مِن القِصص الطريفة والمُعبِّرة، التي تُروى على لسان الشخصية الشعبية التراثية "جُحا"!
يُروى أن أحدهم كان قد قصد "جُحا" يومًا، وطلب منه أن يُعيره حماره، ليقضي به مهمة ويُعيده له.
فاعتذر جُحا عن تلبية الطلب، بحُجَّة أن حماره غير موجود.
لكن، ما أن أكمل جُحا كلامه، حتى أحدث الحمار صوتاً (نهيقاً)، وكأن الحمار يقصد إحراج جُحا!
فقال الرجل لجُحا: آخر ما كُنتُ أتوقعه، هو الكذب من عاقل مثلك!
كيف تقول بأن حمارك غير موجود، وها هو الحمار يُثبت أنه موجود!
فقال جُحا للرجل: لا تعجب يا صاحبي، فهذا زمن العجائب..، هل سمعت قبل اليوم عن عاقل مثلك يُكذِّب إنساناً ويُصدِّق حماراً!
الأمر ذاته ينطبق عليك أيها الغريب الذي ترفض حُجَّتي لضعفها، وتتساءل لماذا أرفضك وأبغضك!
ألا أيها الغريب ما أجهلك! ألا تعرف لماذا أرفضك!
كانوا قبلك، يَرونني مخلوقاً رُوحيّاً، أُعلِّم الجُهلاء كيف تكون السعادة في أرض الخطيئة!
كانوا قبل ظهورك الذي أفسد كل شيء..، كانوا يوقنون بأنني أدرى بسعادتهم منهم؛ فقد أوصلتهم بدهائي وجهلهم إلى الاعتقاد بأنني لستُ من جنس البشر الآثم!
بل أنا من جنس طاهر شريف، يُحلِّقُ خارج المألوف، ليكشف المحجوب ويُنبئ بالغيب ويُخبر باللا معروف!
كنتُ أُشير إلى سماء لا وجود لها فيرونها، فأُخيفهم من سقوطها عليهم، فيُطيعونني ويهابونها!
كُنت أُشير إلى طيران الطيور فوقهم، وعجزهم عن مجاراتها، فيعترفون بضعفهم ويُقرّون بمعجزتي!
فَجئت أنت أيها الجديد من بعيد، بأمجادٍ محسوسة، لتقوض أمجادي الشفهية السحرية، ولتُخبر عبيدي الجُهلاء الأغبياء بأن هنالك ما هو أجمل من الوهم والعبودية، وهي الحقيقة والحرية!
أَخبرتَ عبيدي بأن سماءهم فضاءٌ خواءٌ وأن الفضاء لا يَسقُط، قُلت لهم ذلك بعد أن غزوته برجالك وعلمك، وأتيت منه بالخبر اليقين!
أخبرتهم بأنه لا معنى للأعلى والأسفل في عالم الفلك وفي علاقات الكواكب والنجوم، فصورتَ لهم أرضهم وهي تدور طوال الدهر، فيكون سافلها عاليها والعكس، كل يوم وكل ساعة!
أخبرتهم بأن الليل والنهار ظاهرة يومية طبيعية بديهية، ناتجة عن دوران أرضهم الكروية حول الشمس!
حَلَّقتَ أنت في الهواء، فوقهم وفوق طيوري التي كانت بطيرانها معجزة جميلة عندهم، فلم تعد بعد طيرانك معجزة!
أفسدت عليَّ كمّاً كبيراً من أسراري التي كان يجهلها عبيدي وأنصاري!
وتتساءل بعد ذلك لماذا أكرهك.! .. للعِلم درُّك ما أجهلك!
حَقًّا إنه ليس بين الناس من يستحق الشفقة كما الصادقون!
وأظنك أيها البعيد صادقًا، ولذلك صدَّقت ما سمعت، فقلت ما لديك، وتساءلت بعفوية .. لماذا أكرهك!
الصادقون لا يعتقدون بوجود الكاذبين، والعكس صحيح!
الصادقون لا يمكنهم تصور النفاق، ناهيك عن فعله! الصادقون لا يرون في الحياة بأسرها سبباً يُبيح للحر النفاق!
الصادقون يعتقدون أن الكذب أسطورة لا حقيقة لها في عالم العُقلاء!
