face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اسباب تركي للاسلام. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اسباب تركي للاسلام. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 20 يناير 2021

إله الحاجة وإله الحقيقة!

1 تعليق





غايتنا ، رؤية الوعي البشري متحررًا من السجن الثقافي والتوجيه الفكري!
 مفهوم الإله = مفهوم الحقيقة! الإيمان = الحاجة للاطمئنان! آمن بالإله = أقرَّ بحاجته للاطمئنان! توحيد الإله = توحيد الحقيقة! في أحاديثنا وحواراتنا وكتاباتنا، تعودنا وربما كنا مضطرين لاستعمال لفظة "الإله"، بينما نحن نقصد "الحقيقة"! ثقافيًا، لفظة "إله" أصبحت تعني مجموع الحقائق أو خلاصة الحقائق أو مصدر الحقائق! في الواقع ما يهمنا هو أن ننقل للآخر صورة طبق الأصل عن الفكرة التي لدينا، ولذلك كثيرًا ما نستعمل المفردات الأقدر على إيصال الفكرة ثقافيًا، وليس بالضرورة المفردات الأنسب لغويًا لطرح الفكرة! استعمال لفظة "حقيقة" هو الأنسب لغويًا هنا، لكنه عادةً يذهب بوعي المُخاطَبين وتفكيرهم إلى اتجاهات مختلفة، الأمر الذي يحول دون وصول فكرة موحدة للكل، لذلك نضطر لاستعمال لفظة "الإله" لتركيز الوعي وتوحيد اتجاه التفكير ..، لكن في الواقع نحن لا نتحدث عن إله محدد نعرفه ونستطيع تصوره، إنما نقصد ذلك الموضوع الكامل – افتراضًا، أو تلك الفكرة الناقصة – واقعيًا، والذي أو التي تحوز على اهتمام كل البشر فطريًا، والتي هي الحقيقة المطلقة التي يطمئن لها كل الضعفاء ..، والضعف قرين الوعي! الإله بهذا المعنى، لا شك أنه ليس بحاجة للمتاجرة بكرامة وآلام البؤساء، ليحصل على ولاء الأقوياء والأغنياء والواعظين - كما تصوره المعتقدات! فمفهوم الإله لا بد أن يكون أبعد ما يكون عن هذه المسرحية الهزيلة - مضمونًا وإخراجًا، والتي تصور الإله وهو يمنح المال والقوة والمعرفة لبعض البشر، لكي يتقربوا بها إليه، من خلال مآسي وجهل وحيرة وآلام البعض الآخر، والذين جعلهم ذات الإله فقراء وضعفاء وجهلاء، لا لذنب اقترفوه، إنما فقط لكي يكونوا مادة للتجربة أو جسرًا للعبور بين الإله وبين الأقوياء والأغنياء والوعاظ ..؛ والحقيقة أن الإله ليس بحاجة لاختبار البشر أصلاً، وليس البشر في مستوى اختبار إلهي – بالمعنى المطلق للإله! إن هذا الطرح السطحي وهذا التفسير البشري البدائي للوجود وللغاية من الحياة، يدعونا إلى السؤال عن تعريف الإله، فهذا يُثبت أننا لسنا متفقين على مفهوم الإله! وفق هذه النظريات، يبدو تعريف الإله، بأنه عبارة عن كائن بشري أسطوري متسلط، على هيئة رجل خارق للمواصفات البشرية المعتادة – لا أكثر! وأنه ليس هو الحقيقة المطلقة، ولا يريد الحقيقة، إنما يريد انتزاع إقرار البشر واعترافهم بقوته وجبروته، ويريد تحقيق ذلك بصورة مُذلة مهينة للبشر بما يُشبع غروره، وكأنه غير واثق من قوته، فجعل من العبث بالوعي البشري مادة أو موضوعًا له للتسلية، واتخذ من مآسي وآلام البشر وتملقهم وخضوعهم اللا منطقي له، سببًا للوجود البشري! فإذا كان الأمر كذلك، إذن لا بد من وجود إله آخر حقيقي، مواصفاته مطلقة، يتساوى أمامه البشر وغير البشر، وذلك هو الذي يجهله الجميع معرفيًا، ويؤمنون به فطريًا! في الأصل لا بُد أن يكون كل البشر مؤمنين فطريًا، ومؤمنين بإله واحد! لكن، هذا الإيمان الفطري بإله واحد، ليس مصدره وحيًا ولا رسولاً ولا معرفةً ولا إدراكًا، إنما هو نتيجة حتمية لشعور لاإرادي يتملك الإنسان، يُشعره بالحاجة لإيجاد وسيلة لمواجهة الهواجس والمخاوف من المجهول، والتي هي مصاحبة للوعي بالضرورة! معلوم أنه لولا الوعي، لما كانت الهواجس ولا المخاوف، ولما كانت هناك حاجة ولا معنى لمفهوم الاطمئنان لدى الإنسان! ومعلوم أن الوعي مصدر اطمئنان بقدر ما يعلم ويأمن، وهو مصدر مخاوف وهواجس بقدر ما يجهل ويخشى! لذلك فإنه وبغض النظر عن ماهية ومُسمَّى مصدر الاطمئنان – أكان إلهًا أو سواه-، فالأساس هو أن الكائن الواعي محتاج فطريًا ومنطقيًا للبحث عن الاطمئنان..؛ والاطمئنان لا يتحقق في وجود الوعي إلا بانتفاء الضعف والمجهول – عمليًا، أو بوجود قوة مطلقة تحمي الكائن الواعي، أو تُنجده كلما دعاها! وريثما يتمكن الوعي من تجاوز الضعف وكشف المجهول واقعيًا، كان بحاجة عاجلة لوجود تلك القوة - ولو نظريًا – للمحافظة على توازنه، فإن لم توجد وجب افتراضها- بغض النظر عن حقيقة وجودها من عدمه- وهذا ما كان ..؛ تلك القوة هي التي اتفق البشر لاحقًا عبر الأجيال على تسميتها بالإله! الإيمان هنا يكون بإله الحاجة البشرية وليس بإله الحقيقة الكونية ..، وهذا بالطبع لا ينفي ولا يُثبت وجود الإله الحقيقة! الفطرة البشرية الطبيعية لم تعد موجودة اليوم، أو لم تعد تعمل منذ ظهور الأديان وانتشارها، وذلك بسبب التلقين العقائدي المُبكِّر والممنهج، الذي تمارسه المؤسسات الدينية المختلفة على البشر، الأمر الذي يؤدي إلى توجيه الفطرة فلا تعود معيارًا طبيعيًا! من المستحيل اليوم، إيجاد فطرة بشرية طبيعية يمكن اختبارها في موضوع الإيمان بالإله الحقيقة! موضوع الإله اليوم، يصعب الخوض فيه بحيادية، إذ لا بد من الوقوع تحت تأثير خلفية عقائدية وتصور معين مسبق للإله ومبتغاه! المشكلة الكبرى في علاقة البشر بمفهوم الإله، ظهرت مع تعدد الأديان والتقائها في الزمان والمكان، وما صاحبه من ظهور مؤسسات بشرية ذات طابع ديني، استثمرت مفهوم الدين للسيطرة على البشر، ما أدى إلى التنافس بينها على استقطاب الأتباع، الأمر الذي استوجب طعنها في مصداقية بعضها البعض ..، مما أدى تلقائيًا إلى بروز تساؤلات تتراوح بين إمكانية تعدد الآلهة واحتمالية ضعف الفكرة من أساسها ..؛ وحيث إنه لا دين يخلو من العيوب، فقد أدى انتقاد الأديان لبعضها إلى ظاهرة انتقال البشر بينها، الأمر الذي أدى إلى استعمال مفهوم الإله لتخويف البشر وتحذيرهم من ترك الدين – سواء بالانتقال إلى دين آخر أو بتركها جميعًا-، ومن هنا تغيرت المعادلة في علاقة البشر بالإله، فلم يعد مفهوم الإله مصدر اطمئنان للإنسان كما كان في الأصل وكما ينبغي أن يكون دائمًا، بل أصبح مصدر خوف يستعمله رجال الدين للسيطرة على البُسطاء ..؛ والواقع أنه مهما تكن حقيقة مفهوم الإله، فالأصل هو أنه لا مجال لمقارنته بالبشر- حتى يتم تصويره كخصم لهم وتخويفهم به! لكن، ولأن استعمال مفهوم الإله لتخويف البشر هو أمر غير منطقي وغير واقعي، لذلك لم يستجب معظم البشر للتخويف والتحذير باسم الإله! ولأن الإله الذي تم استعماله لتخويف البشر هو إله الحاجة وليس الإله الحقيقة، لذلك لم يستجب هو الآخر لتصورات البشر الذين استعملوه لتخويف غيرهم! ولكي لا يظهر رجال الدين بمظهر الواهم أو الكاذب، اضطروا لتطوير تصوراتهم وعلاقتهم الخاصة المفترضة بالإله، فادعوا أن الإله قد كلفهم بتنفيذ مشيئته في تخويف البشر وتأديبهم، فأصبحوا يُهددون ويبطشون ويقتلون باسم الإله أو نيابة عنه! وهنا أصبح مفهوم الإله عالة على الوعي، حيث أصبح الإله عبارة عن سلاح وتشريع وصلاحيات مطلقة بيد بعض البشر، يستعملونه لإرهاب واستعباد بقية البشر، ففقد مفهوم الإله صورته الجميلة كمصدر للاطمئنان، وأصبح وجوده مصدرًا للهواجس والمخاوف، بل أصبح وجوده مصدرًا للآلام والمآسي الآنية ..؛ بذلك أصبحت الهواجس والمخاوف الطبيعية المصاحبة للوعي، والتي استوجبت وجود الإله أصلاً، أصبحت أقل عبئًا على الإنسان من الإله، الأمر الذي أفقد مفهوم الإله مبرر وجوده لدى المتضررين منه، بل أصبحت الحاجة ماسة لإثبات عدم وجوده – وذلك كسبيل وحيد لدحض التكليف الإلهي المفترض، الذي يستعمله البعض لإرهاب واستعباد البعض الآخر .. من هنا نشأت فكرة الإلحاد والكُفر بالإله الحقيقة – رغم عدم معرفة الملحدين به! إن بحث الكائن الواعي كان دائمًا عن الاطمئنان، وقد وجده بادئ الأمر في مفهوم الإله، لكن عندما تحول مفهوم الإله إلى مصدر للفزع والرُعب بحسب أيديولوجيا بعض الأديان وجهل القائمين عليها، اضطر الوعي البشري للبحث عن بديل للإله يوفر له الاطمئنان ويحميه من استغلال رجال الدين لمفهوم الإله! ولأن مفهوم الإله قد تعددت صوره وأهدافه بعدد الأديان، فلم يعد من المقبول ولا من المقنع افتراض إله آخر أو إله جديد يُعيد للإنسان الاطمئنان بمفهوم الإله كما كان قبل تعدد الأديان ..، لذلك كان البديل هو محاولة إلغاء فكرة الإله، واستبدالها بفكرة العدم ..، حيث أصبح خيار المساواة السلبية يبدو أفضل من خيار التنافس غير المتكافئ! فرجال الأديان احتكروا أسرار العلاقة بالإله، وبالغوا في التضييق على البشر حتى كادوا يجعلوهم آليين لا ذوات لهم! ففضَّل الكثيرون من البشر خيار الفوز الآن مع احتمال الخسارة غدًا، على خيار الخسارة الآن مع احتمال الفوز غدًا! بالنسبة للبشر، إثبات وجود الإله لا يختلف عن إثبات عدم وجوده، فكلاهما محاولات فلسفية واستقرائية واستنباطية لا يمكن برهنتها! لذلك وجد الملحدون الاطمئنان في افتراض العدمية، كبديل لاستعباد رجال الدين لهم باسم الإله! وفي الواقع لا أحد يعرف الإله الحقيقة – لا الملحدون ولا المؤمنون! والإله الذي أنكره الملحدون هو إله الحاجة الذي تم تصويره واستغلاله على أنه إله الحقيقة، فبدا الملحدون وكأنهم يُنكرون وجود الإله الحقيقة الذي يجهله الجميع، وهذا غير صحيح، فالملحدون من خطابهم يتضح أنهم يُنكرون وجود الإله الظالم العابث الذي يسمح لبعض البشر بالسيطرة على بعضهم الآخر، ولا يُنكرون وجود إله يجهله الجميع

الثلاثاء، 5 يناير 2021

مَنْ هُم أهل الذِكر ومَنْ الذين لا يعلمون؟

0 تعليق

 

فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ! هذا النص من القرآن، يُستدل به عادة، للإشارة إلى أمورٍ ثلاثة: الأمر الأول: أن المجتهدين والفقهاء والأئمة والخطباء المسلمين، هم أهل الذكر المعنيين في هذا النص، وأنه ينبغي سؤالهم وطاعتهم في أمور الدين ومعاملات البشر! الأمر الثاني: أن مفهوم "الذِكر" – هنا، يُشير إلى القرآن ذاته، أو هو العِلم الذي لا يمكن بدونه فهم القرآن وتفسيره؛ وأنه عِلمٌ لا ينبغي لأحدٍ من الناس، إلا لأولئك الذين يمتلكون قدرات ذهنية فكرية خاصة خارقة، منحها الله لهم ويسر لهم السبيل دون سواهم! وهنا في الحقيقة تبرز مفارقة كبيرة، وهي أنه حتى لو كان الأمر كذلك، فإن الاختلاف الجذري والجوهري بين الفقهاء والمذاهب والطوائف (سلفي، صوفي، إخواني، شيعي، ..الخ)، يستوجب أن يكون الإنسان العادي أفقه من كل الفقهاء، لكي يُحدد أيهم الصائب، أو أيهم المؤيد من عند الله..، فالفقهاء لا يحملون علامات أو براهين تميز المهتدي منهم من الضال – لكي يهتدي بهم الضال العادي..، ولعل هذا هو السبب الذي جعل جُل المسلمين يتجاهلون كل المذاهب عمليًا، وهو ذات السبب الذي جعل بعض المذاهب – كالسلفيين – يضطرون لاستخدام القوة والعنف والإرهاب، لتركيع البشر لمذهبهم لا لله! وهو ذاته الذي جعل الإخوان يسعون للسلطة لابتزاز البشر بُغية تركيعهم لمذهبهم لا لله! فجميعهم لا يحملون آية، ولا يملكون دليلاً ولا حُجَّة تُقنع البشر..، فإذا مُنِح البشر حرية الاختيار والمفاضلة بين المذاهب والطوائف، فستسقط كل المذاهب والطوائف بين عشية وضحاها..، ولذلك انقلبت الآية فأصبحت المذاهب والطوائف هي التي تذهب للبشر، وتفرض عليهم فقهها وأفكار منظريها بالقوة والخداع وباستغلال الحاجة المادية للبشر..، ما أحال المذاهب إلى مشاريع مادية دنيوية ربحية تنافسية، وليست مجال فكري وسبيل روحي لإيصال رسالة إلهية وإخلاء ذمة بشرية! الأمر الثالث: إشارة إلى غالبية المسلمين باعتبارهم لا يعلمون ما يعلمه أهل الذكر، وأن عليهم الاتباع والطاعة العمياء لاجتهادات وفتاوى أهل الذكر – وذلك حتى إذا أفتوا واجتهدوا بما يُخالف العقل والمنطق! .. انتهى. ومما يوجب التوقف ويُثير التساؤل هنا، هو أنه لا وجود لهذه الإشارات الثلاث في النص القرآني – موضع الاستدلال، بالمعنى المستدل لأجله والشائع بين المسلمين..، وأن الفقهاء لا شك يُدركون ذلك، والسؤال هو: لماذا لم يُحدد الفقهاء لعموم المسلمين، التفسير الصحيح والقصد من هذا النص، ولماذا لم يُفتوا بعدم جواز الاستدلال به في غير محله؟ إنه وحتى على افتراض أن فقهاء اليوم أو بعضهم، لا يستدلون بالتفسير الخاطئ لهذا النص، إلا أن هذا التفسير بالأساس لا شك أنه صادر عن فقيه، وينبغي أن يُصححه فقيه مثله..، فالسكوت عليه اليوم لا يختلف عن الإفتاء به أو إشاعته بالأمس! ليس من السهل اتهام كل الفقهاء بابتداع هذا التفسير الخاطئ أو بالتستر عليه، على أساس أن السبب هو عدم وجود صفة رسمية للفقاء، تمنحهم الحق في فرض آرائهم على الناس، وعدم وجود نص آخر يحث الناس أو يأمرهم بطاعة الفقهاء! فمن هم أهل الذِّكر، ومن هم الذين لا يعلمون، بحسب النص، وليس بحسب ما هو شائع ومستعمل في الثقافة العربية، وفي الفقه الإسلامي؟ وما هو الذِّكر؟ وهل من علاقة خاصة بين مفهوم "أهل الذِّكر"، والفقهاء! هنا نص قرآني يقول بأن القرآن مُيسَّر للذِّكر – وليس هو الذِّكر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }القمر17. وهنا نص قرآني آخر يقول، إن القرآن يُحدِث الذِكر وليس هو الذِكر ذاته: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً }طه113 . هنا نص قرآني يقول إن عدم القدرة على فهم القرآن هي عقوبة خاصة بالذين لا يؤمنون بالآخرة، وليس بالعرب أو بالناس أجمعين: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً }الإسراء45 . {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} الإسراء46. فإذا كان القرآن غامضاً وفهمه عصياً حتى على العرب المسلمين؛ فما ذنب الأعاجم من غير العرب وغير المسلمين؟ وما السبيل لمن أراد منهم دخول الإسلام؟ أي الطوائف عليه أن يتّبع، وأنّى له أن يختار الطائفة أو الفرقة الناجية؟ أقول.. إن هذا النص القرآني واضح وصريح و يسير غير عسير (… فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ !)، وعلى افتراض صحة السياق الذي يُستعمل له، وأن أهل الذكر هم الفقهاء، فإن المستدلين به يتجاهلون أمرين أساسيين بارزين في هذا النص، وهما: (أ)- إن الخطاب ليس موجهاً لأهل الذكر، حتى يمنعوا غيرهم من تفسير القرآن والتحاور به وحوله! بل إن الخطاب موجه للذين لا يعلمون، فهم المطالبون بالبحث أو السؤال عما يجهلون! إذاً، فالذين يعتقدون بأنهم هم أهل الذكر، ليس من حقهم أن يُقرّروا بأن غيرهم لا يعلمون؛ أي أن الله قد شرّع بهذا النص، أن الإنسان أدرى بنفسه وأحق وأجدر من غيره في أن يُقرّر ما إن كان يعلم أو لا يعلم! فهو مسئولٌ عن ادعائه العلم، كما أنه مُطالبٌ بالسؤال عما يجهل، وهو مسئولٌ عن اختياره لمن يسأل! فالذين لا يعلمون إذاً، هم المسئولون وهم المطالبون بالإعلان عن أنفسهم، والمطالبون بالبحث عن أهل الذكر، وليس العكس! (ب)- إن الخطاب جاء بصيغة التشكيك في حقيقة أنهم لا يعلمون! .. (… إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ !)، أي أن الأمر ليس غامضاً وليس عسيراً عليكم حتى تجهلونه! وفي ذلك إشارة إلى أنه عليهم الإقرار أولاً وربما إثبات أنهم لا يعلمون، ثم إن لهم بعد ذلك أن يسألوا أهل الذكر! وفي هذا التشكيك، إشارة واضحة وقوية على أن الأمر الذي يعلمه أهل الذكر، هو أمرٌ مُتاحٌ في متناول الجميع إن شاءوا معرفته، وأنه ليس علماً خاصاً بأهل الذكر، وأن الذين لا يعلمون ربما كانوا يدّعون عدم العلم وليست حقيقة أنهم لا يعلمون، وإنما ادعوا عدم علمهم بالأمر للتشكيك في صدق الرسول! ( … فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ !) .. أما الأمر الأهم فهو يكمن في خطأ السياق الذي يُستدل فيه بهذا النص، ويتضح ذلك عند قراءة النص كاملاً .. يقول القرآن: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }النحل43. {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} الأنبياء7. فلا اختلاف ولا خلاف على أن المقصود بأهل الذكر هنا هم أتباع الديانات والكتب التي سبقت الإسلام والقرآن، كأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وغيرهم من أتباع الديانات والرُسل السابقين، والمقصود بالذين لا يعلمون هم أولئك الذين لم يُصدّقوا الرسول، والذين لم يتقبلوا فكرة أن يكون الرسول بشراً مثلهم! أي أولئك الذين يعتقدون بأن الرُسُل ينبغي أن يكونوا ملائكة، ولا يصح باعتقادهم أن يُخاطب الله بشراً ويبعثه رسولاً! الخطاب إذاً، موجه للمشككين في رسالة الرسول، وليس للمسلمين. وأهل الذكر هم أتباع الرُسُل والكتب والديانات السابقة، وليسوا المسلمين من أتباع محمد . فالخطاب كان في وجود الرسول، حيث لم يكن المسلمون في حاجة لسؤال أحدٍ والرسول بينهم! وموضوع الخطاب محدد، وهو أن بشرية الرسول هو أمرٌ طبيعي لا غرابة فيه، وهو معلوم لدى أتباع الرُسل كلهم! فالنص القرآني واضح الدلالة، فلا يصح الاستدلال به إلا عند مخاطبة المشككين والمكذبين برسالة الرُسُل؛ حيث قال لهم القرآن، إن عليهم أن يسألوا أتباع الديانات السابقة، ليعلموا أن كل الرُسُل السابقين كانوا رجالاً بشراً، ولم يكونوا ملائكة! {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }النحل43. فهل يجوز مُخاطبة المسلمين اليوم – المؤمنين برسالة محمد -، بما خاطب به القرآن المكذبين المشككين في رسالته : فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ! ويبقى السبب الحقيقي، والدافع الأساس، والمستفيد الرئيس من وراء قتل المنطق لدى الإنسان العربي باسم العروبة، وشل تفكير المسلم وتعطيل عقله باسم الإسلام، وإقناعه بأن عين الصواب وذروة سنام الإيمان هو أن يُصدّق ما لا يفهمه وما لا يُقنعه، وأن يقول ويفعل ما لا يقبله عقله! يبقى هذا الأمر سراً غامضاً، وخيالاً مُرعباً لمن أراد من العرب والمسلمين فهم الحقيقة .. إلى ما شاء الله ! فالاحتمالات كثيرة، لكن تبقى جذور هذه المأساة خفيّة، وجذوة سؤالها حيّة، والإجابة عليها عصيّة، والبحث عن الحكمة والحقيقة هو لب القضية

