face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الأربعاء، 30 أبريل 2025

الحقيقة البشرية بين الفطرة والمنظومة الأخلاقية!

0 تعليق




الفطرة باختصار هي الغريزة المعنوية..، أي هي التلقائيّة الطبيعيّة التي تبني القناعات والسلوك لدى الكائنات الحية؛ وليست التلقائية الناجمة عن التلقين والتوجيه والإكراه والتدريب أو غيرها من أساليب صناعة القناعات!
فإذا كانت الغريزة هي المَلَكة التي تُحدِّد احتياجاتنا وطريقة تلبيتها دون تجربة سابقة ، فإن الفطرة هي الملكة التي تُحدد قناعاتنا وميولنا دون تجربة سابقة!
الفطرة هي تلك المَلَكَة الطبيعية التي تُحدِّد فعل وردَّات فعل كل الموجودات الحية – القادرة على الفعل والمضطرة للفعل – ابتداءً؛
أقول ابتداءً، أي قبل أن يُدرِك الكائن الحي ضعفه وحاجته للآخرين، وقبل أن يضطر لممارسة الخداع والامتثال للخوف والجُبن، وقبل أن يقع تحت تأثير البيئة وتعدد الخيارات وضرورات الاختلاف وإملاءات القوة وغيرها!

والحقيقة البشرية المقصودة هنا، يمكن أن يُمثلها مفهوم الوعي، أو ما يُعرف اصطلاحاً بالعقل..، تلك القوة أو المَلَكَة الطبيعية التي بفقدانها تختفي القواسم المشتركة التي تربط البشر التقليديين ببعضهم!
- المقصود بالمنظومة الأخلاقية هي صناعة القناعات..، أي تلك الضوابط السلوكية الإلزامية التي تضعها النُخب وقيادات الجماعات البشرية باسم دين أو باسم قِيَم إنسانية افتراضية أو غيرها..، لتحديد حقوق وواجبات الأفراد، وليس لتحقيق أخلاق حميدة لديهم، فالأخلاق لا تُفرض من الخارج، إنها إما أن تكون جزءًا من كيان وشخصية الفرد إراديًا أو لا تكون!
- المنظومة الأخلاقية هي شيء آخر غير الأخلاق الطبيعية؛ فالأخلاق الطبيعية هي الإرادة الذاتية التي تجعل الإنسان يفعل أو يمتنع عن الفعل بما يرى أنه يُحققُ ذاته ويُبرزُ هويته، وليس احتساباً لنتيجة متوقعة أو موعودة؛
ومن ذلك الصِدق، فكل البشر يمتدحون الصِدق كما يمتدحون المالَ، لكنهم يسعون لامتلاك المال ولا يسعون لامتلاك الصِدق، ولا يُمكن جعلهم صادقين إن لم يكونوا كذلك!
فما هو هذا العقل الذي باسمه وبسببه تُحدَّدُ السلوك وتُفتَرَضُ الأخلاق، وما هي الفطرة البشرية، وما المنظومة الأخلاقية، وما العلاقة بين أطراف هذه الثلاثية!

ما هو العقل؟

تُسنُّ القوانين وتوضع العقوبات وتُنفَّذ في المجتمع البشري، بسبب الاعتقاد بامتلاك الإنسان آلية لضبط السلوك- اسمها العقل، يُفترض أنه مُهيمنٌ ومسئولٌ عن السلوك والممارسات والغرائز، وهو بذلك مسئولٌ عن قرارات الإنسان- فعلاً وامتناعاً!
بينما في واقع الحال ليست هذه المعادلة دقيقة، فالعاقل وغير العاقل كلاهما يقول ويفعل، وكلاهما يمتنع عن القول والفعل.. أي أنه لا علاقة للعقل بقرارات الفعل وعدم الفعل ابتداءً!
كما أن وجود العقل ليس شرطاً لفعل الصواب، وليس غيابه سبباً لفعل الخطأ-، خاصة في ضوء حقيقة انعدام وجود معايير قياسية كونية أو وجودية أو بشرية، تُحدِّد الصواب من الخطأ، والحق من الباطل!


