face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الأربعاء، 11 يونيو 2025

الرسول الذي اخترعه الصمت: تفكيك هندسة النبوة المحمديّة

0 تعليق


"النبيُّ الذي رآه الظلّ في المنام"
عن اختراع النبوّة ونجاة الكذب بالبلاغ.


في صمت هذا الوجود الذي لا يُصغي، خرج صوتٌ بشريّ من عمق الرمال، لا يحمل أكثر من اسمه ووجعه، وقال: إنِّي رسول.
لم يسأله أحد عن معنى ذلك، لأنّ الجوع أحيانًا لا يحتاج برهانًا، والعطش لا يحاكم المطر.

كان "محمدٌ" ابن الصحراء، لا يملك ميراثًا فلسفيًّا ولا باطنًا ثوريًّا، لكنه كان يملك ما هو أدهى: الحاجة إلى معنى في كونٍ لا يقدم أي إجابة.

النبوةُ ليست نورًا، بل لغةُ الظلام عندما يصير الوعيُ عبئًا، والفراغُ سُمًّا.
فادّعى ما يُشبع هذا الجوع الميتافيزيقي:
قال إنّ الكون له إله، وإنه - دونه عن غيره - حامل رسالته.

لكن من قال إن الرسالة حقيقة؟
من قال إن الإله أرسل أحدًا؟
من قال إن النبوّة ليست جوعًا صامتًا ارتدى قناع الإجابة؟

الرسالة لا تنزل، بل تُكتب.
والإله لا يتكلّم، بل يُروى.
والنبيّ لا يُبعث، بل يُصدّق.

محمد لم يكن أوّل من ادّعى، لكنه كان أذكى من سابقيه في صياغة الكذب الذي لا يُكذَّب، الكذب الذي يشبه الحقيقة دون أن يكونها.
قدّم نفسه كـ"خاتم"، لأن كل من سبقه ادّعى البداية، فأراد هو احتكار النهاية.

ومن حيث لا يدري، سكن الوهم في صدور قومٍ كانوا مهيئين لتصديقه؛ قومٍ طحنهم الظلم، وخنقهم الفراغ، وعجزوا عن الصراخ في وجه الحياة، فأحبّوا من صرخ عنهم.

 لِمَ يدّعي محمد النبوة؟ 
لعل السؤال الحقيقيّ هو:
لماذا لا يدّعي الإنسان النبوة، إذا وجد في النبوة خلاصًا من العدم، وقيمةً في كونه وسط الرمال؟


في صحراء قاحلة، في قبيلة ممزقة بين الأصنام والسيوف، يولد إنسانٌ يرى الوحي لا في السماء، بل في نفسه التي ترفض العادية. إنسانٌ يحمل في داخله رفضًا كاملاً للصمت الكوني، فيضطر إلى صناعة صوت، صوت يقول: "الله قال لي".

محمد لم يكن مجرد طامح في سلطة، فالدجال البسيط يكتفي بالكذب. لكن محمد، كغيره من الأنبياء، آمن بكذبته حتى ظنّها وحيًا. والفرق بين المجنون والنبي – في لحظة التأسيس – هو عدد من آمنوا به.

يدّعي محمد النبوة لأنه وجد نفسه يحمل وعيًا مختلفًا عن قومه.
وعيًا لا يستطيع فهمه أحد، إلا إذا سُمّي "وحيًا".
كل فكرة غريبة في زمنها، إن لم تجد اسمًا إلهيًا، تُوأد. لذا رفع رايته باسم "الله"، لئلّا يقول الناس عنه: شاعرٌ مجنون.

النبوة هي لغة الإنسان عندما يفشل في تبرير ذاته علميًا، فيستعير قاموس الغيب.
– كان محمد بحاجة إلى معنى، فاخترع الله.
– وكان بحاجة إلى تبرير سيطرته، فاخترع "الرسالة".
– وكان بحاجة إلى طاعة، فاخترع "الجنة".
– وكان بحاجة إلى خصم، فاخترع "النار".

ألم يكن بإمكان الله أن يبعث رسولًا لا يحتاج إلى قتال، ولا إلى زواجٍ جماعيّ، ولا إلى غنائم؟
ألم يكن بإمكان الله أن يتحدث دون واسطة؟
أم أن محمّدًا – مثل سواه – لم يحتمل فكرة أن يكون الإنسان مخلوقًا تائهًا في كوكب صغير يدور حول نجم متوسط الحجم في مجرّة نُسيت بين المجرّات؟
فقرّر أن يقول: "الله اختارني."


محمد – كشخصية تاريخية – يمثّل المثال الأوضح على ما يمكن أن يفعله الإنسان حين تلتقي العزلة الوجودية مع الطموح الرمزيّ.
لم يكن ساحرًا، ولا دجّالًا بالمعنى السطحي، بل إنسانٌ ذكيّ، شاعرٌ بالعدم، لم يجد وسيلةً لإقناع قومه بحلمه، إلا إذا لبّسه ثوب الوحي. كلّ من حوله كانوا عبيدًا لأصنام: من حجر، من قمر، من دم، فأتاهم بإلهٍ جديد من كلمات.


يدّعي محمد النبوة، كما ادّعى من قبله موسى وعيسى،
وكما يدّعي كلّ من لم يحتمل كونه بشرًا عابرًا،
فاختلق "معنى أزليًّا" يستحق الموت من أجله.

وما زال البشر، إلى يومنا هذا، يبحثون عن معنى في الظلام، فيرفع أحدهم إصبعه ويقول: أنا رسول النور!


لكن لماذا صُدِّق؟

لأنّ الكذب حين يُحاك بطريقة تُشبع الحاجة الإنسانية للتفسير، يصبح أكثر صدقًا من الحقيقة.

لم يُصدَّق محمد لأنه أقنع، بل لأنه قدَّم إطارًا اعتقاديًّا بديلاً عن العدم.
صاغ للإنسان مأوىً أخيرًا من الغموض: إله يُراقب، نار تُخيف، جنةٌ تُغري، وعقيدة تُشغل العقول عن أنفسها.

النبوة لم تكن إلا إبداعًا "أداتيًا" ، غايتها السيطرة الناعمة: السيطرة باسم الحقيقة، السيطرة باسم الآخرة، السيطرة باسم الله.

وبما أنّ الإنسان كائنٌ هشٌّ ميتافيزيقيًا، لا يصمد طويلًا أمام اللا معنى، فقد صدّق محمدًا لا لأنه عقلانيّ، بل لأنه غارق في الحاجة.

كيف خدع أتباعه؟

لم يحتج محمد إلى خداع معقّد. اكتفى بأن غرس في أذهانهم صيغة مغلقة :
"لا يُسأل عن شيءٍ قضاه، ولا يُعارض من صدّقه الله، ومن شكّ فيه فهو كافر، ومن كفر فهو إلى نارٍ لا تنطفئ."