الأحد، 20 ديسمبر 2020

هل الإنسان مُقيم في الطبيعة، أم هو جزء منها

0 تعليق



قياسًا إلى غيره من الكائنات، يمتلك الإنسان وعيًا كبيرًا نسبيًا بنفسه وبما حوله! هذا الوعي ولَّد لدى الإنسان القديم شعورًا زائفًا بأنه كائن مستقل مختلف كليًا وجذريًا عما حوله، فأطلق اسم الطبيعة على كل ما عداه، واعتبر الطبيعة مجرد وعاء أو مكان له وليست مَنشأً له! من هنا انبثق وانتشر التصور الخاطئ لمفهوم الطبيعة، أو التعريف والفهم القاصر لما هو طبيعي، ولا يزال الأمر كذلك لدى الكثيرين حتى اليوم! الطبيعة: هي الأرض وما حولها وما عليها - باستثناء البشر – حسب التصور البشري الثقافي البسيط للطبيعة! ولذلك أصبح مفهوم الطبيعي: هو كل شيء موجود ولم يمسسه البشر بشكل مباشر أو غير مباشر..، هكذا هو المقصود بـ"الطبيعي" في العُرف البشري حتى اليوم! وهذا التعريف لمفهوم "الطبيعي"، هو تعريف صحيح نسبيًا، لكن التعامل معه دون إدراك لمدلوله، يؤدي إلى انحراف الوعي باتجاه اعتبار الإنسان كائن غير طبيعي، أي أنه ضيف على الطبيعية! إن الشذوذ يكون في الأشياء عن بعضها، لكن بالنسبة للطبيعة الأصل أو الطبيعة الكل، لا يمكن لشيء أن يشذ عنها، حيث لا يوجد في الطبيعة شيء غير طبيعي، لأن الطبيعة هي كل شيء موجود بسبب أو وفق قانون..، أي أن الشيء الشاذ عن الطبيعة هو ذلك الشيء الذي لا يخضع لقوانين الطبيعة..، وهو ما لا وجود له، ولا يمكن أن يكون له وجود في الطبيعة..، حيث إن وجود مثل هذا الشيء إما أن يُعطِّل عمل قوانين الطبيعة - وهذا ما لم يحصل، أو أن تسحقه قوانين الطبيعة فينعدم وجوده! فلسفيًا، الطبيعة هي القوة الكامنة في الأشياء والمسئولة عن تغيرها وتفاعلها؛ أو بمعنى آخر الطبيعة هي السر الذي يُدير عجلة الوجود! الطبيعة ليست هي ظاهر الطاقة والمادة، الطبيعة هي جوهر وخصائص الطاقة والمادة! علميًا، الطبيعة هي الفضاء والمادة والطاقة والقوانين الأزلية التي تحكمها؛ وهنا يتم تصنيف الكائن البشري على أنه الموجود الأكثر وعيًا والأكثر تعقيدًا من بين الموجودات الطبيعية - التي اكتشفها الإنسان حتى الآن؛ كما يمكن وصف الإنسان علميًا بأنه تركيبة معقدة واعية ذكية، أنتجتها فوضى الطبيعة - كأحد احتمالاتها! لمعرفة واقع البشر، وسبب أوهامهم، لنا أن نتصور أن كل الحيوانات متطابقة من حيث الشكل الخارجي، لكن بعضها يطير، وبعضها يزحف، وبعضها لا يعيش إلا في الماء! لو كان المشهد بهذا الشكل، لظن الكثيرون من البشر، أن كل الحيوانات يمكنها الطيران، وكلها يمكنها أن تمضي حياتها زاحفة، وكلها يمكنها العيش تحت الماء، لكن كل حيوان قرر واختار بنفسه سبيلًا للحياة، لم ترغمه الطبيعة عليه..، ويمكنه تغييره متى شاء! والحقيقة ليست كذلك، فعمل الطبيعة وقوتها المؤثرة على الأشياء داخلية كما هي ظاهرية، لكن اختلاف الحيوانات في الواقع خارجي وكبير، وهو ما أوهم بعض البشر بأن تأثير الطبيعة لا يكون إلا ظاهريًا، وأن الظاهر هو مقياس الاختلاف والتطابق! ولعل التشابه الخارجي والاختلاف الداخلي في النباتات أوضح، ويؤكد أن عمل الطبيعة في الأشياء، هو داخلي بالأساس، أو هو داخلي كما هو ظاهري! سلوك الواهمين (عقائديًا) من البشر اليوم، تجاه غيرهم من البشر، هو امتداد لسلوك الإنسان القديم تجاه الطبيعة عند بداية الوجود، وسيُغادر الواهمون الحياة مغادرة الحكيم، دون أن يدركوا أنهم كانوا يكرهون غيرهم من الناس ويُحاربونهم لأسباب هي من صنع الطبيعة، وليست من صُنعهم! يُحاسبون الإنسان على ثقافته وقناعاته، وكأنه قد صنع ذاته بذاته - جسدًا وروحًا! لا يُدرك الواهمون أنه لو جاز محاسبة الإنسان على قناعاته وثقافته وغرائزه..، لجازت محاسبته على لونه وعِرقه وطوله وفقره..، فهو لم يصنع أيًا منها، بل هو لا شيء سوى مجموع هذه المكونات الطبيعية التي يُكمِّل بعضها بعضًا، والتي يُطالب الواهمون بتغيير بعضها وترك بعضها الآخر، يُطالبون بمعاقبة بعضها بسبب سلوك بعضها الآخر (معاقبة الجسد بسبب سلوك النفس)..، ومحاسبة الإنسان على أي من مكوناته يعني - ببساطة - محاسبته على وجوده! - الطبيعة تتعامل مع الإنسان كأي مادة من مواد تجاربها العبثية، فلا تعبأ به أكان ملتزمًا أو عابثًا، خاملاً أو متفاعلاً، ألتهمته نيرانها أم أنعشته ملذاتها، حيث إن تجاربها وغايتها من الوجود أكبر من أن يُحيط بها أو يؤثر فيها عقل الإنسان ووعيه وذكاؤه..، فكما أن الطبيعة تفوق الإنسان وتحتويه ماديًا، فهي كذلك تفوقه وتحتويه وعيًا وذكاءً..، فهي التي أنتجته! - الطبيعة البشرية جزء من الطبيعة الأم، والطبيعة الأم عبارة عن قوة عمياء صماء، قوامها مزيج من الغرائز المتعددة، وهي تفعل وعلى الدوام كل ما تقتضيه اللحظة وحسب! وما لم يستوعبه بعض البشر بعد، وما لا يريد آخرون الإقرار به بعد، هو أن جُل بني جنسهم، إنما يستقون معاييرهم من الطبيعة الأم مباشرة، وأن هذا الأمر هو من مقتضيات الوجود والخضوع اللا إرادي لقوة الطبيعة القاهرة! - سلوك الإنسان قديمًا، تجاه مكونات الطبيعة من حوله، بدأ كسلوك حكيم، وجد نفسه فردًا في قبيلة بدائية لا قيادة لها، يُمارس كل أفرادها العبث والعشوائية بالفطرة - دون قصد ودون تفكير ودون اتفاق ودون اعتراض-، فيؤذون أنفسهم وما حولهم دون مبرر ودون شعور بالذنب أو بالخطأ ولا إحساس بالألم! ليمضي هذا الحكيم حياته مفكرًا مُحللاً، رافضًا للعبث، ناقدًا للعشوائية، مصححًا ناصحًا، باحثًا عن تفسيرات ومبررات، منتظرًا حدوث الوعي وسيادة المنطق، داعيًا للأخلاق، معاديًا للمتعة - ظنًا منه أن المتعة هي سبب العبث والشرور - متجاهلاً أن وجوده هو ليس سوى نتيجة لمتعة أو شهوة جنسية قضاها غيره..؛ ثم مكذبًا لنفسه فيما يراه، غير قادر على فهم عدم استجابة من حوله له، ثم يائسًا فناقدًا للمنطق، ثم صامتًا تائهًا، عاجزًا عن مواجهة الحقيقة..؛ ليجد في نهاية المطاف سبيلاً لخداع نفسه، فيفترض أنه هو بمفرده يُمثِّل القاعدة، بينما كل أفراد قبيلته عبارة عن شواذ قاعدة، وأنهم جميعًا موجودون في ساحة اختبار، لكنه وحده المقصود بالاختبار، وأن الآخرين عبارة عن مواد وأخطاء وخِدع لاختباره هو، وأن قناعاته وممارساته هي الصحيحة، وأنه لا بد من وجود عاقل يُراقب ويُسجل ما يحدث، وأنه سيُنصفه في نهاية المطاف..؛ هنا يتجاهل "الحكيم" ويتنكر لانتمائه للطبيعة - بما في ذلك أبويه اللذين أنجباه، فيظن نفسه مختلفًا جذريًا وكليًا عن كل ما ومَنْ حوله - وهذا يحصل في الواقع بسبب المعتقدات-، حيث يتكبر الابن المؤمن أحيانًا على أبويه باعتبارهما ضالين! يبقى الحكيم في قبيلته ويبقى الإنسان في طبيعته على هذه الحال إلى أن يسعفه الجنون أو يُغيِّبه الموت، ولا أحد في القبيلة ولا شيء في الطبيعة قد أعار انتباهًا لتصورات هذا ولا توجيهات ذاك، ولا أحد اهتم لجنونهما ولا يُفتقدان برحيلهما..؛ يُغادر الإنسان الطبيعة واهمًا كما يُغادر ذلك الحكيم الحياة، حيث يُغادرها وقد فاته أمر بسيط، وهو أن بحيرة الماء العذب إنما تُمثِّل الشذوذ الطبيعي عن القاعدة، عندما يكون كل ما حولها عبارة عن محيطات من المياه المالحة! فبالنظر إلى ضآلة حجمها وانعدام تأثيرها، فإن عذوبة مياه البحيرة لا تؤهلها لتكون محورًا لوجود غيرها..، وهذا هو حال الإنسان مع الطبيعة! فالشذوذ لا ينفي انتماء الشاذ للأصل، لكنه يحول دون أن يكون هذا الشاذ قاعدة أو أساسًا أو مقياسًا للصواب، أو هدفًا لقيام مشروع

الخميس، 10 ديسمبر 2020

اللغة إنتاج بشري متغير، لا رمز أزلي مُقدَّس!

0 تعليق


رغم الاتفاق الظاهر بين البشر على مدلولات الألفاظ أو المفردات اللغوية، إلا أن السامع قد يفهم من اللغة ما لا يقصده المتحدث أو الكاتب، والعكس صحيح، فقد يقول الكاتب أو المتحدث ما لا يُريد قوله، وذلك بسبب عجز اللغة عن مواكبة الأفكار أو عن التعبير الدقيق عنها، ولذلك ظهرت الحاجة للفكر والفلسفة! فالفكر هو لغة الثقافات، والفلسفة هي لغة اللغات! الفكر فلسفة تكتيكية، والفلسفة فكر استراتيجي! وظيفة الفلسفة بالأساس هي التوفيق بين أفهام الناطقين أو توحيد الفهم البشري للمعاني والمقاصد والأشياء في اللغات المسموعة والمقروءة! وهذا يعني ويُثبت أن اللغات عبارة عن إنتاج بشري تراكمي، لا يخلو من عيوب وقصور، وقد تكون اللغات مصدرًا للاختلافات والخلافات! إحدى أهم الوظائف الإيجابية للغة، هي إبراز الاختلافات الطبيعية بين البشر، ببساطة وبأمانة، وإثبات أنها اختلافات طبيعية فطرية، لكي يحترم البشر اختلافاتهم، فلا يُنظر للاختلافات الطبيعية الفطرية على أنها مفتعلة ومتعمدة، أو أنها طعن من بعضهم في معتقدات بعضهم الآخر؛ لكن، اللغة تُصبح عاملاً سلبيًا عندما تكون مصدرًا لاختلافات غير طبيعية، بسبب سوء فهمها أو سوء استعمالها أو بسبب قصور مفرداتها ومصطلحاتها عن رسم المشهد وإيصال الفكرة أو المعلومة! لغات البشر المختلفة، ليست سوى مجموعة من الرموز المكتوبة، والإشارات الصوتية المُتفق على مدلولاتها، والتي أوجدتها وطورتها حاجة البشر للتواصل والاتصال، والتعبير عن أنفسهم، ووصف الواقع وقِيَمِ وأعداد الأشياء من حولهم! فاللغات البشرية هي أصوات حيوانية متطورة من الصفر، وهي تتطور باستمرار وينبغي أن يتم تطويرها، فهي ليست موجودة كوحدات متكاملة من البداية! اللغة ليست شيئًا فيزيائيًا خاضعًا لقوانين الطبيعة، إنها إنتاج بشري خاضع لحاجة البشر! من الطبيعي والبديهي أن نقول، إنه يوجد إنسان بدون لغة، لكن لا توجد لغة بدون إنسان، وهذا يعني أن اللغة من ملحقات الوجود البشري وليست من أساسياته! لماذا نقول هذه البديهيات؟ لأنه توجد بعض الأعراق البشرية، التي تستعمل اللغة في الواقع، لكن من حيث الوعي، ما تزال هذه الأعراق في مرحلة ما قبل ظهور اللغات وتطورها، حيث إن استعمالهم للغة يتركز على إظهار مدى انبهارهم بها، بل إنهم جعلوا عدم الانبهار بها دلالة على الغباء والجهل بلغتهم، حتى أصبحوا أصغر قيمة ووزنًا من رموز لغاتهم وإشاراتها، ويكاد ينحصر تعاطيهم مع لغاتهم على تقديسها – لا على استعمالها أو تطويرها-، فأعطوا اللغة قيمة في ذاتها، وجعلوها أكبر قيمةً من البشر الذين يستعملونها، فصاروا عبيداً لها، فخدموها بدل استعمالها..، وكأن وجود اللغة كان سابقًا لوجودهم، وأن جزءًا أساسيًا من رسالتهم في الوجود هو خدمة وتقديس هذا الموجود المستقل المُسمَّى "لُغة"، والذي أصبح بالنسبة لهم صنمًا نظريًا ذهنيًا ثقافيًا مُقدَّسًا! تقديس اللغة يؤدي حتمًا إلى محاربة الفكر والفلسفة والفنون والعلوم، وذلك لأن:

 1- الفنون، بأنواعها المتعددة والمختلفة من تصوير ورسم ونحت وتجسيم وتمثيل وموسيقى ورقص وغناء وغيرها، إنما ظهرت لسد العجز في اللغة المنطوقة والمكتوبة عن الوفاء بحاجات البشر؛ فالفنون عبارة عن لغات مساندة تحاول التعبير عن الأفكار والمعلومات التي عجزت اللغة المباشرة البسيطة عن إيصالها! وهذه الحقيقة تُظهر وتُثبت أن اللغة شيئًا طارئًا وصناعة بشرية لا تخلو من النقص والقصور، وهذا يتناقض مع تقديسها، ولهذا نجد عُبَّاد اللغة ومقدسيها يُحاربون الفنون! والحقيقة أن الفنون ليست مجرد لغات بشرية مساندة، بل هي اللغة الوحيدة الخالصة والخاصة بالبشر، فكل الكائنات تمتلك لغات بدائية أساسية بسيطة تؤمِّن لها الحد الأدنى من التواصل المطلوب للحياة والبقاء– تُعادل اللغات البشرية المنطوقة..، أما لغات الفنون فهي مقتصرة على البشر، لأنها تتطلب وعيًا وذكاءً ومهارات لا يمتلكها ولا يُتقنها على الأرض سوى البشر، ولذلك يمكننا القول بأن الفن لغة خاصة بالبشر، وبذلك يصح اعتبار لغة الفن اللغة الأصل للبشر!
 2- الفلسفة، وهي موهبة ومهارة عقلية خاصة، تُستعمل لتصحيح وتوحيد مدلولات المفردات اللغوية، ومحاولة المواءمة بين الأفهام المتعددة وبين المنطق الوجودي الواحد؛ ولذلك تصطدم الفلسفة مع قداسة اللغة، ولذلك تُحارَب الفلسفة من قِبل مُقدِّسي اللغات! تعدد الأفهام ناجم عن تعدد اللغات والثقافات والمعتقدات!
 3- الفكر، وقد ظهر لإزالة العراقيل والخلافات اللغوية والثقافية والتاريخية التي تحول دون تفاهم البشر وتواصلهم العملي؛ وبذلك يصطدم الفكر بقداسة اللغة، ولذلك يُحارَب شأنه شأن الفلسفة!
 4- العلوم، وهي التي تُنجز وتُثبت عمليًا وماديًا، ما يتناقض مع الكثير من التصورات والمعتقدات التي أوجدتها اللغة في أذهان مُقدِّسيها (تسطَّح الأرض ودوران الشمس حولها مثلاً)، وهذا يطعن في قداسة اللغة، ويؤكد الحاجة إلى تطويرها وعدم تقديسها..، ولذلك فإنه من غير المستغرب أن نجد عُبَّاد ومُقدِّسي اللغات، يُفضِّلون البدائية والتخلف على العِلم! تقديس اللغة لا يقتصر الخطأ فيه على عدم مصداقيته، بل هو في الواقع من أكبر منابع الخرافة والأساطير، فإظهار اللغة بصورة الكائن المستقل، المجهول المصدر، يملأ النفس البشرية بهواجس روحانية ومخاوف نفسية وفراغات فكرية ومجاهيل وأوهام لا أصل ولا أساس لها ولا نهاية؛ ولا سبيل للتخلص منها إلا بوضع اللغة في مكانها الطبيعي، كأسهل وسيلة للتواصل لا أكثر من ذلك، ما يعني أن اللغة ليست غاية لذاتها، إنما هي أداة لتحقيق هدف، وأنه ينبغي تطويرها وتصحيحها وتهذيبها لتسهيل تحقيق الهدف، تمامًا كما تم تطوير وتصحيح وسائل النقل والاتصال ووسائل إنتاج الملابس وطهي الطعام! المحصلة.. - تقديس اللغة يعني تجميد العقل، وذلك يعني منع الإنسان من تجاوز نقطة البداية - من حيث تواصله مع بني جنسه وتعاطيه مع الطبيعة! - المعتقدات لا تُبرر تقديس اللغة، فالواقع أصدق من المعتقدات! - تقديس اللغة لدى بعض الأعراق، يُمثِّل عائقًا أساسيًا دون حصول التواصل البشري، بدل أن تكون اللغة رافدًا أساسيًا لاكتمال التواصل! - الإنسان هو أقدس شيء عند الإنسان، فهو أقرب شيء له في الطبيعة، واللغة هي أبسط وسائلهم للتواصل؛ والطبيعي هو أن يتم تطوير اللغة وتسخيرها للتقريب بين البشر حتى تُصبح المسافة بينهم صفرًا - إن أمكن؛ فبُعد المسافة التفاهمية بين البشر، يعكس بُعدهم عن الحقيقة! واقتراب البشر من بعضهم إلى الدرجة التي يُصبحون عندها كأعضاء مختلفة لجسد واحد، هو أقرب نقطة للحقيقة والسعادة يبلغها البشر

الأربعاء، 7 أكتوبر 2020

الإنسان والبشر .. اختلافات جوهرية!

0 تعليق



الأُمِّية لا تجعل الإنسان بشرًا، والتعليم والثقافة لا تجعل البشر إنسانًا..، هي معايير داخلية يختلف بها الإنسان عن الإنسان، والبشر عن البشر! التعليم والتثقيف روافد للأفكار، تخدمها لكن لا تصنعها! كل الروايات والقصص التاريخية والنظريات والدراسات الاجتماعية والنظريات الفلسفية والعلمية والدينية، جميعها تتحدث عن صنفين مختلفين من البشر – أعلى وأدنى-، وكلها تشترك في عدم تحميل المسئولية للأدنى عن دُنُوِّه، وعدم منح الفضل للأعلى في عُلُوِّه، وكلها تقول بأن الأعلى قادر على أداء وظائف الأدنى، وأن العكس غير صحيح! وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الاختلافات جوهرية وجذرية! مع ملاحظة أن: الأعلى قادر على إدراك ممارسات الأدنى، لكنه غير قادر على أدائها، تمامًا كما أن البشر قادر على إدراك ممارسات الحيوان لكنه غير قادر على أدائها – ترفعًا وليس عجزًا! النظريات الدينية على سبيل المثال، تقول: إن الإله يخلق ما يشاء، ويؤتي الحكمة من يشاء، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويؤتي المُلك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويجعل من يشاء عقيما..، الخ من اليشاءات! وهذا إقرار صريح بوجود اختلافات جسيمة بين البشر، لا يتساوون طالما كانت موجودة، ولا يمكنهم افتعالها ولا يمكنهم إخفاءها، لكنه كذلك تعبير عن عدم إدراك أسبابها، مما أدى إلى نسبتها إلى الإله – لمنع أي تساؤل حولها! هذه الـ(يشاءات) باللغة الدينية، تُعادل الاحتمالات التي يحتويها الـ(DNA) باللغة الطبيعية والعلمية! والنتيجة في الحالتين هي الإقرار بوجود قوة خفية (جينية) فاعلة قاهرة، تفرض على البشر أن يكونوا كائنات مختلفة، وليس مجرد مستويات مختلفة قابلة للتقارب! التناقض والارتباك واضح في طرح النظريات الدينية لموضوع الاختلاف ومحاولة معالجته.. فهي من جهة تعترف بأن الاختلاف كبير جدًا إلى درجة أنها نسبته إلى المشيئة الإلهية، ومن جهة تحاول إجبار البشر على تجاهله أو تجاوزه أو معالجته بالتقليد والتعلم والتدرب..، وفي ذلك من المفارقة ما يجعل الطرح غير منطقي وغير واقعي! فإذا كان الاختلاف (الضلال – مثلاً) ناجمًا عن إرادة إلهية، إذن يكون من العبث أن يُطلب من غير المهتدي منافسة المهتدي، لأن ذلك يُعادل الطلب من البشر منافسة الإله! وإذا كان بمقدور البشر أن يتجاوز الضلال المفروض عليه إلهيًا، ويصنع الهداية لنفسه بنفسه، يكون لا معنى للهداية والضلال الإلهيين! ولذلك نجد القائمين على الأديان اليوم يدعون إلى ما يعتقدون أنه طريق الهداية، وفي ذات الوقت يقولون: إن طريق الهداية معروف لكنه قد يؤدي إلى ذات النتيجة التي يؤدي لها طريق الضلال..، وهذا إقرار صريح بأنهم عاجزون عن التوفيق بين أطروحات نظرياتهم المتناقضة! من الواضح جدًا أن هذا الطرح المرتبك، إنما سببه محاولة المزج بين ثلاثة أمور متناقضة في نظرية واحدة، وهي: العدل الإلهي، واختلافات البشر اللاإرادية، والمحاسبة! معلوم أن الفقر هو الذي يُحدد سلوك الفقير! ومعلوم أنه من المستحيل التوفيق منطقيًا بين الاعتقاد بأن الإله سيُحاسب ويعاقب الأميين والبُسطاء والجُهلاء والحمقى، وبين دعوة الآخرين لمساعدتهم اليوم وعدم مؤاخذتهم والتجاوز عن أخطائهم! فإذا كان الإله سيُحاسبهم، فذلك يعني أنهم مُدرِكون للخطأ وقادرون على فعل الصواب، وبالتالي لا معنى لمعاملتهم كضعفاء أو جهلاء! وكمحاولة من هذه النظريات لتجاوز الاختلاف الذي لم تستطع تجاهله، خاطبت الأعلى وتعاطت معه بمنطق الإدراك – بالحُجَّة والدليل، بينما خاطبت الأدنى وتعاطت معه من خلال الوعي الغريزي – الخوف والطمع والإغراء، ..الخ! وهي محاولة أثبتت الاختلاف ولم تُحقق النظرية! فإذا كان المقصود من وجود البشر هو عبادة الإله لا أكثر، فلماذا هذا الاختلاف الكبير؟ ولماذا هذا المزج بين المختلفين مع عدم وجود مقياس في متناول الجميع يُحدد الهداية من الضلال؟ معلوم أن الخطاب الغرائزي لا يُخاطب الإدراك، إنما يُخاطب الوعي من خلال الغرائز، فيثيرها أو يستحثها لتقود الجسد الواعي إلى أداء فعل أو قول معين! وغني عن القول إن الخطاب الغرائزي مرفوض أخلاقيًا، فلا يتقبل الإنسان استعماله إلا اضطرارًا، ولا يكون إلا مع الحيوانات وصغار البشر والمعتوهين! فإذا تم استعمال هذا الأسلوب المرفوض أخلاقيًا، مع كبار البشر الطبيعيين، فذلك يعني أنه قد تم تصنيفهم ضمن قائمة الحيوانات وصغار البشر والمعتوهين! إننا لا نتحدث عن شواذ قاعدة، إنما عن شرائع ودساتير وقوانين تُخاطب مجتمعات بشرية كاملة من خلال الغرائز! وهذا يعني أن الخطاب السائد في المجتمع البشري، هو خطاب غرائزي، وفي ذلك اعتراف بأن الاختلافات بين كبار البشر وصغارهم والحيوانات، هي اختلافات طفيفة لا يمكن الاعتماد عليها في سن التشريعات، وأنه لا يمكن التحقق منها إلا بالتجربة العملية..، ولذلك فإن الخطاب الغرائزي المتمثل في التهديد بالعقوبات والإغراء بالمكافآت يسري على كبار البشر كما على صغارهم، كما على الحيوانات..، لكن لا يسري ولا يكون فاعلاً في حال الإنسان! ليس الحديث عن الاختلاف بين الفلاسفة والأغبياء، أو الأميين والعلماء، ولا بين المرؤوسين والرؤساء، ولا اختلاف الرجال عن النساء! المطروح هنا، والذي أزعم أنني إنما أصوغ به ما يقوله الواقع بأمانة، هو أن المجتمع البشري يتكون من أمتين مختلفتين خلقيًا جينيًا، متداخلتين عِرقيًا، هما: أُمة الإنسان، وأُمة البشر! وأن التعاطي معهما تشريعيًا كأمة واحدة، وعدم الفصل بينهما، هو سبب جُل المآسي والخلافات والصراعات، وعدم الاستقرار الاجتماعي في كل المجتمعات البشرية! السجن والإبعاد والنفي واللجوء السياسي، هي أمثلة واقعية لعملية الفصل بين هذين الصنفين المختلفين، لكنها عمليات تتم بصور فردية ظرفية اضطرارية، ولم يتم التوقف عندها واستعمالها كحلول استباقية ومعالجة طبيعية لمشاكل مزمنة تعاني منها كل المجتمعات البشرية! والواقع أن التعاطي مع الأمر بالفصل بين المختلفين على أوسع نطاق، هو أمر ممكن ومنطقي وأخلاقي، لكن ينبغي أولاً الإقرار بوجود هذين الكائنين المختلفين، وإثبات أن الاختلافات بينهما تتجاوز الاختلافات الطبيعية السطحية بين أبناء الجنس الواحد! إن الوعي الإنساني يستوعب الوعي البشري، لكن التفكير الإنساني لا يحتوي التفكير البشري، لأن التفكير الإنساني يبدأ من حيث يتوقف التفكير البشري..، لذلك لا يفهم ولا يتوقع بعضنا معظم سلوكيات بعضنا الآخر اللامنطقية، ويسعى لمعرفة أسبابها باعتبارها أمراضًا نفسية أو ظواهر اجتماعية غريبة..، حتى يبدو وكأنه غبي وعاجز أمام ممارسات من هم أقل منه وعيا وإدراكًا..، بينما الحقيقة أن هذا الحائر إنسان، ويتعاطى مع ممارسات بشرية بمعايير إنسانية، وهذه الممارسات البشرية وفق المعايير الإنسانية يتم تصنيفها في المستوى الحيواني، لذلك لا يذهب تفكيره في ذلك الاتجاه ولا يهبط إدراكه إلى تلك المستويات! هذا اللبس لدى الإنسان، سببه الاعتقاد السائد (الخاطئ) بأنه لا يوجد كائن بين الإنسان والحيوان، أي لا توجد مرحلة تعلو المرحلة الحيوانية وتدنو المرحلة الإنسانية!

الاثنين، 21 سبتمبر 2020

زواج المثليين من رسائل الطبيعة للواهمين!

0 تعليق




لا يتردد الإسلاميون في القول إن الإنسان (كل إنسان) يولد على الفطرة، وأن أبويه هما اللذان يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه؛ (الفطرة عندهم = الإسلام)! يُرددون هذه المقولة على مسامع الصغار والبُسطاء من المسلمين، لكي تُصبح جزءًا من عقيدتهم، فيزداد بُغضهم لغير المسلمين - خاصة اليهود والنصارى - على أساس أنهم المسئولون عن انحراف فطرة أبنائهم..، بمعنى أن العالم بأسره مُهيأ ليصبح مسلمًا بين عشية وضحاها، لولا أن كل البشر منحرفون ومتآمرون ضد الفطرة! كيف لأمرٍ أن يُوصف بأنه فطرة بشرية، ثم يُتهم كل البشر بالتآمر عليها أو بالانحراف عنها؟ اليوم تُعيد الطبيعة طرح رسالة قديمة بصيغة جديدة، لعلها أوضح هذه المرة: ماذا عن المثلية الجنسية والخنوثة، وتشريع وانتشار زواج المثليين؟ أليست هذه ظواهر طبيعية، وتتعارض مع الفطرة - إذا كانت الفطرة هي الإسلام؟ فهل يولد الإنسان على الفطرة، وأبواه هما اللذان يُخنِّثانه أو يُمثِّلانه؟ وهل يسمح الإسلاميون للإنسان عندهم بالتعبير عن ميوله الجنسية وممارستها، لكي يرى العالم كيف يكون الإنسان الطبيعي ذو الفطرة السليمة؟ وهل هذه الملايين من البشر العاديين والبرلمانيين والحكومات والرؤساء، والذين هم ليسوا مثليين جنسيًا، لكنهم لم يُعارضوا زواج المثليين..، هل هذه الملايين من مختلف المستويات العلمية والثقافية، كلهم منحرفون فطريًا، وكلهم وُلِدوا مسلمين، لولا أن أهلهم هوَّدوهم أو نصَّروهم أو جعلوهم يتقبلون زواج المثليين؟؟ أم أن الفطرة شيء آخر غير الدين والمعتقد؟ وأن الفطرة هي المُوجِّه الطبيعي الذاتي اللا إرادي لسلوك وقناعات وميول ورغبات الإنسان؛ وأن الفطرة لا تعتد بالثقافات والأعراف والعادات والتقاليد، ولا يمكن فرضها على الإنسان ولا انتزاعها منه، ولا يُمكن تصديرها ولا استيرادها، ولا يمكن إخفاؤها! وأن المعتقد الديني هو الذي يُلقَّن للإنسان قبل البلوغ، أو يُفرض عليه بالتهديد والوعيد بعد البلوغ، بواسطة أبويه أو سواهم، وأنه أمر خارجي غير الفطرة الطبيعية، وأن ربط المعتقد بالفطرة ما هو إلا محاولة لتسويق الدين واستغفال الناس! لعل الربط بين مفهوم الفطرة والمعتقد الديني، لا يقتصر على المسلمين، فأصحاب كل معتقد، لا يخامرهم شك في أن معتقدهم هو الأصل، وهو الذي تقوم عليه وبه ولأجله الطبيعة والحياة والوجود! والحقيقة أن التعصب للمعتقدات الدينية يُعمي البصيرة لدى المسلمين وغير المسلمين، فلا ينتبه المتعصبون لرسائل الطبيعة ولا لأصوات الحقيقة، ولذلك هم أعجز وأظلم من أن يكونوا منصفين ويعترفوا بأن هذه الثقافات والمجتمعات المتسامحة، التي سمحت للإنسان بالإفصاح عن ميوله الجنسية وممارستها رغم غرابتها، لا يمكن لعاقل أن يتهمها بأنها تحول بين الإنسان وبين فطرته التي يولد عليها؟ وأن الثقافات والمجتمعات الدينية - خاصة الإسلامية - التي تحكم على الإنسان بالقتل إذا اختار الخروج عن معتقداتها القسرية، هي التي لا تعرف الفطرة ولا تحترمها؟ ما يمكن فهمه من ترديد الإسلاميين لتلك المقولة، هو أنها محاولة فاشلة لأسلمة الفطرة، لكي تبدو معتقداتهم صحيحة؟ ثم، ماذا عن الفطرة عند الإنسان الذي يولد في مجتمع مسلم، ولأبوين مسلمين، لماذا يُهدد بالقتل إذا ترك الإسلام؟ من الذي هوَّده أو نصَّره أو لحَّده؟ أليس هذا اختبارًا طبيعيًا وشرعيًا للفطرة؟ لماذا يرفض المسلمون حرية العقيدة إذن؟ إن كل ما يمكن أن يُقال سلبًا عن المثلية الجنسية وزواج المثليين، لا ينبغي أن يدفعنا إلى تجاهل حقيقة أن تشريع زواج المثليين وانتشاره في مجتمعات بشرية عديدة وعريقة ومتقدمة في كل المجالات، قد كشف عمق المأساة الإنسانية ومدى التخلف في مجتمعات أخرى، حتى بدا المشهد في تلك المجتمعات المتخلفة وكأن الهدف في الأساس هو حِرمان الإنسان من المتعة الجنسية- في نطاق التضييق العام على الإنسان ودفعه للتحايل أو الانتحار-، وأن سماح القائمين على تلك المجتمعات بالزواج التقليدي إنما كان خضوعًا لقوانين الطبيعة التي ربطت التكاثر بالمتعة الجنسية، فلو أمكنهم التكاثر دون ممارسة الجنس، لمنعوا وحرَّموا الزواج التقليدي وغير التقليدي..، وبالطبع لن يشمل المنع أو التحريم أولي الأمر أو أولي القوة، فهم مصدر التشريع والتنفيذ! زواج المثليين سلط الضوء على مناطق معتمة حول الحريات الشخصية بشكل عام، وفي الحياة الجنسية بصورة خاصة..، مناطق ما كان لها أن تكون معتمة أصلاً، وما كان ينبغي انتظار زواج المثليين ليكشف افتعال الحظر والتعتيم وهشاشة التابوات وبدائيتها! حيث يتم تحريم ممارسة الجنس بين الذكر والأنثى البالغين، واعتبارها عارًا أو جريمة توجب القتل بأبشع أساليب القتل؛ وفي ذات الوقت يتم تشريع ذات الأمر وبين ذات الشخصين، والاحتفاء به وبهما، إذا جاء عبر بروتوكولات وطقوس بشرية شكلية صورية، لا معنى ولا تفسير لها سوى التشهير بالإنسان، والمساس بإنسانيته، وانتهاك حُرمته، والإشراف على حياته الجنسية، وتدخل سافر للغرباء في خصوصيته بحُجَّة تحليلها، واستغلال غريزة طبيعية لممارسة الوصاية وتحجيم وزن وقيمة الفرد لصالح الجماعة، وجعله يشعر بفضل الآخرين عليه - إذ سمحوا له بإشباع غريزته، حيث كان بإمكانهم حرمانه من ذلك..، كل ذلك لكي يظل الإنسان طوال حياته في دائرة العبودية المقنعة وتحت الشرعية المزورة! فإذا كان المحافظون أو التقليديون يرفضون ويستهجنون زواج المثليين، ويعتبرونه عارًا على البشرية، فعليهم الاستعداد للاعتراف بفضل هذا الزواج غير الطبيعي لتصحيح آليات ومسار الزواج الطبيعي! زواج المثليين ليس مُصنَّفًا على قائمة الواهمين ضمن المحظورات والمحرمات، وذلك على افتراض أنه مستحيل ومحظور طبيعيًا وأخلاقيًا وواقعيًا! لكن الطبيعة فاجأت الواهمين وأحفاد المُصنِّفين، بإباحتها لزواج المثليين وتحقيقه على أرض الواقع، فأُسقِط في أيدي الواهمين، ولم ينبسوا ببنت شفة..، حيث إنهم كانوا يُصنفونه ضمن الممارسات التي ينبغي أن تمنعها الطبيعة - كما يتصورون هم الطبيعة! وبالنتيجة، سواء حصل زواج المثليين بإرادة الطبيعة أو بتطور الإنسان أو بإرادة إله.. فلا فرق..، والأهم أنه لا مجال لإيقافه بعد أن أصبح المثليون واقعًا، وأصبحت هذه الثقافة تلقى تفهمًا فطريًا متزايدًا بين الأفراد والمجتمعات البشرية! وبغض النظر عن آرائنا الخاصة في زواج المثليين واختلافنا معهم وحولهم، فما يهمنا هنا هو رسالة الطبيعة التي يحملها زواج المثليين للواهمين من البشر..، ولعل محتوى الرسالة: أن حجم الوجود البشري بأسره - من بدايته المجهولة إلى نهايته المجهولة-، لا يكاد يُذكر في الوجود العام، فما بالكم بسلوك وممارسات بعضكم! ولعل ظهور حقيقة زواج المثليين بغرابتها وصدمتها، أن توصل الرسالة التي عجزت الفلسفة والعلم والفكر عن إيصالها لأولئك الواهمين الذين لا يزالون يرفضون حق الإنسان في حرية العقيدة-وليس في زواج المثليين! فماذا يُمثِّل وماذا يعني للطبيعة أو للإله، السعي لفرض عقيدة أو شريعة معينة، على مجموعة محدودة من البؤساء التعساء، في بقعة فقيرة متخلفة مظلمة، على كوكب صغير، سابح في فضاء لا نهائي - طالما أن جُل البشر قد تجاوزوا مرحلة حرية العقيدة وبلغوا مرحلة الزواج للجميع - ولم ترفض الطبيعة ولم يغضب الإله كما كان يتوهم الواهمون!