ما هي الفطرة البشرية؟

هل يوجد شيء اسمه الفطرة!
وهل توجد فطرة سليمة وأخرى غير سليمة!
وما الذي يمكن أن يؤدي إلى تلوث الفطرة- أو انحراف الإنسان عن الفطرة السوية!
هل سلامة الفطرة، تعني عدم اختلاف البشر؟
أم أنه يمكن أن تكون الفطرة سليمة، وفي ذات الوقت مختلفة من إنسان لآخر، وأنه بسبب ذلك تنتج الاختلافات والخلافات بين البشر!
أم إن سبب الاختلافات هو سلامة الفطرة لدى بعض الناس واعوجاجها لدى البعض الآخر..، وأن الخلافات تنجم وتنشب الصراعات، بسبب اعتقاد كل طرف بسلامة فطرته، وجزمه باعوجاج فطرة الآخر!
ثم ما هي المعايير القياسية للحكم على الفطرة وتحديد انحرافها من عدمه!
وهل توجد مرجعيات وآليات لضبط الفطرة وإعادتها إلى رُشدها!


ما هي المنظومة الأخلاقية (الأخلاق الحميدة)؟

هل المنظومة الأخلاقية حدث أم أزل – بالنسبة لوجود الإنسان-، وما علاقتها بالفطرة البشرية!
إذا كانت المنظومة الأخلاقية لا تتعارض مع العقل والفطرة السليمة، فلماذا يتم فرضها على البشر، ولماذا هذا الإجماع البشري – منقطع النظير -على خرق المنظومة الأخلاقية والعبث بها عند أول فرصة..، حيث تنتشر الفوضى منذ اللحظة الأولى لتعطيل القانون أو العجز عن تطبيقه.. في أي مجتمع بشري!

العقل..

كل مفاضلات البشر إنما هي بين باطلٍ وباطل..، حيث لا وجود للحق المطلق في حياتهم، وليس الحق النسبي سوى باطلٍ نسبي.
إننا نتحدث عن العقل، مع إدراكنا أنه لا يوجد شيء مُحدد بذاته، يمكن وصفه، يحمل اسم العقل..، إن كل ما هنالك هو افتراض حدٍّ أدنى من السلوك البشري المشترك، اصطُلِح ثقافياً وتاريخياً على استعماله لوصف الإنسان بالعاقل أو غير العاقل..، والحقيقة أن العقل في هذه الحال، يكون هو ذات الإنسان ووعيه..، أي هو إدراك الإنسان لما يقول ويفعل، وقدرته الطبيعية على استحضار تجاربه، وتصوره لنتائج أفعاله قبل حصولها..، وهو ما ينبغي أن يكون لإبراز هوية الفرد وتأكيد وتحقيق خصوصية الذات – لا لإرضاء الآخرين والتكيُّف مع المختلفين..، فاختلاف السلوك أمرٌ طبيعي بين إنسان وآخر – كما هو بين أي كائن وكائن آخر، وهذا الاختلاف هو مُحدِّد الهويات ومحقق الذوات..، وبذلك يُصبح من العبث القول بمساواة البشر، وتكون محاولة مساواة سلوكهم مساساً بكرامتهم الطبيعية المفترضة..، ويُصبح تشريع تصويب سلوك الإنسان إقراراً بتشوهه عقلياً، وإذا صحَّ ذلك فلا حرج على المشوَهين، ولا معنى لإصلاحٍ تعددت واختلفت وتعارضت واختُلِقت معاييره، فالإصلاح حينها يُصبح تحويلاً للإنسان من حالة مشوَّهة إلى أخرى مُختلفٌ عليها ومطعون فيها!
بالنتيجة.. العقل ليس عضواً أو جزءاً من الإنسان، يَفسدُ ويمكن إصلاحه دون المساس بالذات- كما يتم إصلاح أعضاء الجسد وحواسه..،
بل العقل هو جوهر الذات، والطعنُ فيه طعنٌ في خصوصية الذات وهوية الإنسان، والتأثير عليه تلويث لها..،
وإذا جاز لنا التشبيه، نقول إن تغيير عقل أو وعي الإنسان بواسطة الأيديولوجيات، هو كتغيير جنسه بواسطة الهرمونات..، فكلاهما تغيير لجوهر وصورة الذات!
والفرق بينهما يذهب لصالح التحول الجنسي، فهو محسوب النتائج، معدوم الخيارات، والأهم من ذلك أنه أمرٌ طبيعي نابعٌ من إحساس داخلي وشعورٍ فطري صادقٍ، مصدره الذات، ولا علاقة للآخرين به، ولا مسئولية لصاحبه عنه، ولا ضرر له على سواه!
بينما تغيير العقل- المتمثل في زرع المعتقدات وتغيير المبادئ والقناعات- فهو خارجي المصدر، عشوائي النتائج، ضبابي الأهداف والخيارات – حيث لا معيار للعقل والرُشدِ في ظل اختلافات كل البشر- أفراداً وجماعات!
وفي كل الأحوال، فإنه إذا جاز تشريع الطعن في مصداقية عقل إنسان- قياساً إلى عقل آخر، فإن ذلك تشريعٌ بجواز نفي خصوصية الذات، ورفعٌ للمسئولية عنها، وتكذيبٌ صريحٌ لمبدأ تكليفها!
إذ إن القول بوجوب طاعة- أو حتى بجواز إتِّباع- إنسان لإنسان بحجَّة فارق المعرفة، هو تشريعٌ لكل سلوكٍ يمكن أن ينجم عن فارق المعرفة..، فليس التابع مؤهلاً لتقييم واختيار المتبوع!

