face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الأربعاء، 30 أبريل 2025

الحقيقة البشرية بين الفطرة والمنظومة الأخلاقية!

0 تعليق




الفطرة باختصار هي الغريزة المعنوية..، أي هي التلقائيّة الطبيعيّة التي تبني القناعات والسلوك لدى الكائنات الحية؛ وليست التلقائية الناجمة عن التلقين والتوجيه والإكراه والتدريب أو غيرها من أساليب صناعة القناعات!
فإذا كانت الغريزة هي المَلَكة التي تُحدِّد احتياجاتنا وطريقة تلبيتها دون تجربة سابقة ، فإن الفطرة هي الملكة التي تُحدد قناعاتنا وميولنا دون تجربة سابقة!
الفطرة هي تلك المَلَكَة الطبيعية التي تُحدِّد فعل وردَّات فعل كل الموجودات الحية – القادرة على الفعل والمضطرة للفعل – ابتداءً؛
أقول ابتداءً، أي قبل أن يُدرِك الكائن الحي ضعفه وحاجته للآخرين، وقبل أن يضطر لممارسة الخداع والامتثال للخوف والجُبن، وقبل أن يقع تحت تأثير البيئة وتعدد الخيارات وضرورات الاختلاف وإملاءات القوة وغيرها!

والحقيقة البشرية المقصودة هنا، يمكن أن يُمثلها مفهوم الوعي، أو ما يُعرف اصطلاحاً بالعقل..، تلك القوة أو المَلَكَة الطبيعية التي بفقدانها تختفي القواسم المشتركة التي تربط البشر التقليديين ببعضهم!
- المقصود بالمنظومة الأخلاقية هي صناعة القناعات..، أي تلك الضوابط السلوكية الإلزامية التي تضعها النُخب وقيادات الجماعات البشرية باسم دين أو باسم قِيَم إنسانية افتراضية أو غيرها..، لتحديد حقوق وواجبات الأفراد، وليس لتحقيق أخلاق حميدة لديهم، فالأخلاق لا تُفرض من الخارج، إنها إما أن تكون جزءًا من كيان وشخصية الفرد إراديًا أو لا تكون!
- المنظومة الأخلاقية هي شيء آخر غير الأخلاق الطبيعية؛ فالأخلاق الطبيعية هي الإرادة الذاتية التي تجعل الإنسان يفعل أو يمتنع عن الفعل بما يرى أنه يُحققُ ذاته ويُبرزُ هويته، وليس احتساباً لنتيجة متوقعة أو موعودة؛
ومن ذلك الصِدق، فكل البشر يمتدحون الصِدق كما يمتدحون المالَ، لكنهم يسعون لامتلاك المال ولا يسعون لامتلاك الصِدق، ولا يُمكن جعلهم صادقين إن لم يكونوا كذلك!
فما هو هذا العقل الذي باسمه وبسببه تُحدَّدُ السلوك وتُفتَرَضُ الأخلاق، وما هي الفطرة البشرية، وما المنظومة الأخلاقية، وما العلاقة بين أطراف هذه الثلاثية!

ما هو العقل؟

تُسنُّ القوانين وتوضع العقوبات وتُنفَّذ في المجتمع البشري، بسبب الاعتقاد بامتلاك الإنسان آلية لضبط السلوك- اسمها العقل، يُفترض أنه مُهيمنٌ ومسئولٌ عن السلوك والممارسات والغرائز، وهو بذلك مسئولٌ عن قرارات الإنسان- فعلاً وامتناعاً!
بينما في واقع الحال ليست هذه المعادلة دقيقة، فالعاقل وغير العاقل كلاهما يقول ويفعل، وكلاهما يمتنع عن القول والفعل.. أي أنه لا علاقة للعقل بقرارات الفعل وعدم الفعل ابتداءً!
كما أن وجود العقل ليس شرطاً لفعل الصواب، وليس غيابه سبباً لفعل الخطأ-، خاصة في ضوء حقيقة انعدام وجود معايير قياسية كونية أو وجودية أو بشرية، تُحدِّد الصواب من الخطأ، والحق من الباطل!


ما هي الفطرة البشرية؟

هل يوجد شيء اسمه الفطرة!
وهل توجد فطرة سليمة وأخرى غير سليمة!
وما الذي يمكن أن يؤدي إلى تلوث الفطرة- أو انحراف الإنسان عن الفطرة السوية!
هل سلامة الفطرة، تعني عدم اختلاف البشر؟
أم أنه يمكن أن تكون الفطرة سليمة، وفي ذات الوقت مختلفة من إنسان لآخر، وأنه بسبب ذلك تنتج الاختلافات والخلافات بين البشر!
أم إن سبب الاختلافات هو سلامة الفطرة لدى بعض الناس واعوجاجها لدى البعض الآخر..، وأن الخلافات تنجم وتنشب الصراعات، بسبب اعتقاد كل طرف بسلامة فطرته، وجزمه باعوجاج فطرة الآخر!
ثم ما هي المعايير القياسية للحكم على الفطرة وتحديد انحرافها من عدمه!
وهل توجد مرجعيات وآليات لضبط الفطرة وإعادتها إلى رُشدها!


ما هي المنظومة الأخلاقية (الأخلاق الحميدة)؟

هل المنظومة الأخلاقية حدث أم أزل – بالنسبة لوجود الإنسان-، وما علاقتها بالفطرة البشرية!
إذا كانت المنظومة الأخلاقية لا تتعارض مع العقل والفطرة السليمة، فلماذا يتم فرضها على البشر، ولماذا هذا الإجماع البشري – منقطع النظير -على خرق المنظومة الأخلاقية والعبث بها عند أول فرصة..، حيث تنتشر الفوضى منذ اللحظة الأولى لتعطيل القانون أو العجز عن تطبيقه.. في أي مجتمع بشري!

العقل..

كل مفاضلات البشر إنما هي بين باطلٍ وباطل..، حيث لا وجود للحق المطلق في حياتهم، وليس الحق النسبي سوى باطلٍ نسبي.
إننا نتحدث عن العقل، مع إدراكنا أنه لا يوجد شيء مُحدد بذاته، يمكن وصفه، يحمل اسم العقل..، إن كل ما هنالك هو افتراض حدٍّ أدنى من السلوك البشري المشترك، اصطُلِح ثقافياً وتاريخياً على استعماله لوصف الإنسان بالعاقل أو غير العاقل..، والحقيقة أن العقل في هذه الحال، يكون هو ذات الإنسان ووعيه..، أي هو إدراك الإنسان لما يقول ويفعل، وقدرته الطبيعية على استحضار تجاربه، وتصوره لنتائج أفعاله قبل حصولها..، وهو ما ينبغي أن يكون لإبراز هوية الفرد وتأكيد وتحقيق خصوصية الذات – لا لإرضاء الآخرين والتكيُّف مع المختلفين..، فاختلاف السلوك أمرٌ طبيعي بين إنسان وآخر – كما هو بين أي كائن وكائن آخر، وهذا الاختلاف هو مُحدِّد الهويات ومحقق الذوات..، وبذلك يُصبح من العبث القول بمساواة البشر، وتكون محاولة مساواة سلوكهم مساساً بكرامتهم الطبيعية المفترضة..، ويُصبح تشريع تصويب سلوك الإنسان إقراراً بتشوهه عقلياً، وإذا صحَّ ذلك فلا حرج على المشوَهين، ولا معنى لإصلاحٍ تعددت واختلفت وتعارضت واختُلِقت معاييره، فالإصلاح حينها يُصبح تحويلاً للإنسان من حالة مشوَّهة إلى أخرى مُختلفٌ عليها ومطعون فيها!
بالنتيجة.. العقل ليس عضواً أو جزءاً من الإنسان، يَفسدُ ويمكن إصلاحه دون المساس بالذات- كما يتم إصلاح أعضاء الجسد وحواسه..،
بل العقل هو جوهر الذات، والطعنُ فيه طعنٌ في خصوصية الذات وهوية الإنسان، والتأثير عليه تلويث لها..،
وإذا جاز لنا التشبيه، نقول إن تغيير عقل أو وعي الإنسان بواسطة الأيديولوجيات، هو كتغيير جنسه بواسطة الهرمونات..، فكلاهما تغيير لجوهر وصورة الذات!
والفرق بينهما يذهب لصالح التحول الجنسي، فهو محسوب النتائج، معدوم الخيارات، والأهم من ذلك أنه أمرٌ طبيعي نابعٌ من إحساس داخلي وشعورٍ فطري صادقٍ، مصدره الذات، ولا علاقة للآخرين به، ولا مسئولية لصاحبه عنه، ولا ضرر له على سواه!
بينما تغيير العقل- المتمثل في زرع المعتقدات وتغيير المبادئ والقناعات- فهو خارجي المصدر، عشوائي النتائج، ضبابي الأهداف والخيارات – حيث لا معيار للعقل والرُشدِ في ظل اختلافات كل البشر- أفراداً وجماعات!
وفي كل الأحوال، فإنه إذا جاز تشريع الطعن في مصداقية عقل إنسان- قياساً إلى عقل آخر، فإن ذلك تشريعٌ بجواز نفي خصوصية الذات، ورفعٌ للمسئولية عنها، وتكذيبٌ صريحٌ لمبدأ تكليفها!
إذ إن القول بوجوب طاعة- أو حتى بجواز إتِّباع- إنسان لإنسان بحجَّة فارق المعرفة، هو تشريعٌ لكل سلوكٍ يمكن أن ينجم عن فارق المعرفة..، فليس التابع مؤهلاً لتقييم واختيار المتبوع!

هل يمكن تعطيل الوعي (العقل)، أو إقناع العاقل بفعل ما لا يَعقِلُه؟
الإجابة المختصرة: نعم!
فحيث إنه لا علاقة للعقل أو الوعي باتخاذ قرار الفعل وعدم الفعل- كما قلنا سلفاً وكما نعلم جميعاً- فالعاقل وغير العاقل كلاهما يفعل وكلاهما يمتنع عن الفعل؛ وحيث إن وظيفة العقل أو الوعي، هي استعمال رصيد التجارب في حساب النتائج، وانعكاس ذلك أو تأثيره على اتخاذ القرار، لذلك فإنه من الممكن جداً- حين يحصل التواصل ويختلف حجم ومجال التجارب-، أن تتأثر حسابات البعض بتجارب غيرهم..، أو أن يستعمل البعض تجاربه للتأثير على حسابات غيره، فيُقنعه بنتائج محتملة يتخذ على أساسها قراراته..، ويُسمَّى حينها المؤثر مُلهِماً، ويُسمَّى المتأثر تابعاً أو مُريدا!
وقد قلنا سابقاً، إن الإنسان هو كائن قابل للإصابة بالوهم!
حيث يعتقد التابع -بسبب ذهوله الناجم عن بساطته وسذاجته وقلة معلوماته وضعف خبرته- قياساً إلى فصاحة وخبرة مُلهمه أو معلمه-، بأن الأخير يستمد قوته من قوة الكون، وأنه لا حرج من طاعته وامتثال أوامره؛ فتتوقف بذلك ذاكرة التابع عن تسجيل تجاربه الخاصة- التي كان ينبغي أن يستعملها وعيه لتحديد معاييره ومعالم هويته-، فيُكمل حياته تابعاً يتنقل بين المتبوعين، لا هوية أو لا ذات له، ولا يُدرِك حقيقة مَـنْ هو..، جسدٌ يعمل بعقلٍ خارجه، أو إنسانٌ مكلفٌ بعقل غيره!