الخميس، 9 يوليو 2020

لا ماهية الزمان ولا نهائية المكان!

0 تعليق



ليس مفهوم المكان بأقل جدلية من مفهوم الزمان! - الذرة مكان لنواتها، والمادة مكان لذراتها، والإنسان مكان لأحشائه، والأرض مكان للإنسان، والأرض بحاجة إلى مكان يحتويها، وكل مكان هو بحاجة إلى مكان ..، فهل الكون عبارة عن أماكن مختلفة الأحجام، كل منها مكان لمكان أصغر؟ - كمية الحديد التي تُستعمل لصنع سيارة يمتلكها أحدهم، يُعاد تدويرها لصنع سيارة جديدة يمتلكها حفيده الذي يمكن أن يكون قد صُنِع هو الآخر من ذرات جده ..، لكن لاشيء اسمه زمن الجَد يُعاد تدويره لمنحه للحفيد! - احتراق قطعة من الخشب هو حدث، واحتراق قطعة مماثلة من الورق هو حدث آخر .. الحدث الأول أكبر حجمًا من الحدث الثاني - من حيث دورة الاكتمال .. الفرق بين حجمي هذين الحدثين يمكن تسميته زمنًا واستعماله لقياس أحجام أحداث أخرى! لكن بالنسبة للكون الأزلي الأبدي اللا نهائي، لا قيمة لحجم هذين الحدثين ولا للفرق بينهما ولا معنى للزمان والمكان النسبيين اللذين يحدثان فيهما، فكل الاحتمالات ستحدث وتتكرر إلى الأبد .. ستوجد هاتان القطعتان دائمًا وستحترقان دائمًا .. - الساعة قياس مفتعل متكرر - نسبة إلى قياسات أخرى مفتعلة متكررة – اليوم والشهر، وهكذا يمكن افتعال فترات زمنية بأي أطوال وأي أسماء، لكن لا بد أن تكون منسوبة إلى فترات زمنية أخرى مفتعلة هي الأخرى- دون أن يتغير شيء في الكون .. - المكان الأكبر الذي يحتوي كل الأماكن النسبية هو الما لا نهاية في كل الاتجاهات، والزمن الأكبر الذي يحتوي كل الفترات الزمنية النسبية المفتعلة هو المالا بداية والما لا نهاية – اللا خلف واللا أمام – اللا ماضي واللا مستقبل- أي اللا سريان – فقط مراوحة في المكان! - ذاكرة الإنسان تُسجِّل الأحداث بالترتيب كأمر طبيعي، لكن هذه الذاكرة وهذا الترتيب أوهما الإنسان بوجود شريط خلفه اسمه التاريخ، والتاريخ أوهم الإنسان بوجود شيء يسري خارجه اسمه الزمن، بينما هي مجرد تغيرات مادية متكررة في ذات المكان، وما ينقضي منها لا يعود له أثر ولا وجود ولا معنى خارج ذاكرة الإنسان ..، الأمر أشبه بأوراق أو مواد يتم ترتيبها لإنتاج شكل ما، ثم خلطها ثم إعادة ترتيبها لإنتاج شكل آخر أو إعادة ذات الشكل، ثم خلطها ثم .. وهكذا إلى الأبد، ولاشيء يبقى في الماضي خارج الذاكرة – لاشيء في الواقع الفعلي ..، هي ذات الذرات انتظمت فصنعت الأجداد ثم اختلطت وانتظمت مجددًا فصنعت الآباء ثم الأبناء فالأحفاد .. وهكذا، وقد يتم إنتاج كل الاحتمالات الممكنة، فلا يظهر بعد ذلك إنسان إلا مكرر ولا تظهر أشياء ولا مشاهد إلا مكررة!


 - لا نهائية المكان هي الحقيقة التي لا يمكن نفيها ولا يمكن تخيلها .. - من الطبيعي والمنطقي أن يكون تصور أو تخيل الما لا نهاية أمر غير ممكن، لأنها ستكون محدودة ولن تكون ما لا نهاية إذا أمكن تخيلها! - فكرة التوقيت على الأرض انبثقت من شروق الشمس وغروبها، وبتوقف حركة الشمس بالنسبة للأرض، تتوقف التواقيت، ولا يعود هناك معنى للوقت .. - فكرة الزمن انبثقت من الحياة والموت، وبخلود الإنسان تفقد فكرة الزمن معناها لدى الإنسان .. - الخلود متحقق بالنسبة للكون، لذلك نقول بأن فكرة الزمن لا معنى لها بالنسبة للكون! كون أزلي أبدي ولا نهائي، لا يوجد معنى للزمن فيه – لأنه لا تأثير لدورات الحيوات المتعاقبة المتكررة عليه .. - الوجود معناه التغيرات التي تطرأ على محتويات الكون، دون أن تؤثر على الكون! - حياة إنسان ثم موته، ونشوء نجم ثم موته وغيرها، هي بالنسبة إلى الكون مثل تجدد الخلايا في جسم إنسان خالد .. لا معنى لموت الخلايا وحياتها بالنسبة إلى إنسان جسمه كان بلا بداية وباقٍ بلا نهاية .. وهذا هو واقع الحال بالنسبة للكون! - تجدد النجوم والمجرات في الكون، وتجدد الخلايا في جسم الإنسان، مجرد كيفيات وجود وآليات حياة .. - من ليس مقيدًا بمواعيد لا يحتاج لامتلاك ساعة، ذلك لأنه يتواجد مباشرة في الكون الأبدي الأزلي - خارج منظومة التوقيتات البشرية النسبية المفتعلة! - انعدام الخوف من الموت يُلغي معنى الزمن ويمسح صورته الافتراضية في أذهاننا! - تصورنا للحياة والموت على أنهما حالات تغير مستمر إلى الأبد، يُلغي معنى الزمن! - إذا افترضنا أن الإنسان خالدٌ – لا بداية ولا نهاية لحياته ..، وظهرت نظريتان للزمن: نظرية تقول بوجود الزمن، ونظرية تقول بعدم وجود الزمن .. الذين يَنظرون إلى تجدد الخلايا داخل جسم الإنسان (موت خلايا ونشوء خلايا جديدة)، يقولون بوجود شيء اسمه الزمن - كوصف لحالة تجدد الخلايا – تلك الأحداث المادية المتكررة – تلك الحالة المستمرة والضرورية لحياة الإنسان .. والذين يَنظرون إلى الإنسان ككيان عام خالد، يقولون بعدم وجود شيء اسمه الزمن – بالنظر إلى ديمومة وجود الإنسان ككيان كامل ..، فماذا نقول نحن في هذه الحال .. يوجد شيء اسمه زمن أم لا يوجد؟ في الحقيقة، تجدد الخلايا بحد ذاته ليس زمنًا، وليس محكومًا بزمن، بل هو جزء من كينونة الإنسان .. - عمليات الهدم والبناء في الكون متواصلة، وهي ليست موتًا وحياة، بل هي نبض الكون .. - دورة حياة نجم ودورة حياة كائن، هي مجرد نبضات في جسد كون خالد .. الخلية التي تختفي تظهر مكانها خلية بذات المواصفات وتؤدي ذات الوظيفة .. أو هي في الحقيقة ذات الخلية تعود من جديد ..، أو هو مجرد نبض متكرر ..، وذات الأمر ينطبق على النجم الذي تنتهي دورة حياته، فهو يعود من جديد ليؤدي ذات الوظيفة، أو يتحول إلى شكل آخر من أشكال الوجود ليؤدي وظيفة أخرى في جسد كون أزلي .. - تغيرات المادة والطاقة ليست سوى نبضات كونية .. - الكون عبارة عن مفاعل كبير (فرن)، تتفاعل داخله المادة والطاقة في سلسلة متواصلة متكررة منذ الأزل وإلى الأبد .. - لو قلنا أن كل ذرات المادة والطاقة في الكون، هي مشتركة الآن في عملية تفاعل واحدة، وأن هذا هو الحال منذ الأزل وإلى الأبد، فلن يكون هناك مجال ولا معنى لمفهوم الزمن ..، والحقيقة أن هذا هو الحاصل! - تجزئة المشهد تخلق وهم الزمن! - ما هو الزمن عند البشر؟ الزمن وهمٌ أنتج كل الأحلام، وحلمٌ أنتج كل الأوهام! من يتخلص من خدعة الزمن يتخلص من الأوهام لكنه يفقد معها الأحلام، حيث سيُمكنه تصور كيف أن الشيء يتحول إلى شيء آخر أو يعود هو ذاته وهكذا إلى ما لا نهاية .. ارتباط مفهوم الزمن بالأحلام هو ما جعل البحث فيه دائمًا موجه باتجاه محاولة إثبات وجوده لا صوب حقيقته وحسب .. الزمن هو الوجه الآخر لحلم الخلود، وحلم الخلود ليس حلمًا بالخلود الحقيقي المطلق ..، فالخلود المطلق متحقق وجوبًا للذرات أو لمكوناتها ..، لكن حلم الخلود بالمفهوم الزمني البشري هو حلم ثبات حالة دون غيرها – توقف حدث دون غيره .. هو حلم عدم التغير لا عدم الفناء! الزمن وهمٌ صنعه الإنسان ووقع في غرامه فأصبح يسعى لتحقيقه، لكن المنطق ظل يرفض الخضوع لمفهوم الزمن – باعتبار أن المنطق نقيض للوهم .. القول بوجود إله هو الذي خلق كل شيء، هو قول يُثبت حقيقة اللا بداية واللا نهاية للزمن – أي اللا معنى للزمن – أي اللا ماهية للزمن، ويُثبت كذلك لا نهائية المكان، فلا يمكن أن يكون وجود الإله إلا أزليًا، وما ينبثق عن أزلي فهو أزلي، ولا يمكن أن يكون الإله مسجونًا في مكان محدود – فلا بد من لا نهائية المكان! مفهوم الزمن هو أقرب تصور أو أجمل صورة شاعرية وجدها خيال الإنسان لوصف التغير المادي المستمر المحكوم فقط بالمادة والطاقة والمكان النسبي! - يتساءل البعض: إذا كان الزمن لا نهائيًا جهة البداية، فكيف وصلنا نحن إلى هنا؟ وهذا في الحقيقة ليس سؤالًا منطقيًا فحسب، بل هو جواب يدحض فكرة الزمن! الحقيقة أنه لا بداية ولا نهاية – لا خلف ولا أمام فيما يتعلق بالزمان كما المكان، هو فقط وجود مادي ذو تغير مستمر متكرر يراوح مكانه، ينتج عنه من الاحتمالات ما يستحيل حصرها في فضاء لا حدود له!

الأربعاء، 8 أبريل 2020

الموت والحياة وما لا ينبغي لـ(إله)!

0 تعليق


هل الحياة طاقةٌ لنا نستهلكها، أم نحن وقودٌ لها تستهلكنا؟ أَيُّنا الذي يعيش الآخر أو يقتات عليه؟ هل نحن الذين نعيش الحياة – أي أننا نُمارس عملية الحياة؟ أم إن الحياة هي التي تُمارس وجودها باستهلاكها لنا؟ هل كُنَّا سنعرف معنى الموت ونخافه، لولا الحياة؟ هل الصواب أن نقول: إن الوقود يَستعمِلُ النارَ ليُمارس عملية احتراقه؟ أم نقول: إن النار تعيش بِحَرقِها للوقود؟ وهل الكائنات الحَيَّة بالنسبة للحياة، سِوى الوقود بالنسبة للنار! لعل الحقيقة التي لا يُريد الكثيرون سَماعها، هي أن الحياة البشرية في جوهرها ليست سِوى قيمة افتراضية، يحملها خيال شارد، تُطارده أفكار تائهة، بين فضاءات معدومة المعالم مجهولة الاتجاهات والنهايات! إنه وبالرُغم من البشاعة التاريخية التي باتت تُطوِّق مفهوم الانتحار في الثقافات البشرية، إلا أن الانتحار في جوهره، هو قرار عقلاني منطقي، يؤدي إلى تجاوز مراحل معلومة، والقفز مباشرة إلى النتيجة المحتومة! لعل العاطفة والوهم، هي سحر الحياة ووسيلتها الناجحة، لإقناع ضحاياها بالاستمرار في الاحتراق حتى آخر رمق! (العاطفة = الضعف)، (الأمل = الوهم)!

 الإنسان هو الذي صنع الإبرة والكبيوتر والطائرة، لكنه لا يستطيع فعل ما تفعله هذه المصنوعات! فهل خلق الإله الكائنات الحية، لكي يُمارِس بها عملية الموت، على اعتبار أنه لا يستطيع ممارسة الموت بنفسه (لا يستطيع أن يموت)؟ يُراد للإنسان أن يعتقد بأن الحياة نعمة، وأن من واجبه شكرها، والامتنان لمن منحه هذه النعمة! لكن هل يصح احتساب الحياة نعمة على كل البشر، وهي التي ينعم بها عمليًا 10% منهم، على حساب 90% ؟ حيث إن استحقاقات البقاء، قد أوصلت البشر إلى الرضوخ والقبول بهذه المعادلة التفضيلية القبيحة الظالمة..، فلا وجه للمقارنة بين المدير وعامل النظافة لديه، أو بين الرئيس وسائقه وحارسه، وبين أرباب العمل والعاطلين عن العمل، في حين أن وجود هذه العناصر ضروري في معادلة البقاء البشري! أم هل يمكن أن يكون قبول الإنسان بالحياة وفق هذه المعادلة، هو خطؤه القاتل، حيث يُعدُّ مخالفة صريحة لأمر إلهي، وذلك بتنازل الإنسان عن كرامة يشعر بها – ربما يكون قد أوجبها له خالقه؟ أم إن الحياة هي معاناة، وأنه يوجد خالق سيُكافئ الإنسان على قبوله بها؟ وهل – بهذا المعنى – تكون معاناة الإنسان في الدنيا شرطًا من شروط استحقاق مكافأة إلهية، أو ربما يكون حصول المعاناة هو السر والغاية والمقياس والأساس في الوجود البشري؟ لكن أليست النظرة البدائية والمقياس البشري ظاهرين في هذه المعادلة؟ لماذا علينا أن نفترض أو نُصدِّق بأن الإله بحاجة لمعاناتنا لكي يُكافئنا؟ لماذا لا نتساءل؟ لماذا علينا أن نعتقد بأن الإله ظالم إلى درجة أنه يُعاقِب على السؤال أو على الجهل؟ هل عجزُنا عن تبرير وجودنا، يُبرر لنا تجاهل المنطق والمعقول؟ ماذا نقول عن الأب الملياردير الذي لا يمنح أبناءه المال إلا بعد تعذيبهم؟ أليس الصواب أن نقول إننا لا نعرف الحقيقة، بدل أن نفترض وجود إله خلف معاناتنا، ونقول عنه ما لا نستطيع إثباته وترفضه عقولنا وفطرتنا؟ هل يمكن أن تكون الحياة عبارة عن كَمٍّ من الأخطاء وحِزمةٍ من المعاصي، فهي عبارة عن نِتاج طبيعي وحتمي للخطيئة الكُبرى التي يستهجنها الإنسان ويستقبحها، ثم يُمارسها ليلتقي عندها العاقل بغيرالعاقل..، وأنه كان على الإنسان أن يرفضها احترامًا للعقل، وإثباتًا لتميُّزه بالوعي والحياء عن سواه! وبالتالي يكون القبول بالحياة هو الخطيئة التي يدفع جُل البشر فاتورتها اليوم بوضوح كبير، وأنهم في الحقيقة جميعًا يحملون لعنتها، وأن قدرة الأقوياء منهم أو شواذ القاعدة على مقاومتها بدرجة محدودة، لا تنفي حقيقة وقوع اللعنة بهم، وإن بدا وكأن بعض البشر يحملون وزرها دون غيرهم! وأن هذا هو السؤال وذاك هو الامتحان! وبذلك فإن المنتحرين سيُكافئون على رفضهم للخطيئة، ويُعاقب الآخرون على قبولهم بها! وأن تعاسة الضُعفاء وبؤس الفقراء اليوم هو عقاب لهم على إصرارهم على ارتكاب الخطيئة والاستمرار بها – رُغم عدم امتلاكهم لمقوماتها-، وعلى رفضهم للعِفة والبراءة رُغم حَمْلِهم لمبرراتها! وأن دليل ذلك هو عدم مقدرة البشر بمختلف مستوياتهم ومعتقداتهم، على تفسير أو تبرير المعاناة والمآسي والآلام التي تحدث في مملكة يُفترض أنها إلهية، وذلك في ظل إيمان الجميع واتفاقهم على وجوب عدل الإله، وعلى أنه ليس بحاجة لآلام المخلوقات كي يُثبت قدرته وقوته وعظمته لذاته! 