هل يمكن تعطيل الوعي (العقل)، أو إقناع العاقل بفعل ما لا يَعقِلُه؟
الإجابة المختصرة: نعم!
فحيث إنه لا علاقة للعقل أو الوعي باتخاذ قرار الفعل وعدم الفعل- كما قلنا سلفاً وكما نعلم جميعاً- فالعاقل وغير العاقل كلاهما يفعل وكلاهما يمتنع عن الفعل؛ وحيث إن وظيفة العقل أو الوعي، هي استعمال رصيد التجارب في حساب النتائج، وانعكاس ذلك أو تأثيره على اتخاذ القرار، لذلك فإنه من الممكن جداً- حين يحصل التواصل ويختلف حجم ومجال التجارب-، أن تتأثر حسابات البعض بتجارب غيرهم..، أو أن يستعمل البعض تجاربه للتأثير على حسابات غيره، فيُقنعه بنتائج محتملة يتخذ على أساسها قراراته..، ويُسمَّى حينها المؤثر مُلهِماً، ويُسمَّى المتأثر تابعاً أو مُريدا!
وقد قلنا سابقاً، إن الإنسان هو كائن قابل للإصابة بالوهم!
حيث يعتقد التابع -بسبب ذهوله الناجم عن بساطته وسذاجته وقلة معلوماته وضعف خبرته- قياساً إلى فصاحة وخبرة مُلهمه أو معلمه-، بأن الأخير يستمد قوته من قوة الكون، وأنه لا حرج من طاعته وامتثال أوامره؛ فتتوقف بذلك ذاكرة التابع عن تسجيل تجاربه الخاصة- التي كان ينبغي أن يستعملها وعيه لتحديد معاييره ومعالم هويته-، فيُكمل حياته تابعاً يتنقل بين المتبوعين، لا هوية أو لا ذات له، ولا يُدرِك حقيقة مَـنْ هو..، جسدٌ يعمل بعقلٍ خارجه، أو إنسانٌ مكلفٌ بعقل غيره!


الفطرة..

