- في علاقة الأنا بالآخر: - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، ومعلوم الهوية! - نظرية تعتبر الآخر موجودًا ماديًا، لكنه مجهول الهوية! - نظرية تعتبر الوجود المادي للآخر مجرد فرضية، وبالتالي فهو مجهول الهوية حُكمًا