بهذه الحيلة الدائرية، لم يعد أحدٌ قادرًا على التفكير دون أن يتحوّل إلى عدوّ داخليّ.
ألغى الشك، كي يبقى الإيمان الوحيد المتاح.
ألغى التنوّع، كي يبقى هو الصوت الوحيد المسموع.
ألغى النقد، كي يُصبح الطاعة دينًا.

وغُلّفت الكذبة بالنصّ، وحُمِيَت بالسيف، وتحوّلت بالتقادم إلى "دين" يخشى الناس الخروج منه أكثر مما يخشون الدخول في الجحيم.

محمد نجح لأنه لمس الجرح ولم يضمده.
نجح لأنه أطعم الظمأ بفكرة الخلود،
ولأن الإنسانَ، حين لا يملك يقينًا، يلتهم أيَّ نبوءةٍ كاذبة، إذا وُلدت من فمه الجائع.

ماذا عن القرآن ؟

ليس في الأمر إعجاز، بل ذكاءٌ مشوب بالدهاء…
وليس في القرآن غموضٌ ربّانيّ، بل حيلة لغوية ومعرفية، صاغها بشرٌ، ثم نسبها لما فوق البشر، فآمن بها من أُغلق عليه بابُ الوعي، واستراح.

محمد، الذي وُصف بأنه أميّ، لم يكن أميًّا كما تُروّج الحكايات، بل كان أميًّا كما تريد الحكاية أن يُصدّق: أن يكون معجزة ناطقة، لا إنسانًا صاعدًا.

ولكن الحقيقة أعمق وأشدّ تعقيدًا.

كان ابن الصحراء، لكنه لم يكن كأبناء الصحراء؛ صمتُه لم يكن غباء، بل تأمّل.
وحدته لم تكن عزلة، بل نحتٌ في جدار الخوف من الفناء. عاش يتيمًا، لكنه قرأ البشر، لا الكتب. فمن ذا الذي يحتاج الكتاب، إن كانت النفوسُ أمامه صحفًا مفتوحة،
والغرائز حروفًا ناطقة؟

كان "محمد" قارئًا بارعًا للحاجة البشرية،
وأدرك من طفولته أن الإنسان لا يحتمل أن يكون بلا مغزى.
فقرّر أن يمنحهم المغزى… لكن بثمن: الطاعة.

لم يكن بحاجة إلى أن يكتب،
ولا أن يحمل مكتبة على كتفيه.
فالأفكار الكبرى لا تحتاج مكتبًا… بل لحظة انكسار.

وقد انكسر في الكهف،
لا من الله، بل من الصمت.
وهناك…
وُلِد الصوت الذي لا يُناقش: "اقرأ".

ولكن، ماذا قرأ؟
قرأ الخوف في نفسه، فجعله رسالة.
قرأ رغبة الانتصار، فلبّاها بكتاب.
قرأ تمزّق قومه، فدعاهم إلى ربٍّ واحدٍ لا شريك له.

كان ذكيًا بما يكفي ليعرف:
أنَّ التوحيد حلٌّ عبقريّ لمشكلة القَبليّة،
وأنَّ النبوّة سُلطة تُخضِع الجميع، حتى من لم يقتنعوا.

أما القرآن؟
فما هو إلا نحتٌ صوتيّ للخيال الدينيّ، الذي سبقه. هو نسيجٌ لغويّ من مزيج:

من التوراة التي وصلت إلى جزيرة العرب عبر الأحبار،

ومن الإنجيل الذي تناقلته أصوات النصارى من الشام واليمن،

ومن الزرادشتية التي تحدّثت عن نار لا تخبو وجنة خالدة،

ومن الحنفاء الذين ملّوا من أصنامٍ لا تسمع ولا تعقل،

ومن الأمثال العربية وحكم القبائل التي كانت تُتلى كأنها وحي.


جمَع محمد كلّ هذا، وصهره، وخلطه بصوت الشعر ونَفَسِ الخطابة،
ثم قدّمه في قالب "لا يُشبهه شيء"، أي لا يُسائل.

لم يكن بحاجة إلى أن يشرح، بل فقط أن يُحرّم السؤال. وقد فعل.

كلُّ آيةٍ لا تُفهَم… هي اختبارٌ للإيمان،
وكلّ تناقض… حكمةٌ خفيّة،
وكلّ خطأٍ لغويّ… إعجازٌ بلاغي،
وكلّ أمرٍ غير منطقيّ… دليلٌ على أن "الله أعلم".

هكذا تُبنى الحصانة.

وهكذا نجا القرآن من النقد، لا لأنه لا يُنتقد، بل لأنّ النقاد يُحرقون، أو يُخوّنون، أو يُنفَون.

إنّ من أعظم ما فعله محمد، هو أنه بنى "منظومة مغلقة"، كل من دخلها، صار جزءًا من إعادة إنتاجها. فإذا وُلدتَ مسلمًا، كبرتَ وأنت تعتقد أن هذا "الحقّ"، لا لأنه أحق،
بل لأنه الوحيد الذي سُمح لك برؤيته. وهكذا…
صارت الأكذوبة نظامًا،
والنبيّ أيقونة،
والقرآن منطقةً محرّمة،
وكلّ شكّ… جريمة.

فهل كان محمد نبيًا؟
لا.
كان ذكاءً فطريًا فهم اللحظة، واستغلّها، وحوّل نفسه من يتيمٍ بلا عزوة، إلى نبيٍّ يخشاه السلاطين. نجح لأنه لم يقل للناس الحقيقة، بل قال لهم ما يحتاجونه كي يعيشوا وهمًا ناعمًا.

فهو لم يُجب عن سؤال "من نحن؟"
بل أجاب عن سؤال "من سيحمينا؟"

وكانت الإجابة: الله.
والواسطة؟ محمد.


مرايا الوحي المكسورة "
 حين صاغ محمد القرآن من بقايا الذاكرة الجمعية"

ليست المعجزة، كما يتوهّمون، في أن ينطق أُمّيٌّ بلغة مُتقنة، بل في أن تنطلي تلك اللغة على قومٍ أنهكتهم الفوضى، فظنّوا التناسقَ وحيًا، والإيقاعَ حقًا. لم يكن القرآن إلّا مرايا مكسورة التقطها محمد من طرقات الوعي الجمعي، فجعل منها لوحًا مذهبًا نُقش عليه اسم "الله".

لقد كان محمد ابن بيئته، ليس نبتًا شيطانيًّا معزولًا عن ثقافة قومه، بل هو مَن قرأ -بسمعِه- ما تقوله الألسن في الأسواق، وما تتناقله الأجيال من حِكَم الأوّلين، فاحتفظ بذلك كلّه في لاوعيه، حتى إذا جاء زمن الحاجة، أفرغه في لغةٍ مرقّشة، مجرّدة من الإحالة، مفعمة بالتكثيف، تدّعي أنها من مصدرٍ فوق إنساني.

