face like

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الثلاثاء، 31 مايو 2022

تشريع الزيف وتمرير الخُرافة لتبرير الهَوَس بالخلافة

0 تعليق



من البديهي القول: إن تغطية الحقيقة لا تجعل من الزيف حقيقة، وغيابها لا يُكسبه صفاتها..، تمامًا كما أن العجز عن تحديد السبيل الصحيح، لا يُبرر السير في السبيل الخاطئ! نظريًا، ممارسة الزيف فعل مُجرَّم، وحصول الوهم نتيجة مذمومة – وفق مبادئ ومعايير الأعراف البشرية! لكن في الواقع، يجري تبرير الزيف وافتعال التَوَهُّم في جُلِّ مناحي الحياة البشرية، وعلى أوسع نطاق وبعلم ومباركة الجميع – تقريباً! 

للزيف وجوه اجتماعية، منها.. من المفارقات أن يكون الإنسان هو الكائن الوحيد أو هو أشد الكائنات نبذاً للزيف وادعاءً لحب الحقيقة والبحث عنها، وفي ذات الوقت يتفرد بممارسة الزيف وقبوله، بل ويضع له التشريعات..، ابتداءً من تفرّده بارتداء الملابس التي تحولت وظيفتها من ستر العورة إلى إخفاء الحقيقة..، وكأن حقيقة الإنسان عورة! حيث أصبح اللباس ميداناً ووسيلةً للتنافس على الظهور بصورة مهيبة أو مُخيفة أو مغرية أو بريئة…الخ، وذلك حسب الغاية لا حسب الحاجة! فالصورة التي ترسمها الملابس لمرتديها في مخيلة الناظرين لا تعكس حقيقته، ولم تقف عند وظيفتها الأساسية المتمثلة في إخفاء عورته، بل تجاوزتها لتعكس رغبته في إبراز عيوب الآخرين – الأقل منه مقدرة مادية – على إخفاء عيوبهم! بالنتيجة، كل البشر يحرصون على الظهور بصورة مُزيَّفة – تم تشريعها في عرف البشر، وهو الزيف الذي لا يُمارسه غير البشر، وهم الذين ينبذون الزيف ليلاً نهارا! ليس بين البشر- مثلاً- من لا يتجمّل، ليُخفي صورته الحقيقية، ويظهر بصورة مُزيَّفة يوم زفافه..، ويتقبل منه الطرف الآخر ذلك، ويُبرر له المجتمع تزييفه للحقيقة! وما ذلك إلا زيف متبادل، لإظهار شعورٍ كاذب بسعادة مفتعلة في مناسبات وهمية.. تعكس خَواءً قيميّا لدى البشر، مُرعِباً للعارفين والصادقين! ومع امتداد الطريق تنتهي صلاحية رخصة التزييف، ليجد الأصدقاء والجيران والزملاء والأزواج أنفسهم مضطرين إلى إظهار معظم حقائقهم ومواجهة حقائق الآخرين – شكلاً ومضموناً –، مما يؤدي إلى ظهور الخلافات وتبادل الاتهامات بالتزييف والخداع، لتنتهي العلاقات بالفراق أو الاستمرار القسري الناجم عن الحاجة وقلة الحيلة! 

 للزيف وجوه سياسية، منها .. قلَّما وُجِد رئيس أو زعيم مفكر، يمتلك مَلَكَة أو آلية إنتاج الأفكار الخلَّاقة، لكي يستحق أن تُنسب له إنجازاته، فجُل الرؤساء لا يُمثلون الصورة المرسومة لهم في مخيلة شعوبهم وخصومهم – على حدٍّ سواء! بل إن كل ما يُبهِر البُسطاء ويُخيف الأعداء مما يشاهدونه ويسمعونه من مواقف الرؤساء، مما يُنسب زيفاً إلى أشخاصهم..، هي في الحقيقة مَشَاهد مختلقة لتزيين صورهم وإعطائهم خصوصية وغموضاً بما يؤهلهم لبقائهم حيث هم! أما ما يُرى على أرض الواقع فهي نتائج لأفكار وأذواق خليطٍ من البشر – أعدادٍ كبيرة من المستشارين وأجهزة الأمن والاستخبارات! ولا يليق بنا أن ننسى دور الخياط والمزيِّن- الحلاق-، والإعلاميين والأطباء، وسواهم ممن يسهرون على إظهار الرؤساء بما يُبهر البُسطاء! 

 للزيف وجوه عقائدية، منها.. رجال الدين – الفقهاء أو علماء الغيب–، يُحذرون الناس من استعمال العقل في شئون الدين، ويمنعونهم من محاولة فهم رسالتهم في الحياة أو إخضاع مسألة وجودهم للعقل والمنطق البشري..، ويُبررون ذلك بحُجّة أن نتيجة استعمال العقل في أمور الدين، تؤدي بالضرورة إلى الكفر بالدين، ولا تأتي بالبديل! وبالمقابل يأمرونهم بأفعال وأقوال، وينهونهم عن أخرى، … ولا يكفلون لهم النتيجة، ولا يأتونهم ببرهان! بمعنى أن الإيمان والالتزام بفتاوى الفقهاء، تكتسب مشروعيتها من غياب البديل، وليس من برهان وحُجّة ودليل! فإذا ظهر وثبت الخطأ في أحكام الدين، بواسطة العقل والعلم..، ظهر السؤال عن البديل..، وكأنها عقائد مؤقتة لحين ظهور البديل! وكأن العجز عن تحديد الطريق الصحيح، يُبرر للعاقل السير في الطريق الخاطئ! أما إذا ظهر الخلل في نتائج تطبيق أحكام الدين- المستنبطة بواسطة الفقه، فإنه من السهل تبرير تلك الأخطاء، وذلك بتفسيرها بما لا يقبله العقل، باعتبار أن استنباط الأحكام وتفسير المبهم في الشرائع والأديان لا يخضع أساسا للعقل ولا للمعايير المفهومة! إن اختلاف المجتمع البشري عن غيره من المجتمعات، واتصافه بالعقل، لا يُحسب لصالحه بالضرورة! فوصفه بالمجتمع الأخلاقي أو الديني أو القانوني، لا ينفي تفرده بجملة من المَشَاهد اللا أخلاقية المُخزية والمصاحبة لوجود العقل، والتي ينعدم وجودها في المجتمعات غير العاقلة! ولعل التفوق في صناعة وممارسة الزيف والكذب، والقابلية اللا محدودة للجهل والوهم، هي من أبرز الأخلاق والصفات المناقضة للعقل، والتي تتربع على عرش الحياة والعلاقات في المجتمع البشري .. أفراداً وجماعات! ولسنا بحاجة للشرح، إذ تكفي الإشارة إلى مركزية رذيلة الكذب، باعتبارها القاسم المشترك بين كل الخصال البشرية الخسيسة، وهي الأساس في كل مأساة إنسانية وخلف كل جريمة بشرية! ولو أردنا أن نكون أكثر مصارحة لأنفسنا، وواقعية وعقلانية، لأمكننا أن نكشف عن الزيف والكذب في جوهر علاقة الإنسان الفرد بالحياة ورؤيته للوجود..، حيث نلاحظ أن الإنسان يشغل فكره وبصره- متعمداً- ببريق العاطفة الكاذب، ويُغلق مسامعه أمام صوت العقل الصادق؛ .. وهو لا يجهل ولا يُخفي سلوكه المنافي للعقل، وإنما يُبرره بأنه إنما يتجاهل الحقيقة، ليتمكّن من الاستمرار في الحياة؛ وليس من تفسير لذلك سوى أن النفس البشرية العاقلة تُبرر الوهم وتعشق الزيف، فتوهم ذاتها بأن للعدم جوهر ووجود وقيمة تستحق منا أن نحيا لأجلها، .. فتستمر النفس في سعيها وبناء علاقاتها دون أن تنتظر هدفاً من وجودها! ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه بإمكان العقل البشري، أن يسحب كل المجرمين بخيط مشترك واحد، هو خيط الكذب؛ كما يمكنه توحيد كل العقوبات في عقوبة واحدة؛ .. إذ لو اقتصرت معاقبة العاقل على جريمة الكذب، لكانت عقوبة شاملة لكل الجرائم؛ ولو ارتدع الكاذبون لاندثر الآثمون والمجرمون! فالكذب هو عباءة البراءة الخادعة التي يختفي خلفها المجرم والإرهابي والمنافق والخائن والسارق والقاتل والمتملّق والعابث وكل الآثمين..، إذ لا أحد من هؤلاء المجرمين يُظهر حقيقته قبل ارتكاب جريمته! فالكذب.. هو مذهب العقلاء، وهو صِفةٌ من صفات الأحياء، وهو المذهب الوحيد الذي لا يُدافع عنه معتنقوه؛ فحتى وأنت تعلم بوجود الكاذبين من حولك، فإن لك أن تصرخ بكل حرية وعلى الملأ وبملء فيك.. سُحقاً وتبّاً للكذب والكاذبين..؛ دون أن تخشى همجية الإرهابيين، أو ملاحقة المتحضّرين، حتى لو كُنت تُخاطب أكذب الكاذبين..، ولعل هذا التناقض هو الداء المزمن المكين، والذي ينفي كل أساس لوجود الأخلاق الإنسانية التي يتغنى بها المجتمع البشري! 

 أكذوبة الدهر الخُرافية.. إن أبشع نماذج التزييف والكذب، هي تلك الأنماط ذات الطابع البشري العام، وذات الصبغة الثقافية المؤدلجة التي تتوارثها الأجيال عبر العصور، فتبتعد صورتها عن جذورها، وتكتسب طابع البداهة زوراً؛ والممزوجة عادةً بتهديدات أسطورية وإغراءات خرافية، والتي تؤدي إلى إرباك وتعطيل عقول الضعفاء والبُسطاء والمغفلين، وتُفضي إلى خضوعهم واستسلامهم الكامل وغير المشروط وغير المبرر بين أيدي الكاذبين! ومن أمثلة ذلك، الأكذوبة الأزلية، التي تقول بأن كل عاقلٍ هو بالضرورة حاملٌ لمسئوليةٍ يجهلها، وأنه مُكلفٌ بأمورٍ تفوق إدراك عقله، وأنه محاسبٌ عليها بدقة متناهية كما لو أنه قرأ بنودها وتعهّد بحملها سلفاً – متطوعاً متحدياً..، فهذه الأكذوبة الخرافية، هي على درجة من الخبث، حتى أنها لا تُضاهَى من حيث أثرها السلبي في تاريخ الوجود والعلاقات البشرية، ولا ريب أنها سببٌ أساسي ومباشر في جُل أو كل ما عاشه ويعيشه البشر من صراعات وصدامات مؤلمة مدمرة وغير مبررة! وذلك لأن هذه الأكذوبة، قد انطلت على الملايين من البُسطاء والمغفلين، فعطّلت عقولهم وجعلتهم ألعوبة بين أيدي الكاذبين والواهمين الذين أوهموهم بمقدرتهم على استنطاق الغيب المحجوب، وإخبار العاقل بما ينبغي تركه وما يجب فعله من سلوك وممارسات وطقوس! والمفارقة تكمن في أن المجاهرة بمثل هذه الأحجية المكذوبة رديئة الفبركة، كان ينبغي أن تؤدي بالضرورة إلى إسقاطها، أو إلى فك ارتباط التكليف والحساب بالعقل! ولكنها بدلاً من ذلك، كشفت عن مدى سطحية الفكر البشري في جُلِّه، وقابليته للوهم والجهل! فهذه الأحجية يمكن دحضها ببساطة شديدة، حيث إن القصور أو العجز الطبيعي عن إدراك الرسالة ينفي المسئولية عنها حتماً! وارتباط التكليف والمسئولية بالحياة، دون قدرة للعقل على فهمها، يجعل من كل المخلوقات الحية مسئولة، وينفي تفرّد الإنسان بها! إن الذي يقول بهذه الأكذوبة ويدعو لها، هو ليس جاهلاً ولا واهماً، بل هو كاذب يتعمد الكذب، ويهدف إلى اصطياد السُذَّج، لبناء مملكة من التُبَّع المرعوبين السامعين الصامتين المسحورين الطائعين! فهو يعلم تماماً أن ما يقوله لا يمكن أن يكون صحيحاً إلا بمقاييس السَذَاجة والقصور الفكري لدى المعاقين عقلياً والمرتجفة قلوبهم. ولذلك فهو لا يقبل التساؤل حول نظريته، وتكون إجابته للمتسائلين عادة، هي التهديد بغضب غيبي، والوعيد بأصناف من عذابات بمقاييس فلكية، يدّعي هو أنه مُطلع عليها - دون برهان! .. وبذلك فهو كاذبٌ وليس واهماً! لكن الواهم والجاهل هو الطرف الآخر الذي يُصدّق مثل هذه الأكذوبة المفضوحة – أمام أقل العقول خبرة وإطلاعًا! إذ كيف يكون العاقل مكلفاً ومسئولاً ومحاسباً – بسبب العقل – عن أمورٍ لا علاقة لها بالعقل، أو لا يمكن أن يُدركها العقل، ولا ينبغي البحث والتفكير فيها بالعقل! والأدهى من ذلك، أن يُقال ويُصدَّق، بأن تلك التكاليف والمسئوليات التي سيُحاسب عليها كل عاقل، هي من حيث إدراكها تقع في متناول قلة قليلة من العقلاء دون غيرهم، وأنه على البقية إتّباعهم دون استعمال العقل، ودون طلب الدليل والبرهان! إذ لو كان الأمر كذلك، لكان التكليف والمسئولية والمحاسبة مقتصرة على أولئك القلائل القادرين على فَهْمِ واستنطاق الغيب واستنباط الأحكام! ولكان نصيب التابعين القاصرين عن الفهم، هو التكليف وحده دون المسئولية! ولكن الأمر ليس كذلك، فالزيف ظاهر للعيان، فأنت تابع لغيرك- ليس لك حق الاستقلال عنه، وأنت في ذات الوقت مسئول عن كل خطأ تقع فيه بسبب إتّباعك له..، وفي نشر وتصديق مثل هذه المهزلة البشرية، يتجلى الكذب والزيف والوهم والجهل في أوضح صورها! 

 الخوف والطمع.. منافذ لدخول الزيف! الخوف والطمع المرتبطان بالزمان والمكان والموضوع المحدد، يمكن اعتبارهما من الصفات المشتركة بين كل الكائنات الحية، بصورة أو بأخرى! أما الخوف والطمع المرتبطان بالمجهول والغيب، وبما بعد الموت، فهما من صفات العقلاء دون غيرهم، كما هو شأن الكذب والجهل! ولَمَّا كان الكذب هو سلاح المرتزقة والعابثين بالأخلاق والمبادئ، فقد كان الخوف والطمع هما نقاط ضعف البُسطاء والغافلين في الجانب الآخر! فالذين يُخاطبون العقلاء- باعتبارهم مكلفين ومحاسبين بسبب العقل -، ثم يُطالبونهم بتعطيل العقل، ويوحون لهم بأنهم مكلفون بما يفوق إدراك عقولهم..، فهم في الحقيقة إنما يستعملون خاصية الكذب لديهم، لتفعيل خاصيتي الخوف والطمع لدى المخاطَبين! وهم يُراهنون على أن تفعيل وتنشيط خاصيتي الخوف والطمع قبل غيرهما، كفيل بتعطيل بقية خواص العقل..، وقد نجحوا في رهانهم مع جُل البشر! 

كائن أخلاقي مفترس! إذا كان الافتراس سلوكاً بشعاً، وإذا كان كل كائن حي، ينتزع الحياة من كائن حي آخر، ليقتات على جسده، من أجل أن يعيش هو، يُعدُّ كائناً همجياً مفترساً! فإن هذا ما تفعله كل الكائنات الحية – بمستوى أو بآخر – والإنسان في مقدمتها؛ وبذلك تكون كل الكائنات الحية على الأرض، همجية ومفترسة؛ ويكون الإنسان هو ذلك الصنف الذي تجتمع فيه كل صفات الكائنات الحية على الأرض ..، الذكي منها والمُفسِد والوضيع والمتوسط والمفترس الصريح! فالإنسان يقتل غيره من الحيوانات ويأكلها، من أجل أن يحيا هو.. كما تفعل الحيوانات المفترسة؛ وكذلك فهو يُفسد في البر والبحر والهواء، من أجل رفاهيته وإشباع غروره واكتشاف ما أخفته الطبيعة عن مخلوقاتها، وذلك ما تفعله الديدان والحشرات والميكروبات وغيرها! ولكن تبقى صفات الكذب والخوف والطمع، خاصة بالإنسان العاقل، لا ينازعه فيها صنف آخر من الكائنات الحية على سطح الأرض! إذن، لا خصوصية للإنسان تُميّزه عن الحشرات والحيوانات، سوى العقل! والعقل ليس بمقدوره نفي وجود الموجود، ولا إثبات وجود ما لا وجود له؛ فالعقل ليس سحراً، كما أنه لا يتواصل إلا مع عقلٍ مثله! وبذلك فإنه لا بديل للعاقل عن العقل، ولا مُبرر مُطلقاً للتشكيك بصواب وتفرّد مرجعية العقل، ولا حُجّة لمن يرفض استعمال العقل كمُرشِّح ومختبر بشري مشترك ومعتمد النتائج في كل ما يخص الإنسان، من قبول أو رفض للأفكار والآراء.. بما في ذلك نظريات الأديان! رجال الأديان يرفضون مسئولية أديانهم عن تخلّف مجتمعات أتباعهم- حضارياً وعلمياً وإدارياً وقضائياً وسياسياً …-، بل هم يرون في الواقع المتخلّف للمؤمنين ..، تقدماً وتحضّراً ينبغي الاقتداء به ونشره! في حين أن الإنسان العاقل الطبيعي الحر، لا يجد سبباً ولا نتيجة لحكم الإنسان للإنسان باسم الدين، سوى المحافظة على درجة من الجهل والغفلة والبساطة والسطحية والسذاجة لدى المحكومين، بما يُحقق السيطرة على مجاميع كبيرة من البشر دون مُبرر ودون معارضة! إن العقل البشري عاجز حتى هذه اللحظة، وربما سيظل عاجزاً عن إدراك حقيقة مُبرهَنة، تُفسّر الوجود وما قبله وما بعده، هكذا يُجمع البشر! فهل الإيمان والتصديق، بأن إنساناً اتصل بالغيب دون شاهد، والذي هو أمرٌ دخيل على معارف الإنسان، وخارج عن ثوابته، والذي يرفضه جوهر الإنسان، ولا يقبله إلا تحت التهديد والإغراء، والذي هو عبارة عن تصديق إنسان لإنسان، وهروب من مواجهة العدم.. - هل الإيمان الذي هو بهذه الصورة، والذي لا يمكن أن نراه بغيرها..، هل هو البديل المناسب عن العقل، وهل هو الجواب النهائي الذي يُبرر لِجُل البشر الاكتفاء به والخضوع لمضاعفاته القاتلة، والتوقف عن البحث، والتظاهر بقناعات والتمسّك بمعتقدات لا تصمد أمام سؤال العقل؛ .. الأمر الذي جعل رسالة جُل المؤمنين مُختزلة في حماية معتقداتهم من مواجهة العقل، بدل إثباتها بواسطته! إن رجال الدين في ذلك إنما يُحاكون عموم البشر، الذين يرفضون اعتبار الإنسان حيواناً كسائر الحيوانات، متجاهلين واقع معظم البشر الذين يفوقون معظم الحيوانات من حيث السلوك الحيواني البهيمي والهمجي الفوضوي والعدواني الخالي من أدنى مظاهر المسئولية الذاتية والذوق والمنطق والعقل والأخلاق والوفاء؛ ويتساوون مع معظم الحيوانات من حيث القيمة الوجودية الموضوعية! حيث لا فرق بين الخِراف التي يتم ذبحها بأمر مالكها في مناسباته، وبين البشر الذين يُساقون إلى القتل والقتال بأمر زعيمهم في معاركه! فالاختلاف الظاهر بين البشر والخِراف هنا، سببه فقط أن ما يصلح له الخروف لا يصلح له الحارس الشخصي والعبد والعامل والمُجنّد البشري! ولا شك أنه لو كانت لحوم البشر تؤكل لدى البشر، لرأينا قطعاناً من الشعوب تُذبّح في مناسبات رؤسائها؛ ولكن، ولكي لا يكتمل المشهد ويتضح للجميع- كما هي صورة الطبيعة الناقصة في كل مشاهدها– فإن الحيوانات لا تأكل لحوم أجناسها، والإنسان أحدها، ولم يشذ عن هذه القاعدة..؛ وإلا فإنه بالنسبة للسيد، لا فرق بين العبيد والخراف، إلا من حيث المهمة التي يصلح لها هذا الصنف من المخلوقات ولا يصلح لها سواه! إن العقل هو العنصر الأساسي في تكوين وتحديد وإثبات كينونة الإنسان بتميّزه وخصوصياته؛ حتى أن وجود العقل بات العقبة الكأداء أمام تقدّم وانتشار نظرية النشوء والارتقاء – التطور، واكتسب العقل صورة الورقة الرابحة التي ترفعها نظرية الخلق! ومع ذلك يتمسك أنصار نظرية الخلق، بأحجيتهم القائلة، بأنه لا إيمان بدون عقل، ولا عقل مع الإيمان! 

العيش بين الفروع يَخلقُ منها أصولاً كاذبة.. الإنسان لا يمكنه رؤية الأحداث والأشياء من حوله، وتقييمها والخروج بصورة متكاملة عنها، إلا بوقوفه مسافة كافية منها، والنظر لها من خارجها..، وذلك لا يكون إلا بواسطة الاختلاء بالنفس وممارسة حياة الوحدة، والاقتصار على الحد الأدنى من التواصل مع الآخرين! إن من ألدَّ أعداء الحيادية والإنصاف، وأشدَّ الأمراض الفكرية فتكا بالعقول وتمييعاً للحقيقة وتشتيتاً للفكر واختلاقاً للعداوات والأعداء، وتوهماً بوجود الأصدقاء ووجود الأمان والطمأنينة بينهم..، هو التواصل المستمر مع الناس لغرض التواصل، والخوض في جزئيات ويوميات الحياة – ذات العناوين الخادعة والشعارات الخاوية..، ذلك التواصل الخالي من كل معنى،والذي يُعطي صفة المصيرية لأحداث يومية عابرة، ونتائج ثانوية، وأمور زائفة تافهة. إن العيش المستمر بين جزئيات الأمور وفروعها، والنظر لها عن قرب شديد، وتقييمها من داخلها، يُكسبها أحجاماً كاذبة وقيماً لا تحملها! إن التواصل الاجتماعي لغرض التواصل وأداء الواجبات الجوفاء، يحول دون رؤية الأمور المصيرية، ويجعل من هوامش صفحات الحياة وملحقات كتاب الوجود ..، يجعل منها متوناً بديلة تشغل الفكر عن المتون الحقيقية! 

لا بقاء لحقيقةٍ بعد اكتشافها! لا يمكن أن تجتمع الحقيقة الكاملة مع مكتشفها في الزمان والمكان! فالحقيقة إما أن تلتهم مكتشفها لحظة اكتشافها، أو أنها تفقد وجودها بمجرد العثور عليها! الكل يُقر بأن الموت هو لحظة تتجلى فيها حقيقة مطلقة، ولكن لا أحد من الموجودين يمكنه أن يستعمل هذه الحقيقة التي يُقرُّ بوجودها، لأن استعمالها يستوجب الالتقاء بها واستمرار الوجود بعد الالتقاء.. وهذا ما لا يمكن حصوله! الموجودون دائماً هم الباحثون عن الحقيقة، ولا وجود لمكتشفي الحقيقة؛ فالذين أدركوا حقيقة الموت كانوا قد فارقوا عالم الإدراك لحظة إدراكها..، ليبقى الوجود فقط للحقيقة وحدها أو للباحثين عنها، وليس للاثنين معاً! الآنسة الجميلة الفاتنة، التي تُخفي هي مفاتنها، بينما تفضحها مواضع الجمال التي لا تستطيع إخفاءها ..، هي تظهر في صورة الكاذب الذي يتظاهر بامتلاك الحقيقة وإخفائها؛ وهي تبدو على هيئة المنافق عند تظاهره بالإيمان..، فتثير فضول الباحثين عن الحقيقة، بغض النظر أكان الكذب والنفاق هنا طوعيين مُعبرين عن قناعة وهادفين إلى غاية معينة، أو كانا رضوخاً لأعراف مجتمع..، فالنتيجة واحدة في حسابات الآخرين وأثرها عليهم! فالفاتنة هنا، تُبقِي على جزءٍ من حقيقة جمالها محجوباً، ليستمد منه الجزء الظاهر طاقة البقاء؛ فالجزء الظاهر قد تمّ اكتشافه وفقد جاذبيته، ولم يعد يُمثّل حقيقة تستهوي الباحثين..، حيث إنه أصبح جزءاً من حقيقة اجتمعت مع مكتشفها في الزمان والمكان، ففقدت وجودها بفقدانها لروح الحقيقة الباقية التي لا يمكن أن تلتقي بالباحثين عنها! 

 كأنما الزيف جوهر وقيمة في وجود الإنسان .. إن الإنسان، ذلك الكائن الذي يدّعي التفرد بالوعي وامتلاك الحكمة فوق الأرض، هو في الواقع الكائن الوحيد الذي يكذب متعمداً، لكي يجعل لحياته معنى، فيضع عناوين مزورة لتِيهِهِ، ويُخفي تفاهة قيمته..، وذلك ببحثه الظاهري عن حقيقة مفقودة ليس لها أثر، أو حقيقة غائبة مفترضة لم يكن لها وجود في حياته في يوم من الأيام! إنه يسعى بوعيه المفترض وكذبه المعلوم، ويقترب من خلق عالم من الزيف الودود، بديلاً لعالم الحقيقة – المجهول واقعاً والمفزع افتراضاً! إن الإنسان يُمعن في الكذب ويتفنن ويُتقن صناعة الوهم ويُعدد مجالاته، كأنه يرمي إلى إلحاق الهزيمة بالحقيقة التي عجز عن إدراكها أو عن مواجهتها! فيسعى الإنسان مبكراً للحصول على شهادة بشرية، تُثبت أنه يمتلك قسطاً من المعرفة، يؤهله لنيل رضا بعض البشر عنه، متوهماً أن شهادته تلك هي مفتاح السعادة! ثم يبحث عن وظيفة، يُسلّم بمقتضاها مفاتيح حريته علناً لرب العمل! وتكون الوظيفة عادة على حساب إنسان آخر؛ ثم يزعم المستفيد من الوظيفة، شعوره بالحزن والشفقة والأسى لحال ذلك التعيس الذي حرمه هو من تلك الوظيفة! ثم يبدأ بالتخطيط للتضييق على نفسه وحرمانها من بعض مستحقاتها الطبيعية، وتحطيم ما يعترض تخطيطه من مبادئ أخلاقية – طالما آمن بها ودعا لها -، سعياً لتوفير ما يمكن توفيره من المال، بهدف اقتناء المنزل والأثاث والمركوب، ثم الزواج والإنجاب ..، ليبدأ رحلة الألم المُخطط له، .. ولينتهي إلى لا شيء، وهي النتيجة التي يعلمها مسبقاً، والتي كان يمكنه بلوغها دون جهد! فالحقيقة التي يتعامى عنها الإنسان ويتجاهل ذكرها، هي أن كل ما يفعله وما يقتنيه، لا تعدو أن تكون أوهاماً وأشياءً مُزيفة، يسعى لتجميعها ووضعها بجانبه في كفة الميزان، لعله يكتسب قيمة ووزناً في نظر الآخرين، وليشغل بها نفسه عن رؤية حقيقة يعلمها، وكأنه يهدف لإثبات أن للعـدم وجود ووزن وقيمة! 

 ابتداع مبررات وتجاهل المبررات.. لو اقتصرت العقوبة بتهمة الزنا، على حالات الاغتصاب، ولأجل حماية القُصّر..، لفُهمت الغاية وقُبلت الرواية! أما استخدام تهمة الزنا لمعاقبة من يُمارس الجنس في غير هاتين الساحتين، فلا معنى له، والصحيح هي معاقبته على جريمة الكذب..، بسبب البراءة الكاذبة التي يتظاهر بها! فالمأساة الحقيقية للمتهم بالزنا ليست في العقوبة..، إنها في زيف التهمة وحقيقة العقاب! وما يُسمّى بالزواج الشرعي أو المُقدّس، هو في الحقيقة أحد أوضح مظاهر الزيف المُرخّص والمُعلن.. من حيث هوإيذان بممارسة العملية الجنسية، بشهادة أطراف خارجية، ليسوا أطرافاً في تلك العملية! إن ما يكفله العقل والمنطق والأخلاق للإنسان، هو الدفاع عن نفسه وعن ممتلكاته، وعن مظلوم يطلب نصرته! والإنسان العاقل البالغ الحر، لا يصح أن يُحسب ضمن ممتلكات إنسان آخر- مهما تكن صلته به، ولا يصح أن يخضع العاقل لوصاية عاقل مثله..، وإلا انتفت عنه صفة العقل! ومن هنا فإن العقلاء البالغين لا ينبغي أن يسمحوا بمراقبة ووصاية أو أن ينتظروا موافقة من الآخرين على أي نشاط أو علاقة خاصة بينهم – لا تمس حرية وحقوق الآخرين، إلا أن يكونوا عبيداً مملوكين لغيرهم، وليسوا أحراراً في حياتهم؛ وهنا ينبغي تسمية الأمور بمسمياتها، فنقول إن العقوبات المُطبَّقة بشأن الممارسات الشخصية، هي لإثبات وتكريس مبدأ الوصاية الفكرية والاستعباد وثقافة المجتمع الأبوي، وليست عقوبات يُبررها أو يقبلها العقل البشري!

الجمعة، 20 مايو 2022

أوهام العارفين ومعارف الواهمين!

0 تعليق


الفيلسوف والسطحي، أيهما أغبى؟ بين الفلاسفة والسطحيين توجد درجات يشغلها المثقفون والمفكرون وأشباههم، وأولئك هم الواهمون، وهم جميعًا أقرب إلى السطحية وأبعد عن الفلسفة! الفلاسفة والسطحيون متساوون من حيث البساطة والغباء .. ما يميزهم عن غيرهم هو أنهم تقليديون "طبيعيون"، وليسوا مشوهين كالواهمين! الفيلسوف يبذل جهدًا فكريًا قاتلاً، ليمنح معنًى لوجودٍ لا معنى له .. السطحي يبذل جهدًا جسديًا قاتلاً، ليجني معنًى من وجودٍ لا معنى فيه! الواهم يعتقد بوجود المعنى ويتوهم بلوغ الحقيقة! 
 - الفيلسوف هو كل إنسان يمتلك رؤية خاصة لكل شيء في حياته الخاصة وفي الوجود من حوله – من أصغر مكونات الذرة إلى الكون كله، ولا يتعاطى مع أي أمر أو أي شيء إلا من خلال رؤيته الخاصة، سواء اتفقت رؤيته مع رؤى غيره أو اختلف مع رؤى الكل، وسواء توافقت رؤيته مع مصلحته أو تضاربت! - السطحي هو كل إنسان لا يمتلك رؤية خاصة حيال أي أمر، ولا يشعر بحاجة لامتلاكها! - الواهم هو كل إنسان يعتنق رؤى غيره صدفةً ودون مقدرة على إدراك حقيقتها، ويتعاطى مع الأمور من خلالها متجاهلاً جهله بها! 
 - الفيلسوف مرتاح جسديًا، مرهق فكريًا حتى الجنون!
 - السطحي مرتاح فكريًا، مرهق جسديًا حتى الموت! الإنسان المثالي، إنسان بجسد فيلسوف وعقل سطحي! الفلاسفة والسطحيون لا يعلمون بوجود بعضهم، بل لا يمكن لأي منهم تصور وجود الآخر – بدايةً .. كل إنسان لا يمكنه بدايةً إلا أن يفترض بأن كل الناس مثله – فكرًا وفهمًا وقناعات ورغبات .. الخ، ثم يبدأ باكتشاف الاختلافات، وهي التي تتحول إلى خلافات عند الواهمين، بسبب افتراضهم للتطابق الفكري بين البشر، وهذا ما أوجد فكرة أو فقه الإرهاب الديني، فالإرهابيون يعتقدون بأن كل البشر نسخة واحدة من الناحية الفكرية، ما يجعلهم يعتقدون بأن عدم قناعة الآخرين بأفكارهم هو مجرد استهزاء وتكبر، بينما الآخرون مختلفون عنهم فعليًا، ويموتون ويتألمون بسبب قناعات لا يمكنهم تغييرها، وليس تكبرًا 
 - السطحيون لا يتوقفون عند الاختلافات بين البشر إلا لحظيًا، مع عدم القدرة وعدم الرغبة في فهمها! - الفلاسفة يتوقفون عند أبسط الاختلافات، ولا يمكنهم تجاوزها إلا بعد أن يجدوا لها تفسيرًا وعلاجا! - الواهمون لا يقرون بوجود الاختلافات، أو لا يسلمون بتأثيرها على البشر، فالمساواة قائمة وممكنة عندهم مهما بلغت الاختلافات! - الفيلسوف يتصور بدايةً، أن كل الناس مثله، وأنهم فقط غافلون عما انتبه له هو ..، فيعمل على تنبيههم! - السطحي لا يمكنه دائمًا إلا تصور الناس على أنهم مثله، ويتصرف كالأعمى - ليس ملزمًا بتصديق ولا تكذيب ما يراه غيره ولا يراه هو! 
 - مأساة الفلاسفة وعلماء الفيزياء .. علماء الفيزياء تمنوا أن لو كانوا قد توقفوا خارج الذرة – هناك حيث توقف المنطق، لأنهم خسروا بدخولهم لها سعادتهم ونشوتهم بما حققوه خارجها! كذلك يتمنى الفلاسفة في نهاية المطاف أن لو كانوا قد توقفوا عند تخوم المعرفة- هناك حيث يقف السطحيون، فقد خسروا بفلسفتهم سعادتهم وحياتهم، ولم يُغيروا في الواقع شيئًا! علماء الفيزياء أخطأوا باعتقادهم أن كل شيء محكوم بالمنطق، حيث تجاهلوا أو غفلوا حقيقة أنهم هم أنفسهم يحتكمون للمنطق ككيان مركب فقط، أما من داخلهم فهم خاضعون لمزاج فاعل، لا سيطرة لهم عليه ولا معنى للمنطق معه، وهذا بالضبط هو حال الذرة ..، وليس الإنسان سوى عدد هائل من الذرات! - المزاج الفاعل موجود داخل الذرة وداخل الإنسان، وبالضرورة .. - السلوك المزاجي ضروري لإحداث الوجود، فلو كان كل شيء منطقي، لما تغير شيء من الأساس، أي لما كان لشيء أن يوجد، فليس الوجود سوى تغير في الكون، والتغير لا يكون إلا بفعل سلوك مزاجي .. - السلوك المزاجي هو طبيعة الوحدات الكونية، والتي هي مكونات الذرة وغيرها، مما بات يُعرف بالعالم الكمومي! - مفهوم المزاج الفاعل – كوجهة نظر، قمنا بطرحها بشيء من التفصيل في مقال سابق .. الرابط!
. - ما كان الفلاسفة لينطقوا بكلمة لو كانوا يعلمون بحقيقة السطحيين وأعدادهم وفائدة السطحية .. ربما كان الفلاسفة سينصحون بعضهم بالتسطح، بدل أن ينصحوا السطحيين بالتعمق، لو أنهم أدركوا وجود السطحيين واستطاعوا تصديق الأمر وتصوره .. السطحية ضرورة للحياة ذاتها قبل أن تكون عماد السعادة فيها! الفلاسفة يطرحون رؤاهم كتوعية لبني جنسهم، ولا يتصورون أنهم كمن يخاطب جنسًا آخر مختلفًا عنه.

الاثنين، 9 مايو 2022

بين العِلم والإيمان كما بين الواقع والخيال (2).

0 تعليق


 ما هو الوجود؟ 
عندما يُقال الوجود، فإن المقصود إما أن يكون وجودًا عمليًا 
ماديًا – نقيضًا للغياب، أو أن يكون وجودًا فلسفيًا مطلقًا – نقيضًا للعدم! مفهوم الوجود المطلق بمعنى نقيض العدم المطلق، يمكن اعتباره مفهومًا افتراضيًا – لا واقعيًا، باعتبار أن الوجود قد كان، ولا معنى للحديث عن عدم مطلق محتمل سابق، في ساحة وجود مادي عملي آني! أما مفهوم الوجود بمعنى نقيض الغياب، فهو مفهوم عملي واقعي، ولعله الدلالة الصحيحة للفظة وجود! ومن هنا يكون الحديث عن الوجود بمعنى أنه نقيض العدم المطلق، هو من قبيل الترف الفكري لا أكثر! بالنسبة للإنسان، فإن كل شيء يمكن إدراكه بالحواس أو إثباته بالبرهان، فهو شيء موجود! والوجود بصفة عامة، يتجسد في الشكل والتأثير اللحظي أو المرحلي، الذي تكون عليه المادة أو الطاقة – المتحولة المتغيرة – بسبب خضوعها لقوانين الطبيعة! وقوانين الطبيعة يمكن تعريفها بأنها النتيجة الحتمية التي تنجم عن تلاقي مواد ذات خواص مختلفة! وبالتالي تكون قوانين الطبيعة هي القوة – الافتراضية – التي تمنح للموجودات أشكالها وسلوكها بحكم تلاقي المختلفات! 

 ما معنى الحياة؟
 عند مقارنة جماد (مادة ميتة) بكائن حي (مادة حية)، نلاحظ أنهما يتشابهان إلى حدٍّ كبير من حيث أن كليهما يتغير أو يتحول.. التحول في المادة الحية يكون سريعًا ومحسوسًا، بينما التحول في المادة الميتة يكون بطيئًا وغير محسوس..، لكن بالنتيجة كلاهما في حالة تحول مستمر! بشكل عام وظاهريًا، يبدو لنا أن الجماد يتغير أو يتحول بسبب عوامل خارجية..، بينما يتغير أو يتحول الكائن الحي ذاتيًا أو داخليًا- الكائن الحي يَستهلك ذاته-، وهذا هو معنى وحقيقة الحياة! أي أن الكائن أو الشيء الذي يَستهلك ذاته ولا يحتاج إلى عوامل خارجية كي يتحول من حال إلى حال، يوصف بأنه كائن حي؛ بينما الكائن أو الموجود الذي يبقى على حاله إذا لم تؤثر عليه عناصر خارجية، يوصف بالجماد! وإذا كان الأمر كذلك – ولعله كذلك – فإنه يمكننا وصف بعض الجمادات بأنها كائنات حية، حيث إنها تستهلك ذاتها وتتغير خواصها دون تأثير خارجي، وبصورة سريعة نسبيًا، وتتحول إلى أشياء أخرى مختلفة عن الأصل.. مثل العناصر الطبيعية المُشِعَّة! وربما لا نكون قد ابتعدنا عن الحقيقة والواقع كثيرًا، إذا قُلنا بأن بعض البشر يصح وصفهم بالجماد، من حيث أن سلوكياتهم وممارساتهم وقناعاتهم ومبادئهم التي تحدد هوياتهم، لا تنبع من ذواتهم، إنما تنبع من خارجهم! ولتوضيح ما يبدو أنه مفارقة هنا، عند القول بخضوع كل الموجودات لقوانين الطبيعة، وفي ذات الوقت القول بأن الكائن الحي ذاتي التحول والتغير، نقول: إن الكائن الحي هو عبارة عن اتحاد مجموعة من العناصر المختلفة، وبحسب قوانين الطبيعة فإن تلاقي العناصر ذات الخصائص المختلفة، يُحتِّم حصول التحول وظهور نتائج محددة وحتمية! وبهذا يكون التحول الذاتي عند الكائن الحي، هو نظرية صحيحة فقط عند النظر إلى الكائن الحي على أنه كتلة واحد، بينما يكون سلوك الكائن الحي نتيجة طبيعية لقوانين الطبيعة عند النظر إليه باعتباره اتحاد مجموعة من العناصر المختلفة المتفاعلة – وهذا هو الواقع الحقيقي 
. حياة البشر 
.. يمكننا أن نُعرِّف حياة البشر – بالعموم وليس بالمطلق- بأنها مستوياتٌ أو مراحل أربعة، من الانتظار الحقيقي المصحوب بفعل جزئي واستعداد افتراضي..،
 1- مرحلة الشعور بالحياة! وهي انتظار الصغار لمرحلة البلوغ، أملاً في إدراك ما يجهلونه، وتحقيق ما يعتقدون أن طفولتهم تحول دون تحقيقه!
 2- مرحلة الإحساس بالحياة! وهي انتظار المراهقين وسعيهم لانتزاع إقرار المجتمع بوجودهم، وانتزاع حقهم في إشباع الغرائز وتلبية الشهوات والرغبات، والمنافسة على المراكز التي تُثبِتُ وجودهم وتُبرز تَمَيُّزهم – المفترض!
 3- مرحلة انتظار المجهول بعد تجاوز المعلوم! حيث يدخل الإنسان – بعد الزواج والإنجاب – ساحة الاستسلام رافعًا راية الرفض، مُكابرًا مُحاولاً تجاهل خيبة الظن التي لم تبرح حساباته في كل المحطات التي مرَّ بها!
 4- مرحلة البحث عن الحياة! حيث يتساءل الإنسان، عندما تخور قواه ويكاد يُدركه اليأس ويرفضه المكان ويستعجله الزمان..، يتساءل: هل أنه كان حيّاً بالفعل فيما مضى من زمن! لكن ذلك غير صحيح، لأن معنى ذلك أن الحياة التي تم احتسابها عليه، هي فقط ذلك القلق الذي كان يملأه، والجُهد الذي كان يبذله، والسرور اللحظي الذي كان يختفي قبل أن تكتمل مَشاهده! أم إنه لم يكن حيّاً، بل كان يبحث عن شيء اسمه الحياة..، وهل عليه أن يَجدَّ ويجتهد في البحث عنه – أكثر من ذي قبل – فيما تَبقى له من قُدرة ومن زمن، وهو الهدف الذي لم يُحققه عندما كانت ظروفه أفضل! أم إن فلسفة الكينونة والحياة ونظرية الوجود المستقل التي يعتقدها ويعمل ويحلم ويُفكِّر الإنسان على أساسها، هي العنصر الذي يحمل القيمة الخطأ في معادلة وجود الإنسان..، وأن تلك الفلسفة والنظرية هي التي أعطت لكل النتائج انحرافها..، وأن الإنسان الفرد في حقيقته ربما لا يعدو أن يكون ذرة في جزيء أو خلية في نسيج، يؤدي وظيفة ثانوية تكميلية غير مباشرة، تتنافس على أدائها كل الخلايا المتشابهة، في جسد كائن مجهولٍ اسمه الحياة..، وأن جسد ذلك الكائن يُجَدِّد خلاياه بما يوافق مصلحته وغايته، وأن الخلية التي يَقِلُ عطاؤها، ينتهي دورها، ويُصبح وجودها عبئًا على الجسد، فيلفظها – حين يستغني عن خدماتها..، وكل الخلايا سيَقِلُّ عطاؤها وستُلفَظُ يومًا..، وذلك تمامًا ما تفعله كل الأجساد الحَيَّة مع خلاياها، حيث إنَّ الخلايا (كرات الدم البيضاء – مثلاً) تبدو ككائناتٍ تُفكِّر وتعمل كما لو كانت لها كيانات مستقلة ذاتية القرار..، بينما هي في الحقيقة خاضعة لآلية خارجة عن سيطرتها، تقوم تلك الآلية بتفعيل الخلايا وتوجيهها وحثها على الفعل والتكاثر وأداء دور معين، كما تقوم تلك الآلية بتجديد الخلايا – تدمير القديم واستحداث البديل..، فلو كان للخلايا كيانات مستقلة وذاتية القرار، لأصبح موتها انتحارًا، ولأصبح تكاثرها وأداؤها لدورها المميت غباءً..، وكذلك الإنسان! في المرحلة الأولى، يكون الإنسان مهووسًا بتعبئة الفراغات المعرفية، مدفوعًا بحب الاكتشاف وإدراك الجديد..، في المرحلة الثانية، يبدأ الإنسان بمطاردة أملٍ وهمي، مصدره ثقة مفرطة في النفس، تُبرِّرها حيوية مرحلية، تدفع الإنسان على الاعتقاد بجهل وضعف الآخرين..، والأساس في كل ذلك هو جهل الإنسان – شبه التام – بحقيقة ما يجري من حوله، وجهله المرحلي بحقيقة مكانته ومحدودية إدراكه ودوره وقدرته! في المرحلة الثالثة، يقل اهتمام الإنسان بمبدأ القناعة بما يفعل، حيث تدخل عناصر جديدة مجهولة القِيم في معادلة الفعل، حين يُصبح الإنسان يعمل لمصلحة غيره – بغض النظر عن رغبته وإرادته وحتى مقدرته -، حيث يتغاضى الوالدان عن قِسم كبيرٍ من حقوقهما وسعادتهما وقناعتهما، نزولاً عند حاجة الأبناء، ورضوخًا لعاطفة مصدرها الإحساس بالضعف الطبيعي والشعور الزائف بقوة وقيمة افتراضيتين وهميتين..، إن حجم الأسرة وخصوصية متطلباتها، هي التي تُحدد لولي الأمر الحد الأدنى من الجُهد الذي عليه أن يبذله، وحجم القلق الذي عليه أن يحمله! في المرحلة الرابعة، يكون الإرهاق قد نال من الإنسان، فلا يعود عقله وذاكرته وإمكاناته الذهنية والنفسية والجسمانية تُسعفه أو تسمح له بالتفكير بهدف إنتاج المعرفة، ولا حتى باستقبالها من خارجه! فَيَنصَبُّ جهده على تقليب محتويات الذاكرة، ويقتصر تفكيره على المقارنة بين نتائج التجارب السابقة، بحثًا عن أنسب المقاربات كإجابة نهائية لسؤاله عن كُنه الحياة..، ذلك السؤال الذي يتجدد ويزداد قوة بالتناسب الطردي مع ضعف الإنسان واقترابه من نهاية الطريق – وهو صِفر اليدين من أي قيمة وأي معنى وأي تعريف للحياة – التي كانت عنوانًا لكل ما بذله من جُهد وما أنفقه من زمن! في هذه المرحلة، يتطرف الإنسان ويتشدد ويتعصب إلى النتيجة التي يقع اختياره عليها من بين مخزوناته العقائدية..، فإذا كان الإنسان مؤمنًا بالبعث وحياة أخرى بعد الموت، يكون في آخر أيامه مُتطرفًا في إيمانه ملتزمًا واعظًا ناصحًا كأنه لم يكن مؤمنًا قبل ذلك..، وهو السلوك الذي يدعوه المؤمنون بالتوبة! ولعل الحقيقة هنا، هي أن ما يُسمَّى بالتوبة – خاصة في نهاية العُمر – هي ليست سوى إقرار من الإنسان بالفشل والصدمة وخيبة الظن، وبأنه لم يعد أمامه مُتَّسع من الوقت للبحث بنفسه أو لانتظار نتائج أبحاث الآخرين عن كُنه وقيمة الحياة، فيحسم أمره على التصديق بالحياة الأخرى، ويدعوها بالحياة الحقيقية والأبدية، ويُشدد على الربط بينها وبين الحياة التي يوشك على مغادرتها..، وذلك كعزاء أخير من الإنسان لنفسه وكورقة أخيرة يرميها في وجه اليأس دون المقدرة على التحقق من النتيجة، بل ودون المقدرة حتى على مجرد الخوض في تفاصيل واحتمالات النتيجة هذه المرة، مكتفيًا بتفاؤلٍ وأملٍ ليس لهما ما يُبررهما سوى الضعف واليأس اللذين لم يعد الإنسان قادرًا على إخفائهما!