 هل توجد ساحة يتفوق فيها المخلوق على الخالق؟ إن الإنسان يصنع الأدوات والمعدات التي تفعل ما لا يستطيع هو فعله بدونها! فهل تكون المخلوقات هي أدوات ومعدات الخالق، التي تفعل أو يفعل هو بواسطتها ما لا يُمكنه فِعله بدونها؟ ويكون ذلك هو سبب وجود المخلوقات؟ لا شك أن مثل هذا الطرح مرفوض حتى من قبيل المُزاح أو الخيال؛ وسواء كان الطرح سؤالاً أو وجهة نظر، فهو مرفوضٌ لدى المؤمنين بإله الأديان أو إله البشر! مرفوضٌ لدى أولئك الذين يُجاهرون بمعاداتهم للعقل والفكر والفلسفة، رُغم أنهم يعتقدون بأنها مُعطيات يهبها الإله الذي يؤمنون به، لمن يشاء من خلقه! لكن جَرَت العادة أن يرفض هؤلاء كل ما لا يفقهون، مع أنهم هم ذاتهم الذين يأمرون البُسطاء بالطاعة العمياء– في أمورٍ لا يفقهها البُسطاء! إنهم يُجاهرون بعدائهم للعقل والفكر والفلسفة، لأنها ساحاتٌ يمكن أن تظهر فيها الحقيقة بأكثر من صورة! وهُم لا يُظهرون معاداتهم للعِلم صراحةً – رُغم أنها مؤكدة -، حيث إن العِلم يُخالف معتقداتهم ويدحض مزاعمهم ويكشف أوهامهم..، وذلك لأن الحقيقة في ساحة العِلم ليست لها إلا صورة واحدة لا يمكن نكرانها أو حجبها ولا تجاهلها! ويتجاهلون أو يجهلون أن منتجات العِلم ليست سوى النِتاج العملي المادي لطاقات العقل والفكر والفلسفة، التي يرفضونها ويعترفون بصحة نتائجها – على مضض! هذا الطرح مرفوضٌ لدى أولئك الذين يضعون أنفسهم في مقام الدفاع عن الإله ضد مخلوقاته، أي ضد مشيئته، وهُم في ذات الوقت يدعونه طالبين منه النصر والتوفيق في حربهم الأبدية ضد إرادته، وذلك في مشهدٍ قوامه المفارقة التي لا يمكن فهمها أو تفسيرها إلا في سياق بحث العاجزين عن دور معدوم! هل هنالك ساحة يتفوق فيها المخلوق على الخالق وجوبًا؟ لعل الرافضين يستخدمون العقل والمنطق في رفضهم لهذا الطرح، وهم الذين يرفضون الاحتكام إلى العقل والمنطق، ويحتكمون إلى الهوى والخيال، بما يُحقق اعتقاداتهم المُسبقة، في ساحات أُخرى! لكن الأمر قد لا يكون مُزاحًا..، عندما يكون الحديث عن ساحة الموت! فلا أحد يمكنه القول بأن إلهًا يمكن أن يخوض تجربة الموت عمليًا، وهي التجربة التي تَمُرُّ بها المخلوقات! فهل نكون مخطئين حين نقول بأن المخلوق بموته يفعل ما لا يستطيع فعله إله؟ فأيٌّ يكن كُنه وشكل وعظمة وغموض السر الذي أوجد الحياة (الخالق)، فإنه لا يمكن له أن يكون قد مَرَّ بتجربة الموت! ولعل هذا هو السبب في إيجاد الحياة والأحياء! فإذا كان الإله أو الخالق هو عبارة عن حياة أزلية لم تعرف الموت ولا يمكن أن تخوض تجربته، فإن سبيله إلى إدراك كُنه الموت، يكون ببَثَّ الحياة في غيره، ومن ثَمَّ تجربة الموت خارج ذاته! إن الإنسان يمكنه أن يتصوَّر ويتخيَّل طبيعة الموت، لكن الأمر يبقى في إطار التصور والخيال، والذي قد يقترب وقد يتطابق مع حقيقة الموت، وقد يكون بعيدًا عن الحقيقة كل البُعد! لكن، وبغض النظر عن طبيعة وحقيقة الموت البشري الثقافي الاجتماعي التقليدي، فإن الموت الذي نقصده هنا هو الموت بمعنى زوال الذات من الوجود بتفككها إلى مكوناتها الأساسية، الأمر الذي يحول دون استعادة الذات لوجودها؛ وهو الموت الذي لا يمكن أن تعود بعده الحياة للميِّت إلا بتدخل خارجي ويكون حينها مخلوقًا جديدًا – صورة وليست أصلًا– وإن تطابقت مواصفاته مع الأصل..، وهو الأمر الذي يمكن أن يفعله الإنسان مع أدواته ومعداته، ويمكن أن يفعله الخالق مع مخلوقاته، ولكن لا يمكن أن يفعله أيٌّ منهما مع ذاته! فهل تكون الحياة ساحة يُمارس فيها الخالق تجربة الموت! ويكون بالتالي الموت هو السبب الذي من أجله وُجِدت الحياة، ليتفوَّق المنتحرون مرة أخرى بأنهم لم يتهربوا – كغيرهم – من التجربة التي خُلِقوا لأجلها! 

 حقيقة الوهم والخيال وشُبهة التوق الفطري للمعرفة.. التوق الفطري للمعرفة لدى الإنسان، هو حقيقة، لكن استعمالها لوصف وتبرير محاولات الإنسان التكهُّن بما لا يعلمه استنادًا لما يعلمه، هي مُغالطة تُحيل حقيقته إلى شُبهة! فالفرق شاسع بين المعرفة والوهم والخيال. فإذا كان الخيال هو أن يتصور الإنسان وجود ما لا وجود له، انطلاقًا من أو بناءً على ما هو موجود! فقد يكون الخيال حدسًا، وقد يكون خطوة أولى على طريق المعرفة؛ لكن الوقوف عند خطوة الخيال، والبناء عليها قبل بلوغ المعرفة، هو ما يُنتج الوهم..، والوهم هو الانحراف عن طريق المعرفة! فالخيال ساحة وميدان للتجارب الفكرية، هو ساحة حقيقية واقعية، تُمكَّن من يمتلكها من محاكاة المستقبل وما قد يكون قبل أن يكون! لكن الخيال ليس ساحة مادية، والوهم يحصل هنا، حيث لا يُفرِّق البعض بين الساحة الفكرية والساحة المادية! الوهم هو اعتماد نتائج التجارب الخيالية، وتطبيقها على الساحة المادية، وفرضها كواقع – قبل تحققها بالفعل! أما المعرفة فهي ما يُمكن إثباته عن الأشياء دون لبس. ولذلك تُنتِج المعرفة المسئولية ذاتيًا لدى العارفين! بينما الوهم، فهو كالنظرُ إلى خارج الحجرة من خلال نافذة مغلقة، ولذلك فإن المسئولية المترتبة على نتائج الوهم، لا تكون ذاتية، ولا يشعر بها الأشخاص الطبيعيون، بل يقتصر الشعور والالتزام بها على الضعفاء الذين يُعانون من الرُهاب الناجم عن أو المُصاحب لعقدة الجهل المفترض أو الذنب المختلق أو المسئولية المحتملة! 

 الإنسان بين المسئولية والترف المعرفي وعقدة الجهل المفترض.. تقول الفلسفة والمنطق والفكر والعِلم: إنه من البديهي ألا يتردد الإنسان في إثبات وجود كل ما تُدركه حواسه، من أشياء موجودة بالفعل داخل حجرة – حيث يتواجد الإنسان! كما أنه من الطبيعي أن يُدرك الإنسان من خلال نافذة مفتوحة وجود أشياء خارج الحُجرة! لكن، لا يمكن للإنسان أن يُدرك ما هو خارج الحُجرة عندما لا توجد نافذة يُطِلُّ منها، أو عندما تكون النافذة مُغلقة! فإذا كان إنشاء نافذة أو فَتْحُ المُغلقة، أمرًا خارجًا عن إرادة الإنسان و يفوق طاقته، صار وجود الأشياء خارج الحُجرة كعدم وجودها بالنسبة للإنسان! وصار الحديث عن علاقته بها أو مسئوليته عنها، أو خوفه منها أو سعادته بها، صارت كلها ضروبًا من التكهن والفرضيات والترف المعرفي، والتي تفتح أبواب التَوَهُّم، ولا يمكن أن تخلق طمأنينة ولا أرقًا لدى العاقل، ولا تترتب عنها مسئولية – إلا بقدر ما تستهلكه من جُهدٍ وزمن! كذلك هو الحال مع إدراك الإنسان لما هو موجود بالفعل داخل الحُجرة من أشياء لا شك في وجودها، فإن ذلك لا يُلزمه الخوض والبحث في تفاصيلها، إلا بقدر ما يحتاجه من معرفةٍ بها تُمَكِّنه من التعامل معها والاستفادة منها واجتناب سلبياتها، وبهذا المعنى يكون ربط الإنسان لما يعلمه بما لا يعلمه، هو من باب التعبير عن وجود عقدة الجهل المفترض

الأربعاء، 11 مارس 2020

الرسالات (السماوية) والعقل ومعضلة سؤال الأزل! (3)

0 تعليق


تساؤلات: - خالق ومخلوق=  سيّد وعبد، أم مالك ومملوك؟ وما الفرق؟ - ما خصوصية البشر! ولماذا هم هنا! وماذا بعد الموت؟ - هل صحيح أن الرسالات(السماوية)، قد أوجدت معتقدات، أفرغت الحياة من مضمونها؟ - المُعتَقَدُ شأنٌ شخصي، فلماذا يتم التعرُّض لمعتقدات الآخرين بالتحليل، وبالنقد أحيانًا؟ في الحقيقة المعتقدات الدينية مثل الأعراق والأنساب البشرية، ليس التعرض لها وانتقادها غاية ولا هواية بشرية .. لذلك ليس كل المعتقدات يتم التوقف عندها والتعرض لها بالتحليل أو بالنقد ..، إنما فقط تلك المعتقدات التي لم تَعُد شأنًا شخصيًا لمعتنقيها، بل أضحت وسيلة لتجنيد العابثين منهم للنيل من الآخرين ..، وحدها التي تُصبح وينبغي أن تكون وتظل دائمًا عُرضةً للتشريح والتحليل والنقد – بل والمهاجمة، حتى يتراجع أتباعها عن غِيهم ويفيقوا من غفلتهم، وتُصبح معتقداتهم شأنهم الخاص الذي لا ينظرون إلى غيرهم من خلاله! والحقيقة الأخرى، هي أن الإنسان مُكرهٌ على الإيمان والاعتقاد وفق الرسالات (السماوية)، سواء كان إكراهًا جسديًا مباشرًا بحكم الشرائع والأحكام الجزائية والرضوخ لثقافة الجماعة، أو كان إكراهًا ضمنيًا بسبب الرُعب النفسي الذي زُرِعَ داخله عبر التهديد والتلقين بالتربية والتعليم ..، فهو مُكرهٌ في جميع الأحوال، ولا فضل للمكره فيما يفعل مهما كان حجم ونوع ما يفعله ومهما كانت درجة إخلاصه فيه! إنه عندما يسود الاعتقاد بصحة نظرية القضاء والقدر، والتي مفادها أن كل ما يُقال وما يُفعل وما يترتب عليها من نتائج، ما هو إلا تحصيل حاصل! وعندما يتم إقناع العاقل – وبالأصح إكراهه- على الاعتقاد بأنه عبدٌ يؤدي وظيفة لا يحتاجها سيِّده! حينها لا تكون للحياة قيمة ولا يكون للوجود معنىً ..، ويكون من الحُمق والسذاجة انتظار جزاء بحجم الجَنَّةِ الموصوفة، مقابل أفعالٍ ونتائج ما كان يمكن أن يحصل سواها، وهي التي لا قيمة لها ولا لنقيضها قياسًا لمقام الإله – بحسب الرسالات (السماوية)!

 - التشريعات المنبثقة عن الرسالات (السماوية)، هي قيود تاريخية صَنَعت إطارًا شكليًا وتماسكًا افتراضيًا للمجتمع البشري، لتُخفي اختلافات حقيقية بين الأفراد، وصنعت صراعات فكرية لتقمع تساؤلات عفوية صادقة داخل كل فرد! لكي يؤمن الإنسان ويعتقد بوجود ما لا يُدركه، اعتقاداً يستوجب منه فعل ما يُغاير ميوله ويُناقض فطرته ويرفضه عقله وما قد يفوق طاقته، فإن الأمر يتطلب سيطرة تامة للعاطفة على العقل – من أجل تهيئة المناخ لحصول قَدَرٍ كافٍ مِن التوهُّم لدى الإنسان، وذلك ما لا يتأتى إلا بوجود قدر كافٍ من الضعف والسذاجة، وهي أمور لا يستطيع العاقل افتعالها إذا لم يجدها متوفرة وفاعلة لديه بالطبيعة، في حين أنَّ بإمكانه التخلُّص منها إن وجدها! فالواقع أنه لا يكون الإيمان إلا ضعفاً وتوهُّماً، ولا يكون الإلحاد إلا اتهاماً! إذ لو استعمل كل مؤمن عقله لإثبات صحة وصواب وواقعية اعتقاده، لما بقي على الأرض عاقلٌ واحدٌ مؤمنًا! ولو ثبت وجود الإله ومُراده من البشر، كما ثبت دوران الكواكب وحدوث الخسوف والكسوف، لما وُجِدَ على الأرض عاقلٌ واحدٌ مُلحدًا! فلو كانت الحقيقة ظاهرة ومُبرهنة لما اختلف حولها عاقلان! وإذا كان الأمر بحثٌ عن الحقيقة فليبحث كُلٌ بطريقته وقدراته! أمَّا أن يُكذِّبَكَ إنسانٌ مثلك بسبب ضعف حُجَّتك، فتَحسِبُ عليه تكذيبُه لك بمثابة تكذيبٍ مباشرٍ لإلهٍ أنت تؤمن به دونه، فذاك هو الجهل والوهم والتجهيل والإيهام! إن القول بوجود قوة خفية ذكية – وليُسَمِّها كلٌّ بحسب اعتقاده -، تقف خلف الوجود، وأن لها غاية من إيجاده، هو افتراضٌ لا معنى ولا حاجة لإنكاره، كما أنه لا مجال لإثباته! ليظل الاختلاف المؤكد والدائم والمنطقي، هو حول وجود الإله الشخصي أو الشخصاني، ذي المواصفات البشرية- الذي تدعو الأديان لعبادته وفق طقوس شكلية لا تفسير لها! وبنظرة متريثة محايدة للمشهد البشري في الساحة الكونية، يُمكننا ملاحظة أن: 1- الأديان تُمثِّل إجابة بدائية عن السؤال الأزلي..، فلا يمكن إثباتها وبذات القدر لا يمكن دحضها -، لأنها لا تعتمد المنطق بل تعتمد على ثقة بشر ببشر، ولا تحمل آيةً يمكن فحصها من قِبل الخصوم أو المتسائلين..، أما الآيات الكونية المُشَاهَدَة والتي يسوقها المؤمنون للتدليل على وجود الإله، فهي إن دلَّلت بصورة أو بأخرى على وجوده، فهي لا تُدلِّل على مُرادِه من البشر- وهو الأهم بالنسبة للبشر! 2- العِلمُ الباحث في وجود الإله، يُمثِّل إجابة غبية عبثية عن ذات السؤال، ذلك أن الباحث يَفترض قدرة المصنوع على إدراك صانعه، وهي ما أثبت العلم والعقل عبثيتها – كما في حال الإنسان مع ما يصنعه..، حيث لا يمكن للمصنوع إدراك صانعه إلا إذا شاء الصانع ذلك، وحينها لا يكون للمصنوع فضلٌ ولا يُنتظر منه جُهدٌ لاكتشاف صانعه..، فإذا افترضنا وجوب أن يبذل المخلوق جُهداً لاكتشاف خالقه، إذن فقد افترضنا وجود نوع من التنافس بينهما وهو ما لا يمكن أن يكون، وإن كان فيجب أن تكون النتيجة فشل المخلوق، أو بلوغه نتيجة مُبرمجة مُسبقاً مما يُفقد الموضوع جديته وأهميته! 3- الفكر الحُر يُمثِّل الآلية المتاحة والمُتبقية للبشر، والتي يُمكِن أن تكون مؤهلة للبحث في هذا المجال أو لبلوغ الإجابة، وليس معنى ذلك أن الفكر الحر قد يصل إلى إجابة مُحددة يتفق حولها الجميع، بل لأنه لا يبحث عن نتيجة موحَّدة تُلزِمُ الجميع..، ذلك لأن الفكر الحر يؤمن بالاختلافات الطبيعية بين البشر، ويحترم تلك الاختلافات! إن وجود الإله من عدمه ليس من أولويات الفكر الحر، فهذا الأمر وبرغم عظمته وأهميته إلا أنه يُمكن اعتباره تَرَفِياً قياساً إلى مدى وجود مسئولية للإنسان مُترتبة على وجوده هو وحياته..، إذ لو ثبت عدم وجود مسئولية للإنسان تجاه كائنٍ لا يعرفه، لأصبحت معرفته لذلك الكائن أمراً ثانوياً ترفياً! ومن هنا فإن السؤال الأساسي من وجهة نظر الفكر الحر هو ليس عن وجود الإله أو عن كيفية نشوء الوجود، بل السؤال عن المسئولية التي يُمكن أن تكون مُلقاة على عاتق الإنسان بسبب وعيه وإدراكه لسلوكه وممارساته..، وإذا أردنا أن نختصر رؤية الفكر الحر لعلاقة المخلوق بالخالق، فإنه يكفينا أن نُذكِّر فقط بحقيقةٍ منطقيةٍ بارزةٍ، مفادها أن الاعتقاد بوجود الإله ينفي إمكانية إدراكه، وعدم وجوده ينفي إمكانية إثبات عدميته! وبالمحصلة سواء اتفق أتباع الأديان والأكاديميون مع الفكر الحر أو اختلفوا معه، فإن عاقلاً لا يمكنه أن يقبل بتشبيه القوة الكونية المطلقة بطُغاةِ البشر الأسطوريين الهمجيين العابثين بالمنطق والقِيم، الذين يستعبدون الناس، ويتلذذون بضعفهم وخضوعهم وكذبهم..، حيث يُعذّبونهم ويُرغمونهم على وصف عذابهم بأنه حقٌّ من حقوق ذلك المَلِك أو ذلك الفرعون، ليستمتعوا بمشاهدة العاقل وهو في حضيض الانحطاط الأخلاقي، حين يصف عوَّزه وضعفه وذُلَّه والظلم الواقع عليه، بأنها قمة العدل والإنصاف – تزلفاً وخوفاً من أولئك الجبابرة الطُغاة-، مُقابل سماحهم له بمواصلة حياة الخِزي والخنوع والمهانة! 