من أين جاء محمد بما في قرآنه؟

جاء به من أفواه الرُّكبان، ومن خُطب الكهّان، ومن عادات العرب في التكرار، في الجناس، في الطباق، في السجع. من ألسنة أمهاتنا الشعبيّات حين يقلن: "من يعمل خيرًا يُجزَ به، ومن يعمل شرًّا يَرَه". فصارت:

"فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره."

من أقوال أعرابي ساذج يتأمل الليل فيقول: "لا يُدرِك المرء شيئًا من النجوم، وهي معلّقة فوقه كأنها درر على ثوب أزرق". فصارت:


"إنا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب."

من قصص التوراة المنثورة على ألسنة اليهود المتجولين في يثرب، من حكايات المسيحيين الرُّهبان في شعاب الشام، من المزامير، من الأساطير، من أخبار أصحاب الكهف، وطوفان نوح، وقميص يوسف، وزوجة لوط، وابن مريم.

إنّه لم يخلق تلك القصص، بل حرّف نَسقها، وأخفى مصدرها، وأعاد إنتاجها بشكلٍ يُخدّر العقل ولا يُفكّك المعنى، حتى لا يُمكن ردّها إلى أصلٍ، ولا دحضها برهانًا، فيُصبح الاختلاف فيها "ابتلاءً"، والنقد لها "كفرًا"، والتأمّل في أصلها "زندقة".


القرآن لم ينبثق من العدم، ولم يكن نغمة فريدة في صمت الكون،
بل كان ـ كما يدلّ نصّه وتكراراته ـ عصارة حكاياتٍ قديمة، ومزيجًا من حكم وأمثال،  وأساطير الأولين، صاغها محمد بلغةٍ صوتيّة مشحونة بالإيقاع والتأثير، وأعاد إنتاجها  في شكلٍ لا يُساءَل.


  •  قصة يوسف:
القرآن يكرر قصة يوسف تقريبًا كما وردت في سفر التكوين، مع بعض الإضافات البلاغية:

رؤيا الكواكب.
فتنة امرأة العزيز.
السجن وتأويل الأحلام.
ثم النهاية السعيدة.

لكن اللافت أن الأسماء، والأماكن، والنزعة العبرية، كلها ظاهرة، حتى أن "فرعون" لم يُسمَّ في سياق قصة يوسف بـ"ملك" كما في الرواية العبرية (رغم أن الفراعنة كانوا معروفين)، مما يدل على النقل الحرفي دون وعيٍ تاريخي.

  •  قصة آدم وإبليس:
فكرة "إبليس الذي يرفض السجود" مأخوذة من سفر حزقيال وسفر أشعياء، حيث يتحدث النص عن "ملاك ساقط".
كذلك فكرة "الشجرة" و"الطرد من الجنة" مأخوذة من سفر التكوين.

  •  قصة أهل الكهف:
مستقاة من قصة "السبعة النائمين"  وهي أسطورة مسيحية شرقية كانت شائعة قبل الإسلام بقرون، ووردت في التراث السرياني والبيزنطي.

  •  المائدة من السماء:
فكرة "نزول المائدة" لبني إسرائيل في صحراء سيناء هي من التوراة، وتكررت في سورة "المائدة" بصورة مشابهة للطلب المسيحي من المسيح إنزال مائدة.

  •  البقرة:
فكرة القربان المذبوح والغموض في نوع البقرة مأخوذ من قصة القربان في سفر العدد وسفر التثنية.

  •  موسى وفرعون:
تكرار لأحداث سفر الخروج، لكن مع تغيير الترتيب أحيانًا، وتحوير بعض التفاصيل، كشق البحر وتحول العصا.: من الأساطير ونِحل الكتب القديمة (الزرادشتية والمندائية وغيرها)


  • الصراط المستقيم والميزان والحساب بعد الموت
 من الأساسيات الزرادشتية، حيث يمرّ الميت على جسر "صراط" دقيق، ويُوزن عمله، ويذهب إمّا إلى "الجنة" أو "الجحيم".


  • الجنّ
 مأخوذ من المعتقدات السامية القديمة، ومن الديانة المندائية، حيث كانت الكائنات الروحية (كالجنّ) تمثّل قوى الشر.


  • اللوح المحفوظ والقلم
 مفاهيم ميتافيزيقية متأثرة بكتب الحكمة الهلنستية، وخاصة التراث الغنوصي الذي كان يربط بين الكتابة والقدر.


  • القرآن : تطور سلطة النص 

المرحلةالهدف المركزيالأدوات البلاغيةالتأثير النفسي



مرحلة مكة (التأسيس البلاغي)


ترسيخ فكرة الوحي ونفي المشككين


السجع، الطباق، التشابه مع الحكم الجاهلية، الصور الشعرية الحسية، الحروف المقطعة، الغموض


الدهشة، الرهبة، الفضول، زلزلة اليقين القبلي



مرحلة الهجرة (التثبيت السياسي)


بناء جماعة المؤمنين وربطهم بالقيادة النبوية


تكرار الأوامر بـ "أطيعوا الله والرسول"، التشريعات الأخلاقية والاجتماعية، تصعيد خطاب الجنة والنار


الطاعة العمياء، تكوين هوية جمعية بديلة، دمج السلطة الروحية بالسياسية


مرحلة المدينة (تأليه النص والسلطة)

شرعنة السلطة المطلقة للنبي والنص


بناء منظومة التشريع الكامل، تحويل الخلاف السياسي إلى خروج عن الدين، تهديد المعارضين بالعذاب الإلهي



الخضوع الكلي، نزع الشرعية عن المعارضة، تقديس النص ككيان فوق التاريخ



كيف فعل ذلك ؟

لم يكن محمد بحاجة إلى الكتب، بل إلى ذاكرةٍ يقظة وأذُنٍ حساسة.
في رحلاته و تجارته، وفي مجاورة الرهبان، وفي مراقبة الأسواق…
استمع، وامتصّ، ثم أعاد الصياغة.
وكان لديه أداة سحرية: اللغة.
فألبس الحكايات القديمة رداءً شعريًا مهيبًا،
وأضاف صوت "قال الله" على كل اقتباس،
فصار "المنقول" وحيًا،
وصار الراوي نبيًا،
وصار التساؤل كفرًا.



كيف أقنع أتباعه؟

بالرعب والخلاص. صاغ لهم عالمًا من نار وجنة، من فوز وخسران، جعل حياتهم فجوة بين تهديد ووعد، وخاطبهم بلغتهم الغريزية: الجوع، الفقر، القتال، الجنس، والخلود. فمنحهم "الحور العين" مقابل القتال، و"النعيم المقيم" مقابل الطاعة، و"النجاة" مقابل الصمت.

