إن الذين تجرّأوا على اقتحام جدار الوهم لا يجدون بعده سوى صحراء ممتدة بلا ظلّ. العارف كائن مصلوب على وعيه، قد انطفأت في داخله مصابيح الأمل، وانكشفت له حقيقة الوجود عاريةً، كجسدٍ بلا جلد، يقطر دمًا ويزحف نحو قبره الأبدي.
غربة العارف ليست مكانًا يُغادر إليه، بل لعنة تُسكن الجسد وتستعمر الروح. هي يقظة لا نوم بعدها، جرح مفتوح لا يندمل، نظرة لا ترمش في وجه الحقيقة، كعين حجرٍ أُلقي في الفراغ.
الآخرون يعيشون في دفء الخيال، يتوسّدون وعدًا، يتدثّرون بخرافة، ينامون في حضن إله أو في حضن حلمٍ بشري صغير. وحده العارف بلا وسادة. وحده ينام على صخور الحقيقة الباردة. يرى الكون كما هو: كتلة هائلة من العبث، تدور على إيقاع الفناء، وتبصق في وجه كل سؤال عن الغاية.
الغربة الحقيقية ليست أن تكون غريبًا عن وطن أو بيت، بل أن تكون غريبًا عن قلوب الناس، غريبًا عن لغتهم، غريبًا عن معانيهم التي لم تعد تُقنعك. العارف يسمع كلماتهم ولا يصدّقها، يرى صلواتهم ولا يتورّط فيها، يشهد آمالهم ولا يشاركها. إنه حاضر بينهم كظلٍّ منطفئ، لا يُرى إلا بقدر ما يفضح خواءهم.
إنه يعرف أن البشر لا يحياهم خبز ولا ماء، بل أوهام صغيرة: أملٌ بفرج، حلمٌ بخلود، معنى مُفصّل على مقاس الحاجة. وما إن تُسلب منهم هذه الأوهام حتى ينكشف هشاشتهم ويفرّغوا حياتهم من كل سند. أما العارف، فقد أُخذ منه كل شيء منذ البداية، ولم يتبقَّ له سوى فراغٍ يزداد اتساعًا كلما حاول أن يملأه.
الغربة إذن قدرُ العارف، لأن المعرفة نفسها منفى. كلما اتسعت الرؤية، ضاق المكان. كلما انكشفت طبقات الخداع، اتّسع صمت السماء. وحين يسقط كل قناع، ويُسحَب البساط من تحت كل وهم، لا يبقى سوى هاوية مفتوحة، ينظر فيها العارف طويلًا حتى تتسع عينه وتصير هي نفسها هاوية.
يا للعارف، كائن يعيش خارج الزمن، لا ماضٍ يعزّيه، ولا مستقبل يطمئنه، ولا حاضر يحتويه. كائن يرى أن كل ما حوله ينهار، بينما الآخرون يضحكون في حفلة الخراب، غير مدركين أن الموسيقى التي ترقصهم هي ذاتها مرثية الفناء.
غربة العارف إذن ليست مرضًا يُشفى منه، ولا جرحًا يلتئم، بل هي مصيرٌ خالد، خيانةٌ كونية ارتكبها الوعي ضد صاحبه، ونفيٌ أبدي إلى منفى لا عودة منه. إنه يُشبه رسولًا بلا رسالة، أو شاهدًا على مأساة بلا جمهور. يرى، يعرف، يدرك… لكنه وحيدٌ في معسكر الحقيقة، يصرخ في فراغٍ لا يرد