بقدر ما يختلف البشر حول تحديد ماهية الفطرة وتعريفها..، بقدر ما يحتكمون لها، ويُجمعون على أصالتها، ويتفقون على أنها المرجعية الطبيعية لتحديد الحقوق والواجبات، وفرز الصواب من الخطأ..، بمعنى أنه لا خلاف على صواب الفطرة، ولا اتفاق حول تعريفها!
وهذه المفارقة التي تُظلل مفهوم الفطرة، أوجدت منطقة فكرية مضطربة حولها، اختلط فيها الخطأ المبرر بالصواب غير المبرهن..، مما جعل الفطرة بمثابة المرجعية المجهولة للنظريات المرفوضة!
وتحت تأثير منطقة الاضطراب الفكري التي تحيط بمفهوم الفطرة، وصل الأمر ببعض أتباع الأديان إلى الادعاء بأن دينهم هو الفطرة ذاتها، أو أن دينهم هو دين الفطرة، أي أن اعتناق دينهم يُحقق الحياة وفق الفطرة؛ حتى إن الأمر ليبدو وكأن إخفاق البشر في الاتفاق حول مفهوم وماهية الفطرة، هو فقط ما يحول دون اتفاقهم الشامل!
فأصبحت لفظة الفطرة تُستعمل ويُفهم منها، ذلك القانون الطبيعي، ذاتي المرجعية، الموحد للبشر، مجهول النص، والذي لا يُعرف عنه سوى أن عيوبه مشروعة وصوابه مُطلق!


المنظومة الأخلاقية..

على النقيض من الفطرة..، فبقدر ما يتفق البشر حول تعريف ووصف المنظومة الأخلاقية..، بقدر ما يُشككون في أصالتها ويرفضون الالتزام بها عملياً- وإن تظاهروا بغير ذلك تحقيقاً لمصالح أو درءًا لعواقب.
وجدير بالذكر هنا، أن سلوكيات أساسية في حياة البشر كالصِدق والأمانة والشفافية…، تقع خارج المنظومة الأخلاقية، وذلك لافتقاد الأخيرة للآلية التي تُحقق أو تراقب هذه السلوكيات الحميدة..، ولذلك نجد أن الكاذبين والمراوغين مقبولون في المجتمعات التي تعتمد المنظومة الأخلاقية كأساس للحياة الجَمَاعية..، ويكاد يتم اختزالها في تقنين ممارسة الجنس، وتحديد ما ينبغي وما لا ينبغي للفرد ارتداؤه من ملابس!
والمنظومة الأخلاقية في ظاهرها، هي جملة من الضوابط والممنوعات، تعمل على توجيه الإنسان قسراً، وتقنين سلوكياته وتحديد حقوقه وواجباته، بهدف بناء مجتمع بشري يختلف عن المجتمع الحيواني- مع تجاهل حقيقة أن كل سلوكيات المجتمع الحيواني هي مباحة أو متاحة في المجتمع البشري، وأنَّ رَفضُها علناً لا يلغي وجودها وممارستها عمليًا..، فالمنظومة الأخلاقية بالمحصلة هي محاولة بشرية نخبوية تخيلية تصورية، ونظرية طوباوية، لإنشاء مجتمع فطري..،
وهذا ما يجعل المنظومة الأخلاقية عبارة عن فطرة مزيفة!
إذ مهما تكن سلامة النوايا ونُبل الأهداف، فإن افتقاد المنظومة الأخلاقية للسلاسة، واعتمادها على العقوبات، وتدخلها السافر في الخصوصيات الشخصية والحريات الفردية..، جعل منها حاجزاً جديداً وملوثاً إضافياً، يُساهم في تأخير ظهور مجتمع الفطرة المنشود!