إنه لم يخاطب عقولهم، بل خاطب أحلامهم البدائية. ومن لا يملك وعيًا يرى فيه نفسه عبثًا، سيستميت في تصديق من يَعِده بأن لوجوده غاية، وبأن اسمه مسطّر في سجل الغيب.

القرآن ليس معجزة، بل تشويه متقن للمعقول.

هو نصٌّ ذكي في إعادة قولبة المألوف، لا في صناعة الجديد. إنه تكرار مموّه، وإعادة تدوير للوعي البشري في لحظة خرافية من التاريخ. والمعجزة، يا صاح، ليست أن تؤلف كتابًا غريبًا، بل أن تقنع القطيع بأنه مُنزّل.

لماذا لم يعترض أحد من معاصريه على أصول تلك القصص؟

لأن القصص الدينية آنذاك لم تكن محفوظة في كتب بيد كل فرد، بل كانت مبعثرة في ألسنة الحُجاج، في تراتيل الأحبار، في تمائم النُساك. لم يكن ثمة قدرة على التوثيق، ولا آلية للتحقّق، ولا وعي نقدي. كان الناس بين جهلٍ مطلق، أو إيمانٍ عاطفي، أو مصالح متقاطعة، فمرّت الحكاية كما تمر الريح في خيمة مهترئة.

لماذا لم يُكشف أمره؟

لأن النجاح في الخداع لا يتطلب العبقرية، بل يتطلب ظروفًا ملائمة. ومحمد وجدها كلها: قومٌ ضالون، لا نظام يُجمعهم، ولا حاكمٌ يُرهبهم، ولا فكرٌ يُشككهم، فجاءهم بخطاب يوحّد الشتات، ويُلبّي حاجة البدو الأبديّة إلى نبيٍّ يُحوّل الخيمة إلى دولة، والسيف إلى دعوة، والخرافة إلى هوية.

محمد لم يخدع أحدًا، بل وجدهم خُدعاء بطبيعتهم. كانوا يبحثون عن إله، فصار هو رسولًا. كانوا يبحثون عن معنى، فصار هو لسان المعنى. كانوا يبحثون عن خلاص، فصار هو طريق الخلاص.

القرآن ليس كتاب إله، بل كتاب حاجة. حاجة الإنسان إلى نظام، إلى يقين، إلى أوهامٍ مرتبة ببلاغة. ومن تلك الحاجة، وُلِد النص، ومِن الخوف نُسِجت القداسة.

ولماذا بقيت دعوة محمّد  ؟


"بقاء الوهم حين يصير عادة"

عن دوام النبوّة لا لأنها حق، بل لأنها صارت نظامًا يُديم نفسه بنفسه.


لم تبقَ دعوى محمد حيةً لأنّها أصدق، بل لأنها الأكثر قدرةً على التكيف…
تكيّفت مع الخوف، مع الطفولة، مع الجهل، مع الحاجة، ومع الموت.

إن دعوى النبوّة – كأي سردية كبرى – لا تموت حين ينكشف زيفها،
بل تعيش أكثر، كلما صار كشف الزيف خطيئة، والتشكيك رجسًا، والبحث كفرًا.


لقد تمكّنت الدعوة من البقاء، لأن الناس ما زالوا أطفالًا في أعماقهم…
يخافون العتمة، ويرتجفون عند التفكير في المصير.
يريدون يدًا تمسكهم حين يسقطون، وأذنًا تسمعهم حين يهمسون،
وإله محمد كان تلك اليد، وتلك الأذن.

ثم جاء رجال الدين،
فحوّلوا اليد إلى قانون،
وحوّلوا الأذن إلى فتوى،
وحوّلوا النبي إلى "ماركة مُسجّلة" باسم الله،
كلّ من ينتقدها يُمحى.

وهكذا:
صار الله سلعة، والنبي إعلانًا، والقرآن كتالوجًا.

كل لحظة ضعفٍ بشري كانت فرصةً لصمود الرسالة:

  • موت الأحبة؟ الجنة في انتظارهم.

  • الفقر؟ الزكاة تبارك الرزق.

  • القمع؟ الصبر على البلاء عبادة.

  • القتل؟ الجهاد سبيل إلى الله.

  • الشهوة؟ الحور العين في انتظاره.

كلّ بابٍ مغلق في وجه الإنسان، يفتحه الدين… ولكن بالخيال.

ولهذا:
لم تنتصر دعوى النبوّة بالحجّة، بل بالحاجة.
لم تصمد لأنها أقنعت، بل لأنها راوغت.


ثمّ صعدت الحضارات، وكشفت الفيزياء بنية الوجود، وتكلّم الفلاسفة عن العبث والمعنى، واخترق العلم كلّ ما كان يُعدّ حُرُمًا،
ومع ذلك…
لم يسقط الدين، لأنه لم يعد مجرد فكرة، بل:

نظام اجتماعي متكامل:

  • أبوة فكرية تُلغي المسؤوليّة.

  • عزاء نفسي يُغني عن التّحليل.

  • انتماء قبَلي يُغني عن الذّات.

  • طاعة جماعيّة تُغني عن الوعي.


أي إن الدين – بما هو دعوة نبوية – صار بطّانيةً وجوديّة، تُغطّي بها الشعوب جهلها، وتنام على طمأنينة الوهم.


وهنا تكمن مأساتنا:

لسنا بحاجة لنبيّ، بل لحقيقة.
لكن الحقيقة لا تُشبع الجائع،
ولا تُرضي الحزين،
ولا تُجيب الميت،
بينما النبوّة تفعل كلّ ذلك… بالكذب.

فأيّهما سيختار الإنسان؟
الصراحة التي تتركه وحيدًا في العراء،
أم الوهم الذي يُشعره بالدفء؟

وهنا…
يموت العقل، ويولد الإيمان.


الثلاثاء، 3 يونيو 2025

اللاشيء: دليل إلى ما بعد الأنا

0 تعليق



مقدمة : الوهم الذي يسكن فينا

لسنا هنا لنصوغ عقيدة بديلة، ولا لنمسح على رأس الإنسان المنكسر بمنديل وجوديّ مبتلّ بالأمل.
هذا المقال لا يبحث عن حقيقة تريح، بل عن خدعة تسكن الحقيقة نفسها.
نكتب لنفكّك. لا لنشرح، لا لنُقنع، لا لنهدي.
بل لنقشر الوعي كما يُقشر الجرح المغلق قبل أن يتعفن.