ولكن الصادقين ليسوا من عالم آخر مثالي، بل هم من عالم البشر الطبيعي..، ويُدركون أن طاقة الإنسان على تحمل الألم محدودة، وقد يضطر الإنسان للكذب عند درجة معينة من الألم، عندما لا يكون خيار الموت متاحاً له..، إلا أن مشكلتهم تكمن في إيمانهمم بأن الإنسان الطبيعي حتماً سيُعلن أنه أضطر للكذب، فور اجتياز المرحلة وشعوره بالأمان..، وأنه لن يشعر ولن يَدَّعي بعد الكذب أنه ما يزال إنساناً طبيعياً كما كان قبله..، وأنه سيموت حتماً – كمداً أو انتحاراً مباشراً – عاجلاً أو آجلاً !
ما لا يعتقد الصادقون حدوثه، هو الكذب مقابل لا شيء، أو مقابل عَرَضٍ زائلٍ يستطيع الإنسان الحياة الطبيعية بدونه..،
أما ما لا يمكن للصادقين تصديقه وتصوره، فهو أن يكذب الصديق صديقه، والقريب قريبه، والزميل زميله، والزوج زوجه، …!!!
لعلك أيها الغريب البعيد صادقاً، ولعل في ذلك شيء من أسرار سؤالك عن بغضي لك!
ولعلك إذا علمت أن الكذب يحيا بيننا كجزء من يومياتنا، يتنقل بين الأحياء والدور والأوطان بكل أمن وأمان، محفوظ في صدر الإنسان عندنا..، عدا شواذ القاعدة، وقليل ما هم!
!!
لعلك بعد الآن، أن تجد عذراً لبغضي البريء لك، ولعلك ألا تعود إلى سؤالك السخيف.. لماذا أرفضك وأمقُتُك!
فقد تستنبط من ثقافتي أنني لا أحتاج لأجل الكراهية والبغض، أن يفعل الآخر شيئاً يستوجب ذلك..، إذ يكفيني وجوده المستقل عني، أو حاجتي له، أو ضعفي مقارنة به، أو وجود حقائقه التي تكشف زيفي..، يكفيني أحد هذه الأسباب أو اجتماعها، لأكرهه وأرفض وجوده!
وتتساءل بعد ذلك لماذا أكرهك.! .. للظلم والظلام والظالمين درُّك ما أجهلك!
أنا إنسان مثلك، ولكنني لا أحمل الروح الوسطى ..
سأكون صادقاً وكريمًا معك، وسأُتحِفُك بسرِّي الثمين الذي سيُزيل شيئاً من جهلك، وقد يزيد من ذهولك، ويُقربك مني إن شئت، ومن أي سبيل اخترت!
أنا إنسان أحمل روحين متناقضتين متصارعتين!
وأيهما انتصرت وطغت، انعكست على سلوكي وممارساتي!
أنا يا من تجهلني، أحمل بداخلي روح عبدٍ ذليلٍ، مُهيأ لـ(قل فيقل، وافعل فيفعل، وآمن فيؤمن، واكفر فيكفر)، وكأنه يؤمن لغيره، ويكفر لهم؛ ولا وجود له ولا كيان!
وأحمل إلى جانبها روح مجرمٍ أسطوري، يرى كل من حوله أعداء يجب اجتثاثهم إن رفضوا عبادته، متى سنحت له الفرصة لذلك!
أنا ذلك الكائن البشري الذي لا توجد بداخله روح الإنسان الطبيعي الذي يتوسط السيد الفظ والعبد الغض!
والخيار الآن لك أيها الغريب، فإن شئت صُرتَ عبداً لدي، أكفل لك عبودية مُرضية، فأنا سيدك الآمر الناهي المطاع، الناطق باسم السماء والغيب!
وإن شئت واستطعت، فاتخذ مني عبداً لك، شرط ألا تغفل عن تذكيري بعبوديتي طرفة عين؛ فالخداع والنفاق يسريان في دمي. ليس لك بعد الآن أن تتساءل، لماذا أرفضك!
قد بُحتُ لك بسري المُقدَّس، وأرى أن ذلك يكفيك إن لم يكن بك من الجهل ما يمنعك من فهم بديهيات الأمر!
قد تستغرب، وتتساءل، كيف لإنسان يُدرك ذاته وواقعه وانحرافه عن الفطرة إلى هذا الحد، ويُدرك أنه مُخالف لقوانين الطبيعة ومنطق البشر إلى هذا البعد!
ويعيش في أحدث عصور العِلم، حيث لم يعد يَخفى من الأمور إلا ما ندر ..، كيف لمثل هذا الإنسان ألا يُغيِّر من شأنه!
إذا كان مثل هذا التساؤل قد تبادر إلى ذهنك، فإنه وللوهلة الأولى قد يبدو أن الحقَّ معك!
لكن مهلاً، لا تنسى ما ورد في أسطرٍ سابقة، وما سأوضحه لاحقاً، وهو أن رجوع الإنسان واحتكامه إلى معايير فطرته بعد انحرافه، يتطلب أن يكون الإنسان طبيعياً!
وهو الأمر الذي أفتقده، فقد سلبوني روح الإنسان الطبيعي؛ حين انتزعوا مني الروح الوسطى التي يحيا بها سائر البشر!
فأنا أحمل روح العبد الذليل، وروح السيد السادي! وأيهما طغت فذاك أنا!
لا تَغُرَّنَّك شعاراتهم وهلوساتهم، فهم جميعاً مصابون بذات الداء، ويحملون الروحين المرفوضتين فطرياً، ويفتقدون الروح الوسطى!
قديمة هي هذه المصيبة فينا؛ ولا شك أن أول من ابتكر معادلة انتزاع الروح الوسطى، قد مات غير مأسوف عليه.
ولكنه قبل أن يموت كان قد زرع المصيبة وأورث سِرَّها وسَرَطانها، وهكذا توارثتها أجيالنا، وهكذا صرنا إلى هذا المآل، بانتظار من يُعيد لنا أرواحنا الوسطى، لكي نرى الصورة الثالثة للإنسان من حولنا، صورة الإنسان الطبيعي، .. لا كما نراه اليوم عبداً أو سيدا!
أيها البعيد القوي ما أجهلك! ألا تعرف لماذا أرفضك!
كان عليك أن تعرف من أنا وأين أنا منك، وماذا يعني أن تكون أنت هناك وهكذا، وماذا يعني موقعي الجديد جنبك في المعادلة!
وحينها ستُدرك كم أنا كريمٌ معك، ولماذا رفضتك إلى هذا الحد فقط!
ستُدرك مع الأسف، أن كَرَمي الجميل، مبعثه ضعفي الأكثر إشراقاً وجمالاً وصدقاً ونبلا!
فهل أنت غافل، لا تدرك أن رسالتي هي احتقارك، ومهمتي قتلك، وسعادتي في شقائك، وغايتي استعبادك، وحُلمي اختفاؤك ..،
ألا تدرك أن قوَّتَك قد أظهرت للأعداء ضعفي، الذي طالما أخفيته عنهم، وطالما هزمتهم بجهلهم بحقيقتي، وبقدر علمي بجهلهم بأمري!
ألا تدرك أن عِلمك قد كشف لأهل الدار أسراري، التي حصلتُ بفضلها على العبيد والجواري وعلى هذا الكم الهائل من أتباعي وأنصاري!
وتتساءل بعد ذلك لماذا أكرهك.! للجهل درُّك ما أجهلك!
نحن أُناسٌ لا نعيش ولا نتَّحِد ولا نقوى ولا ننتصر إلا في ظلامنا الجميل وجهلنا المقدّس!
ظلامنا الدامس الذي نُسمّيه نوراً ساطعاً!
وجهلنا المطبق الذي نحميه من آفات العلم الفاتك!
نحن أُناسٌ هادئون مسالمون طالما بقي الضعف حليفنا والتخلف قوت يومنا وسمة دهرنا!
نحن قوم لا ينتظر البعيد والقريب وفاءنا، إذا أطلعونا على أسرارهم!
ولا يأمن الأصدقاء مكرنا وغدرنا، إذا أدخلونا ديارهم!
سَمِعتَ أنت أيها البعيد – الجاهل بأمرنا، سمعت بسطوع نورنا، فصدَّقت ظاهر أمورنا، وجئت معتدياً بنورك على ظلمتنا البريئة الودود الهادئة، فأطفأت ظلمتنا بنورك، وفتحت نوافذنا فخرجت ريحنا المحجوبة..،
فهل لك أن تتساءل بعد الآن لماذا أرفضك!
لكل ما سبق درُّك ما أجهلك، إن عُدت مجدداً إلى تساؤلك!
قد تتساءل في نفسك، من أنت أيها المغمور المغرور الذي يُقدّم نفسه كمفكر ومحلل أو كفيلسوف زمانه!
سأقول لك، أرجوك لا تتهمني بالغرور والتكبر، فأنا أعمل ما في وسعي لأنأى بنفسي عن هذه الصفات المقيتة!
ولعلك إن تفضلت وصدقتني، أن تعلم أنني أعشق الموت، وأُحبه حب الجنون!
وأنا عازم على أمري، حتى أُبادر للحاق بركب الراحلين الغائبين عن دنيا الألم والضعف والنفاق والخطيئة!