 - كيف نشأ الأقوياء والضعفاء في المجتمع البشري- باختصار .. إن الفروق المعنوية الخفية بين البشر، يمكن اختصارها في فارق مادي واحد ظاهر بين الحيوانات، وهو فارق القوة! حيث إن النتيجة ذاتها، فسواء قوة بدنية مادية وما يُقابلها من ضعف، أو قوة معنوية كالذكاء وما يُقابلها من ضعف من جنسها كالسذاجة والغباء! تَنبّه الحُذاق والخبثاء من البشر مبكراً إلى العجز الطبيعي لديهم، وأدركوا خطورة الحرية الفردية على أطماعهم – لا على وجودهم! فابتدعوا خدعة الروح الجماعية، وروجوا لوجود قوة روحية خارقة ومكانة سامية تنشأ ويحصل عليها الفرد بقدر تضحيته من أجل الجماعة..؛ وشحذوا بذلك هِمم السُـذّج، وانطلت الحيلة عليهم، فأصبح الساذج-الذي ليس لديه ما يخسره .. يموت متطوعاً ويتألم راضياً، من أجل أفرادٍ لا يُضحون لأن لديهم ما يخسرون، وهم الأجدر بالتضحية والأحوج لها، وهم الذين لا يحبون من الساذج إلا سذاجته، ولا يعرفون عنه سوى تضحيته الجميلة من أجلهم..، حيث يحصل أن يموت الساذج جوعاً ويشبع ألماً وسط جماعته عندما تنتفي الحاجة لسذاجته! وتطور الأمر، بإضافة الحُذاق لعنصر الدين والقانون التنظيمي الاجتماعي، إلى معادلة الروح الجماعية، وذلك لسد العجز المتنامي في أعداد السُذج، وتعويض النقص بالأغبياء، فصار الأغبياء يُضحون لتحقيق أوهام الأذكياء، فنشأت القبيلة والطائفة، وأضحى الفرد فيهما يبغض ويُحب أفراداً لا يعرفهم – تلبية لرغبة ومشيئة أفرادٍ آخرين سلبوه فرديته، وأضحى يُبرر خضوعه وعبوديته وضعفه بقدسية الجماعة!

 . - الطبيعة توازن بين مكوناتها – باختصار .. أوجدت الطبيعة لدى الإنسان نقاط ضعف لم تضعها في سواه من المخلوقات، أهمها القابلية للوهم والرضوخ للتهديد، والشعور بالألم والرهبة منه قبل حدوثه، وإدراك الخوف..، مما أوجد لديه حاجة ماسة دائمة للشعور بالأمان! لكن الطبيعة وبحكم قانون التوازن ومعادلة الاستقرار التي تحكم العلاقة بين مكوناتها، فإنها بالمقابل قد منحت الإنسان نافذة لتصريف الخوف والألم لم تمنحها لسواه! حيث منحته الوعي بحتمية الموت مما يُقلل من قيمة الحياة في نظره، ومنحته القدرة على مغادرة الحياة! فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي بإمكانه الانتحار متى شاء، وذلك لدرء الألم الذي ليس بوسعه احتماله أو حتى انتظار وقوعه!

 - خالقٌ ومخلوق = سيِّدٌ وعبد، أَمْ مالكٌ ومملوك؟ لا شك أنَّ الفرق شاسعٌ بما لا يدع مجالاً للمقارنة بين أن نستعبد أحداً وبين أن نمتلك شيئاً! فهل يُعتبر الفرد البشري أحداً أم شيئاً – بالنسبة لإله؟ هل البشر إلى الإله هُم كأحدهم إلى الآخر، أم هُم بالنسبة له كالأشياء بالنسبة لهم؟ هل توقفنا ولو قليلاً عند الفرق الهائل بين الاستعباد والامتلاك..، لندرك الممكن من غير الممكن في علاقة البشر بآلهتهم المُفترضة، ولنتصور هل حقاً أن البشر يمكن أن يكونوا عبيداً لإلهٍ حقيقي وليسوا مُلكاً له؟ إنه لا يُوصف بالعبدِ إلا مَنْ كان بنو جنسه أحراراً، فكان هو بالأصل حُراً، ولا تزال إمكانية تحرره قائمة، وإلا صار مُلكاً وليس عبداً- صار شيئًا وليس وعيًا..، فهل تتوفر في البشر مواصفات العبيد؟ وقياساً إلى مَنْ أو إلى ماذا، يكون البشر عبيداً؟ هل يوجد في الوجود أحرار، كي يكون البشر عبيداً قياساً لهم؟ - الحرية قياساً إلى العلاقة بالإله! أم إنَّ كل الوجود هو مُلكٌ للإله الذي تتحدث عنه الأديان – على افتراض أنها تتحدث عن ذات الإله وليس عن أكثر من إله! والاستعباد لا يكون إلا بين أبناء الجنس الواحد، وإلا لقُلنا عن الإنسانِ بأنه سيدٌ مُستعبِدٌ لما يمتلكه من حيوانات ونباتات وأدوات! وإذن لقُلنا عن تلك الممتلكات بأنها عبيدٌ لمالكها الإنسان..، وهذا ما لا يكون! ليست الحرية نقيض المُلكية، إذ لا يسعى ولا يطمح المملوك إلى الاستقلال عن مالكه – الأمر الذي يفعله العبد! فالمملوك إن لم يكن مُلكاً لهذا المالك، أصبح مُلكاً لمالكٍ غيره، ولا قيمة للملوك دون مالك! لا قيمة للذهب إلا وهو مُلكٌ لبشر! يحق للمالك التفاخر بما يملك، ولا يُدركُ المملوك كُنه مالكه! يستطيع العبدُ أن يؤذي سيده، ولذلك يُسرُّ السيدُ بالعبد المطيع الأمين! بينما لا يكون للمملوك أن يؤذي مالكه، إلا بجهلٍ أو عن عمدٍ من المالك! لا فضل للمالك على ممتلكاته، وفضل الممتلكات على مالكها لا يُحسب لها رغم أنه حقيقة، ذلك لأن الممتلكات لا تعمل بمعزلٍ عن مالكها، ولا تُدرِكُ سلبيات ولا إيجابيات نتائج أفعالها على المالك! العبودية نقيض الحُرية، والحرية أصلٌ والعبودية عَارِض! فهل الصواب أن نعتقد بوقوع البشر في دائرة المُلكية، أم في دائرة العبودية.. قياساً إلى القوة الإلهية؟ بصورة أو بأخرى يعتقد جُلُّ البشر بأنهم عبيدٌ لإلهٍ اختلفوا في وصفه، واتفقوا على وصف كل ما عداهم في الوجود بأنها مُلكٌ لذلك الإله أو لتلك الآلهة! إنه وبغض النظر عن المرجعية التي يستند لها كل قوم في اعتقادهم- وهي مرجعيات متعددة مختلفة..، إلا أن ما يمكن ملاحظته بسهولة، وربما ينبغي للبشر الوقوف عنده وربما إلى الأبد، هو الأتي: 1- افتقار وخلو كل المرجعيات تماماً من أي برهان حي أو آية صريحة، تؤكد صحة تلك المرجعيات وتُكسِبها المصداقية! 2- القاسم المشترك بين كل المرجعيات هو ذاته السبب الأساسي في اختلاف البشر..، وهو اعتماد كل الأقوام على صدقِ ما قاله وما نُقِل عن رجلٍ واحدٍ منهم لا شهودَ له، وليس اعتمادًا على آية صريحة يحملها لهم..، وحيث إن نسبة معينة من قابلية البشر للوهم والخطأ، لا بد وأن تكون موجودة لدى كل إنسان– مهما صغُرت تلك النسبة واختلفت من إنسان لآخر – إلا أنها تبقى موجودة، وهو ما يُعرف بامتناع العصمة عن البشر..، ولأن كل البشر يمتلكون ما يُمكِّنهم من طلب الدليل من بشرٍ مثلهم، لذلك وجب على البشر التحقُّق مما ينقله بعضهم بعضاً..، فلو أراد باعث الرسالة أن يُصدِّق البشر المُرسلين دونما فهم أو تحقق مما يحملون، لبعث رسالته للبشر مع غير البشر، ولكان البشر حينها معذورين بتصديق ما لا يفهمون – رُبما! أما أن يُزوِّدُهم بجهازٍ كاشفٍ للوهم والخطأ، قادرٍ على طلب الدليل..، فيُطفئون أجهزتهم عمداً لكي يتوهموا، فذلك ما يستحقون عليه العِقاب حقَّا! وربما كان السؤال والامتحان ها هنا! 3- القول بأن الإله يختبر البشر بمدى تصديقهم لبعضهم، ثم إنه بعد ذلك سيُحاسبهم بنفسه على أنهم قد كذَّبوه هو! هو قولٌ يحمل كمًّا عظيمًا من المغالطات، بل ويصل حد الطعن في عدل الإله! 

 هنالك شروط أساسية مبدئية بديهية لا بُدَّ أن تتحقق في صُلب العلاقة بين البشر والإله، لكي يتوفر حد أدنى للمقارنة بينهم – لكي يُصبح استعباد الإله للبشر أمراً ممكن التحقق عملياً! نحن نعلم أن السيادة قوامها القوة أو القدرة، وأن العبودية سببها الضعف..، ونعلم أن السيادة والعبودية إنما تكون وتُقاس بحسب الفارق بين قوة القوي وضعف الضعيف..، فإذا بلغت قوة القوي حد الإطلاق، فذلك يعني أن ضعف الضعيف قد بلغ حد الإطلاق في الاتجاه الآخر..، وعندها تنتفي شروط السيادة والعبودية وتتحول العلاقة إلى مالكٍ ومملوك! في معادلة الإله والبشر، نحن نعلم حقيقة قوة وضعف أحد أطرافها.. وهو البشر، ولا نعلم قوة الطرف الآخر .. أي الإله! لكننا وبافتراضنا لنوع ومستوى العلاقة بين الإله والبشر، نكون قد وضعنا تصوراً لقوة الإله قياساً إلى قوة البشر..، ولأن أعلى مرتبة يمكن أن يبلغها البشر هي سيادة أحدهم أو بعضهم على بعضٍ آخر– بالرُغم من أنها مرتبة مذمومة)، ولأن أدنى ما يمكن أن يبلغه البشر وأكثر ما يخافونه هو الاستعباد والاسترقاق..، لذلك تصوروا أن يكون الإله سيداً وأن يكونوا له عبيداً..، متجاهلين أن الاستعباد صفة مذمومة من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يكون السيد والعبدُ إلا وكان الحد الأدنى من المقارنة بينهما متوفراً! إن في اعتقاد البشر بأنهم عبيدٌ للإله تضخيم لقيمِ ذواتهم، أو تقليلٌ من قدرِ الإله..، ذلك أنهم إنما يفترضون وجود وجهٍ للمقارنة بينهم وبينه، وهو الوجه أو المقارنة التي يتفق المؤمنون والملحدون جميعاً على انعدامها؟ إن الوجود بأسره – كما نعلمه – لا يحوي مُبررًا واحداً يجعلُ كائنًا حيَّاً يرضى بأن يكون عبداً- ناهيك عن أن يُفاخر بعبوديته..، إلا أن تكونَ روحه الذُلُّ وجسده الهوان، فيكون قوامه الخزي ولا مكان للكرامة في كيانه..، وهذه المواصفات إن وُجِدتْ، فإن السيد الكريم يأبى أن تربطه بحاملها علاقة بأي درجة أو معنى من المعاني! نتيجة.. نخلص إلى القول بأننا إذا سلمنا بأن البشر عبيد للإله، فإن ذلك يعني أننا قد افترضنا وجود وجه للشبه، وحَدٍّ أدنى من المقارنة بين قدرة الإله وقدرة الإنسان..، وهو الأمر الذي يُفرغ كل المفاهيم الدينية من مضامينها- حول القدرة المطلقة للإله!.. وهذا أمر يرفضه المؤمنون، وتنفيه أديانهم، كما يرفضه العقل والمنطق! وبالمقابل إذا سلمنا بأن البشر شيء من مُلك الإله- وتلك حقيقة ملازمة لوجود الإله-، فإنه يترتب عليها الاعتقاد بأن أفعال البشر جزءٌ لا يتجزأ من إرادة الإله ومشيئته، وجزء من وجودهم الذي لا يمكن أن يكونوا مسئولين عنه..، وبذلك يُصبح احتمال معاقبة الإله للبشر، هو كاحتمال معاقبة صانع الحاسوب لحاسوبه! ونقول.. لعل الحاجة كانت أباً للذُلِّ قبل أن تكون أُمّاً للاختراع

الخميس، 6 فبراير 2020

الرسالات (السماوية) والعقل ومعضلة سؤال الأزل !(2)

0 تعليق



ما خصوصية البشر، ولماذا هم هنا، وماذا بعد الموت؟ ثلاثٌ من وسائل المعرفة: الرسالات (السماوية)، والنظريات الفكرية الأكاديمية، والأفكار الفردية " المحايدة" التي تنطلق من الصفر! هذه الوسائل التقت وحاولت وتوقفت عند السؤال الكبير..، ونقطة الالتقاء، هي التساؤل حول: المسبب والسبب المنطقي، الذي يقف خلف هذا الوجود الثانوي ذي المشهد العبثي للإنسان! الرسالات (السماوية) انفردت بعملية إلزام البشر بنتائجها! وعملية الإلزام هنا موضع تساؤل! وبقاء الجزء الأدق من الجواب غامضاً، والجزء الأهم من السؤال قائماً،.. يمثل نقطة ضعف مشتركة بين المحاولات الثلاث حتى اليوم! .. انتهى ملخص الجزء (1)!

الجزء الثاني .. هل نفهم ونقبل معنى أن يُخاطب الخالق ويهدي بعض البشر دون غيرهم! الحواس والعقل والفطرة، والاحتياجات والرغبات والمخاوف المشتركة بين البشر، هي معطيات طبيعية تجتمع لتُشكّل في مجملها المنطق البشري العام، الذي تنطلق منه وتحتكم له كل النظريات العلمية والفكرية الفلسفية، ونتائجها! وكل نظرية يرفضها هذا المنطق فإن الإيمان بها يُعدُّ شذوذاً وحالات خاصة لا يُقاس عليها! ومن بين وسائل المعرفة الثلاث التي نتناولها هنا، نجد أن الرسالات (السماوية) وحدها التي لا تقبل بتمرير نظريتها على المنطق البشري العام، رغم أن العقل هو الأساس فيها، فهي لا تُخاطب غير العقلاء! كما نجد أنها لا تقبل تصديقها بنسبة ( 99%) ، كأن الشك بنسبة (1%) يمكن أن يهدم بنيان الإيمان وأسس الرسالات! وبالمقابل فهي لا تُقدم من البرهان ما قيمته (1%) لإثبات منطقية وعقلانية نظريتها! فكل ما تطلبه وما تقبله الرسالات (السماوية) هو درجة نجاح نهائية دون دخول الامتحان! قلنا إن الرسالات (السماوية) تنفرد بإكراه البشر على اعتناقها- ترغيبًا أو ترهيبًا-، وكذلك فهي تنفرد بالقول بأن الخالق قد يُخاطب بعض البشر دون غيرهم، وقد يهدي البعض دون الآخرين ..، وتتجاهل علامة الاستفهام الكبيرة البارزة! فهذا التخصيص يتنافى مع مبادئ العدل والإنصاف والحق- من غير أدنى شك- فليس من سمع كمن رأى، وليس مَن سمع من المصدر مباشرة كمن سمع بالخبر بعد آلاف السنين! ولا يمكن لأصحاب هذا المنطق تبريره إلا إذا كانت الرسالات (السماوية) ليست مُلزمة إلا لمن أرسلت لهم ومن هداهم الإله لها! أما القول بأن رسالة تُبعث إلى قوم، فتصبح حُجة على غيرهم، وحُجّة على من لم يستطع فهمها منهم وعلى من لم يهده الله لفهمها واعتناقها، فهذا قول مدحوض من غير شك، ولا يحتاج حتى لكلمة واحدة لإثبات انحرافه عن الصواب! ولعل من أهم التساؤلات التي لا يستطيع العاقل إلا أن يقف عندها، هو: كيف يمكننا أن نفهم رسالة سماوية معززة بمعجزات خارقة- من قبيل مولود بدون أب، وإنسان يُحيي الموتى، وغيرها-، .. كيف لمعجزات بهذا الحجم، أن تكون قد حدثت لأجل إثبات أمر لقوم معدودين ولفترة زمنية محدودة، ثم ما يلبث الأمر بعدها أن يتحول إلى خبر بين الحقيقة والخيال، حيث تحدث الفتن والتزوير والاختلافات بشأنه وبعده مباشرة- في وقت كان فيه عدد البشر قليل، وإثبات الأمر ونشره بينهم يسير-، إلا أن أثر المعجزة وتأثيرها يختفي بهذه السرعة..، مما يستدعي بعث رسالة أخرى بعدها بـ 500 سنة، وهي فترة زمنية قصيرة قياسًا لحجم المعجزة السابقة! 