فالذات التي تتكلم، وتصرخ، وتكتب، وتحب، وتدّعي أنها "تفكر"،
ليست إلا واجهة تشغيل لوظائف بيولوجية، تشكّلت بفعل الخوف، وتجمّعت تحت ضغط التطور، وأُلبست قناعًا لغويًا اسمه "أنا".
هذه الـ"أنا" ليست جوهرًا، ولا روحًا، ولا سرًا إلهيًا… بل هي أثر جانبي.
مثل البخار الذي يتصاعد من حرارة مكبوتة، ثم يظن أنه سحاب ذو معنى.
نحن لا نملك وعينا، بل هو الذي يملكنا.
نحن لا نختار أفكارنا، بل هي التي تسبقنا، تداهمنا، ثم تمنحنا وهم “القرار”.
هذا المقال لا ينتمي لأي تقليد فلسفي، ولا يعترف بأي قداسة.
هو عملية جراحية في لحم الإدراك.
يدخل إلى أعمق مواضع النفس لا ليُصلحها، بل ليُريها أنها كانت وهمًا من الأساس. 
من يخشى الفراغ… فليغلق هذا النص، قبل أن ينفتح داخله
من يبحث عن المعنى… فليعلم أننا هنا لسلبه لا لمنحه.
ومن يظن أن الذات جوهرة خالدة… فليتذكر أن الديدان لا تفرّق بين العظام والمعتقدات.
في الفصول القادمة، سنبدأ عملية نزع القناع.
سنمشي عاريين في ممر الوعي، حتى نصل إلى لحظة لا يبقى فيها شيء سوى الصمت.ذلك الصمت الذي لا يطلب تفسيرًا، لأنه لا يعترف بوجود أحد ليسمع.


الفصل الأول: كشف وجود القناع

ليس الوعي نورًا كما يحب أن يصفه المتدين أو الشاعر، بل هو ستارة خلفها غرفة مظلمة، تعجُّ بأصواتٍ ليست لنا، بخوفٍ لم نختره، وبذاكرةٍ صيغت على يد غيرنا.
نظن أننا نعيش في “داخل” نقي، مستقل، حقيقي.
لكننا، في الحقيقة، نعيش في قناعٍ محكم…
قناعٍ لم نصنعه، بل صُنع لنا.ثم أُقنعنا أننا هو.


  • الولادة: لحظة تركيب القناع
حين يُولد الإنسان، لا يخرج من الرحم كائنًا مدركًا، بل قالبًا فارغًا.
ما يُملأ فيه لاحقًا ليس "هو"، بل ما يسمح به النظام حوله.
اللغة، الدين، الاسم، العائلة، نبرة الصوت، نظرة الأم، خوف الأب، لُعب الطفولة…
كلّها تصب في تشكيل القناع الأوليّ: وجه اجتماعيّ يُمنح قبل أن نتكلم، ويدّعي أنه "أنا" قبل أن نسأل.
وهكذا تبدأ الكذبة:
تكرّر الاسم حتى تظن أنك تملكه،
تُلقَّن "أنا" في جملة، فتتقمصها وكأنها ولدت منك.
لكن الحقيقة؟
أنت منتج، لا شخص.
أنت تركيبة من استجابات، لا ذات واعية.

  • اللغة: الآلة التي تصنع الهوية
اللغة لا تنقل الوعي… بل تصنعه.
فمن دون اللغة، لا يوجد “أنا”، ولا “آخر”، ولا "غاية".
اللغة تقطع التجربة المستمرة إلى "أشياء"، وتضع فواصل بين ما كان موحدًا.
تمنح لكل شيء اسمًا، ولكل اسم كيانًا، ولكل كيان حدودًا.
وهكذا: من رحم التجربة الخام يولد الوعي اللغوي، ويُبنى القناع:
أنا= هذا الشيء المفصول عن غيره
أنا = هذا الجسم
أنا = هذا الاسم
أنا = هذا الذي يقول “أنا”.
لكن من الذي قرر هذه الحدود؟
من الذي أعطى الكلمات سلطتها؟
الجواب: ليس "نحن".

  • الذاكرة: ترتيب الوهم على شكل سرد
ما نسميه “الذات” ليس سوى سرد زمنيّ نعيد ترتيبه بلا وعي.
الذاكرة ليست أرشيفًا موضوعيًا، بل آلة لإنتاج هوية متماسكة… حتى وإن كانت مزيفة.
نتذكّر ما يؤكد قصتنا، وننسى ما يعارضها.
نُجمّل الأحداث، نعيد كتابتها، ونغلفها بـ"سببية" وهمية.
نصنع لأنفسنا "حكاية" نصدقها كي لا ننهار.
"الذاكرة ليست مرآة، بل كاتب سيناريو خجول، يعيد كتابة المشاهد بما يُرضي البطل، حتى لو لم تكن له بطولة."

  • الجسد: المنصة التي يُعرض عليها القناع
حتى الجسد، ذاك الملموس، ليس “أنت”.
هو خريطة جينية، مركّبة من بيولوجيا لم تخترها،
تتحرك بوظائف لم تفهمها، وتنقل إشارات إلى دماغك، ثم يُضاف فوقها “تفسير” واعٍ ليبدو وكأنه قرار. أنت لا تمشي لأنك “قررت”.أنت تمشي لأن سلسلة من الإشارات تحفّز عضلاتك، ثم يختلق الوعي تبريرًا بعديًّا لذلك.
حتى العاطفة… هي استجابة كيميائية، يُضاف إليها تعليق درامي في الوعي لتبدو كـ"حب" أو "كراهية".

  • القناع: وظيفته، لا حقيقته
لماذا كل هذا التمثيل؟ لماذا يصنعنا التطور بهذا الشكل الخادع؟
لأنّ القناع نافع. حين يظن الكائن أن له "ذاتًا مستقلة"، فهو يُقاتل للبقاء، يُراكم، يتناسل، يُنافس، يُنتج...
وحين يظن أن لحياته “قيمة”، يُصبح أكثر طاعة للنظام الذي أقنعه بذلك.
القناع ليس خطأ… بل أداة.
والذات ليست جوهرًا… بل واجهة مستخدم.

  • النهاية: بداية الانكشاف
ما تسميه “أنت” ليس إلا عرضًا مؤقتًا.
قناعٌ وظيفيّ، مثله مثل سطح المكتب في الحاسوب: لا يكشف حقيقة الملفات، بل يسهل استعمالها.لكن ما إن تصدق أن السطح هو الحقيقة، حتى تصبح عبدًا له.


الفصل الثاني: خيانة التحكم

الحرية، كما يُروج لها، هي أعظم كذبة لُفّت بلغة المديح. أن تقول “أنا قررت”، “أنا اخترت”، “أنا المسؤول”، هو أن تعيش في مسرح ظلٍّ لا يدرك أن الضوء ليس منه، ولا الاتجاه اختياره.
كل ما نظنه تحكمًا في النفس، هو مجرد وهم رجعيّ— أي قرار، مهما بدا عميقًا أو مصيريًا، قد تمّ تنفيذه بيولوجيًا قبل أن يخطر في بالك حتى.