ماهية الفطرة؟
هل يوجد شيء مُدرك ومُتفق عليه بين البشر، اسمه " الفطرة "، يؤثر على حياة الإنسان أو ينعكس على سلوكه وممارساته – كما هو الحال مع العقل والروح والحواس؟
وهل الفطرة شيء مذموم أم محمود- إن وُجِدت؟
وما مدى مسئولية الإنسان عن فطرته، أو خضوعه لها؟
هل تم تحريف دلالة لفظة "الفطرة"، لإنتاج مفهوم افتراضي، يُشير أو يرمز إلى الصواب المطلق، فأصبحت الفطرة كالحقيقة المطلقة.. شعار صادق يمكن أن يرفعه الكاذبون، وسلاح مشروع يرفعه الجاهل القوي في وجه الجاهل الضعيف؟

الفطرة لغوياً -مختار الصحاح ( قاموس إلكتروني)..
ف ط ر: أفْطرَ الصائم، والاسم الفِطْرُ ..الخ.
والفِطْرةُ بالكسر الخلقة، والفَطْرُ الشق، يُقال فَطَرَهُ فانْفُطُر وتُفُطُّر الشيء تشقق، والفَطْرُ أيضا الابتداء والاختراع ..الخ.
والفَطيرُ هو كل شيء عجلته أو تعجَّلت في أمره، ويُقال: إياك والرأي الفطير!

- الفطرة لغويًا: المعجم الوجيز..
الفطرة السليمة (في اصطلاح الفلاسفة): هي استعدادٌ لإصابة الحكم والتمييز بين الحق والباطل!
والفِطرِية، هي القول بأن الأفكار والمبادئ جِبِلِيِّةٌ.. أي موجودة في النفس قبل التجربة والتلقين!الفَطِيرُ: كل ما أُعجِلَ به قبل نُضجه. والفطيرة: خبزٌ من عجين لم يختمر…، الخ.
ويُقال: رأيٌ فَطيرٌ .. إذا خطر بالبال وأُبْدِيَ بلا تثبُّت..

الفطرة في نظر بعض المفكرين..
يعتقد البعض بأن الفطرة هي مجموع الصفات الإنسانية التي تُميِّز البشر عن سواهم، فيُعرِّفونها:
الفطرة هي الصفات الإنسانية الأساسية والخالصة، أي إنها كل ما هو أصيلٌ في الإنسان وليس مكتسب، وتشمل كل صفات الكائن الحي الطبيعي العاقل المُدرك، التي تُميِّزه عن سواه!
فما يُدركه أو يعرفه الإنسان بسبب إنسانيته، ويعجز الحيوان عن إدراكه بسبب حيوانيته .. هي الأمور الفطرية!
وبهذا تكون الفطرة هي جملة من معارف وغرائز وميول ابتدائية، خُلقت مع الإنسان، لتستمر معه طيلة حياته- فلا يندثر أثرها إلا بموت حاملها!

الفطرة في الثقافة العامة..
هي سلوكيات الإنسان الطبيعي الحر..، والتي تشمل ردود أفعاله تجاه البيئة وأحداثها، وميوله واختياراته، وأخلاقه ومعارفه وأفكاره الابتدائية..، والتي يُعبِّر عنها ويُمارسها ببساطة، ويشعر بمسئوليته عنها ويتقبل نتائجها..، وذلك عندما تتوفر له البيئة المناسبة الخالية من التلقين والتوجيه والتحذير والتهديد والإغراء!

نتيجة…
مما سبق يمكننا القول بأنه لا يوجد شيء بذاته اسمه الفطرة، ولكن توجد سلوكيات وممارسات وأفكار فطرية!
فليست الفطـرة سوى بدايات الأشياء وأصولها النقية!

كيف تكون الأفكار فطرية؟
وهل يمتلك الإنسان معارف أولية- قبل التجربة؟
لو لم تكن هناك أفكار فطرية تُميِّز البشر عن بعضهم، لتساوت معارف أبناء الأسرة الواحدة وأفراد المجتمع والثقافة الواحدة..، باعتبارهم نِتاج تجربة واحدة!
الأفكار الفطرية لا تعني وجود نصوص وآراء محددة مُخزنة في ذاكرة الإنسان!
وإنما يُقصد بالأفكار الفطرية، التعاطي الطبيعي وردود الأفعال التلقائية تجاه البيئة والمستجدات..، أي تعبير الإنسان عن خصوصية الذات بواسطة ميوله الطبيعية!