 - أخلاق الإنسان وكرامته، ربما كانت مفاهيم مبتدعة لأغراض بشرية آنية! الكرامة منتهكة بالفقر والضعف والاستعباد إلى أبعد حدٍّ في حياة الأغلبية العظمى من البشر؛ حتى أنه لا يوجد ما يمنع من القول بأن الأخلاق والكرامة البشرية المشتركة هي أسطورة من تأليف الحُكّام والأغنياء من أجل إخضاع وتجنيد الأغبياء وتحفيز البُسطاء لمقاتلة أعداء السادة والأغنياء! فالمنطق يقول إنه ليس لدى الفقراء والبُسطاء والضعفاء ما يخلق لهم أعداء؛ وليس لديهم ما يخسرونه ليُدافعوا عنه، فليس لديهم أي حافز أو دافع للقتال؛ وربما من هنا اضطر الذين لديهم ما يخسرون، إلى ابتكار أسطورة الأخلاق والكرامة الإنسانية المشتركة، والحقيقة أنه لا روح ولا جسد للكرامة في حياة المجندين باسمها والمدافعين عنها! إن مفهوم المجتمع الأخلاقي المسئول، هو مفهوم يُشير إلى حياة نظرية مثالية، لا واقعية، لا فطرية، ولا أساس لها في نفوس المخلوقات جميعاً .. بما في ذلك البشر! ولكن انتفاء مفهوم الأخلاق في مجتمعات الحيوان، واعتقاد البشر بتميّزهم بالوعي والفكر، جعلهم يتصورون إمكانية أو ضرورة تحقيق مجتمع الأخلاق! والواقع أن القوانين الطبيعية التي تحكم علاقة الأفراد داخل كل أمة أو كل صنف من أصناف الحيوان أو الطير، هي أقرب إلى الأخلاق الحقيقية التي يدعيها البشر وهم عنها بعيدين كل البعد! فبالنظر إلى علاقة الأفراد داخل خلية النحل أو جماعة من النمل، أو عائلة من الأفيال أو غيرها، .. فإننا سنلاحظ الالتزام بالعرف والتعاون والمودة متوفرة بينها، وسنلاحظ أن عدوها الذي تحذره وتقاتله هو الآخر الذي ليس من صنفها! تجدر الإشارة هنا إلى أن الإنسان يُصنّف بين المخلوقات كصنفٍ واحدٍ .. وليس أنا وآخر..، ومع ذلك نجد سوء الظن والعداء والبغض، والأنانية وغياب المودة وانعدام الصدق، حتى بين أفراد المجتمع الواحد، بل حتى بين الأشقاء في المجتمع البشري، ولا نجد ذلك بين أفراد أمة الضباع أو أمة الذئاب! ولعل قول البشر : إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب؛ هو إشارة صادقة – عن غير قصد – مفادها أن الذئاب تأكل غيرها ولا تأكل بعضها، بينما البشر يفعلون! لذلك نجد أن النتائج المرجوة والمفترض تحققها بالأخلاق – من أمن وأمان وأمانة – ، هذه النتائج نجدها تتحقق في المجتمع البشري جزئياً وتحت الحراب والحراسة والسلاح والتهديد والأبواب والأقفال والعقوبات – بما فيها القتل؛ ولم تتحقق يوماً بدافع أخلاقي ذاتي على مر العصور،.. أي أن البشر مهيئون ومستعدون وجاهزون دائماً للفوضى والعبث والظلم ونهب واغتصاب حقوق الآخر وبناء الأنا على حسابه؛ فحتى الذين يُساعدون الضعفاء والفقراء فهم في الحقيقة يفعلون ذلك بدافع الشعور بالتفوق! أما الأخلاق والنظام واحترام حقوق الآخرين والاكتفاء بتلبية الاحتياجات .. فهي دخيلة على النفس البشرية ومفروضة عليها ومرفوضة عندها بالفطرة! والأمانة هنا تُحتّم على البشر الاعتراف بأن أخلاقاً تفرضها القلة القليلة لتستمتع بحياة جميلة هادئة، وتفرضها بمعادلة القوة والضعف والحاجة، بينما يرفضها ويخترقها السواد الأعظم من البشر بمعادلة الخداع والنفاق واستغلال غياب الحراسة..، أخلاق كهذه لا تؤهل الإنسان لادعاء الفضيلة والكرامة والرُقي عن مجتمع الغاب، ولا تؤهله لأن يكون الكائن المكرّم والمتصل مباشرة بمنشئ الكون ومصدر الأخلاق! أعتقد أن الذين يدعون إلى الأخلاق من البشر، هم شريحتان: شريحة بيدها القوة، فيفرضون الأخلاق على غيرهم، ليهيئوا لأنفسهم بيئة تناسب أذواقهم وتُحقق رغباتهم ..، بينما لا يلتزمون هم بهذه الأخلاق إلا بالقدر الذي تستوجبه مصالحهم الخاصة! ولا مجال ولا قدرة للشرائح الأخرى على مراقبتهم أو إلزامهم بالأخلاق! الشريحة الثانية هم أولئك الذين وجدوا أنفسهم في بيئة متحضرة ومنعمة ومستقرة وآمنة، فتوافقت الأخلاق مع أوضاعهم المادية والاجتماعية، فاعتقدوا أن الأخلاق عنصر طبيعي أساسي في حياة البشر وسعادتهم..، فأصبح بالنسبة لهم نقيض الأخلاق أمراً شاذاً. بالنتيجة نجد أن أبناء وأنصار هاتين الشريحتين هم فقط المسيطرون والمنعمون من البشر، وهم في الواقع استثناء، لا يمثلون نسبة يُقاس بها المجتمع البشري! فالسواد الأعظم من البشر هم الفقراء والمغلوبون على أمرهم والعابثون والمتمردون على القانون كلما سنحت الفرصة! - الإنسان ليس استثناءً بين المخلوقات، إنما لكلٍ وظيفته في الطبيعة.. هنالك قاسم مشترك يظهر جلياً في كل أو في جُل المحاولات التي سعت وتسعى للإجابة عن السؤال الكبير: ما خصوصية البشر، ولماذا هم هنا، وماذا بعد الموت! هذا القاسم المشترك هو النظر من الزاوية التي تعتبر الإنسان بمثابة العنصر المركزي في الوجود، والكائن الأخلاقي المُكرّم دون غيره! حيث ترتب على هذا الاعتبار غير المبرر، ظهور فرضية غير مُبرهَنة، تحولت مع الزمن إلى مُسلّمة غير محققة..، مفادها ضرورة وجود رسالة مقدّسة لأحد المخلوقات وهو الإنسان، مما يعني ضرورة وجود علاقة خاصة ومباشرة بين مُنشئ الوجود وبين الإنسان – باعتباره العنصر الأهم بين المخلوقات على الأرض. فأصبحت العلاقة ثابتة لا شك فيها، وتركز البحث على برهان يُثبتها، ونظرية تُحدد آلية الاتصال ونتائجه بين الإنسان والخالق! ولا شك أن هذه الفرضية قد بنيت على اعتقاد الإنسان القديم بأن الأرض هي مركز الكون، وأن الكون ليس سوى ما يراه ويعلمه كل الناس في ذلك الزمان! - الأبناء يُقدّسون أوهام الآباء.. العلاقة بين الخالق والإنسان، بُنيت أساساً – كما أسلفنا – على فرضية غير مبرهنة، نابعة ربما من مقارنة الإنسان لنفسه بما حوله من مخلوقات، وترتب على هذه الفرضية اعتقاد الإنسان بأنه مسئول ومحاسب أمام الله .. دون غيره من المخلوقات! ونتج عن هذا الاعتقاد شعور لدى الإنسان بأنه يحمل قيمة في ذاته، وأن أقواله وأفعاله مراقبة بشكل مباشر من قِبل الخالق، وأن له من المكانة والتأثير والوزن الوجودي – الذي يجهله حتى اليوم- ما يقترب من النديّة مع الخالق، حتى أن الإنسان بات يعتقد أن بإمكانه أن يُغضب الخالق ويرضيه، وأن يجحد بوجوده وقدرته، وأن الخالق يفرح ويكافئ بالجنة من يعترف له بالوجود من البشر..، مما يعني تفرد الإنسان بمكانة لا تنبغي لسواه من المخلوقات من حوله..، تصل إلى قدرته على مواجهة الخالق ورفض طاعته، وهو الأمر غير المقبول وغير الممكن منطقياً وفطرياً وموضوعياً! فالحقيقة أننا سواء رجعنا إلى التاريخ أو تقدمنا بالخيال أو نظرنا من حولنا، بحثاً عن أرضية لتلك العلاقة الخاصة والمباشرة بين الإنسان الضعيف المريض الفقير التائه العابث، وبين خالق الكون، فإننا لن نجد لها أساساً تُبنى عليه، إذ لا وجه للمقارنة بين خالق ومخلوق .. بداهة.. وإذا بحثنا عن القيمة والحُرمة والقداسة والكرامة – المُقاسة إلى المطلق، والتي يدعيها البشر لأنفسهم، فإننا كذلك لا نجد لها مستنداً واحداً يدعمها! وكل ما يمكن أن نجده في هذا الصدد، هو أن البشر ليسوا متساوين من حيث طاقة الوعي و سِعة الخيال والقدرة على التفكير، وهي الفروق التي تُختصر في فروق الأحجام المادية والقوة البدنية والضعف .. في حال مقارنة الكائنات عموماً! والحقيقة التي لا تقبل الجدل على طاولة المنطق والعقل، هي أن قانون القوة والضعف هو الذي يحكم العلاقة بين كل المخلوقات في نهاية مطاف كل علاقة! وتعدد وجوه القوة والضعف بين مادي ومعنوي لا ينفي هذه الحقيقة! فالفروق البينية الخاصة بين البشر، مكّنت بعضهم من السيطرة والتحكم في البعض الآخر، مما أذهل الأخير، وجعله يعتقد بوجود قوة خارقة خفية يستمد منها هذا البعض المسيطر قوته وقدرته على السيطرة! ومن هنا ظهر الاعتقاد بوجود علاقة واتصال مباشر بين الإنسان والخالق. وساد الاعتقاد بأن البشر المتميزون لابد وأنهم مهيئون ومكلفون بتنفيذ أوامر السماء على الأرض! ولكن الحقيقة ربما كانت عكس ذلك تماماً، فبالرغم من أن جُل البشر لا يقبلون بفكرة نشوء الوجود دون مغزى ودون منشئ ذي إرادة، إلا أن قوة البشر المسيطر كانت ولا تزال نتيجة حتمية لضعف البعض الآخر.. ليس إلا! فالضعفاء هم الذين اخترعوا وطوروا فكرة الاتصال المباشر بين الخالق والإنسان بسبب وقوعهم تحت تأثير الغبن. فلكي يحطوا من قدر الأقوياء، أوهموا أنفسهم بأن ضعفهم وقوة الأقوياء ليست ذاتية، بل هي نابعة من ذات المصدر الذي هو القوة الخفية الخارقة..، وأن كلاً منهما مكلف برسالة لا يمكن أن يؤديها الآخر! وذلك ليُبرروا لأنفسهم وجودهم الضعيف المهين- قياساً إلى بشر مثلهم-، فيُقللوا بذلك من الأثر السلبي للفارق الكبير الذي نشأ بين الضعفاء والأقوياء! أما الحقيقة فإنه لا توجد رسالة معلومة للإنسان يؤديها تجاه الخالق..، بل إنه أساساً لا يمكن أن توجد رسالة يستطيع مخلوق أن يؤديها، فيستفيد أو يتضرر منها الخالق .. حتى يُعاقب الله الإنسان أو يُثيبه مباشرة! وحاضر الحياة وتاريخها يشهدان ويشرحان بالتفصيل الممل، كيف أن كل المخلوقات وعلى رأسها الإنسان، إنما تكافح وتجِدُّ لأجل مصالحها الآنية، ولأجل أن تبقى على قيد الحياة أطول مدة ممكنة لكي تستمتع بها وفق ما يُشبع غرائزها، لا من أجل أداء رسالة تعلمها! أما القول بأن الله خلق الإنسان ومكّنه من الطاعة والعصيان، فهو قولٌ ميتٌ تعوزه الروح أساساً. إذ أنه حتى الذين يُسمّون بالكفار والملحدين، فهم لم يكفروا بإله خالق يعلمون أمره لهم، ويُدركون واجبهم تجاهه، بل هم كذّبوا بشراً مثلهم، بسبب ضعف الحُجّة لدى المبلغِين! فالكافر والملحد أو السائل، لا يقول إنه يعلم وجود الله، ويعلم ماذا يريد الله منه ولكنه يرفض الطاعة..، بل هو يتساءل عن مصداقية وحقيقة أمر يقول به بشر! .. فأين معصية السائل لله هنا! أما المؤمنون الذين يُجرّمون الكفار ويبغضونهم ويقاتلونهم بسبب عدم إيمانهم، فإنهم إنما يُعظّمون أنفسهم، ويضعون ذواتهم مكان الإله! وهم مخطئون بذلك حتى لو كان إيمانهم ورسالاتهم صحيحة! فإذا كان الله قد مكّن الإنسان من الطاعة والعصيان، فلنفترض – وعلى مقياس المؤمنين – أن بعض الناس اختاروا الإيمان وبعضهم اختار العصيان.. وكلٌ منهما يرى نفسه على صواب.. فما شأن الإنسان باختيارٍ إنسان مكّنه الله منه..، مع التذكير بأنها فرضية خاطئة ومجحفة. فالذي لم يؤمن بالأديان، إنما يطعن في مصداقية البشر الذين يقولون بها، ولم يقل إنه يكفر بالله..، والذي يغضب منه إنما يغضب لنفسه وكبريائه هو، ويحسب ذلك على الله. ووفقاً لإيمان المسلمين فإن آدم قد عصى ربه، وأن الملائكة كانت حاضرة عندما عصى إبليس ربه، ولكنها لم تتدخل لنصرة ربها، ولم يطلب الله منها ذلك، مع أن المعصية كانت علنية وصريحة! فهل يُنظِر الله آدم وإبليس اللذين لا حُجّة لهما في المعصية، ويطلب من البشر نصرته بقتل بعضهم للبعض الآخر، الذين كل ذنبهم أنهم لم يُصدّقوا كلام بشر لا دليل على صحته!

الأربعاء، 1 يناير 2020

الرسالات (السماوية) والعقل ومعضلة سؤال الأزل!(1)