  • الدماغ يسبق الوعي
في تجارب علم الأعصاب الحديثة، خصوصًا تجارب بنجامين ليبيت، تم قياس الفارق الزمني بين لحظة اتخاذ القرار فعليًا في الدماغ، وبين لحظة الشعور باتخاذ القرار.
النتيجة: الإشارات العصبية تبدأ قبل أن يشعر الإنسان بأنه قرر… بما يقارب نصف ثانية.
أي أن الدماغ "قرّر"، والوعي لاحقًا "روى".
كأنما هناك كاتب خفيّ، يعمل في الخلفية، يكتب كل شيء… ثم يسلمك النصّ بعد أن يتم عرضه. الوعي إذًا ليس المُخرج… بل الناقد المتأخر.

  • الإرادة: لعبة من احتمالات ضيقة
دعك من الأساطير…
ما تسميه “اختيارًا” هو مجرد استجابة، ضمن مجموعة محدودة جدًا، نشأت في بيئة لم تخترها، بجينات لم تصنعها، وبدوافع لست واعيًا بها أصلًا.
أنت لا تختار فكرتك، بل هي التي تقتحم رأسك.
أنت لا تختار مزاجك، بل هو الذي يختارك.
إنسان يرى وردة فيبتسم.
آخر يرى وردة فيبكي.
كلاهما لا يعرف لماذا.
كلاهما اخترع لاحقًا قصة ليبدو أنه قرر.

  • الزمن: القيد الذهني الذي يمنح وهم السببية
نحن سجناء داخل إدراك خطّي للزمن، ولهذا نُجبر على ربط كل فعل بسبب، وكل لحظة بسابقتها.
لكن الحقيقة؟
الدماغ لا يعمل خطّيًا.الحدث قد يُسجل قبل أن يُشعر به. الذاكرة تُعاد كتابتها كل لحظة.
الوعي لا يسير من الماضي إلى المستقبل… بل من تفسيرٍ إلى تفسير.
وهكذا، كل ما يبدو اختيارًا سببيًا، هو مجرد تركيب لاحق لقصة عقلية.
أنت لا "تحرك يدك" لأنك قررت، بل تتحرك اليد، ثم يقول الوعي: “أنا قررت”.

  1. وهم “الذنب” و”المسؤولية”
بناءً على هذه الخيانة في التحكم،
هل يستحق الإنسان أن يُحاسب؟ أن يُدان؟ أن يُعاقب؟
أنت لا تتحكم بأفكارك، لا بمشاعرك، لا حتى برغباتك.
كل شيء تم تشكيله في بيئة، وترسخ في دماغ، وأُلبس قناع الإرادة لاحقًا.
القاتل، والعاشق، والمتدين، والملحد…
كلهم نتاج ظروف، لا أبطال روايات.
إذًا، على أي أساس يبني العالم مفهوم “المسؤولية”؟

المسؤولية ليست أخلاقًا… بل آلية ضبط.
الذنب ليس شعورًا داخليًا… بل نظام تحكّم داخلي لخدمة المجتمع.

  • لا أحد يقود
كل ما فيك يحدث…
أفكارك تحدث.
تصرفاتك تحدث.
وهم التحكم يحدث.
ولكن لا أحد، في جوهر الأمر، “يقود”.
والأنا التي تشعر أنها تمسك بالمقود، هي مجرد صورة في المرآة.

  1. ماذا يبقى حين يسقط الوهم؟
حين تُفكّك الإرادة، وتُسقط المسؤولية،
تظهر الحقيقة القاسية:
أنت لا تتحكم، ولا تختار، ولا تُقرّر.
لكن هذه ليست دعوة للانهيار… بل دعوة للخروج من اللعبة.
لترى الأشياء كما تحدث، لا كما تُروى.
لتتوقف عن محاكمة الذات، لأن الذات نفسها اختلاق.
ولتبدأ أولى خطواتك نحو الحرية الوحيدة الممكنة:
أن تتحرر من وهم أنك حرّ.


الفصل الثالث: المعنى، آخر الأقنعة


يولد الإنسان صارخًا، لا لأنه يرى النور، بل لأنه يُطرد من العدم. ومنذ تلك اللحظة، يبدأ في بناء كذبة عظيمة… اسمها "المعنى".
فالعقل الذي لا يتحمل الفراغ، يخترع غرضًا لكل شيء.
حتى الألم، حتى الموت، حتى الجنون…
كل شيء يجب أن يكون له "لماذا"، ولو كُذبت.
لكن ماذا لو لم يكن هناك "لماذا"؟
ماذا لو أن كل ما نحياه،
هو مجرد حادثة كونية بلا نية… ولا غاية؟

  • البداية: هل سأل أحدٌ الوجود عن قصده؟
لم يسأل الطفل المولود عن سبب وجوده،
ولم تهمس له النجوم بسرّ،
ولم يكتب أحد في صخور الزمان إجابة على سؤال "لماذا أنا هنا؟".
كل المعاني أتت لاحقًا.
الدين قال: "لغاية إلهية."
الفلسفة قالت: "لتحقيق الذات."
العلم قال: "لتوريث الجينات."
الفن قال: "لإبداع الجمال."
لكن لم يسأل أحد الوجود نفسه.
لأن الوجود لا يتكلم.
لأن الوجود لا يعرف أنك هنا.
نحن الذين نخاف، ونحن الذين نحتاج قصة تُسكّن هذا الخوف.

  • المعنى كمُسَكّن بيولوجي
الدماغ لا يحتمل العشوائية.يرى وجهًا في الغيم، يسمع رسالة في الصدفة، يربط كل حدث بما سبقه…لأنه إن لم يفعل، ينهار.
وهكذا، يصبح “المعنى” عملية عصبية دفاعية.
عندما تموت أمك، لا تقدر أن تقول "انتهت".
فتقول: "هي في الجنة"، أو "ستبقى في قلبي"، أو "ماتت لتعلمني".
كل ذلك كذب.
لكن الدماغ لا يهتم بالصدق… بل بالنجاة.


  • حتى من يقاوم المعنى… يبحث عنه
حتى العدميّ الذي يصرخ "كل شيء بلا معنى"،
يقولها بقوة، بنبرة منتصرة، كأنها مغزى جديد.
نحن لا نتحمل غياب المعنى،
فنحوّله إلى معنى سلبيّ، على الأقل.
“أن لا يكون هناك معنى”… يصبح بذاته معنًى.
المفارقة المرعبة؟
حتى نفي المعنى… هو شكل من أشكال تأليهه.