الفطرة..

بقدر ما يختلف البشر حول تحديد ماهية الفطرة وتعريفها..، بقدر ما يحتكمون لها، ويُجمعون على أصالتها، ويتفقون على أنها المرجعية الطبيعية لتحديد الحقوق والواجبات، وفرز الصواب من الخطأ..، بمعنى أنه لا خلاف على صواب الفطرة، ولا اتفاق حول تعريفها!
وهذه المفارقة التي تُظلل مفهوم الفطرة، أوجدت منطقة فكرية مضطربة حولها، اختلط فيها الخطأ المبرر بالصواب غير المبرهن..، مما جعل الفطرة بمثابة المرجعية المجهولة للنظريات المرفوضة!
وتحت تأثير منطقة الاضطراب الفكري التي تحيط بمفهوم الفطرة، وصل الأمر ببعض أتباع الأديان إلى الادعاء بأن دينهم هو الفطرة ذاتها، أو أن دينهم هو دين الفطرة، أي أن اعتناق دينهم يُحقق الحياة وفق الفطرة؛ حتى إن الأمر ليبدو وكأن إخفاق البشر في الاتفاق حول مفهوم وماهية الفطرة، هو فقط ما يحول دون اتفاقهم الشامل!
فأصبحت لفظة الفطرة تُستعمل ويُفهم منها، ذلك القانون الطبيعي، ذاتي المرجعية، الموحد للبشر، مجهول النص، والذي لا يُعرف عنه سوى أن عيوبه مشروعة وصوابه مُطلق!


المنظومة الأخلاقية..

على النقيض من الفطرة..، فبقدر ما يتفق البشر حول تعريف ووصف المنظومة الأخلاقية..، بقدر ما يُشككون في أصالتها ويرفضون الالتزام بها عملياً- وإن تظاهروا بغير ذلك تحقيقاً لمصالح أو درءًا لعواقب.
وجدير بالذكر هنا، أن سلوكيات أساسية في حياة البشر كالصِدق والأمانة والشفافية…، تقع خارج المنظومة الأخلاقية، وذلك لافتقاد الأخيرة للآلية التي تُحقق أو تراقب هذه السلوكيات الحميدة..، ولذلك نجد أن الكاذبين والمراوغين مقبولون في المجتمعات التي تعتمد المنظومة الأخلاقية كأساس للحياة الجَمَاعية..، ويكاد يتم اختزالها في تقنين ممارسة الجنس، وتحديد ما ينبغي وما لا ينبغي للفرد ارتداؤه من ملابس!
والمنظومة الأخلاقية في ظاهرها، هي جملة من الضوابط والممنوعات، تعمل على توجيه الإنسان قسراً، وتقنين سلوكياته وتحديد حقوقه وواجباته، بهدف بناء مجتمع بشري يختلف عن المجتمع الحيواني- مع تجاهل حقيقة أن كل سلوكيات المجتمع الحيواني هي مباحة أو متاحة في المجتمع البشري، وأنَّ رَفضُها علناً لا يلغي وجودها وممارستها عمليًا..، فالمنظومة الأخلاقية بالمحصلة هي محاولة بشرية نخبوية تخيلية تصورية، ونظرية طوباوية، لإنشاء مجتمع فطري..،
وهذا ما يجعل المنظومة الأخلاقية عبارة عن فطرة مزيفة!
إذ مهما تكن سلامة النوايا ونُبل الأهداف، فإن افتقاد المنظومة الأخلاقية للسلاسة، واعتمادها على العقوبات، وتدخلها السافر في الخصوصيات الشخصية والحريات الفردية..، جعل منها حاجزاً جديداً وملوثاً إضافياً، يُساهم في تأخير ظهور مجتمع الفطرة المنشود!


ماهية الفطرة؟
هل يوجد شيء مُدرك ومُتفق عليه بين البشر، اسمه " الفطرة "، يؤثر على حياة الإنسان أو ينعكس على سلوكه وممارساته – كما هو الحال مع العقل والروح والحواس؟
وهل الفطرة شيء مذموم أم محمود- إن وُجِدت؟
وما مدى مسئولية الإنسان عن فطرته، أو خضوعه لها؟
هل تم تحريف دلالة لفظة "الفطرة"، لإنتاج مفهوم افتراضي، يُشير أو يرمز إلى الصواب المطلق، فأصبحت الفطرة كالحقيقة المطلقة.. شعار صادق يمكن أن يرفعه الكاذبون، وسلاح مشروع يرفعه الجاهل القوي في وجه الجاهل الضعيف؟

الفطرة لغوياً -مختار الصحاح ( قاموس إلكتروني)..
ف ط ر: أفْطرَ الصائم، والاسم الفِطْرُ ..الخ.
والفِطْرةُ بالكسر الخلقة، والفَطْرُ الشق، يُقال فَطَرَهُ فانْفُطُر وتُفُطُّر الشيء تشقق، والفَطْرُ أيضا الابتداء والاختراع ..الخ.
والفَطيرُ هو كل شيء عجلته أو تعجَّلت في أمره، ويُقال: إياك والرأي الفطير!

- الفطرة لغويًا: المعجم الوجيز..
الفطرة السليمة (في اصطلاح الفلاسفة): هي استعدادٌ لإصابة الحكم والتمييز بين الحق والباطل!
والفِطرِية، هي القول بأن الأفكار والمبادئ جِبِلِيِّةٌ.. أي موجودة في النفس قبل التجربة والتلقين!الفَطِيرُ: كل ما أُعجِلَ به قبل نُضجه. والفطيرة: خبزٌ من عجين لم يختمر…، الخ.
ويُقال: رأيٌ فَطيرٌ .. إذا خطر بالبال وأُبْدِيَ بلا تثبُّت..

الفطرة في نظر بعض المفكرين..
يعتقد البعض بأن الفطرة هي مجموع الصفات الإنسانية التي تُميِّز البشر عن سواهم، فيُعرِّفونها:
الفطرة هي الصفات الإنسانية الأساسية والخالصة، أي إنها كل ما هو أصيلٌ في الإنسان وليس مكتسب، وتشمل كل صفات الكائن الحي الطبيعي العاقل المُدرك، التي تُميِّزه عن سواه!
فما يُدركه أو يعرفه الإنسان بسبب إنسانيته، ويعجز الحيوان عن إدراكه بسبب حيوانيته .. هي الأمور الفطرية!
وبهذا تكون الفطرة هي جملة من معارف وغرائز وميول ابتدائية، خُلقت مع الإنسان، لتستمر معه طيلة حياته- فلا يندثر أثرها إلا بموت حاملها!

الفطرة في الثقافة العامة..
هي سلوكيات الإنسان الطبيعي الحر..، والتي تشمل ردود أفعاله تجاه البيئة وأحداثها، وميوله واختياراته، وأخلاقه ومعارفه وأفكاره الابتدائية..، والتي يُعبِّر عنها ويُمارسها ببساطة، ويشعر بمسئوليته عنها ويتقبل نتائجها..، وذلك عندما تتوفر له البيئة المناسبة الخالية من التلقين والتوجيه والتحذير والتهديد والإغراء!

نتيجة…
مما سبق يمكننا القول بأنه لا يوجد شيء بذاته اسمه الفطرة، ولكن توجد سلوكيات وممارسات وأفكار فطرية!
فليست الفطـرة سوى بدايات الأشياء وأصولها النقية!

كيف تكون الأفكار فطرية؟
وهل يمتلك الإنسان معارف أولية- قبل التجربة؟
لو لم تكن هناك أفكار فطرية تُميِّز البشر عن بعضهم، لتساوت معارف أبناء الأسرة الواحدة وأفراد المجتمع والثقافة الواحدة..، باعتبارهم نِتاج تجربة واحدة!
الأفكار الفطرية لا تعني وجود نصوص وآراء محددة مُخزنة في ذاكرة الإنسان!
وإنما يُقصد بالأفكار الفطرية، التعاطي الطبيعي وردود الأفعال التلقائية تجاه البيئة والمستجدات..، أي تعبير الإنسان عن خصوصية الذات بواسطة ميوله الطبيعية!

ما علاقة الصِدق بالفطرة، وما رأي المنظومة الأخلاقية في الكذب؟
من البديهي القول إن كل سلوك يرفضه الإنسان من الآخرين، فهو أمر مرفوض فطرياً، ونقيضه مقبول فطرياً!
وبذلك يكون الصدق سلوكاً فطرياً، والكذب دخيلاً على الفطرة!

لماذا يكذب الإنسان، ويعيب على الآخرين كذبهم؟
يمكننا القول إن قدرة البشر على التكهّن- أو إصابتهم بداء التكهّن-، أثناء سعيهم وتنافسهم المستمر لامتلاك موارد الحياة-، قد حرَّك لديهم إحساساً بتعارض مصالحهم- وأن ذلك قد ولَّد لديهم شعوراً مخيفاً بعدم الأمان!
وإن عجزهم عن ابتكار آلية للتوفيق بين مصالحهم قد أدى إلى انحرافهم المتعمد عن الفطرة!
وقد كان الكذب نتيجة طبيعية لذلك..، هذا على مستوى عموم البشر!
أما على مستوى الأفراد والجماعات الصغيرة، فإن الكذب هو نتيجة حتمية للثقافات المحلية- خاصة في المجتمعات التي تلجأ لفرض المنظومات الأخلاقية لضبط سلوك البشر..، حيث إن الثقافات في تلك المجتمعات، تفترض أن قيمة الإنسان تتحدد بنوع وحجم صورته لدى الآخرين..، مما أدى إلى انفصال الإنسان عن ذاته وهجره لمعاييره الذاتية، واعتماده للمعايير الجَمَاعية، حيث بات سعيه وجُهده منصباً على تحسين صورته عند الآخرين- بغض النظر عن حقيقته التي لا يُدركها سواه..، فأصبحت تغطية عيوبه عن عيون الآخرين هدفاً أهم من إصلاحها، أو مُقدَّمٌ على الإصلاح..، ولأن الكذب هو السبيل الأقصر والأقل تكلفة لتحقيق هذا الهدف..، لذلك ينتشر الكذب في هذه المجتمعات، حيث يرفضه الجميع ويُمارسه الكل..، ولذلك تقبل المجتمعات الأخلاقية الكاذب عملياً- رغم رفضها للكذب مبدئياً!

معضلة الدين مع الفطرة..

