face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الأحد، 25 مايو 2025

كوميديا الوجود: دليل العاقل في زمن الخرافة

 


العاقل الحقيقي، في هذا الزمن، ليس ذلك الذي يلتزم الحياد بين الخرافة والعقل، بل ذاك الذي يضحك… يضحك وهو يرى العالم يركع أمام أصنام غير مرئية، وأفكار ميتة مُحنّطة، وكتبٍ أكلها العفن تُتلى بخشوع وكأنها قادمة من مجرّات المعرفة.

العاقل الحقيقي لا يبحث عن إله، ولا ينتظر مخلّصًا، ولا يحني رأسه أمام الميتافيزيقا. إنه يعلم، بيقين ساخر، أن ما نسميه "الحياة" ليس سوى حادثة طارئة في نفايات الكون، وأن "الكرامة" و"العدالة" ليستا سوى ديكور مؤقت فوق مسرح الافتراس الجماعي.

أهلاً بك، أيها العاقل، في مسرح الكوميديا السوداء:
الطفل يولد في زمن لا يطلب فيه أحد المجيء، يصرخ، فيهلّل الجميع، ثم يكبر ليعبد إلهًا لا يسمعه، ويخاف شيطانًا لا يراه، ويحارب بشرًا لا يعرفهم باسم فكرة لا يفهمها.
ثم يموت.
وتُقام له جنازة فاخرة، كما لو أن أحدًا يهتم.


في هذا الزمن — زمن الخرافة المتعولمة — لم يعد الإيمان مجرّد يقين، بل تحوّل إلى استعراض، إلى مهرجان جماعي يُرفع فيه شعار الجهل المقدّس، وتُخيط فيه النصوص على قياس الزيف العام، وتُستبدل الأسئلة بالعقائد، والقلق باليقين، والدهشة بالركوع.

لا أحد يسأل لماذا يولد الطفل في الحضيض ويموت في المجاري، بينما يولد آخر في القصور ويموت على سرير أبيض بين دموع الفلاسفة. لا أحد يسأل لماذا لا نسمع أيّ صوت للإله عندما يُغتصب طفل في أحد الأزقة، أو تُقصف أمّ وهي تحتضن طفلتها.
وحين تسأل:
يقال لك: "لحكمة لا نعلمها."

يا لهذا الجواب القذر!
أي حكمة تلك التي تتغذى على الصمت والدم والارتباك؟
أي عقل يقبل أن يكون الله مديرًا لمسرح التعذيب، ثم يُبرّر له بأنه يفعل "ما يشاء"؟
وهل من المعقول أن نعبده لأنه أقوى؟ وهل نغفر له لأنه قادر على حرقنا؟
وهل يسقط المنطق أمام الجبروت؟
إذن لا فرق بينه وبين طاغية محليّ… سوى في الحجم.


يا عاقل، إننا في مسرح العبث، ولا شيء في هذا المسرح يُؤخذ بجدية سوى الضحك.
ضحك على من ينتظر من النجوم ردًّا، أو من يفتش عن معنى في الأمعاء الدقيقة، أو من يقرأ "الإعجاز العلمي" في سورة الليل وكأنّ نيتشه نائمٌ في بيت خالته.

نعم، قد نكون ذرّات تائهة، لكننا لا نحتاج إلى كذبة تبرّر ذلك. لا نحتاج إلى نبيّ يعدنا بالجنة، ولا إلى فيلسوف يبيعنا أملًا مخفوقًا بالخداع الوجودي.
يكفينا أن نعي… أن نعي أنّنا نعي.
يكفينا أن نضحك، كما يضحك المجنون حين يدرك أن المستشفى ليس أكثر من نسخة نظيفة من العالم الخارجي.


ما العمل إذًا؟
هل ننتحر؟
ربما.
لكن الانتحار لا يحلّ معضلة الوعي، بل ينهيها فحسب.
ربما يكون الحلّ في مقاومة الخرافة، لا من أجل الحقيقة، بل من أجل الكرامة. أن تموت وأنت واقف، خير من أن تعيش راكعًا لنصوص لم تُكتب لك، وخرافات لا تسمن سوى القطيع.

دعنا لا نكن "حكماء" كما يحبّ العقلاء الكذبة. دعنا نكون صادقين:
هذا الوجود مهزلة، وكل من يقدّسه شريك في الجريمة.
من يبحث عن معنى، فليبحث في لحظة خروج الفضلات، حين تتساوى 
الميتافيزيقا بالروث.