ما علاقة الصِدق بالفطرة، وما رأي المنظومة الأخلاقية في الكذب؟
من البديهي القول إن كل سلوك يرفضه الإنسان من الآخرين، فهو أمر مرفوض فطرياً، ونقيضه مقبول فطرياً!
وبذلك يكون الصدق سلوكاً فطرياً، والكذب دخيلاً على الفطرة!

لماذا يكذب الإنسان، ويعيب على الآخرين كذبهم؟
يمكننا القول إن قدرة البشر على التكهّن- أو إصابتهم بداء التكهّن-، أثناء سعيهم وتنافسهم المستمر لامتلاك موارد الحياة-، قد حرَّك لديهم إحساساً بتعارض مصالحهم- وأن ذلك قد ولَّد لديهم شعوراً مخيفاً بعدم الأمان!
وإن عجزهم عن ابتكار آلية للتوفيق بين مصالحهم قد أدى إلى انحرافهم المتعمد عن الفطرة!
وقد كان الكذب نتيجة طبيعية لذلك..، هذا على مستوى عموم البشر!
أما على مستوى الأفراد والجماعات الصغيرة، فإن الكذب هو نتيجة حتمية للثقافات المحلية- خاصة في المجتمعات التي تلجأ لفرض المنظومات الأخلاقية لضبط سلوك البشر..، حيث إن الثقافات في تلك المجتمعات، تفترض أن قيمة الإنسان تتحدد بنوع وحجم صورته لدى الآخرين..، مما أدى إلى انفصال الإنسان عن ذاته وهجره لمعاييره الذاتية، واعتماده للمعايير الجَمَاعية، حيث بات سعيه وجُهده منصباً على تحسين صورته عند الآخرين- بغض النظر عن حقيقته التي لا يُدركها سواه..، فأصبحت تغطية عيوبه عن عيون الآخرين هدفاً أهم من إصلاحها، أو مُقدَّمٌ على الإصلاح..، ولأن الكذب هو السبيل الأقصر والأقل تكلفة لتحقيق هذا الهدف..، لذلك ينتشر الكذب في هذه المجتمعات، حيث يرفضه الجميع ويُمارسه الكل..، ولذلك تقبل المجتمعات الأخلاقية الكاذب عملياً- رغم رفضها للكذب مبدئياً!

معضلة الدين مع الفطرة..

كل الأديان- تقريباً- تدَّعي صفة الفطرية في تعاليمها وتشريعاتها..، ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك، لكي تكسب مكاناً وزماناً للمناورة..، بالرغم من التعارض الكبير والصارخ بين شرائعها والسلوك الفطرية للبشر!
فالحقيقة أنه لا مجال للتقريب بين الأديان والفطرة البشرية ..، فعجز الأديان عن استقطاب البشر بالبساطة والسلاسة، ورفضها لخيارات الإنسان الفطرية، وإفراطها في الوعود والإغراءات المستقبلية، واعتمادها على العقوبات الصارمة والتهديد بالمجهول وتهويل المصير لبقائها قائمة، وافتقادها لآلية إثبات التزام أتباعها بتعاليمها، واكتفاؤها بالمظاهر- حيث تتبنى المجتمعات الدينية السلوك الظاهري للبشر كمقياس لالتزامهم-، مع إدراك القائمين على الأديان لحقيقة أن الممارسات الظاهرية الشكلية، التي تكون نتيجة للخوف أو الطمع، لا تعكس حقيقة ولا تُعبِّر عن سلوك فطري!
ولذلك تعتمد المجتمعات الدينية مبدأ الضخ المستمر والتذكير الممل بتعاليمها وعقوباتها وإغراءاتها..، كما أنها تلجأ مباشرة لمبدأ التحريم والتحليل في مستجدات الأمور- صغيرها وكبيرها، دون أي اعتبار لفطرة البشر التي تدعيها- والتي تفترض إجراء استفتاء أو استبيان للوقوف على آراء البشر وإشراكهم في تحديد مسارات حياتهم وعلاقاتهم وإحساسهم بالقيمة والمسئولية..، وربما يعكس ذلك إدراك القائمين على الأديان والمجتمعات الدينية، بأن الإنسان مستعدٌ ومتأهبٌ على الدوام للتعبير عن ذاته بفطرية، وأن نتيجة تعبيره الصادق والمتحرر ستكون دائماً مخالفة لما يُفرض عليه باسم الدين والفطرة المزيفة!

هل تُحارب الأديان فطرة موجودة، أم تستعيد فطرة مفقودة، أم تسعى لاستحداث وفرض فطرة جديدة؟
إذا كان إيمانهم صادقاً واعتقادهم كاملاً، فكيف للمؤمنين أتباع الأديان أن يرتكبوا الأخطاء عمدًا – كالكذب مثلاً؟
هل يمكن لإنسان يؤمن جازماً بالبعث والحساب والثواب والعقاب، أن يفعل ما يوجب العقاب؟
أم إنه لدى المؤمنين نسبة من الشك في مصداقية الأديان، ولذلك يُخالفون تعاليمها ويخترقون محظوراتها كلما اقتضت مصالحهم ذلك!
هل تقبل الأديان إيماناً ينهار أمام الغرائز؟
أم إن الأديان قد فرضت على الناس ما لا يمكنهم فعله..، ولذلك سمحت أو اضطرت للسماح بانتهاك تعاليمها، واكتفت بالممكن والمتاح..، ولجأت إلى التحايل على المنطق، باعتماد مبادئ فضفاضة، من قبيل الضرورات تبيح المحظورات..، وأخضعت التفسيرات لمزاج بشرٍ دون غيرهم ودون مرجعية محددة!
ما حصل هو أن القائمين على الأديان، أدركوا استحالة تطبيقها وتحقيقها، واستحالة التثبت من ذلك..، فاكتفوا بالمظاهر والشكليات وبالحد الأدنى من التزام أتباعها..، ولتدارك التضارب والتعارض بين بقاء الأديان قائمة وانحراف المؤمنين الصارخ، لجئوا إلى ابتداع مفاهيم ونظريات غيبية لا يمكن إثبات صحتها ونتائجها في الحاضر..، من قبيل الشفاعة والقضاء والقدر وحُسن الخاتمة، والدعاء المؤخر الاستجابة …الخ!
وحيث إن الأمر كذلك..، فإنه لا توجد قداسة مفهومة ولا أفضلية معلومة لتعاليم الأديان على قوانين وأعراف الإنسان..، فكلاهما لا يخلو من ثغرات، وكلاهما خاضع بالنتيجة لمزاج وقدرات وتفسيرات وتكهنات قلة من البشر على حساب الأكثرية!