كل الأديان- تقريباً- تدَّعي صفة الفطرية في تعاليمها وتشريعاتها..، ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك، لكي تكسب مكاناً وزماناً للمناورة..، بالرغم من التعارض الكبير والصارخ بين شرائعها والسلوك الفطرية للبشر!
فالحقيقة أنه لا مجال للتقريب بين الأديان والفطرة البشرية ..، فعجز الأديان عن استقطاب البشر بالبساطة والسلاسة، ورفضها لخيارات الإنسان الفطرية، وإفراطها في الوعود والإغراءات المستقبلية، واعتمادها على العقوبات الصارمة والتهديد بالمجهول وتهويل المصير لبقائها قائمة، وافتقادها لآلية إثبات التزام أتباعها بتعاليمها، واكتفاؤها بالمظاهر- حيث تتبنى المجتمعات الدينية السلوك الظاهري للبشر كمقياس لالتزامهم-، مع إدراك القائمين على الأديان لحقيقة أن الممارسات الظاهرية الشكلية، التي تكون نتيجة للخوف أو الطمع، لا تعكس حقيقة ولا تُعبِّر عن سلوك فطري!
ولذلك تعتمد المجتمعات الدينية مبدأ الضخ المستمر والتذكير الممل بتعاليمها وعقوباتها وإغراءاتها..، كما أنها تلجأ مباشرة لمبدأ التحريم والتحليل في مستجدات الأمور- صغيرها وكبيرها، دون أي اعتبار لفطرة البشر التي تدعيها- والتي تفترض إجراء استفتاء أو استبيان للوقوف على آراء البشر وإشراكهم في تحديد مسارات حياتهم وعلاقاتهم وإحساسهم بالقيمة والمسئولية..، وربما يعكس ذلك إدراك القائمين على الأديان والمجتمعات الدينية، بأن الإنسان مستعدٌ ومتأهبٌ على الدوام للتعبير عن ذاته بفطرية، وأن نتيجة تعبيره الصادق والمتحرر ستكون دائماً مخالفة لما يُفرض عليه باسم الدين والفطرة المزيفة!

هل تُحارب الأديان فطرة موجودة، أم تستعيد فطرة مفقودة، أم تسعى لاستحداث وفرض فطرة جديدة؟
إذا كان إيمانهم صادقاً واعتقادهم كاملاً، فكيف للمؤمنين أتباع الأديان أن يرتكبوا الأخطاء عمدًا – كالكذب مثلاً؟
هل يمكن لإنسان يؤمن جازماً بالبعث والحساب والثواب والعقاب، أن يفعل ما يوجب العقاب؟
أم إنه لدى المؤمنين نسبة من الشك في مصداقية الأديان، ولذلك يُخالفون تعاليمها ويخترقون محظوراتها كلما اقتضت مصالحهم ذلك!
هل تقبل الأديان إيماناً ينهار أمام الغرائز؟
أم إن الأديان قد فرضت على الناس ما لا يمكنهم فعله..، ولذلك سمحت أو اضطرت للسماح بانتهاك تعاليمها، واكتفت بالممكن والمتاح..، ولجأت إلى التحايل على المنطق، باعتماد مبادئ فضفاضة، من قبيل الضرورات تبيح المحظورات..، وأخضعت التفسيرات لمزاج بشرٍ دون غيرهم ودون مرجعية محددة!
ما حصل هو أن القائمين على الأديان، أدركوا استحالة تطبيقها وتحقيقها، واستحالة التثبت من ذلك..، فاكتفوا بالمظاهر والشكليات وبالحد الأدنى من التزام أتباعها..، ولتدارك التضارب والتعارض بين بقاء الأديان قائمة وانحراف المؤمنين الصارخ، لجئوا إلى ابتداع مفاهيم ونظريات غيبية لا يمكن إثبات صحتها ونتائجها في الحاضر..، من قبيل الشفاعة والقضاء والقدر وحُسن الخاتمة، والدعاء المؤخر الاستجابة …الخ!
وحيث إن الأمر كذلك..، فإنه لا توجد قداسة مفهومة ولا أفضلية معلومة لتعاليم الأديان على قوانين وأعراف الإنسان..، فكلاهما لا يخلو من ثغرات، وكلاهما خاضع بالنتيجة لمزاج وقدرات وتفسيرات وتكهنات قلة من البشر على حساب الأكثرية!

كيف يمكن استعادة الفطرة البشرية؟
حيث إنه لا يوجد شيء محدد بذاته اسمه الفطرة البشرية!
وحيث إن الفطرة ليست سوى البدايات الطبيعية للأشياء- ومنها السلوك والميول والأفكار البشرية!
لذلك فإن محاولات استعادة الفطرة التي كُتب لها النجاح بدرجاتٍ عالية، واقتربت بإنسان اليوم من إنسان الفطرة، هي تلك المحاولات التي لم توجه إلى الإنسان- مكمن أسرار الفطرة، وإنما تم توجيهها لضرب وإيقاف المؤثرات الخارجية التي تحول دون ظهور الفطرة على سلوك الإنسان..، ففضحت التقديس الزائف الذي كان يحظى به رجال المؤسسات الدينية، وحظرت ممارسة الوصاية الفكرية تحت أي مُسمّى وأي غاية، وأوقفت دروس التلقين والأدلجة الممنهجة التي كانت تُمارس على الإنسان تحت شعار الدين والرب والثقافة والعِرق والمصلحة العليا، وطرحت كل الخيارات أمام الإنسان لتحديد اختياراته بحرية تامة..، فأوجدت بذلك المناخ المناسب لظهور ونمو السلوكيات والأفكار الفطرية!
وتبرز نتائج تلك المحاولات جلية في المجتمعات الحرة المتقدمة اليوم، والتي قامت على دساتير تحفظ حرية وكرامة الفرد..، فلا تتدخل مؤسسات المجتمع في سلوك الإنسان وممارساته إلا لحماية الآخرين وصون حريات الجميع!
لا يخفى على عاقل منصف صادق مع نفسه باحث عن الحقيقة، متحرر من الاعتقادات المسبقة والتفسيرات المبهمة والنتائج الافتراضية..، أن المجتمعات الغربية – لاسيما المجتمع الأمريكي – هي أفضل ما توصَّل له البشر على طريق توفير المناخ المناسب لاستعادة الفطرة البشرية الطبيعية، الخالية من التخمّر الثقافي!
كما لا يخفى على أحدٍ، أن المجتمعات الدينية والعِرقية – كيفما وحيثما كانت، جميعها تعتمد المنظومة الأخلاقية الطوباوية، وتستعمل الشعوب كمواد خام لخلق إنسان حسب الرغبات والتكهنات النخبوية..، والتي تُشاهد نتائجها في بقاع كثيرة من العالم، هي أبعد ما يكون عن الفطرة التي تتغنى بها، وجُلها تستمد جذورها من الشرق الأوسط -لاسيما المشرق العربي!


كيف يتم الالتفاف على الفطرة في فقه الفطرة؟

يقول المسلمون- السُنّة، في معرض تفسيرهم أو تبريرهم لعملية توريث الحكم، التي بدأها أو ابتدعها معاوية، وسار عليها العرب والمسلمون من بعده إلى يومنا هذا، حيث أخذ معاوية- في حياته- البيعة لابنه يزيد ..،
يقولون إن معاوية قد نظر إلى حال الأمَّة، وأدرك المخاطر التي تُحيك بها، وخشي عليها من التفكك..، ولعلمه بالتفاف الجيش حول ابنه يزيد، وإدراكه لحب الناس له- خاصة أهل الشام..، لذلك أخذ له البيعة ونصَّبه خليفة على المسلمين بغض النظر عن رأي المخالفين والمعارضين..، وكأن معاوية يُدرك الغيب أو يحق له التكهّن، أو أنه أحرص على المسلمين وأدرى بأمورهم من رسولهم الذي غادر الأمة والحياة ولم يأخذ البيعة لأحدٍ ولم يوصِ بأحد، ولم يضع آلية محددة لاختيار الحاكم!
ما يلفت الانتباه ويثير التساؤل الفطري، هو أن الحُجَّة التي استعملها معاوية، والسُنة التي سنَّها، هي ذاتها التي يستعملها حُكَّام العرب والمسلمين اليوم، من أجل توريث الحُكم لأبنائهم (أزيادهم)..، لكنها تُعاب عليهم وتُبرر لمعاوية، وكأنه لا يحق لهم النظر إلى حال الأمة كما نظر لها معاوية..، وكأن معاوية لم يغتصب السلطة أصلاً!
بينما يقول المسلمون الشيعة، بأنهم يتبعون أولياء معصومين، وهذا يكفيهم شر الاحتكام للعقل أو للوعي الإنساني، وهم بذلك يقفزون على حقائق يُدركونها، فيتجاهلون- عمداً- بأن ما بين أيديهم لم يكتبه ولم ينقله أولياؤهم المعصومون (على افتراض صحة العصمة)..، بل قد كتبه ونقله لهم بشر عاديون لا عِصمة لهم- لدى الشيعة وغير الشيعة..، فأين الحقيقة وأين الفطرة وأين الأخلاق لدى كل مَنْ يَفترض الصواب فيما كتبه ونقله 
وفعله غير المعصومين!

الاثنين، 3 مارس 2025

مقومات الذات البشرية وعقدة القيمة الممتنعة!

0 تعليق



معظم البشر يحملون عُقدة القيمة الممتنعة، وهي اعتقادهم بقيمة طبيعية استثنائية لأنفسهم، لا صدى لها في الواقع!

وانعكست هذه العُقدة على سلوك البشر، حيث أصبح همهم تحقيق تلك القيمة المفترضة، بدل التحقق منها!

المعرفة والفكر، والجهالة والجهل، من الصفات التي لا يُمتدح ولا يُذمُّ بها إلا العاقل!
ومن المفارقة أن يكون الجهل نقيضاً للعقل، وألا يوصف بالجهل إلا كل ذي عقل!
ذلك أن الجهل هو تجاهل العاقل لبديهيات العقل، حيث يُلام العاقل حين يأتي من الأخطاء ما يخالف أعراف العقل!
أما نقص المعرفة فهو جهالة وليس جهلاً، وليست الجهالة كالجهل!
ففي حين أن الجهالة هي داء كل موجود، فإن الجهل هو اعتقاد أو ممارسة ما لا يبرر من القول والفعل!
ولما كان الجهل هو خطأ العاقل اللا مبرر، فقد كانت الجهالة هي نقص المعرفة – مبررة كانت أو غير مبررة!
ولو عُدَّ نقص المعرفة جهلاً، لعُدَّ علماء البشر وعوامهم جهلاء – سواء بسواء!
إنما الواقع أن اتصاف البشر بالمعرفة يختلف كماً وكيفاً، وبذلك يتكاملون؛ فلكلٍ منهم نصيب من المعرفة هو بالغه؛ فلا تنعدم المعرفة ما وُجِدَ العقل، ولا تجتمع المعارف كلها يوماً لذي عقل!

الإنسان..

الإنسان كائن يرى نفسه ذاتاً واعيةً، وسيداً عاقلاً لا منازع له على سيادة الأرض!
الإنسان هو نفسه ذلك الكائن الذي ما انفك يبحث لذاته عن رسالة تبرر وجوده قبل أن تثبت سيادته وتؤكد زعامته المفترضة للكائنات.
فهو يرفض الوقوف عند حدود قيمته النسبية – عملياً، في الوقت الذي يقر بأن قيمته تنعدم تماماً أمام القيمة المطلقة لسيده المُوجِد!
ويدرك بأنه نسبي القيمة قياساً إلى غيره من الكائنات!
فهو متساوٍ مع غيره من حيث العيوب باطناً وظاهراً!
وفي مقابل كل الموجودات- كبيرها وصغيرها حيها وجمادها- هو كائن منتصر ومهزوم، وعابث ومعبوث به..، أي إنه ليس بوسع العاقل سوى الإقرار بأن قيمته الحقيقية لا تؤهله لهذا الإفراط في تحقير غيره، وتكريم ذاته!
ولا يوجد مرجع ثالث مستقل تقاس به قيمة الإنسان التي يظنها من حقه..، فهو نسبي القيمة، أو عديمها! وهذا ما يتجاهله العاقل، وذاك ما يجعله يتفرد بصفة الجهل إلى جانب العقل..، حتى إن الإنسان في غمرة بحثه عن ذاته، ودفاعه عن قيمته المفترضة، لا يتردد في تجاوز مقتضيات الإيمان الديني الذي يأمره صراحة بالوقوف عند حاجز المساواة بين البشر أمام الإله؛ حيث يدعى أتباع كل دين بأن رسولهم مقرب عند الإله، وأن أتباعه يستمدون من ذلك قيمة رفيعة ومكانة خاصة، تجيز لهم أو تستوجب منهم ممارسة الوصاية الفكرية والتشريعية على غيرهم – بما في ذلك قتلهم واحتقارهم باسم الإله!
وهم بذلك إنما يحاولون تبرير السلوك البشري الواهم المسيطر عليهم، والطامح عادة إلى الخصوصية، والساعي دائماً لنفي وإنكار حقيقة تزعجهم، وهي أن قيمة البشر الثمينة التي يتظاهرون بها، ما هي إلا قيمة افتراضية أسطورية من نسج الخيال، لا أساس لها، إنما ابتدعها الإنسان ليجعل لوجوده معنى آخر، بعد أن عجز عن فهم أو أداء رسالته وحمل أمانته، وليبرر إخفاقاته وأنانيته أمام المنطق والعقل، وليصرف النظر عن عيوبه التي لو توقف عندها وتمعَن بها لعاد إلى رشده وحجمه الحقيقي المتواضع، ولحد من أوهامه وغروره!
فأتباع كل دين يتجاهلون إيمانهم بأن الناس سواسية أمام الله، وأن طاعة كل الناس أو عصيانهم له لا يزيد في ملكه ولا ينقص منه شيئاً!
ويتجاهلون أن الحقيقة التي يثبتها إيمانهم، هي عدم حاجة الخالق إلى علاقات خاصة مع بعض مخلوقاته، ونفي كل أساس ونسف كل حجة أو سبب لوجود مكانة وقيمة وعلاقة خاصة لمخلوق دون غيره مع الخالق!
ولكن ليس بين المخلوقات من يهتم أو يدرك هذه الحقيقة– حقيقة ضآلة قيمة الإنسان- سوى الإنسان!
ولذلك كان وما يزال هم الإنسان وجهده منصباً على انتزاع الاعتراف بقيمته الافتراضية من أخيه الإنسان، وتحقيقها على حسابه!
وذلك هو مبعث الخصومات الفردية والصراعات الجماعية؛ وهو مكمن الإشكالية الفكرية الأزلية لدى البشر!
إن قيمة الإنسان لا تكون إلا على حساب إنسان مثله، وذلك ما يرفضه الطرفان، فيحتكمان إلى القوة المادية، وتنشأ العداوات والحروب!
فتسليم الطرفين بتعادلهما من حيث القيمة، يبدو لهما بمثابة انتفاء لقيمة الاثنين معاً، لأن كلاً منهما يقاس بالنسبة إلى الآخر!
أما حالة التعادل القيمي، التي تلغي الأثر السلبي لقيمة الآخر على الأنا، فإنها لا تنشأ إلا بين الأصدقاء الحقيقيين الذين يفتخر كل منهم بقيمة الآخر، وهم الذين قلّما وُجدوا!
فحالة التوازن الممتنعة تلك، لا تتأتى إلا باتفاق كل البشر على الاعتراف لبعضهم بالقيمة التي تلبي حاجة الذات البشرية التي يدركونها جميعاً، وهو الأمر الذي يحاربه دعاة العقائد الدينية بالدرجة الأولى – مع الأسف، فهو الأمر الذي لو تحقق لتحقق السلام والاستقرار الذي تنعم به أمم الحيوان والنبات والجماد، والذي يدعي العقلاء أنه هدفهم وحلمهم، بينما هم ألد أعدائه بمحاربتهم العملية لمبدأ المساواة!
إذاً .. لا وجود لقيمة معتبرةٍ للذات البشرية، إلا بقياسها إلى ذاتها، وذلك ينفيها في واقع الحال!
وإذا كانت للإنسان الفرد قيمة ذاتية، فهي تكمن في العقل أو تنبع من الكرامة..، باعتبارهما مصدر فخر الإنسان وشعار تميزه..؛
غير أن وجود استفهام كبير حول قيمة العقل وحقيقة الكرامة، يصيب هذا المصدر بالشلل..، إذ ما القيمة التي يوفرها العقل للإنسان، إذا كان العقل عاجزاً عن قراءة الذات وتحديد مصيرها وتوفير السعادة لها!
وما مظاهر كرامة الإنسان، وهو العاجز المهزوم فقراً ومرضاً وضعفاً وخوفاً وموتاً! فهو الذي يقضي حياته استعباداً واستلطافاً واستعطافاً واستجداءً وبكاءً…
لعل الإنسان – وبسبب خمول ما حوله – قد افترض لنفسه قيمة خيالية وهمية، وصدق نفسه، فأخذ يسعى لتحقيق ما افترض وجوده، بينما قيمته الحقيقية لا تزيد عن قيمة أيٍ من مخلوقات الأرض الأخرى!
ولعل التفسير هو أننا مؤقتاً، نشهد عصر سيادة الإنسان على الأرض، وأنه كان أو سيأتي زمن تكون فيه السيادة لغير الإنسان، ويأخذ الإنسان آنذاك دوراً ثانوياً لا قيمة له على الأرض كما غيره اليوم!
بهذا المعنى تكون قيمة الإنسان ضئيلة ومؤقتة ونسبية، تقاس نسبة إلى غيره من المخلوقات الضعيفة المسيرة التي يسودها الإنسان اليوم، بحكم تبادل طبيعي للأدوار بين المخلوقات في السيادة على الأرض؛ وأن سيطرته المؤقتة ربما تكون قد أوجدت لديه وهماً بأن له قيمة مطلقة لا حدود لها، والحقيقة أنه لا وجود لها؛ وما بحثه عن ذاته، وصراعه مع نفسه ومع الطبيعة طوال أجله، إلا ليجعل من وهمه حقيقة، حتى بات يتظاهر بقيمة لا يحملها، ويدافع عن كرامة لا يمتلكها!


بصمات في الذاكرة …

1- الإله.. هو قدرة مطلقة عادلة، يطمئن لها البريء، ويستجيرها الضعيف، ويخشاها الظالم!
الإله.. هو أمل يسع كل شيء رحمة وعلما!
الخالق أكمل من أن يتخذ من مخلوقاته خصوماً له وأنصارا !
الحق أعدل من أن يؤاخذ مذنباً بمقتضيات حقيقة لا يدركها!
إن لله آياته التي تدل عليه، وهي حجته على خلقه.
فالله أغنى من أن يجعل حجته بأيدي البشر الذين وصفهم بالضعف والجهل والظلم والبخل والطمع والهوى…؛ والمخلوق أقل من أن يغضب خالقه أو يرضيه!
ولا أحد من البشر يحمل آية من الله تلزم الآخرين باتباعه!
وما أمر الله للعقلاء المخيّرين من خلقه بالأمانة في سلوكهم وممارساتهم كمؤتمنين، إلا منعاً للعبث بمملكته التي استخلفهم بها، ولعل ذلك ما يحقق للإنسان قيمة فيما لو تحقق!
إن العقل البديهي الذي يتساوى فيه العقلاء من الناس مهما اختلفت وتنوعت مستويات معارفهم..، ذلك العقل هو شاهد الإله وحجته عليهم!
فمن تجاهل عقله الذي وهبه الله له، واتبع معارف وقناعات غيره من البشر.. فليس له حجة أمام الله إن أخطأ وانحرف بسبب تجاهله لعقله!
إن قابلية جل البشر لاتباع واعتناق عقائد خاطئة دون قصد ودون مقدرة منهم على التمييز..، هي حقيقة واقعية لا تفسير لها سوى أن كل العقائد خاطئة ومخالفة للعقل!
أو أن البشر ليسوا مؤهلين للتكليف والحساب!
وكل فلسفة تصف علاقة المخلوق بخالقه والإنسان بالأمانة خلافاً لهذه الثوابت الفطرية البديهية، لا تعدو أن تكون أيديولوجية أرضية قاصرة بالضرورة، وتصورات بشرية حسية تنال من نزاهة الحقيقة المرسومة في ذاكرة العقول!
فهي ليست سوى محاولات يائسة لإضفاء موضوعية غير مستحقة على أوهامِ الأناني العابث الحقود الحسود.. الذي يجهل ذاته ويدعي معرفة خالقه!
2- الإنسانية.. هي صورة مثالية مشرقة مفترضة، لواقع بشري تعيس.
هي صورة غاية في الجمال كما هي في الخيال!
صورة تظهر وتبدو أكثر جمالاً وأبلغ أثراً في النفوس كلما تراءت في سماء الأحزان وآهات المآسي!
الإنسانية.. الأنس والعاطفة التي تجعل من ذوات البشر ذاتاً واحدة وإن تعددت واختلفت صورهم؛ تلك الإنسانية هي لوحة حب صادق، أنبل من أن يجسّدها البشر بثقافة الأنا الصائب المأجور والآخر المذنب المعاقَب!
فالإنسان هو بشر خال من عيوب البشر، ليس للخبث والطمع والنفاق في خلقه نصيب!
يحمل الإنسان عاطفة البشر بعفويته لا بتكلفهم وريائهم.
ذلك هو الإنسان، الذي يفتقده واقع البشر، فيستبشرون أملاً بكل قادمٍ لدنياهم عله يكون الإنسان الذي يجعل أحلامهم حقيقة!
ومع فراق كل راحلٍ أحسن لهم يوماً، أو أساءوا له، يفيضون حزناً غائراً .. فزعاً من مواجهة حقيقة قادمة، وخشية أن يكون الراحل هو من كان بالأمس مُنتظَراً!
الحقيقة التي يعيشها البشر ويأبون قراءتها، هي أن كل الموجودين بشر، وحيواتهم ملآ بالعيوب تؤكد بشريتهم وتحول دون إنسانيتهم!
وأن الإنسان محبوب الجميع، هو وهم من نسج خيالهم، مصدره عظمة زائفة استوطنت أنفسهم، فصدّقوها وشرعوا في إثباتها لأنفسهم!
لكن عيوبهم الأكيدة التي لا استثناء منها لأحد، قد أحرجٍتهم وخدشت كبرياء عظمتهم الزائفة!
فلجأ المكابرون منهم إلى مصحات الخيال أملاً في علاج نقائصهم، وهرباً من الاعتراف بحقيقة يراها كل منهم في الآخر وينفيها عن نفسه، وبحثاً عن كمال هلكت دونه أجيال وانقضت آجال.. وهيهات أن يبلغه من كان النقص جزءاً من حياته!
فالإنسان كمال جريح وجمال تعيس!
الإنسان رحلة حزن في غمرة شوق!
الإنسان مأساة تتبدى في علاقة حبٍ صادق بين مخادع ومجهول!
الإنسان جواب لا يريد السائل سماعه!
وتظل الإنسانية عاطفة غامرة عابرة تظهر عند كل لحظة فراق ومأساة لتثبت عجز البشر!
وتبقى البشرية واقعاً مرفوضاً، وممثلاً زائفاً لإنسانية غائبة، عابثاً بجمال الحقيقة وصدق الجمال!
3- الجهل هو خروج العاقل – طوعاً – عن بديهيات العقل والمعرفة!
فالجاهل هو ذلك العاقل الذي تتعارض قناعاته مع بديهيات عقله، فيبرر لنفسه من السلوك والممارسات ما لا يقبله عقله من سواه!
فالجاهل يتجاهل اختلاف واقعه العملي مع قناعاته النظرية وما يدعو له!
للجهل سبيلين أساسيين يدخل ويسيطر من خلالهما على فطرة العاقل، هما.. وَهْمُ الخصوصية والعَظَمَـة الزائفة التي لا يُقرّها الواقع والعقل، ثم الطمع في تملّك ما يفوق الخيال – حُباً في الاستعلاء على الآخرين، وملئاً لنقص يجده في نفسه!
ومن السخرية والعبث بالفطرة أن يُعرّف البعض الجاهل الذي تتوعده الأديان بسوء العاقبة.. بأنه ذلك الإنسان الذي لا يُدرك معنى الكفر، ولا معنى ومقتضيات الإيمان بوجود الله!
أو أنه ذلك الأمّي، أو المسكين الذي لا دراية ولا طاقة له بما يدور حوله..، ولو كان الجهل كذلك، لكان الجهل حُجَّةَ للإنسان لا عليه – شأنه شأن المرض والفقر!
بل الجاهل هو كل عاقل تجاهل عقله وواقعه وفطرته، واتبع خياله، سعياً وراء أوهامٍ ترفضها فطرته ومنطق البديهة الذي لا يختلف حوله عاقلان!
4- الآدمية ليست صفة للبشر، بقدر ما هي رواية وردت في كتب بعض الأديان، تُرْجِعُ أصل الجنس البشري إلى نقطة بداية واحدة، بدءاً بفرد واحد خُلِقَ من طين، هو آدم!
وتُعتبر صحة الرواية من المسلمات لدى أتباع تلك الأديان.. كمُعطى عقائدي وتاريخي. ولكن ذلك المُعطى ليس من مسلمات كل البشر!
5- البشرية هي الوصف الطبيعي الذي يُجسّد صورنا وسلوكنا مقارنة بغيرنا من الكائنات الحية من حولنا!
فنحن نشترك مع الحيوانات في كل عيوبها، ولأننا بشر نفتقر إلى بعض المزايا في حياة الحيوانات، ولأننا بشر كذلك، فإننا نمتلك ما لا تمتلكه الحيوانات.. من العقل والقدرة على التطور المعرفي والاستفادة من أخطاء الماضي!
6- البراءة هي نقيض الخبث.
لكن اعتاد البشر استخدام كلمة براءة نقيضاً للعقل!
حيث لا يذكرون البراءة إلا قرين الأطفال والحيوانات.
بهذا المعنى أضحت البراءة حيث لا يكون العقل!
براءة أبناء البشر مؤقتة – تزول ببلوغهم سن العقل -؛ وبراءة الحيوانات دائمة!
وفي ذلك قدح وذمٌ للعقل، وربط له بالخبث، واعتراف من البشر بتقدم الحيوانات عليهم في ساحة البراءة .. طالما أن البراءة صفة حميدة وهي مطلقة ودائمة لدى غير العقلاء، بينما لا تذكر البراءة قرين العاقل إلا مع الجريمة والإدانة!
7- الأمّة هي مجموع الأفراد من أي صنفٍ من أصناف الكائنات الحيّة، المختلفين عن غيرهم سلوكاً وممارسة، والمتفقين بينهم فطرياً.. من حيث مبادئ الحياة وطريقة العيش والنظر إلى الآخر؛ والمتكاملين طبيعياً وطواعية لتحقيق مصالحهم.. بغض النظر عن تأثير سلوكهم وممارساتهم على مصالح الآخرين!
وفي حال الإنسان فإن أفراد أمته الحقيقيين هم أولئك البشر الذين يتفق معهم طواعية فكراً وسلوكاً وممارسة، وليس أولئك الذين أجبرته الحياة على العيش معهم ومسايرتهم من أجل تحقيق مصالحه والبقاء حياً!
8- في عالمنا العربي الإسلامي، يقول البعض إن كل دولة أصبحت مزرعة للحاكم وأولاده وأتباعه!
وهذه عبارة صِيغت بصورةٍ مُغرضةٍ، وإن حملت شيئاً من الحقيقة في إيحائها!
موضع الطعن فيها تحمل لواءه كلمة "أصبحت"!
فالحقيقة هي أن الدولة العربية الإسلامية "ما تزال" على حالها منذ قيامها – مزرعة للحُكام وأبنائهم وأعوانهم.
فالحَجْر على الفكر، وتوريث الحكم، ومنع الحريات، وتهميش ومحاربة دور الفرد، وممارسة الوصاية الفكرية والعقائدية، والحكم العشائري القبلي،…الخ،
هذه هي سمات الدولة العربية الإسلامية منذ قيامها!
فحكام العرب المسلمين اليوم وإن أخطأوا، إلا أنه لا ينبغي تحميلهم المسئولية كاملة وكأنهم قد ابتدعوا نظام التوريث أو التمسّك بالسلطة مدى الحياة، فهم لم يأتوا ببدعة سياسية ولا بخطأ ثقافي أو فكري جديد!
وخطورة مثل هذا الطرح تكمن في خداع عقول البسطاء بإيهامهم أن العرب المسلمين قد ورثوا الحرية والديمقراطية والرفاهية عن أسلافهم، وأن حكامهم اليوم هم من حرمهم من ذلك النعيم، مما يجعل الشعوب العربية الإسلامية تحن إلى الماضي وتقدس رموزه، وتحقد على الحاضر وأهله.. مع أنهما نسخة وأصل.
فالحقيقة هي أن العقلية القبلية والعشائرية والعرقية، وثقافة تقديس الماضي وعبادة رموزه، والتستر على أخطائه الفادحة وما صاحب مكاسبه المادية من جرائم فكرية وإنسانية لا نزال ندفع أثمانها… هذه المعطيات هي أسباب مأساتنا وواقعنا المرير، وليست الحكومات والحكام!
فلو أن حاكماً تنازل عن منصبه، فإن حزباً دينياً أو فرداً من طائفة أو من قبيلة أخرى سيحل محله ويُعظّم عشيرته أو يقدس مذهبه وطائفته، وهي بدورها تخلده وتجد لأخطائه الأعذار، ولن يتغير حال المجتمع والفرد، وستذهب أوهامهم أدراج الرياح!
إن المجتمعات التي حظيت بالحرية والتقدم، كانت قد أصبحت أهلاً لذلك فنالت ما تستحقه، ولم تُهد لها مصالحها وهي تعمل ضدها!
9- أتباع الأديان – الموحدة – إلهاً ورسولاً وكتاباً – – جميعهم اختلفوا وتفرقوا واقتتلوا بعد إيمانهم، لأن إيمان جلهم كان من وراء العقل ودون موافقة المنطق!
كان إيمانهم شعاراً خادعاً لهم قبل غيرهم ..؛ إذ أظهروا الإيمان خوفاً وطمعاً، وظلت عقولهم وقلوبهم تتساءل، تطلب حجـةً وبرهاناً تطمئن به؛ ولكن لم يعبئوا بالتساؤلات داخلهم حتى اصطدموا بها من خارجهم تحاكي ما بداخلهم؛ فاختلف ظاهرهم عن باطنهم، فاختلت آلية المنطق لديهم واهتزت معاييره!
فمعتنقي النظريات الدينية، المتمثلة في الطوائف المختلفة والمذاهب المتعددة جلهم يخدعون أنفسهم قبل غيرهم، بتبنيهم الظاهر لمبدأ حرية الفكر والعقيدة، ثم اشتراطهم ضرورة الخروج بنتائج محسوبة لديهم مسبقاً على من أراد ممارسة حقه في التفكير!
قد رحل الرسل، واختلف وتشتت وتنوع الأتباع، وواجه الجميع سؤال العقل والمنطق والفطرة الذي يوحد كل البشر!
فما كان من أتباع الطوائف إلا ترهيب المتسائل، وترغيب المجامل، وتكفير المخالف لهم وإعلان العداء أو إضماره له، وتحريم السؤال عن تفاصيل وجذور المذاهب!
10- لا حرج على المؤمن أن يقرّ ولا مناص للعاقل من أن يدرك بأن الله ينبغي أن يكون أعظم وأعلم وأعدل وأرحم وأرحب وأكبر .. من معرفة مَنْ عرفه وجهلِ من جهله، ومن طاعة من أطاعه ومعصية من عصاه!
وأنّ المخلوق الذي يمثل البشر صنفاً منه، هو أقل وأصغر وأدنى وأضعف وأظلم مما يقول عن نفسه وما يراه وما يظنه وما يعرفه عنه الآخرون!
الله أعظـم من أن يعاقب ضعيفاً!
والإنسان أقل من يغضب الله أو يرضيه!
الخالق أكبر من أن يتحدى مخلوقه الجهول الضعيف المهزوم طمعاً وعجزاً وحاجةً ومرضـاً وخوفاً وموتاً!
11- الشيطان في التفاصيل، والعبرة بالنتائج..، فلاسفة فقهاء مفكرون مثقفون رؤساء وزراء مُدراء إعلاميون …الخ.
منهم من يمتطي صهوة الإنسانية، ومنهم من يرفع شعار الإيمان..، يسعون لتحقيق نظرياتهم وتصوراتهم لما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان وعلاقته بخالقه!
كلٌّ منهم يرى من زاويته خللاً يحول دون سعادة الإنسان وإدراك الحقيقة!
كلهم يقدمون أنفسهم بوصفهم منقذين حكماء رحماء يتحاورون نيابة عن جاهلٍ أبكم!
كلهم حاضرون يمثلون عدماً غائباً!
كلهم شرفاء أبرياء أقوياء يهاجمون مذنباً مجهولاً!
الهـدف المعلن للكل هو تحقيق مصلحة الإنسان وسعادته!
ولم يسألوا أنفسهم من هو الإنسان المستهدف، وما موقعه في المعادلة!
كيف يحظى بكل هذا الاهتمام وهو الذي لم ولن يستشار في أمر يخصه دون سواه!
ومن المسئول عن غياب الحقيقة والسعادة.. طالما كان الإنسان هو الفاعل والمتضرر وهو العالم والجاهل!
كان عليهم أن يقولوا إنهم يسعون لتطبيق نظرياتهم على المجتمع البشري لتحقيق أحلامهم وتصوراتهم، وأنهم اتخذوا من الأديان والإنسانية شعاراً ومن البشر مادة لتجاربهم!
لا أن يقولوا إنهم يسعون لإسعاد الإنسان!
فمن خولهم بالتفكير نيابة عنه!
ولماذا لا يؤخذ رأي التعيس في مواصفات سعادته الموعودة!
هل يمكن تشخيص المرض دون محاورة المريض!
أم أنه ينبغي على الإنسان أن يكون سعيداً حسب أفكار سادته من البشر، وأنه على الأمّي المأموم أن يكون سعيداً وفق رؤية إمامه الفقيه.. ولا حاجة للعاقل بعقله!
إنهم افترضوا أن غيرهم الجاهل وأنهم الحكماء!
إن الإنسان هو الأنا والآخر، وهو الهدف والعائق!
والكل يعتقد جازماً – مخدوعاً أو خادعاً – بأنه الأكثر دراية وأمانة وحرصاً ومقدرة على تحقيق الهدف!
والهدف – المعلن- هو مصلحة الإنسان؛ وكل عناصر المعادلة وأطراف المعركة .. هو الإنسان!
تجارب أولئك الخبراء المصلحين لم تُثبت سوى أن الجنس البشري هو أنسب المواد لإجراء تجاربهم اللانهائية!
النتائج أثبتت أن الإنسان هو الخاسر الوحيد من تجارب البشـر، وربما كان الساقط الأكيد من حساباتهم.
الواقع أثبت أن نظرياتهم لا تنطبق على الإنسان المتوفر!
وتفسيرهم للأمر هو أن العيب في الإنسان وليس في نظرياتهم.. وكأن النظريات قد سبقت الإنسان!
وحلولهم المطروحة تنظّر إلى ضرورة إصلاح الإنسان لتتحقق التنبؤات والنظريات .. بدلاً من تصحيح النظريات لتتوافق مع طبيعة وفطرة الإنسان المتوفر!
فكان البحث ولا يزال عن إنسان يحمل مواصفاتٍ تحقق نظريات السادة البشر .. كأن الهدف هو تكوين مجتمع آلي!
الطعن في مواصفات الإنسان أمر ممكن جداً، لكن الطعن في نظريات المفكرين وتنبؤات المنظّرين هو أمر غير ممكن!
بعض النظريات .. كالنظريات الدينية مثلاً – تبيح التصفية الجسدية للإنسان الذي لا يحمل مواصفاتها، ولا ترى حق الحياة مكفولاً إلا لمن تتحقق بهم النظرية!
فكل من امتلك وسيلة ووجد سبيلاً فإنه سيحاول تغيير مواصفات الإنسان لتحقيق نظريته!
الكل يغض بصره تجاهلاً أو جهلاً عن حقيقة ثابتة، وهي أنه لا وجود للإنسان بالمعنى المادي الحسي!
فمفهوم الإنسان هو فكرة سامية وليس مادة محسوسة!
المادة الآدمية الموجودة هي بشر وليست إنساناً.
الإنسانية هي حلم البشرية وليست معنى من معانيها!
ولو أن نظريات البشرِ استهدفت بشراً لكان لها أثـراً!
لكنها استهدفت الإنسان الخيال الذي لا وجود له في واقع الحال!
ولذلك ستبقى نظريات البشر حول الإنسانية أموراً نظرية، وسيبقى البشر واقعاً عملياً يخالف التنبؤات النظرية.. ذلك لأن البشر كائن متغير القيمة، ذاتي القرار والأفكار، أبعد ما يكون عن الإنسان المثال السابح في الخيال!
12- من المفارقات أن يكون الناطقون باسم الإله هم أكثر الناس استعداداً نفسياً لاحتقار غيرهم، وسوء الظن بهم؛ وهم الأكثر قبولاً وممارسة للكراهية والعداء؛ وهم الأكثر جرأة على إزهاق الأرواح البشرية!
ورغم أنه لا يوجد على الأرض بشرٌ إلا الذين أراد الله وجودهم!
إلا أن جُلّ أتباع الأديان يكرهون ويقتلون البشر تقرّباً بدمائهم لخالقهم، أو تنفيذاً لأمرٍ صريحٍ منه كما يزعمون!
فكأنهم يقولون إن الله قد سمح بوجود بشرٍ من درجةٍ دنيا، ثم هيأ بشراً من درجة أعلى، وجعل سنام عبادته في قتل البشر من الدرجة الدنيا!
لا ينبغي للعاقل أن يتجاهل تساؤلات عقله!
الإنسان مكلفٌ ومسئول لأنه عاقل؛
إذن، العقل هو شاهد الله على الإنسان.
والجاهل من تجاهل عقله وتعصب لهوى النفس ورغبات الذات.
الله لا يعاقب الجاهل لأنه لم يطعه ولم يعبده.. فالعبادة وسيلة للمخلوق لا غاية للخالق، .. العبادة أساسها الخوف من العقاب والطمع في الثواب!
فلو شاء الله لتساوى خلقه في عبادته!
الله يعاقب الجاهل لإفساده في الأرض بخروجه عن الفطرة التي يتساوى فيها البشر وتسير وفقها الحياة.
13- المؤمن لا يختلف عن غير المؤمن إلا ظاهراً!
المؤمن لا يمتلك دليلاً على صحة إيمانه، ولا يمكنه الجزم بقبول عمله عند الله؛ ولا ضامن لنجاته وهلاك من سواه.. ومع ذلك فهو يدعو غيره ويعاديهم ويحاربهم من أجل أن يقتدوا به ويؤمنوا مثله!
المؤمنون بشر صدّقوا بشـراً مثلهم، وآمنوا بما قيل لهم؛ ولم ير ولم يطلب كل واحدٍ منهم برهاناً بمفرده !
وما دعوتهم لغيرهم إلا ليطمئنوا هم لصحة إيمانهم، وما معاداتهم لسواهم إلا لأنهم جاهروا بتكذيبهم وليس لأنهم لم يؤمنوا حقيقةً.
الإيمان مقره القلب، واللسان ناطق به، وهو قادر على التزوير فيدعي أن بالقلب ما ليس فيه.. وهذا أقصى ما يمكن أن يحصل عليه دعاة الإيمان من غيرهم عند إجبارهم على الإيمان!
14- لم يخلق الله البشر ليقتتلوا من أجله! تلك أفعال البشر وأوهامهم.
لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة مؤمنة!
الله أمر الناس أن يتدبروا آياته في الكون، ولم يجعل بعضهم وصيّاً على آخر!
غضب المؤمنين وعداؤهم لغيرهم هو بسبب البرهان الذي يطلبه غير المؤمنين ولا يمتلكه المؤمنون!
مأساة غير المؤمن هي أنه إنسان منبوذ محتقر في نظر المؤمنين دون أن يعرف ذنبه!
ربما كان ذنبه أنه إنسان واقعي، احترم عقله وتمسك بقناعاته وحريته في الاعتقاد، وطلب حجة يفهمها عقله ويطمئن لها قلبه!
القول بأن الملحدين أو الكافرين يعرفون وجود الله، ويدركون حقيقة البعث والحساب، ويعلمون بأن المؤمنين على حق، ولكنهم يكابرون ويتجاهلون الحقيقة عمداً، فيعادون الله ولا يخافونه.. هو عبث فكري وسخف ثقافي وتفاهة لغوية، وقول لا عقلاني لا أرضية له.. تعوزه أبسط مقومات الموضوعية والحكمة والمنطق والواقعية!
لأن وصفَ الإنسان بأنه يدرك ما ينبغي عليه فعله لينال السعادة وينجو من العقاب.. ولا يفعله؛ هو وصف لذلك الإنسان بأنه مجنون.. غير عاقل .
ومن كان كذلك فلا تجب دعوته ولا تجوز معاقبته ولا تصح معاداته فضلاً عن محاربته!
15- المؤسسات الدينية أساءت إلى الدين وإلى العقل دفعة واحدة، عندما ظن رجالاتها بأن التفكير في الإيمان مفسدة!
فمنهم من منع ومنهم من كفر وحرم كل سؤال لا يمتلك هو جوابه، كأن عقولهم ومعارفهم هي نهاية المطاف!
المؤسسات الدينية هي أفكار ونظريات بشرية وليست أشخاصاً بعينهم وليست هي رسالات الله لخلقه.
هي نظريات قامت على افتراض أن الناس ينقسمون إلى أربعة أصناف.. حكام، وحكماء، وكفار، وجهلاء؛ ومن ليس من أولئك فهـو من هؤلاء!
لم تترك تلك النظريات مجالاً لصنفٍ خامسٍ من البشر!
ومن أجل تحقيق النظرية وتطبيق أفكارها، اضطر صِنفا الحكام والحكماء – المفترضين – إلى تحالف غير معلن، لمحاربة الكفار وقيادة الجهلاء .. المفترضين!
الكفار هم الأحرار من البشر الذين لم يعترفوا بأنهم جهلاء، فلم يقدّسوا الحكماء ولم يقدّموا للحكام مقتضيات الطاعة وواجبات الولاء.
والجهلاء هم أولئك الأغلبية الغافلون الذين يشكلون خطراً على أسرار النظرية.. إذا امتلكوا الحرية!
نظرية المؤسسة الدينية تقوم على أساس كسر إرادة الإنسان وإخضاعه ظاهرياً!
فهي لا تشترط قناعة الإنسان بما يفعل وما يقول، بل تكتفي بأن ينطق الإنسان بما يملى عليه!
فالمؤسسة الدينية لا تمتلك الآلية ولا القدرة للتحقق من سلوك وممارسات الإنسان المحسوب عليها.. شأنها في ذلك شأن المؤسسات العسكرية في العالم الثالث!
فكلتاهما تهتم بأعداد الأتباع وخضوعهم الظاهري لها.. لا بحقيقة ولائهم.
كلتاهما تستعمل ذات المدخل وذات نقطة الضعف لدى جل البشر.. حب الحياة ووهم السعادة!
فتهديده بالموت أو ترهيبه بالتعذيب كفيل بمنع الإنسان من التفكير بصـوتٍ مسموع!
الممارسون للوصاية الفكرية باسم المؤسسات الدينية يزعمون الاعتقاد بأن الله قد كرم كل بني آدم دون استثناء، وفضلهم على كثير من خلقه.
ويشاهدون ذل الفقر والضعف يفتك بالناس.. ولا يحركون ساكناً، ولا يجدون لذل المكرمين تفسيراً!
بل هم أول من يحتقر المخالفين لهم في الرأي.. دون اعتبارٍ لكرامة الإنسان التي يزعمون الإيمان بها!
16- لو أن المؤسسات الدينية قامت من أجل توعية الناس إكمالاً لرسالات الرسل، إذاً لاقتدت بالرسل ولاكتفت بإنذار الناس بعذاب الله وتركت عقاب المخلوق للخالق كما فعل الرسل، وكما أمر الله في كتبه!
لكن المؤسسات الدينية نشأت واعتمدت في بقائها على واقع جهل افتراضي لدى الناس، وعلى افتراض أن رجالاتها حكماء وموكلون بقيادة الجهلاء.
فخلقت بذلك في نفوس الناس هوة مرعبة بينهم وبين خالقهم وأمور دينهم!
ففي حين تتضارب الفتاوى وروايات الأحاديث والتراث بما يطرح تساؤلات لا يخطئها إلا جاهل أو متجاهل، .. نجد المؤسسات الدينية تتوعد الناس بالويل والثبور وعظائم الأمور إن هم صدّقوا هذه الرواية البشرية أو كذّبوا تلك الرواية البشرية!
فأضحوا يمارسون الوصاية الفكرية على غيرهم كما لو كانوا كباراً بالغين وغيرهم صغاراً قاصرين!
ويتجاهلون أن الرسل قبل أن يصبحوا رسلاً كانوا قد عاشوا حيناً من الزمن بين أقوامهم .. لا يتبعهم ولا يقتدي بهم ولا يقلدهم الناس، ولم يطلبوا هم ذلك حينها!
رغم علمهم وحسن سلوكهم وحكمتهم ودرايتهم بما سبق من الرسالات!
لقد انتظروا حتى تم تكليفه مباشرة وبشكل شخصي، بنقل رسالة كما هي!
فهم نفذوا أمرًا ونقلوا خبرًا، ولم يتطوعوا من تلقاء أنفسهم لدعوة الناس إلى ما يظنون أنه الحق!
إن الخالق أكبر من أن يعاقب ضعيفاً . والمخلوق أقل من أن يغضب خالقه أو يرضيه !
فإذا كان أتباع كل رسول يعتقدون بأن رسولهم يمتلك حق الشفاعة، وأنه سيشفع لهم عند ربهم، وينقذهم من عذاب مستحق!
فإنّ كل الناس هم عبيد الله وخلقه الضعفاء وإن ضلوا وإن أساءوا، ولهم أن يطمعوا في رحمته التي وسعت كل شيء.

الجمعة، 17 مايو 2024

الإنسان ذلك العبد الحُر والمقذوف الواعي!

0 تعليق



- لو سُئل الحديد عن الصواب، لقال هو تعميم الصدأ!

- لو سُئل الذهب عن الصواب، لقال هو انعدام الصدأ!

- لو كان الواقع مرآةً لا يرى فيها البشر غير أحلامهم
ومعتقداتهم، لما رأى أحدهم غيره!

- أن تتحقق كل المعتقدات، يعني أن يختفي كل البشر!

- الاعتقاد هو أن ترى أخطاء غيرك ولا ترى أخطاءك!

- الإيمان هو أن تبرر لنفسك ما لا تبرره لسواك!

- أن تعتقد يعني أن تتوهم لتحلم!

- أن تؤمن يعني أن تعيش أحلامك دون أن تتحقق!

- البشر متخلفون عن غيرهم من الكائنات، ما داموا
يفصلون بين الإنسان وعقله!

- ما زال البشر متخلفين، ما داموا لا يرون الإنسان
مسئولًا عن الصمم ويرونه مسئولًا عن الغباء!

- البشر سطحيون ما داموا يرون تشوه الجسد،
ولا يرون تشوه الفكر!
- سطحيون ما داموا يُبررون اختلاف الظاهر،
ولا يُبررون اختلاف الجوهر!

- علامة خروج البشر من تخلفهم، هي نظرتهم إلى
المسيء منهم باعتباره ظاهرة طبيعية في صورة
بشرية، وليس كائنًا يمتلك إرادة ويتعمد الإساءة!

- الحياة أشبه بنكتة انتشرت في مأتم زائف، فأضحكت
فقط مَنْ لا يفرقون بين الأفراح والمآتم – لحسن حظهم!

- لا يوجد شيء خارج الإنسان يستحق منه أدنى جهد ،
ولا شيء يؤلم الإنسان كإدراكه لهذه الحقيقة!

- يوجد أناسٌ يستحقون أن نحيا لأجلهم، لو كان
بوسع إنسان أن يحيا لغيره، ولو كان بوسع الغير
إدراك حجم التضحية وقبولها!

- المنتحر .. إنسان أكمل الطريق العام قبل الوقت العام!


إنسان الطبيعة وإنسان المعتقدات ..

- الاعتقاد هو اعتناق أُحجية الإنسان العبد الحُر!

- في الواقع الطبيعي، الإنسان مجرد مقذوف واعٍ -
مقذوف يعي بأنه مقذوف وحسب!

- في واقع الاعتقاد (الخيالي) الإنسان يمتلك إرادة
ومقدرة على الفعل وعدم الفعل، وهو على صواب
ومنتصر دائمًا حتى لو انتهى الأمر بفشله وخسارته!

- إنسان المعتقدات هو كل إنسان لديه من الوعي
والإدراك فقط ما يجعله يتوجس رعبًا من فكرة الواقع
الطبيعي، الأمر الذي يجعله مهيأً لقبول فكرة الاعتقاد
بواقع خيالي مصمم على مقاس أحلامه!

- سلوك إنسان المعتقدات هو سلوك الجبان!
- الشجاعة ليست مُعطًى طبيعيًا مستقلاً يوجد لدى بعض البشر ولا يوجد لدى غيرهم، بل الشجاعة هي سلوك كل إنسان مُدرِك تمامًا للأمر أو جاهل تمامًا بالأمر، والجبن هو سلوك ما بينهما - وهو سلوك إنسان المعتقدات!

- أُحجية العبد الحُر، هي أن يتوهم الإنسان المسئولية،
رغم إدراكه بأنه معدوم الإرادة والعِلم والمقدرة!

- العبد الحُر هو كل إنسان يعتقد بإمكانية وجود وجه
للمقارنة وحاجة للتكامل بين النسبي والمطلق، .. بين
المخلوق والخالق!

- الاعتقاد هو أن يفتعل الإنسان قضية يحيا ويموت
لأجلها، كرفض وهمي منه لحقيقة حياته دون مغزى
وموته دون معنى!

- الاعتقاد افتعال داء، والإيمان افتراض شفاء!

- الاعتقاد افتعال خوف، والإيمان افتراض أمان!

- الاعتقاد افتعال قضية، والإيمان افتراض حلها!


- الإنسان عبارة عن وعي مقذوف في فضاء الوجود!
- المقذوف الفضائي، لا يمكنه تغيير مساره بنفسه،
نظرًا لعدم وجود مُتكأ يُمكِّنه من الانحراف!
- كل ما يعرفه هذا المقذوف الواعي هو أنه مقذوف،
ولا يمكنه التوقف قبل اصطدامه المحتوم بجدار الموت!

- الإنسان المصاب بالاعتقاد، يتكئ على الفراغ مفترِضًا
أنه قد غيَّر مساره، فيتوهم أنه مسئول عن اصطدامه
الحتمي بكل ما يعترض طريقه!

- الاعتقاد هو استعمال العقل لتدمير الوعي!

- الإنسان إما عبد وإما حُر، ومجرد تسمية العبد حُرًا
لا تجعله حُرًا!

- الإنسان إما عاقل منطقي وإما مؤمن تقليدي،
فلا يلتقي منطق وإيمان تقليدي في كيان واحد!

- حياة الإنسان مجرد تجربة طبيعية، والتجارب لا تظهر
نتائجها أثناء التفاعل، ولذلك لا يُدرك الإنسان أخطاء
أي مرحلة من مراحل حياته إلا بعد تجاوزها – أي إلا
في المرحلة التي تليها – حيث لا مجال لتلافي الأخطاء،
ولا معنى لإدراكها سوى إثبات عدم مسئوليته عنها ..،
فلا يُدرك الإنسان أخطاءه في مرحلة الطفولة إلا وهو
في مرحلة الشباب، ولا يُدرك أخطاءه في مرحلة
الشباب إلا وهو في مرحلة الكهولة، وهكذا ..،
والمرحلة التي يُدرك فيها كل أخطائه هي مرحلة
الما لا نهاية، وهي المرحلة الغير ممكن إدراكها ..،
وهذا يعني أنه من قبيل الجهل واللغو والهراء، القول
بمسئولية الإنسان عن سلوكه وامتلاكه لإرادته ..، هذا
فضلاً عن عجزه الواقعي العملي عن فعل كل ما يريد
واجتناب كل ما لا يريد – عادةً!

السبت، 4 مايو 2024

طلب الشفافية وصفة سحرية لإثبات الأنانية!

0 تعليق


مِن القِصص الطريفة والمُعبِّرة، التي تُروى على لسان الشخصية الشعبية التراثية "جُحا"!
يُروى أن أحدهم كان قد قصد "جُحا" يومًا، وطلب منه أن يُعيره حماره، ليقضي به مهمة ويُعيده له.
فاعتذر جُحا عن تلبية الطلب، بحُجَّة أن حماره غير موجود.
لكن، ما أن أكمل جُحا كلامه، حتى أحدث الحمار صوتاً (نهيقاً)، وكأن الحمار يقصد إحراج جُحا!

فقال الرجل لجُحا: آخر ما كُنتُ أتوقعه، هو الكذب من عاقل مثلك!
كيف تقول بأن حمارك غير موجود، وها هو الحمار يُثبت أنه موجود!

فقال جُحا للرجل: لا تعجب يا صاحبي، فهذا زمن العجائب..، هل سمعت قبل اليوم عن عاقل مثلك يُكذِّب إنساناً ويُصدِّق حماراً!

الأمر ذاته ينطبق عليك أيها الغريب الذي ترفض حُجَّتي لضعفها، وتتساءل لماذا أرفضك وأبغضك!
ألا أيها الغريب ما أجهلك! ألا تعرف لماذا أرفضك!

كانوا قبلك، يَرونني مخلوقاً رُوحيّاً، أُعلِّم الجُهلاء كيف تكون السعادة في أرض الخطيئة!
كانوا قبل ظهورك الذي أفسد كل شيء..، كانوا يوقنون بأنني أدرى بسعادتهم منهم؛ فقد أوصلتهم بدهائي وجهلهم إلى الاعتقاد بأنني لستُ من جنس البشر الآثم!
بل أنا من جنس طاهر شريف، يُحلِّقُ خارج المألوف، ليكشف المحجوب ويُنبئ بالغيب ويُخبر باللا معروف!
كنتُ أُشير إلى سماء لا وجود لها فيرونها، فأُخيفهم من سقوطها عليهم، فيُطيعونني ويهابونها!
كُنت أُشير إلى طيران الطيور فوقهم، وعجزهم عن مجاراتها، فيعترفون بضعفهم ويُقرّون بمعجزتي!
فَجئت أنت أيها الجديد من بعيد، بأمجادٍ محسوسة، لتقوض أمجادي الشفهية السحرية، ولتُخبر عبيدي الجُهلاء الأغبياء بأن هنالك ما هو أجمل من الوهم والعبودية، وهي الحقيقة والحرية!
أَخبرتَ عبيدي بأن سماءهم فضاءٌ خواءٌ وأن الفضاء لا يَسقُط، قُلت لهم ذلك بعد أن غزوته برجالك وعلمك، وأتيت منه بالخبر اليقين!
أخبرتهم بأنه لا معنى للأعلى والأسفل في عالم الفلك وفي علاقات الكواكب والنجوم، فصورتَ لهم أرضهم وهي تدور طوال الدهر، فيكون سافلها عاليها والعكس، كل يوم وكل ساعة!
أخبرتهم بأن الليل والنهار ظاهرة يومية طبيعية بديهية، ناتجة عن دوران أرضهم الكروية حول الشمس!
حَلَّقتَ أنت في الهواء، فوقهم وفوق طيوري التي كانت بطيرانها معجزة جميلة عندهم، فلم تعد بعد طيرانك معجزة!
أفسدت عليَّ كمّاً كبيراً من أسراري التي كان يجهلها عبيدي وأنصاري!

وتتساءل بعد ذلك لماذا أكرهك.! .. للعِلم درُّك ما أجهلك!
حَقًّا إنه ليس بين الناس من يستحق الشفقة كما الصادقون!

وأظنك أيها البعيد صادقًا، ولذلك صدَّقت ما سمعت، فقلت ما لديك، وتساءلت بعفوية .. لماذا أكرهك!
الصادقون لا يعتقدون بوجود الكاذبين، والعكس صحيح!
الصادقون لا يمكنهم تصور النفاق، ناهيك عن فعله! الصادقون لا يرون في الحياة بأسرها سبباً يُبيح للحر النفاق!
الصادقون يعتقدون أن الكذب أسطورة لا حقيقة لها في عالم العُقلاء!
ولكن الصادقين ليسوا من عالم آخر مثالي، بل هم من عالم البشر الطبيعي..، ويُدركون أن طاقة الإنسان على تحمل الألم محدودة، وقد يضطر الإنسان للكذب عند درجة معينة من الألم، عندما لا يكون خيار الموت متاحاً له..، إلا أن مشكلتهم تكمن في إيمانهمم بأن الإنسان الطبيعي حتماً سيُعلن أنه أضطر للكذب، فور اجتياز المرحلة وشعوره بالأمان..، وأنه لن يشعر ولن يَدَّعي بعد الكذب أنه ما يزال إنساناً طبيعياً كما كان قبله..، وأنه سيموت حتماً – كمداً أو انتحاراً مباشراً – عاجلاً أو آجلاً !
ما لا يعتقد الصادقون حدوثه، هو الكذب مقابل لا شيء، أو مقابل عَرَضٍ زائلٍ يستطيع الإنسان الحياة الطبيعية بدونه..،
أما ما لا يمكن للصادقين تصديقه وتصوره، فهو أن يكذب الصديق صديقه، والقريب قريبه، والزميل زميله، والزوج زوجه، …!!!
لعلك أيها الغريب البعيد صادقاً، ولعل في ذلك شيء من أسرار سؤالك عن بغضي لك!

ولعلك إذا علمت أن الكذب يحيا بيننا كجزء من يومياتنا، يتنقل بين الأحياء والدور والأوطان بكل أمن وأمان، محفوظ في صدر الإنسان عندنا..، عدا شواذ القاعدة، وقليل ما هم!
!!
لعلك بعد الآن، أن تجد عذراً لبغضي البريء لك، ولعلك ألا تعود إلى سؤالك السخيف.. لماذا أرفضك وأمقُتُك!
فقد تستنبط من ثقافتي أنني لا أحتاج لأجل الكراهية والبغض، أن يفعل الآخر شيئاً يستوجب ذلك..، إذ يكفيني وجوده المستقل عني، أو حاجتي له، أو ضعفي مقارنة به، أو وجود حقائقه التي تكشف زيفي..، يكفيني أحد هذه الأسباب أو اجتماعها، لأكرهه وأرفض وجوده!
وتتساءل بعد ذلك لماذا أكرهك.! .. للظلم والظلام والظالمين درُّك ما أجهلك!
أنا إنسان مثلك، ولكنني لا أحمل الروح الوسطى ..

سأكون صادقاً وكريمًا معك، وسأُتحِفُك بسرِّي الثمين الذي سيُزيل شيئاً من جهلك، وقد يزيد من ذهولك، ويُقربك مني إن شئت، ومن أي سبيل اخترت!
أنا إنسان أحمل روحين متناقضتين متصارعتين!
وأيهما انتصرت وطغت، انعكست على سلوكي وممارساتي!
أنا يا من تجهلني، أحمل بداخلي روح عبدٍ ذليلٍ، مُهيأ لـ(قل فيقل، وافعل فيفعل، وآمن فيؤمن، واكفر فيكفر)، وكأنه يؤمن لغيره، ويكفر لهم؛ ولا وجود له ولا كيان!
وأحمل إلى جانبها روح مجرمٍ أسطوري، يرى كل من حوله أعداء يجب اجتثاثهم إن رفضوا عبادته، متى سنحت له الفرصة لذلك!
أنا ذلك الكائن البشري الذي لا توجد بداخله روح الإنسان الطبيعي الذي يتوسط السيد الفظ والعبد الغض!
والخيار الآن لك أيها الغريب، فإن شئت صُرتَ عبداً لدي، أكفل لك عبودية مُرضية، فأنا سيدك الآمر الناهي المطاع، الناطق باسم السماء والغيب!
وإن شئت واستطعت، فاتخذ مني عبداً لك، شرط ألا تغفل عن تذكيري بعبوديتي طرفة عين؛ فالخداع والنفاق يسريان في دمي. ليس لك بعد الآن أن تتساءل، لماذا أرفضك!
قد بُحتُ لك بسري المُقدَّس، وأرى أن ذلك يكفيك إن لم يكن بك من الجهل ما يمنعك من فهم بديهيات الأمر!
قد تستغرب، وتتساءل، كيف لإنسان يُدرك ذاته وواقعه وانحرافه عن الفطرة إلى هذا الحد، ويُدرك أنه مُخالف لقوانين الطبيعة ومنطق البشر إلى هذا البعد!
ويعيش في أحدث عصور العِلم، حيث لم يعد يَخفى من الأمور إلا ما ندر ..، كيف لمثل هذا الإنسان ألا يُغيِّر من شأنه!
إذا كان مثل هذا التساؤل قد تبادر إلى ذهنك، فإنه وللوهلة الأولى قد يبدو أن الحقَّ معك!
لكن مهلاً، لا تنسى ما ورد في أسطرٍ سابقة، وما سأوضحه لاحقاً، وهو أن رجوع الإنسان واحتكامه إلى معايير فطرته بعد انحرافه، يتطلب أن يكون الإنسان طبيعياً!
وهو الأمر الذي أفتقده، فقد سلبوني روح الإنسان الطبيعي؛ حين انتزعوا مني الروح الوسطى التي يحيا بها سائر البشر!
فأنا أحمل روح العبد الذليل، وروح السيد السادي! وأيهما طغت فذاك أنا!
لا تَغُرَّنَّك شعاراتهم وهلوساتهم، فهم جميعاً مصابون بذات الداء، ويحملون الروحين المرفوضتين فطرياً، ويفتقدون الروح الوسطى!
قديمة هي هذه المصيبة فينا؛ ولا شك أن أول من ابتكر معادلة انتزاع الروح الوسطى، قد مات غير مأسوف عليه.
ولكنه قبل أن يموت كان قد زرع المصيبة وأورث سِرَّها وسَرَطانها، وهكذا توارثتها أجيالنا، وهكذا صرنا إلى هذا المآل، بانتظار من يُعيد لنا أرواحنا الوسطى، لكي نرى الصورة الثالثة للإنسان من حولنا، صورة الإنسان الطبيعي، .. لا كما نراه اليوم عبداً أو سيدا!

أيها البعيد القوي ما أجهلك! ألا تعرف لماذا أرفضك!
كان عليك أن تعرف من أنا وأين أنا منك، وماذا يعني أن تكون أنت هناك وهكذا، وماذا يعني موقعي الجديد جنبك في المعادلة!
وحينها ستُدرك كم أنا كريمٌ معك، ولماذا رفضتك إلى هذا الحد فقط!
ستُدرك مع الأسف، أن كَرَمي الجميل، مبعثه ضعفي الأكثر إشراقاً وجمالاً وصدقاً ونبلا!
فهل أنت غافل، لا تدرك أن رسالتي هي احتقارك، ومهمتي قتلك، وسعادتي في شقائك، وغايتي استعبادك، وحُلمي اختفاؤك ..،
ألا تدرك أن قوَّتَك قد أظهرت للأعداء ضعفي، الذي طالما أخفيته عنهم، وطالما هزمتهم بجهلهم بحقيقتي، وبقدر علمي بجهلهم بأمري!
ألا تدرك أن عِلمك قد كشف لأهل الدار أسراري، التي حصلتُ بفضلها على العبيد والجواري وعلى هذا الكم الهائل من أتباعي وأنصاري!

وتتساءل بعد ذلك لماذا أكرهك.! للجهل درُّك ما أجهلك!
نحن أُناسٌ لا نعيش ولا نتَّحِد ولا نقوى ولا ننتصر إلا في ظلامنا الجميل وجهلنا المقدّس!
ظلامنا الدامس الذي نُسمّيه نوراً ساطعاً!
وجهلنا المطبق الذي نحميه من آفات العلم الفاتك!

نحن أُناسٌ هادئون مسالمون طالما بقي الضعف حليفنا والتخلف قوت يومنا وسمة دهرنا!
نحن قوم لا ينتظر البعيد والقريب وفاءنا، إذا أطلعونا على أسرارهم!
ولا يأمن الأصدقاء مكرنا وغدرنا، إذا أدخلونا ديارهم!
سَمِعتَ أنت أيها البعيد – الجاهل بأمرنا، سمعت بسطوع نورنا، فصدَّقت ظاهر أمورنا، وجئت معتدياً بنورك على ظلمتنا البريئة الودود الهادئة، فأطفأت ظلمتنا بنورك، وفتحت نوافذنا فخرجت ريحنا المحجوبة..،


فهل لك أن تتساءل بعد الآن لماذا أرفضك!
لكل ما سبق درُّك ما أجهلك، إن عُدت مجدداً إلى تساؤلك!
قد تتساءل في نفسك، من أنت أيها المغمور المغرور الذي يُقدّم نفسه كمفكر ومحلل أو كفيلسوف زمانه!
سأقول لك، أرجوك لا تتهمني بالغرور والتكبر، فأنا أعمل ما في وسعي لأنأى بنفسي عن هذه الصفات المقيتة!
ولعلك إن تفضلت وصدقتني، أن تعلم أنني أعشق الموت، وأُحبه حب الجنون!
وأنا عازم على أمري، حتى أُبادر للحاق بركب الراحلين الغائبين عن دنيا   الألم والضعف والنفاق والخطيئة!