0 تعليق



ما خصوصية البشر، ولماذا هم هنا، وماذا بعد الموت؟ هل سيُعذب الخالق مخلوقاته؟ لماذا وكيف؟ - مؤمن طائفي، يتساءل، مستعرضًا ومتباهيًا بإيمانه: هل تعلم بأن الله سيجعل عذاب الحريق مصيراً أبدياً لبعض البشر- وهم الكافرين، وأنه سيجعل الجنة مقاماً خالداً لبعضهم الآخر- وهم المؤمنين حَقّاً؟ - مؤمن متحرر من قيود الفقه الطائفي، يُجيبه: أولاً: لاحظ أنك مُضطرٌ لاستعمال كلمة "حَقّاً"، وذلك اعتراف منك بأنه لا يوجد شيء واحد محدد متفق عليه اسمه الإيمان، إنما توجد معتقدات متعددة مختلفة، من الصعب نسبتها إلى إله واحد، وكل معتقد يعتبره أتباعه السبيل الصحيح للإيمان الحق..؛ فلو كان ما تقوله صحيحًا، أو لو كنت تُدرك ما تقول، لكان الإيمان أمرًا واضحًا في متناول كل البشر، ولكان المؤمنون أُمَّةً واحدة..، لكي تقوم الحُجَّة على غير المؤمنين، ولكي يكون وضوح العقاب متناسبًا مع وضوح الإيمان..، فليس من المعقول أن يتفق المؤمنون على نوع وحجم العقاب والثواب بهذا الوضوح، ويختلفون على نوع وحجم الإيمان الصحيح! لكن، وعلى افتراض أنَّ ما تقوله وتؤمن به، هو صحيح وبهذه الصورة..، فهل من العدل أن يُعذِّب الله مؤمنًا بسبب خطأ غير مقصود في إيمانه – لأنه انتمى إلى الدين أو الطائفة الخطأ عن غير قصد! وما الفرق إذن بين المؤمنين المخطئين في إيمانهم، وبين غير المؤمنين..، أليسوا جميعًا سيُعذَّبون – بحسب اعتقادك؟ وأين العدل في ذلك، أليسوا جميعًا يعتقدون أنهم يفعلون الصواب؟ فهل النار التي تتحدث عنها هي عقاب للناس بسبب جهلهم وعجزهم عن إدراك الحقيقة؟ وهل الجنة هي مكافأة لمن حالفهم الحظ بالصدفة؟ أنا أعلم أنه يوجد بين البشر جُهلاء، لكن لا أتصور أن يبلغ الجهل بالبشر مبلغًا يجعلهم يعتقدون أن بعضهم يرفضون الجنة ويطلبون النار – بحيث يكفرون وهم يعرفون أن الكفر سيُدخلهم النار، وأن الإيمان سيُدخلهم الجنة! ثانيًا :ولأنك تؤمن بالطائفية، فإنك لن تستوعب ولن تُحسن الحديث عن الإيمان العام للبشر وعلاقة المخلوقات بالخالق، لأنك مُبرمج فقهياً ولست حراً فكرياً! فأنت لا تعرف الدين إلا كما يصفه لك آخرون – كما حددوا لك طائفتك التي لا يمكنك تغييرها! فإيمانك هو صناعة بشرية وصدفة ثقافية تربوية جغرافية تاريخية..، فهو إيمان بالفقه الذي هو فكر بشري لا عصمة ولا قداسة له! فأنت تعبد إلهًا لا تعرفه، ولا تعرف حقه عليك إلا بواسطة آخرين، وهذا نوع من الشرك؛ كما أن إيمانك يحوي تطاولاً على الخالق، واتهام له بأنه سيُحاسب الناس على أمورٍ لا يفقهونها، وأنه هو الذي قدّر ألا يفقهها سوى البعض منهم! وبحسب إيمانك، فإن الله ينبغي أن يُكافئ الفقهاء والأهل والحكومات، فهم الذين لقنوك الإيمان وألزموك به، ولا فضل لك إذا صح إيمانك! وأما إذا ما كُنت مخطئاً في إيمانك وما ترتب عليه من سلوك وممارسات..، فلا أدري كيف تتصور أنت الأمر! هل سيُحاسبك الله لأنك لم تستعمل عقلك الذي يُميّزك عن غيرك من المخلوقات؟ أم أنه سيُحاسب أولياء أمرك؟ ثالثًا: إنه من الغباء والحمق والجهل أن يُصدِّق الإنسان بأن الخالق سيُعذّب إنساناً بسبب عدم معرفته به، أو بسبب تكذيبه لبشرٍ لا يحملون آية مقنعة، وهو لا يعرف أنهم رُسُل من الإله! أو أن الله سيُكافئ إنساناً على فعلٍ هو الذي مكّنه من فعله! - فتساءل الطائفي: كيف تطعن في حقيقة يؤمن بها حوالي أربعة مليارات إنسان عاقل ..، يقصد المؤمنين من جُل أو كل الأديان المعروفة بالسماوية! - أجابه المتحرر: وكيف آمنت أنت بحقيقة يؤمن بها مليار من البشر فقط (يقصد المسلمين)، بينما يطعن فيها خمسة أضعافهم من البشر العقلاء – أيضاً؟ إنه لا يُمكننا وليس من حقنا أن نتخذ من إيماننا ذريعة لوصف كل من كفر بما نؤمن به بالغباء! فهو إنسان عاقل مفكر، ولكنه واقع تحت تأثير حب المعرفة وصدمة العجز المعرفي – ذلك الذي أعلن اعتقاده بعدم وجود خالق مُنشئ للكون أو للوجود المنظور! ولكننا نستطيع، بل وينبغي أن نصف بالغباء كل من يعتقد بأن الخالق بذاته، هو من سيُعذب مخلوقاته العاجزة بسبب جهلها به! لا يُمكن لعاقل طبيعي (غير مؤدلج) أن يُصدِّق أو يتصور بأن الخالق سيقف أمام مخلوقاته متفاخراً ومتحدياً، فيُكافئ قسماً منها، ويُعاقب القسم الآخر ..، إنه لا بد أجلُّ من ذلك وأسمى وأعلى وأكبر وأعظم! فسأل الطائفي: وكيف تتصور العقاب والثواب إذن؟ فأجابه المتحرر: أما الجواب الصريح والكامل، فهو يحتاج إلى منبرٍ حرٍ بالكامل، وفي مكان خالٍ من الوهم والواهمين، ويسمعه كل البشر في وقت واحد، وهذا ليس متوفراً على الأرض، وربما توفر مستقبلاً من على سطح كوكب آخر! ولا شك أنه سيوجد من يُجيب عن سؤالك حينها، أو أن كل البشر سيكونون يمتلكون الجواب آنذاك! أما ما يمكنني قوله لك الآن، فهو أن كل البشر الذين أراهم أمامي وأنا أولهم، ليس بينهم من هو أهل للجنة ولا للنار، وأرى أنهم ليسوا أهلاً سوى للشفقة! ولكن، وفي ضوء المعتقدات الدينية السائدة، وتماشياً معها واحتراماً لمشاعر المؤمنين، فإنه ربما يُمكننا أن نتصور العقاب والثواب على أنه تبادل للأدوار بين المخلوقات وفق معادلة كونية منطقية، لا يخرق ناموسها إلا من وضع قانونها وخلق عناصرها! فإذا كان الظلم والسيطرة اليوم من نصيب بعض البشر، على حساب بقية البشر وعلى حساب النار والحجر! فإن السيطرة غداً ستكون للنار، على حساب بعض البشر، فتحرقهم كما أحرقوا هم غيرهم اليوم!
: النفس العارفة، وتساؤلات الأزل!
 المؤمنون بإله الأديان يعتقدون دون أدنى ريب، بأن أمر الله هو كن فيكون؛ ومع ذلك فهم يستعظمون مخلوقاته، ويرون في خلقها آية معجزة كأنهم يقيسون بمعايير البشر، إذ يختزلون إيمانهم بقدرته اللا متناهية، في خلقه لسمكة عجيبة الشكل، أو في دورة حياة بعوضة، أو جبل شاهق، الخ! فما أن يكتشف العلماء -غير المؤمنين عادة- سراً من أسرار الطبيعة، حتى يُبادر المؤمنون مهللين "سبحان الله"، وكأنهم بهذا الاكتشاف أو ذاك- فقط، تأكدوا من صحة إيمانهم وعظمة إلههم! فالمفارقة هنا واضحة وكبيرة، وتؤشر إلى تردد أو ضعف في الإيمان لدى أولئك المؤمنين..، لأنه لا مكان ولا معنى لأنْ يُعظّم الإنسان صانعاً بإحدى مصنوعاته، إذا كان مؤمناً متيقناً بأن ذلك الصانع قادر على صنع كل شيء، وأن ذلك المخلوق وسواه ما هو إلا نتيجة لأمر كن فيكون! ولعلنا لا نذيع سراً ولم نأتِ بجديد، إذا قلنا إن أي معادلةٍ يكون عناصرها خالق ومخلوق، أو الله والإنسان، فإنها لا يمكن بأي حال وبأي معنى أن تمنح الإنسان أو تقرّبه من قيمة الندّية في مقابل الله! فالإنسان في مقابل الله، هو أقل من أن يكون شيئاً، لكي يُغضب الله أو يُرضيه، ليستحق ناره أو جنته - كعقاب أو ثواب؛ وهو بالتالي ليس مؤهلاً سوى للشفقة وفق هذه المعادلة! المعادلة وعناصرها صحيحة، بحسب كل الأديان والطوائف والمذاهب..؛ والحديث هنا – عن ومع – البشر الطبيعيين الذين يستعملون العقل لفهم الأمور، حيث العقل هو سبيل التواصل وضمان التفاهم بين العقلاء! أما الذي يرفض العقل، ويستعمل بدلاً منه نظرية (عنزة ولو طارت)، فليس من العقل محاورته! العقلاء يعلمون أن المعادلة السابقة صحيحة، وإذا كان لدى البعض منهم اعتراض على النتيجة، فإننا ندعوهم لإلقاء نظرة متأنية على المشاهد البشرية من حولهم، ثم يحكموا بأنفسهم ..؛ فمن ذا الذي لا يعلم أن جُل المجتمعات بملايين ومليارات البشر، يُسيّرها ويُحدد مصائرها أفراد من البشر، تحت ضغط الحاجة وقلة الحيلة وانعدام البدائل – خاصة وأن الإنسان ليس مهيأً لأن يعيش منفرداً مستقلاً عن الجماعة، لكي يكون العدل قائماً في تحميله المسئولية عن سلوكه وممارساته-، فالإنسان يجد نفسه سجيناً لأمرٍ واقعٍ، لا دخل له في تكوينه ولا طاقة له على تغييره! وقد عاشت أجيال وأجيال من البشر واندثرت، وهي ترزح تحت حكم فرد أو أسرة واحدة! فهل هذه المليارات من الغثاء البشري الممتد على ضفاف العصور..، هل هم مؤهلون لمواجهة الله لمحاسبتهم، وحرقهم بالنار أو مكافئتهم بالجنة..، إن تلك الجموع البشرية السطحية التي تؤمن أو تكفر بحسب المعجزات الخارقة لسطحيتها، سواء كانت المعجزات قد جرت على يد رسول أو على يد ساحر- لا فرق؛ فالبسطاء الذين كانوا يؤمنون بما يقوله السحرة في عصر فرعون قبل ظهور موسى، ثم آمنوا بموسى عندما هزم السحرة، هم في الحقيقة كانوا مع الأقوى بسبب ضعفهم وسطحيتهم، ولم يكونوا مع الأصح، لأنه لا مرجعية لديهم يقيسون بها الصواب من الخطأ، سوى القوة والضعف! فهذه أو تلك الجموع البشرية التي اتبعت الرُسُل واعتنقت أديانهم كرهاً أو طوعاً، أو التي وصلتها أديان محرّفة فلم تدرِ أين الصواب من الخطأ، أو التي أُجبرت على اعتناق أديان حُكامها! هذه الزوائد البشرية العالقة طوال حياتها بأوامر الأقوياء من حولها، والتي لا تقوى على رفض أوامر أفراد من البشر- حُكام أو فقهاء..، هل هي في مستوى ثواب أو عقاب إلهي، وهل تستحق الجنة لضعفها، أم تستحق النار لجهلها! وهذه الجموع تشكّل كل البشرية، وعاشت وتعيش تحت قيادة ورحمة وشفقة أفراد من البشر ..، فكيف يكون الحال، عندما يكون الحديث عن فرد من هؤلاء الرعاع في مقابل خالق الكون! أي وجه للمقارنة، وأي فلسفة وثقافة، وأي غباء ذلك الذي يضع هذا المخلوق الضعيف الجاهل اللاهث خلف لقمة العيش في كفة، وخالق الكون الذي أمره كن فيكون في الكفة المقابلة! هل يتصور العاقل، أن يُحاسب الضعيف من أي ملة كانت، على النزعات الغريزية والثقافات البشرية التي وجد نفسه أسيراً لها، والتي حددت سلوكه وممارساته رغماً عنه! هل يُحاسب على الفقر وعدم اتفاق البشر ومنافساتهم التي اضطرته للتحايل والخداع والكذب والنفاق والغش والرياء.. درءاً للألم، وتمسكاً بالحياة التي يقول الفقهاء إنه لا يحق للإنسان التخلص منها 
 .
النفس العارفة … هو مصطلح فلسفي قديم استعمله الفلاسفة والمفكرون، واستعملوا نقيضاً له مصطلح النفس الجاهلة! وهم بذلك قد حصروا كل أنماط الإنسان في ثنائية العارف والجاهل، من حيث وعي الإنسان وقدرته على فهم ذاته وتحديد موقعها ورسالتها في الوجود! وهي محاولة ضمن محاولات الإنسان المتكررة للإجابة على تساؤلات الأزل، التي أرّقت الحكماء منذ الأزل، وحافظت على حداثتها في كل عصر،" ما خصوصية البشر، ولماذا هم هنا، وماذا بعد الموت"؟ وأعتقد أن هذه المحاولة لم تختلف عن غيرها من حيث النتيجة! إذ لا تزال التساؤلات قائمة صامدة ترفض اعتبار مثل هذه المحاولات إجابة لها! وأعتقد أن تساؤلاتنا الأزلية هذه، قد عصفت بنظرية النفس العارفة، وأجبرت الجميع على حمل هوية النفس الجاهلة، بسبب إصرارهم على إغلاق الأبواب أمام أنفسهم، وعدم إفساح المجال أمام الفكر للبحث عن بدائل! لقد عجزت النفس العارفة عن الإتيان بإجابة يقينية لهذه التساؤلات؛ واكتفت بالسفر في ربوع الخيال، لتعود محملة بصورٍ بديعة لأحلامٍ جميلة، كدليل على خصوبة الخيال ليس إلا؛ إذ لا برهان على صحة رؤاهم ولا مجال لتحققها! وكمحاولة للتملّص من لعنة الفشل وصدمة الواقع، أوهم الحالمون أنفسهم بأنهم عارفون، ونعتوا غيرهم بالجاهلين، ونسجوا على مقاسهم مصطلح النفس العارفة! ومن وجهة نظري المتواضعة، فإن التثنية التي ترتكز عليها هذه النظرية، لتصنيف النفس البشرية، هي ليست الخلل الوحيد الذي يعتريها، ولكنها -أي التثنية – تشكل الخلل الأكبر والأبرز في هذه النظرية! فالثنائية، هي تصنيف مصطنع قاصر وغير طبيعي، لا تعوزه مسحة البدائية، ولا لمحة الهروب إلى الأمام! إذ حتى لو سلمنا بوجود النفس العارفة، فإننا لم نضع بذلك تعليلاً لوجود النفس الجاهلة، ومدى مسئوليتها عن جهلها، وما فضل النفس العارفة في معرفتها ووعيها..، خاصة وأن مجال النظرية هو البحث في أعظم الأمور وأدق الأسرار، وهو سر الوجود ومصير المخلوق وعلاقته بالخالق! أما القول بوجود جهلاء بين البشر، فإنه لا يحتاج إلى نظرية، فالجهلاء موجودون، ويتكلمون لغة الجهل بطلاقة وفصاحة وحسب العصر الذي هم فيه، بحيث يفهمهم الجميع ويُدركون أنهم جهلاء! فاليوم مثلاً، الذي يرمي علبة سجاير أو علبة عصير فارغة، من نافذة سيارته، على طريق عام، هل يحتاج إلى نظرية لإثبات أنه جاهل! ومن كانت درجة جهله فائقة الوضوح إلى هذا الحد- وكثير ما هم-، فهل ننتظر منه أن يتفكر أو أن يعرف رسالته من تلقاء نفسه! ليس الإشكال هنا! ولكن من الواضح، أن واضع فكرة النفس العارفة والنفس الجاهلة، لم يكن حراً في تفكيره، بل كان يخدم إيماناً مسبقاً لديه! وهو بهذه الفكرة إنما يحاول تطويع الواقع لإثبات صحة إيمانه! فهو كمن وضع افتراضاً، وأثبته بـ(لو أن) ! كذلك تفتقر نظرية التصنيف الثنائي للأنفس، إلى الدقة والنضوج، من حيث إنها لم تتسع لأنماط البشر باختلاف وتعدد مستوياتهم، بل اختزلت تشعب وتنوع وتفاوت السلم المعرفي العريض، في ثنائية: نفس عارفة وأخرى جاهلة! كما أن الأمانة غائبة في هذه النظرية، والغبن حاضر فيها بقوة، فهي تتجاهل حاجة الوجود البشري إلى التفاوت والتنوع المعرفي، وتجمع المتناقضات واختلاف الاهتمامات في بوتقة واحدة، تُسميها النفس الجاهلة! ولا تعير اهتماماً للضعف الإجباري والضرورات!

 النفس العارفة.. وجهة نظر.. مصطلح النفس العارفة كان يمكن أن يكون ذا دلالة أعمق وأدق، لو كان يرمز إلى ذلك الإنسان العاقل الذي أدرك أنّ مجهولاً خارجه يُخاطب مجهولاً داخله، دون إذنه ودون أن يفهم هو فحوى الخطاب! بمعنى أن يُشير المصطلح إلى إنسان يتساءل، لا إلى إنسان عارف؛ فالمعرفة تتطلب برهاناً من العارفين، ولا يكون برهانها بتجهيل الآخرين .

تساؤلات الأزل: " ما خصوصية البشر، ولماذا هم هنا، وماذا بعد الموت!"؟ إن مجرد تكرار هذه التساؤلات على لسان الإنسان أو مسامعه، لا يلفت انتباهه فحسب بل يصعقه، ليجد نفسه أمام تساؤلاتٍ مصيرية بحجم الكون، ترتعد لسماعها فرائص الصناديد والعتاة رعباً، وتنفضُّ لهيبتها مجالس الحكماء جهلاً، ولا تترك كلماتها معنىً لثنائية علماء وجهلاء، ويُعاد بها النظر في معتقدات ومسلّمات مضت عليها دهور وأزمان، واندثرت على طريقها أجيال من البشر.. من بُسطاء حالمين، وأشرار عابثين، وأخيار واهمين، ومنافقين وصادقين، وغيرهم! تساؤلات تستوطن وجدان الإنسان؛ لتصطدم بها كل وسائل ومحاولات المعرفة فتتشتت من حولها، وتبقى التساؤلات متباهية بمسحتها الحزينة الصادقة التي لم يُفلح تجاهل الإنسان لها في إخفاء أثرها الملازم لسعادته اللحظية السطحية العبثية! تلتقي عند هذا السؤال الكبير، ثلاث من وسائل المعرفة، حيث تتقابل كل الرسالات (السماوية)، مع جل النظريات الفكرية الأكاديمية، مع طاقات العقول الفردية الحرة الطليقة " المحايدة "! نقطة الالتقاء، هي التساؤل حول: " المسبب الأساسي والسبب المنطقي "، لهذا الوجود الثانوي ذي المشهد العبثي .. للإنسان! تختلف وسائل المعرفة الثلاث منهجياً، رغم اتفاقها في الهدف! - فطريقة الرُسُل والرسالات (السماوية)، هي الإعلان المباشر والتبليغ الشخصي الملزم، بضرورة الإيمان الغيبي بوجود خالق في السماء، تجب على الإنسان عبادته وفق طقوس شكلية معينة! - أما منهجية النظريات الفكرية الأكاديمية، فهي محاولة تجزئة الوجود إلى مكوناته الأساسية، بالعودة إلى الوراء، واستعمال الصور لمحاكاة الحقائق، والاستناد والبناء على أفكار ومحاولات ونظريات بشرية سابقة! - في حين أن سبيل العقول الفردية المحايدة، هو البحث عن الحقيقة في زمنها الحاضر، اعتماداً بالأساس على التجارب والملاحظات الفردية الخاصة ومعطيات الواقع، وانطلاقاً من نقطة الصفر، مع اصطحاب الحرية التامة التي تسمح بالنظر في جميع الاتجاهات، دون تقيد بمحظورات ومُسلمات نسبية، ومع استعداد مطلق لقبول الجواب الحائز على موافقة المنطق المشترك للبشر! من السهولة ملاحظة نقاط التقاطع والتوازي بين الوسائل المعرفية الثلاث، ..، حيث: - تتقاطع المعارف الثلاث في الهدف، وهو استنطاق الجواب الصامت لإسكات السؤال الصاخب، واجتثاث الغموض والعبث والخوف والألم والحزن والبغض من حياة المجتمع العاقل! - بينما تتقاطع (الرسالات السماوية) مع النظريات الفلسفية الأكاديمية، في تحديد النتيجة مسبقاً، ثم برهنتها لاحقاً! وتشذ العقول المحايدة عن ذلك، حيث إن النتيجة عندها تعقب البرهان، لا تسبقه! - كذلك تتقاطع العقول المحايدة مع النظريات الأكاديمية، في عدم فرض النتيجة على الآخرين! الأمر الذي تشذ عنه الرسالات (السماوية)، التي تتبنى مبدأ الإلزام المقدّس.. بقناعة أو بدونها! (الرسالات السماوية) إذن، تتفرد بعملية إلزام الإنسان عامة، بضرورة اعتناقها واعتماد مناهجها ونتائجها كإجابة نهائية مقدّسة للسؤال حول" مسبب الوجود وغايته"، وهي تدعو أتباعها صراحة إلى تسفيه وبُغض وكراهية غيرهم! وهي تتبنى مبدأ الإلزام رغم إقرارها بأنها لا تُحدد سبيلاً واضح المعالم يوصل إلى مصير محسوب النتائج! ومع إقرار أتباعها – بمن فيهم الرُسُل- بأن فهمها ليس في متناول الجميع، ولم يحظ بالاتفاق والإجماع حتى بين المخلصين من أنصارها! والرسالات (السماوية) تعتمد اللغة الأمنية (استعارة من قاموس السياسة)، فهي تستعمل لغة الترهيب والترغيب بما في الغيب، بدل لغة الإقناع بما في الواقع! وهذه إحدى أهم نقاط ضعفها! وعملية الإلزام كبديل عن الإقناع، هي عملية من الخطورة بمكان، حتى أنها تكاد تُعيد السؤال الأساسي إلى نقطة البداية، وتُجرّد الرسالات (السماوية) من مصداقيتها؛ بل إنها تُعيد طرح السؤال بصورة أقوى وأكثر تعقيداً من ذي قبل! فعملية الإلزام ترفع عن العاقل صفة المسئولية، ولا تترك قيمة ولا معنى لميزة العقل! هذه النتائج التي تطرحها أو تُفضي لها وتفرضها الرسالات (السماوية)، والتي تُخفي جزءاً كبيراً من الجواب الذي ينتظره الإنسان، وتُبقي على جزء كبير من السؤال الذي يؤرقه، وعملية الإلزام بها، كل ذلك يجعل الرسالات (السماوية)، عرضة للتساؤلات حتى بين أتباعا والمؤمنين بها – كلما سنحت الفرصة للتساؤل! ولكن الأمر المؤكد الذي يجهله البعض، ويتجاهله الكثيرون بشأن (الرسالات السماوية)، هو أن عملية الإيمان الإلزامي والتصديق الإجباري بها والاعتناق الآلي والتطبيق البروتوكولي لها، هي في الواقع أفكار طارئة وثقافات دخيلة على أصول الرسالات؛ فهي ليست من صلب ولا من أهداف ولا يمكن أن تكون من أخلاق رسالات (سماوية)؛ ويمكن أن تكون حلولاً تلفيقية مستعجلة، وملحقات متأخرة، وردود أفعال عشوائية، أتت كمضاعفات لأحداث وتطورات زمنية تاريخية! وكل ذلك يمكن اعتباره أثر جانبي، ونتيجة متوقعة لتلك البقية الباقية التي لم تغطها الرسالات (السماوية) من السؤال الأساسي؛ وذلك الجزء الجوهري الذي ظل محجوباً من الجواب، والذي بقي متعذراً على الإنسان بلوغه بعد الرسالات كما قبلها.. سواء بسواء! بهذا المعنى، وبهذا الواقع، نلاحظ أن الجزء الممتنع من السؤال، والذي لم تجب عنه النظريات الفلسفية الأكاديمية والعقول الفردية المحايدة – بعد! نلاحظ أنه قد بقي ممتنعاً وعصياً وقائماً حتى في ساحة الرسالات (السماوية