لـمن يسير حافيَ العقل في ممرات الجنون المقدّس

من يطلب الحكمة، فليبحث عنها بين المفاصل الصدئة للّيل، حين تصمت الآلهة، ويصحو سؤال:
لماذا خُلق كل هذا العمى، ثم أُمرنا أن نراه نورًا؟
لماذا نُدفن أحياء في طقوس الطاعة، ونُجبر أن نُسمّي القيدَ عبادة، والجهلَ تسليمًا، والاغتصابَ قَدَرًا؟

في هذا العالم، لا حاجة لنا بآلهةٍ تراقبنا من سماءٍ مرتابة، لأنّ الفوضى تمارس وظيفتها بإخلاص لا مثيل له. الأنهار تنفجر دون صلاة، والسرطان لا ينتظر الكفر كي يفترس طفلاً لم يبلغ الحلم.
لا يوجد مخطط. لا توجد مؤامرة سماوية. توجد فقط طبيعة تعاني من فائض اللامبالاة، ونحن كبشر، كأنواعٍ مرتابةٍ من الطين والصدف، نحاول نحتَ المعنى من خواء.

لكنّهم يأتونك بصوتٍ مهيبٍ وتسابيحَ مشبوهة، ليخبروك أن ثمّة "حكمة إلهية".
اسألهم ما هي؟ يهمسون كما لو أنّ الله يتجسّس خلف الستائر.
اسألهم ما ذنب المذبوحين، والمنكوبين، والمفجوعين؟
يجيبون: "لعلّها ابتلاءات."
يا لها من كوميديا سوداء أن يُقطع رأسكَ لتثبتَ ولاءك، ويُقال لك: هنيئًا، قد اجتزتَ الامتحان!

إنهم يريدونك أن تُخرس عقلك باسم الإيمان، وأن تحوّل فزَعك من الوجود إلى ترنيمة.
يريدونك أن تُسلّم بأنّ الكون ليس عبثًا، وأنّ الخالق قد خطّط لكل شيء، حتّى البعوضة التي تستوطن وجه طفلٍ يموت جوعًا.
يريدونك أن تبتهج، لأنك إن متّ، سيمنحك المجرمُ الأبديُّ قصرًا في السماء!

أما أنت، أيّها العاقل، إن حاولتَ أن تُسمّي الأشياء بأسمائها، اتهموك بالإلحاد، بالفجور، بالتمرّد.
وكأنّ الحقّ لا يُقال إلا إذا خُلط بالحكايات، ولا يُسمع إلا إذا أُتبع بآية أو حديث.

اسمعني جيدًا:
إذا كنت تنتظر أن يهبط عليك المعنى من السحب، فاجلس هناك، بين الحمقى، وردّد معهم: آمين.
أما إن كنتَ قد ضقتَ ذرعًا بهذه الملهاة الإلهية، وبدأت تشكّ أن الحياة لا تحتاج إلهًا بل عقلًا، فمرحبًا بك في مقعدك الجديد:
العاقل في زمن الخرافة.

العاقل يرى الحقيقة ولا يُغمض عينيه.
العاقل لا يؤمن بالأبدية، لأنه يعرف هشاشة اللحظة.
العاقل لا يعبد، بل يتأمل.
لا يخاف الموت، لأنه لا يحتاج إلى الجنة كرشوة.
ولا يهاب العذاب، لأنه يعرف أن الجحيم يبدأ حين تصير الكذبة ديانة.

أنتَ آلة تطورت، لا لأنك مختار، بل لأن الانفجار العظيم لم يكن يملك خطة بديلة.
وهذا مؤلم؟ نعم.
وهذا عبثي؟ ربما.
لكنّه حقيقي.
وما من شيء أكثر نبلًا من الحقيقة في زمنٍ يُباع فيه الوهم على عتبات المساجد والمعابد ومراكز التنمية البشرية.

وأما أولئك الذين يتحدثون عن المعنى،
عن الغاية،
عن "الإنسانية"،
فقل لهم:
هناك خنافس تتكاثر منذ ملايين السنين بلا كتب مقدسة ولا أهداف سامية.
هناك نيزك سيقضي علينا كما قضى على الديناصورات، دون أن ينتظر اكتمال دورة الحجّ أو إصدار ديوان "أناشيد للروح".

هل يجب أن ننتحر؟
ربما ليس الآن.
ربما فقط لنضحك أكثر على هذه الكوميديا.
فنحن نعيش على كوكبٍ يتصارع فيه البشر حول من خلقه، بينما النيازك تكتب النهاية.

فكر، ولو مرة، وأنت تخرج فضلاتك:
هل كل هذا يستحق أن يؤخذ على محمل الجد؟

وإن ضاقت بك الأرض، فتذكّر:
الكون نفسه بدأ بانفجار.