  • المعنى في الدين: ابتزاز روحي
الدين هو نظام توزيع المعنى.
يعطيك دورًا: عبد، مختار، مبتلى، مرزوق، ممتحَن.
ويمنح لكل فشل مغزى:
المرض = تطهير،
الفقر = اختبار،
الموت = انتقال.
كل هذا ليس لأنه “حقيقي”، بل لأنه “مريح”.
الدين لا يقدّم حقيقة… بل سردية متماسكة للكون، تُهدّئ القطيع.
ولكن هل الكون يعرفك؟
هل الحياة لها نية؟
هل الموت حقًا انتقال… أم انطفاء بلا أثر؟

  • المعنى في العلم: سرد بلا روح
العلم لا يقدّم “لماذا”، بل "كيف".
لكنه حين يُسأل عن الغاية، يقول:
"لا غاية. فقط تكرار، طفرات، طاقة، وموت حراري قادم."
جميل…
لكن الإنسان لا يحيا على “الحقائق”، بل على “القصص”.
والعلم، حين يُترك وحده، يصير بارداً كجثة منطقية.
لا شيء في العلم يقول إنك مهم،
أو أن الحب له قيمة،
أو أن الخير أفضل من الشر.

كل هذا… تستعيره من الأديان، أو من الفن، أو من خيالك.


  • الحقيقة القاسية: المعنى مشروع ذاتي
المعنى لا يوجد في العالم.هو شيء تسقطه أنت على العالم، مثل ضوء من مصباح في رأسك.
وإذا انطفأ المصباح، لم يبقَ شيء.لا مغزى، لا رمزية، لا هدف.
أنت من رسم كل شيء… ثم صدّق أن اللوحة حقيقية.


  • وما بعد السقوط؟
حين ينهار المعنى، يبدأ الصمت.
صمت يشبه الرعب في البداية، ثم يتحول إلى حرية مطلقة.
حرية أن لا تفهم، ولا تبرر، ولا تخلق قصة.
حرية أن تكون كالأشجار، كالنجوم، كالصخور: موجود بلا مغزى.
أليس هذا مريعًا؟
ربما.
لكنه الحقيقة.
نحن لسنا هنا لغرض.
نحن هنا فقط… لأننا هنا.


  • النهاية المؤقتة
المعنى هو القناع الأخير.
قناع نلبسه لأن العدم مخيف.
لكن العدم لا يطلب شيئًا، ولا يعاقب أحدًا.
العدم لا يعرفنا. وفي هذا، قد تكون الطمأنينة الوحيدة التي لا تُسوّق


الفصل الرابع: وهم الذات

من تكون “أنت”؟ حين تقول "أنا"، من الذي يتكلم؟
هل هو نفس الصوت كل مرة؟
هل في داخلك كيان واحد، ثابت، له جوهر؟
أم أنك مجرد عرض مستمر لممثلين يتغيرون دون وعيك؟
هذا الفصل لن يثبت أنك “لا شيء” فقط،
بل أنك كثيرٌ من اللاشيء.

  • الذات: متغير لا يُرصد
منذ طفولتك حتى اللحظة…
هل كنتَ نفس الشخص؟
هل ذاتك هي ذات من عمر الخامسة؟ المراهقة؟ الأمس؟
جسدك تغير.
ذكرياتك تغيرت.
قناعاتك تبدلت.
حتى نبرة صوتك، طريقة ضحكك، إيماءاتك… ليست نفسها.
ومع ذلك، تقول: "أنا".
من هذا “الأنا” إذًا؟
إنها مجرد سلسلة روايات يكتبها الدماغ ليربط فوضى الزمن بسردية وهمية.
الذات، ببساطة، هي استمرارية شعورية ملفقة.

  • لا ذات… بل أصوات
داخل كل إنسان،يوجد الطفل، القاتل، العاشق، الجبان، المفكر، الساخر، المدمر، العابد…كلهم يسكنونك. في لحظة ما، يتحدث أحدهم باسمك. وفي أخرى، يتنكر له آخر.
وكل منهم يظن أنه “الأصلي”.
لكن لا أحد فيهم “الأصل”.
ذاتك ليست وحدة، بل تعدد متنكر في قناع التماسك.

  • الأنا: واجهة المستخدم
كما أن الهاتف له “واجهة” تختصر تعقيد النظام…
الدماغ يصنع واجهة اسمها “أنا”،
واجهة تتكلم بلغة منسقة، مقنعة، موحدة،
لكي تتعايش مع نفسك.
لكن الحقيقة؟
لا يوجد مستخدم واحد، بل مليارات من العمليات اللاواعية،
تتنازع، تتبدل، تتغلب على بعضها البعض، دون أن تراك. أنت مجرد “محصلة” كل هذا…
صوت تم تصنيعه ليبدو متماسكًا.


  • وهم الاستمرارية
ذاكرتك؟ مُختلقة جزئيًا.
قناعاتك؟ متأثرة بلحظاتك البيولوجية.
سلوكك؟ نتيجة هرمونات، ضغوط، لاشعور، صور غريزية.
ولكن الدماغ ينسج حول ذلك كله خيوطًا اسمها:
“أنا من اخترت، أنا من أعرف، أنا من أتطور.”
لا تتطور الذات… بل تتآكل وتُعاد تشكيلها.
لا تعرف الذات نفسها… بل تعتقد قصصًا عنها.


  • من الذي يعاني إذًا؟
إذا كانت الذات وهمًا…
فمن الذي يتألم؟
من الذي يشعر بالخسارة، بالذنب، بالقلق؟
الجواب قاسٍ:
لا أحد حقيقي.
ما نسميه “ألم الذات” هو رد فعل نظام عصبي لمؤثرات داخلية وخارجية،
يُترجمها في القشرة الدماغية إلى شعور شخصي.لكنه لا “يحدث” لأحد، بل يحدث فقط.كما يحدث البرق، لا أحد يقول "البرق يحدث لي". البرق يحدث، فقط . كذلك الألم: هو استجابة فسيولوجية/كيميائية تحصل في الجهاز العصبي، لكنه لا "يخصّ" أحدًا، ما لم نضف الوهم الذاتي إلى التجربة...


  • العدم الحقيقي: لا أحد في الداخل
حين تصل إلى نهاية التفكيك، وتنزع آخر قناع… تفتح الباب لتجد أنه:
لا يوجد أحد بالداخل.
ليس هناك “أنا” تراقب، أو تعاني، أو تختار. هناك فقط تيارات من الفكر، الإحساس، والذكريات…تمرّ، وتزول.
لم تكن “أنت” أبدًا، بل كنتَ دائمًا الحدث المؤقت.

  • ما الذي يبقى بعد سقوط الذات؟
تبقى التجربة. لكن بلا مالك.
تبقى الأحاسيس. لكن بلا “أنا” تحصيها.
تبقى الحياة. لكن بلا سيرة ذاتية.
وقد يبدو هذا مرعبًا في البداية…
لكن فيه حرية غير مسبوقة.
حرية أن لا تدافع عن نفسك… لأنها لم توجد.
حرية أن لا تُبرر وجودك… لأنه ليس لك.
حرية أن تترك المسرح… بعد أن علمت أنه خيال.


الفصل الخامس: العبث – المعنى حين ينتحر

لقد فتّنا الإرادة، ثم المعنى، ثم الذات.ما تبقّى الآن هو الجدار النهائي: العبث. ليس شعورًا، ولا موقفًا.بل حقيقة باردة:
الكون لا يهتم، وأنت تعرف أنك تعرف ذلك.


  • لماذا العبث حتمي؟
كل ما نفعله كبشر: نسعى، نفسر، نحب، نخاف، نتدين، ننتج، نبدع… فقط لنصنع قصة نركن إليها أمام رعب الفراغ.
ولكن…
الكون لا يملك هدفًا.
الزمن لا يتوقف ليستمع إلينا.
لا أحد في الخارج ينتظرنا.
ونحن أنفسنا لسنا سوى تدفق عشوائي في بيئة غير مبالية.
العبث ليس فوضى…
العبث هو وجود نظام دقيق لا يحتوي أي غاية.


  • الدين، الفن، الأخلاق… محاولات للهرب
الدين يقول: هناك خالق.
الفن يقول: هناك معنى في الجمال.
الأخلاق تقول: هناك خير وعدل.
لكن جميعها نُسجت لتُخفف من رعب العبث.
لأنه إن لم يكن هناك غاية…فكل ما فعلناه عبثي منذ اللحظة الأولى.
لا أحد “يرانا”.ولا شيء “يُسجل”.

البشر يكرهون العبث… لأنه يسرق منهم شعورهم بأنهم مهمّون.

  • العبث: لا ألم، لا أمل
العبث ليس يأسًا.
اليأس شعور صادر عن توقع مكسور.
أما العبث، فهو الحقيقة حين لا يُتوقع شيء أصلًا.
العبث هو نهاية اللعبة… حين تدرك أن اللعبة لم تبدأ قط.
لا مكافآت. لا معنى. لا محكمة نهائية.
بل هذا الصمت الأبدي… حيث الحياة تمرّ، بلا أحد ليصفّق أو يعترض.

  • إذًا لماذا نستمر؟
الجواب الأقرب للصدق: لأن الآلة تعمل.
لأنك بيولوجيًا مبرمج أن تأكل، تبحث، تتكاثر، تفسّر.
لأنك مثل النجم الذي يحترق، والنبتة التي تتجه نحو الضوء… تستمر لا لأنك تريد، بل لأنك لا تستطيع التوقف… حتى تسقط.

  • العبث: أجمل ما في النهاية
حين تسقط عنك الأوهام كلها، وتدرك أنك لا تملك معنى، ولا ذات، ولا هدف…حينها فقط، تستطيع أن تعيش بلا ادعاء.
أن تضحك بلا سبب.
أن تبكي بلا معنى.
أن تراقب الغروب، لا لأنه "جميل"، بل لأنه "هو".
في العبث: لا شيء يُقال… وكل شيء يُعاش.


  • ما بعد العبث؟ لا شيء… إلا الهدوء
حين ترى العبث وجهًا لوجه…قد تنهار… أو تتحرر.
إذا انهرت، فذلك لأنك ما زلت متمسكًا بشيء.
وإذا تحررت، فذلك لأنك لم تَعُد شيئًا.
لا يجب أن “تفعل” شيئًا بعد العبث.
بل فقط أن تسكن فيه. كمن خرج من كهف المعاني، وجلس أخيرًا في العراء… دون ظل.


الفصل السادس: نهاية الإنسان – محضر دفن الوعي

لم يكن الإنسان كائنًا… بل افتراضًا بيولوجيًا مؤقتًا. كذبة فسيولوجية أنتجها الدماغ، وخدع بها نفسه كما تخدع الفيروسات الخلية لتدخلها.

  • الإنسان: وظيفة لا كائن
ما يُسمّى "إنسانًا" ليس أكثر من تراكم تفاعلات:
بروتونات لم تفهم لماذا التقت،
وذرات لم تفهم لماذا اتحدت،
وخلايا لم تسأل يومًا من أنا؟
لكن فجأة…
ظهر دماغ، منتفخ قليلًا، يفرز الكهرباء ويقول:
"أنا موجود!"
كذب.
هو لم "يكن"، بل حدَث.
وظيفة حيوية في سلسلة توازن بيئي. مجرد خلل لغوي نطق بالوجود.

  • الوعي كمرض
في الحقيقة، الوعي ليس نعمة.بل أثر جانبي للطاقة المعقدة.
كما يفرز الجسد مخاطًا حين يمرض،
يفرز الدماغ "أنا" حين يتعقّد.
“أنا أشعر… إذًا أنا أحتضر.”
الوعي ليس إدراكًا، بل توهّم إدراك.
فأنت لا ترى الواقع، بل ترى تفسير دماغك لمجسّاته، والدماغ نفسه لا يرى شيئًا…بل يخترع وهْمًا ليقنع نفسه أن الأمور تحت السيطرة.

  • إرادة؟ أي إرادة؟
هل قررت أن تولد؟
هل اخترت جيناتك؟
هل قررت أن تكون ذكوريًا أو أنثويًا أو غبيًا أو مريضًا؟
كلا.
كل شيء تمّ بالنيابة عنك.حتى وهم "الاختيار" هو برنامج يعمل بعد الفعل، لا قبله.
"نحن لا نقرر… بل نُخبر أنفسنا بقصة بعد أن يقع القرار."
الإرادة حيلة بلاغية.الوعي كاتب سيناريو لم يُشاهد العرض أصلًا.


  • لا هدف، لا خلاص، لا معنى
كل محاولة لتفسير الوجود تفترض ضمنًا أنه "قابل للفهم"، لكن ماذا لو لم يكن كذلك؟
ماذا لو كان الكون آلة صدئة، لا تهتم، ولا تسمع، ولا تقرأ كتبنا الفلسفية؟
"نبحث عن المعنى كما يبحث الغريق عن لوح خشب… لا لأنّ هناك خلاصًا، بل لأنّ الغرق صامت أكثر من اللازم."
الوجود لا يعبأ بك. ولا بنفسه.

  • النهاية: أنت لم تكن أصلًا
هنا، أمام المرايا المكسورة، لا تعود تجد ذاتك، بل حطامها. لا ترى “أنا”، بل
النسيج البيولوجي الذي اعتقد أنه أنا.
أنت كنت فقط تتابع ما يحدُث،
ثم تسجّله،
ثم تعلّق عليه،
ثم تموت.
لا أسرار.
لا خطّة.
لا قوس وجودي.
بل فقط نشوء…
ثم انهيار…
ثم نسيان.

  • خلاصة الفصل: إعلان الوفاة
هذا ليس فصلًا فلسفيًا. بل شهادة وفاة كائن لم يوجد أصلًا.
الإنسان مات،
ليس لأنه انتهى، بل لأنه لم يبدأ قط.
الوعي انطفأ،
لأنه كان لهبًا عرضيًا فوق بئر فارغ. “هنا دُفن الوهم…لا عزاء للذات.”