كيف يمكن استعادة الفطرة البشرية؟
حيث إنه لا يوجد شيء محدد بذاته اسمه الفطرة البشرية!
وحيث إن الفطرة ليست سوى البدايات الطبيعية للأشياء- ومنها السلوك والميول والأفكار البشرية!
لذلك فإن محاولات استعادة الفطرة التي كُتب لها النجاح بدرجاتٍ عالية، واقتربت بإنسان اليوم من إنسان الفطرة، هي تلك المحاولات التي لم توجه إلى الإنسان- مكمن أسرار الفطرة، وإنما تم توجيهها لضرب وإيقاف المؤثرات الخارجية التي تحول دون ظهور الفطرة على سلوك الإنسان..، ففضحت التقديس الزائف الذي كان يحظى به رجال المؤسسات الدينية، وحظرت ممارسة الوصاية الفكرية تحت أي مُسمّى وأي غاية، وأوقفت دروس التلقين والأدلجة الممنهجة التي كانت تُمارس على الإنسان تحت شعار الدين والرب والثقافة والعِرق والمصلحة العليا، وطرحت كل الخيارات أمام الإنسان لتحديد اختياراته بحرية تامة..، فأوجدت بذلك المناخ المناسب لظهور ونمو السلوكيات والأفكار الفطرية!
وتبرز نتائج تلك المحاولات جلية في المجتمعات الحرة المتقدمة اليوم، والتي قامت على دساتير تحفظ حرية وكرامة الفرد..، فلا تتدخل مؤسسات المجتمع في سلوك الإنسان وممارساته إلا لحماية الآخرين وصون حريات الجميع!
لا يخفى على عاقل منصف صادق مع نفسه باحث عن الحقيقة، متحرر من الاعتقادات المسبقة والتفسيرات المبهمة والنتائج الافتراضية..، أن المجتمعات الغربية – لاسيما المجتمع الأمريكي – هي أفضل ما توصَّل له البشر على طريق توفير المناخ المناسب لاستعادة الفطرة البشرية الطبيعية، الخالية من التخمّر الثقافي!
كما لا يخفى على أحدٍ، أن المجتمعات الدينية والعِرقية – كيفما وحيثما كانت، جميعها تعتمد المنظومة الأخلاقية الطوباوية، وتستعمل الشعوب كمواد خام لخلق إنسان حسب الرغبات والتكهنات النخبوية..، والتي تُشاهد نتائجها في بقاع كثيرة من العالم، هي أبعد ما يكون عن الفطرة التي تتغنى بها، وجُلها تستمد جذورها من الشرق الأوسط -لاسيما المشرق العربي!


كيف يتم الالتفاف على الفطرة في فقه الفطرة؟

يقول المسلمون- السُنّة، في معرض تفسيرهم أو تبريرهم لعملية توريث الحكم، التي بدأها أو ابتدعها معاوية، وسار عليها العرب والمسلمون من بعده إلى يومنا هذا، حيث أخذ معاوية- في حياته- البيعة لابنه يزيد ..،
يقولون إن معاوية قد نظر إلى حال الأمَّة، وأدرك المخاطر التي تُحيك بها، وخشي عليها من التفكك..، ولعلمه بالتفاف الجيش حول ابنه يزيد، وإدراكه لحب الناس له- خاصة أهل الشام..، لذلك أخذ له البيعة ونصَّبه خليفة على المسلمين بغض النظر عن رأي المخالفين والمعارضين..، وكأن معاوية يُدرك الغيب أو يحق له التكهّن، أو أنه أحرص على المسلمين وأدرى بأمورهم من رسولهم الذي غادر الأمة والحياة ولم يأخذ البيعة لأحدٍ ولم يوصِ بأحد، ولم يضع آلية محددة لاختيار الحاكم!
ما يلفت الانتباه ويثير التساؤل الفطري، هو أن الحُجَّة التي استعملها معاوية، والسُنة التي سنَّها، هي ذاتها التي يستعملها حُكَّام العرب والمسلمين اليوم، من أجل توريث الحُكم لأبنائهم (أزيادهم)..، لكنها تُعاب عليهم وتُبرر لمعاوية، وكأنه لا يحق لهم النظر إلى حال الأمة كما نظر لها معاوية..، وكأن معاوية لم يغتصب السلطة أصلاً!
بينما يقول المسلمون الشيعة، بأنهم يتبعون أولياء معصومين، وهذا يكفيهم شر الاحتكام للعقل أو للوعي الإنساني، وهم بذلك يقفزون على حقائق يُدركونها، فيتجاهلون- عمداً- بأن ما بين أيديهم لم يكتبه ولم ينقله أولياؤهم المعصومون (على افتراض صحة العصمة)..، بل قد كتبه ونقله لهم بشر عاديون لا عِصمة لهم- لدى الشيعة وغير الشيعة..، فأين الحقيقة وأين الفطرة وأين الأخلاق لدى كل مَنْ يَفترض الصواب فيما كتبه ونقله 
وفعله غير المعصومين!