فابدأ أنت أيضًا بانفجارك الصغير:
انفجار العقل.

هل كانت الحياة جادة في نواياها حين تشكلت؟
هل كان الهيدروجين يعلم أنه سيصير ضوء شمس، أو ذراعًا بشرية تحمل كتابًا مقدّسًا وتظن أنها تحمل الحقيقة؟

كل ما نعرفه نحنُ اليوم أنّ الإنسان — هذا القرد الذي قرر أن يصير واعيًا — وجد نفسه وسط فراغ لا يرحم، وسط كوكب يعجّ بالصمت والصراخ في آنٍ معًا.
فلم يكن أمامه سوى أن يخلق المعنى. أن يختلقه.
أن يحفر على جدران الكهوف، ثم على صفحات الكتب، ثم في جمجمة طفلٍ يولد، فيُلقّن من اللحظة الأولى أن لهذا العبث إلهًا، وأن عليه أن يركع ويطيع ويخاف.

لكن الحقيقة التي لا يريد أحد أن يراها، هي أن الآلهة خُلقت كعكّازٍ لضعفنا.
خرافاتنا ليست منبع شرّ، بل منبع خوف.
خوفنا من الموت، من الوحدة، من غياب العدالة، من أن نكون نكتةً كونيةً سيئة لم يفهمها أحد.

الخرافة ليست قيدًا فحسب، بل مسكّن.
دواء موضعي لجرحٍ غائر اسمه: "لا أحد يعرف لماذا نحن هنا".
لكن أن تأخذ المسكّن كعلاج دائم، فتلك هي السذاجة المقدسة.

أيها العاقل،
أن تكون عاقلًا اليوم، معناه أن تصحو وحدك، وسط نومٍ جماعي عميق.
أن تسأل السؤال المحرّم دون أن تنتظر إجابة ملفّقة.
أن تحتمل خواء السماء دون أن تمتلئ كذبًا.
أن ترى وجهك في مرآة الطبيعة، لا في مرآة الشريعة.

العاقل ليس بالضرورة ملحدًا أو مؤمنًا، بل هو من يتجرّأ على المجهول دون أن يلبسه قناعًا.
هو من يقول: "لا أعلم" حين يجهل، ولا يستعيض الجهل بكلمة "الله أعلم" فقط ليهرب من الفوضى.

العاقل لا يبني قيمه على وعدٍ بجنّة، ولا على وعيدٍ بجحيم، بل على وعيٍ بأن الحياة لا تحتاج تبريرًا لتُحترم، ولا تحتاج مُراقبًا لتكون أخلاقيّة.

في زمن الخرافة، العاقل ساخرٌ بالفطرة.
لأنه يرى ما لا يُقال، ويضحك حين يبكي الآخرون خشيةً من النار.
هو يعلم أنّ المأساة ليست في أن نموت، بل في أن نحيا عبيدًا لأوهامنا.

ومع هذا كلّه، فإن العاقل لا يحتقر الحالمين، ولا يبصق في وجه المؤمنين، لأنّه يدرك:
أنّ الكذب، حين يُقال بخوف، أصدق من الحقيقة حين تُقال بتكبّر.
وأنّ الهارب إلى الخرافة ليس عدوًّا، بل شقيقٌ ضلّ طريقه في نفس الغابة.

العاقل يضحك، لا لأنه يستهزئ، بل لأنه نجا.
نجا من العبودية الفكرية، من القوالب الجاهزة، من العزاءات المجانية.
نجا من محاولة فهم الكون عبر الأساطير، وبدأ يفهم نفسه كما هي: مادةٌ واعية، تتأمل، وتحب، وتتألم، ثم تفنى.

أجل، العاقل يفنى.
ولا يعود، ولا يُبعث، ولا يُحاسب.
لكنّه حين يموت، يموت واقفًا.
يموت وهو يهمس في أذن الوجود:
"لقد فهمتك، أيها اللعين، ولم أكن بحاجة لنبيّ كي أصل."

فإن كنت من هؤلاء، فدع هذه الكلمات تكون دليلك في العتمة:
لا قداسة فوق العقل.
ولا شرف للخوف.
ولا معنى ثابت، إلا ذلك الذي تخلقه بيدك، كما يخلق الطفل من الطين وجه إلهه، ثم يضحك.

اضحك، إذًا.
فالوجود لا يحتاج تراجيديا أخرى.
بل عاقلًا يبتسم وسط الجنون، ويقول: لقد فهمت النكتة.


0 تعليق:

إرسال تعليق

تذكّر : : كلُّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضَحُ